![]() |
اختيار تصميم الجوال
![]() |
![]() |
![]() |
|
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
أدوات الموضوع
![]() |
انواع عرض الموضوع
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | |||
|
![]() في سنة 1998م ، وأثناء دراستي في جامعة بغداد ، دعاني صديقي أبو محمد الكبيسي لزيارته في بيته في الفلّوجة ، لتناول طعام الإفطار في أحد أيام شهر رمضان المبارك ، و أصرَّ أبو محمد أن يدعو كل من يسكنون معي من الفلسطينيين ، وعندما اعتذرت بأن سيارتي لا تتسع لهم جميعاَ ، قال بأنه سيأتي بسيارته وسيارة أخرى ، ووافقت بسبب رغبته الشديدة في دعوتنا ، ولأني أشعر بصدق أخوته ومحبته، وهذه المشاعر أجدها نحو كل من تعرفت عليهم من أهل السنة العراقيين، وخصوصاً المتدينين منهم . تحركت السيارات الثلاث نحو مدينة الفلَّوجة التي تبعد عن بغداد حوالي ثمانين كيلو متراً -بعد العصر -، وسرنا غرباً في طريق الرمادي السريع ، وكنا في غاية السرور ، نتقارب بسياراتنا تارة ، ويسبق أحدنا الأخر تارة أخرى ، وبينما كنت أحاول أن أسبق أبا محمد استجابة لتحريض من يركبون معي ،تعطلت سيارتي عطلاً شديداً ، وتم الاتفاق أن يسبقونا إلى الفلَّوجة ليرسلوا سيارة معها حبل لجر سيارتنا .
كانت الشمس على وشك الغروب ، وتوقعنا أن يتأخر إفطارنا إلى وقت العشاء، إذ لا نحمل معنا ماء ولا طعاماً ، ولا نرى حولنا إلا رمالاً وأشجاراً بعيدة . وغابت الشمس ، ونزلنا من السيارة وصلينا المغرب ، ثم دفعنا البرد للعودة إلى السيارة، وجلسنا ننتظر من سيرسله أبو محمد لإنقاذنا . و إذا برجل وغلام يظهران من بين الرمال والأشجار ، ويتقدمان نحونا ، وتعجبنا، إذ لا نرى على مدى بصرنا بيوتاً أو سكاناً ،ونزلنا لننظر ما خطبهما ، فاقتربا وسلَّما ، وقال الرجل : من المؤكد أنكم صائمون، ولم تفطروا إلى الآن ، وقد جئناكم بالطعام والشاي فتفضلوا . حاولنا أن نعتذر بأننا مدعوون على الإفطار ، وأننا ننتظر من سيجر سيارتنا إلى الفلَّوجة لكنه أصَّر ، وحمدنا الله أنه أصر ، إذ كنا قد لقينا من سفرنا هذا نصبا . نظرنا إلى الطعام، فوجدنا لحماً وأرزاً وتمراً معجوناً بالسمن البلدي ، فأخذنا نأكل على استحياء ، والرجل يرحب بنا ويشجعنا ، وعندما انتهينا ناولنا صابوناً أحضره معه، وأصرَّ أن يصب علينا الماء بنفسه . ثم قدم لنا الشاي وقال : من الواضح أنكم لستم عراقيين ، من أين أنتم ؟ فقلنا : فلسطينيون من غزة ، فأخذ الرجل يكبر ويعانقنا ويهتف: نحن الذين سنحرر فلسطين ، نحن الذين سنحرر القدس . كان حماسه كبيراً ، وكلماته صادقة مؤثرة ، أبكت عيوننا ، وكان كرمه رائعاً لن ننساه أبداً . فقد مشي مسافة كبيرة تاركاً إفطاره من أجل إكرام أناس لا يعرفهم ، وقدم لنا طعاماً ، حسبت قيمته فوجدته يتجاوز قيمة راتب موظف عراقي في الشهر فتعجبت، وعندما حدثنا أبا محمد بما جرى قال : إن هذا أمر طبيعي ، وإنها عادة كل العشائر العراقية السنية في هذه المناطق. جاءت سيارة الإنقاذ قبيل العشاء ، ووصلنا إلى بيت أبي محمد ، وكان الجميع بانتظارنا ، وقد رفضوا تناول الطعام إلا معنا ، وحدثناهم بما جرى، وأننا اضطررنا للإفطار ، ولا قدرة لنا على مشاركتهم . وجاء الطعام الذي أعده لنا أبو محمد ، وعندما رأيناه لم نقوَ على مقاومته ، ولم نستطع إلا أن نسبقهم إليه ، إذ كانت المائدة تجمع في آنٍ واحد بين اللحم والسمك والدجاج ، وكله مشوي ، ومعد بطريقة رائعة . لقد لفت نظري أشياء كثيرة أخرى أثناء هذه الزيارة كلها تفسر الأخبار الرائعة التي نسمعها عن الفلوجة منذ أن بدأ الاحتلال الأمريكي للعراق . لقد رأيت صورة الشهيد يحيى عياش معلقة على حائط الغرفة في بيت أبي محمد ، وعندما سألناه عن ذلك نادى ولده محمد ، وكان في الثالثة عشرة من عمره ، فجاء وسلّم علينا ، وهو يلف كوفية فلسطينية حول عنقه ، وطلب إليه والده أن ينشد ، فأخذ ينشد بصوت ندي الأناشيد نفسها التي ينشدها أشبال المساجد في غزة ، وهو يتقنها باللهجة الفلسطينية . وعندما انتهى، تحلق هو وبعض أصدقاء أبي محمد – وهم من الفلوجة- حولنا وأخذوا يمطروننا بالأسئلة عن غزة وأبطالها وشهدائها ، ويذكرونهم بالاسم ، ويعرفون تفاصيل أخبار جهادهم ، وكأنهم يعيشون معهم . ثم دعونا لحضور حفل إسلامي من إعدادهم وتنظيمهم ، وذهبنا إلى الحفل ، فنسينا تماماً أننا في العراق وشعرنا أننا في غزة ، فالكلمات والخطب والمسرحيات كلها عن فلسطين ، وحتى الأناشيد التي تهتز لها قلوب الجماهير المحتشدة هي أناشيدنا في غزة ، وباللهجة نفسها ، حتى ظننت أن المنشدين فلسطينيون يعيشون في العراق . لقد كنت أتذكر أهل الفلوجة وشبابها عندما سكت العراقيون في الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي ، وأقول مستحيل أن يسكت هؤلاء . وفعلاً كان للفلوجة الشرارة الأولى ، وكانت فلسطين هي المدرسة . د. خالد الخالدي أستاذ التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة drkkhaldi@hotmail.com 7/15/2003 http://islamonline.net/Arabic/alhdth.../images/02.jpg |
|||
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() http://www.middle-east-online.com/pi...-13-1-2004.jpg
الفلوجة (العراق) – من نور الدين العويديدي "ارفع رأسك إنك من أهل الفلوجة".. "سلاحك شرفك.. لا تلقي شرفك".. "مدينتنا مدينة الجوامع والمساجد، وجهادنا في سبيل الله والإسلام لا في سبيل الأشخاص".. "قائدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا صدام".. "صدام طاغية لكنه أفضل ألف مرة من قوات الغزو الكافرة".. "قتلنا الأمريكان وسنقتلهم، ولن نتركهم يهدؤون في العراق".. "ذبحناهم ذبحا، وأذقناهم الويل، وأخرجناهم من مدينتنا الطاهرة بالقوة".. "من جاء بلدك بالقوة لن يخرج منه بغير القوة". هذه بعض الكلمات، التي قرأتها مكتوبة على جدران الفلوجة، أو سمعتها من أهلها، وأنا أتأمل الوجوه والأشياء والأماكن، وأحاول أن أفهم سر شهرة هذه المدينة، التي ملأت أرجاء الأرض قاطبة، وسر عنادها وصمودها في وجه قوات الاحتلال، وسر خوف الأمريكان منها، وارتعاش أطراف جنودهم، كلما ذكر اسم هذه المدينة، التي وصفها صحفي عراقي بارع بأنها "منطقة ملتهبة.. نقطة ساخنة.. بقعة حمراء، على خارطة رمادية"، هي خارطة العراق. من بغداد إلى الفلوجة كنت أعتزم زيارة الفلوجة من أول كلفت فيه بالتوجه إلى العراق. وعندما وصلت إلى بغداد قبل أكثر من أسبوع، كنت أقول في كل يوم، بيني وبين نفسي، سأتوجه في الغد إلى فلوجة المقاومة، لكن سحر بغداد، وشيئا من الرهبة الغامضة، صرفتني أياما عن تلك المدينة، التي كنت أتوق لرؤيتها ورؤية أهلها، وسبر أغوارهم، لفهم سر هذه المدينة الصغيرة، التي باتت تعرف بعاصمة المقاومة في العراق، والنقطة الساخنة الملتهبة على خارطته. نمت باكرا، استعدادا ليوم عظيم.. إنه يوم في الفلوجة. جاءني السائق مصطفى مبكرا، فخرجت، على عجل، دون إفطار. شغلني غموض ما ينتظرني وشوقي له عن كل شيء سواه. وفي الطريق كنت أسجل كل ما أرى وكل ما أسمع.. أطراف بغداد، على طريق الفلوجة، معظمها مدمر.. مصانع ومعامل وشركات تابعة للدولة، ومعسكرات سابقة للجيش العراقي، دمرها القصف الأمريكي بعنف، وأتم الدمار ما بات يعرف في بغداد اليوم باسم "الحواسم"، وهم اللصوص والمجرمون والغوغاء، الذين اجتاحوا بغداد كالجراد، عقب سقوطها في أيدي قوات الاحتلال، وغياب الدولة والأمن فيها. أطلال خربة بعد عمار.. آثار القنابل والرصاص في الطرقات المحفرة.. بنايات متهاوية، بعضها سويّ بالأرض، وبعضها ظل نصفه أو ربعه واقف وجزؤه الآخر انهار.. مصانع ومخازن لا تزال بعض بقايا أكياس الحنطة والدقيق مكدسة فيها بشكل عشوائي.. حديد متناثر.. حجر أو طوب صناعي مكسور.. زجاج مبعثر في كل اتجاه وفي كل مكان. أوساخ تنتشر في كل مكان.. وأعشاب متوحشة تزحف في كل اتجاه. السيارة تمضي مسرعة. مررنا بمقبرة أبي غريب، بحسب التسمية الشعبية، أو مقبرة الكرخ الإسلامية، بحسب ما تشير إليه لافتة كبيرة نصبت عند بابها. وقال لي مرافقي إن هذه المقبرة قد نالت نصيبا غير منقوص من الصواريخ والقنابل الأمريكية، بعد أن اتخذتها وحدات عسكرية عراقية ملجأ لها، أثناء الحرب. وقبل ذلك مررنا بسجن أبي غريب.. سجن وأي سجن.. جدار عظيم يمتد على مساحة هائلة، لم أتخيل يوما أن سجنا، يمكن أن يبلغ طول جداره، طول جدار أبي غريب.. هنا اعتقل آلاف العراقيين في العهود السابقة.. هنا ذبحت حقوق كثيرة للناس. لكن مرافقي نبهني مشكورا، إلى أن سجن أبي غريب، الذي هالتني ضخامته، قد ازداد ضخامة منذ دخول قوات الاحتلال إلى العراق. فالسجن، الذي كان سجنا رهيبا من سجون "الطاغية"، استمر سجنا رهيبا من سجون قوات "التحرير ونشر الديمقراطية"، بل توسع أكثر، بحسب قول مرافقي. لم يتغير إذن شيء كثير، ومن تغير هو فقط من يعطي الأوامر. هذا ما أكدته لنا بيانات كثيرة، وتصريحات عديدة، لمنظمات وشخصيات عراقية لا تحصى. تجاوزنا سجن أبي غريب.. أراض تعلوها الملوحة على اليمين والشمال، كأنك أمام سبخة تمتد على جانبي الطريق، لا تنافسها سوى الأوساخ وبقايا أنقاض المباني، المجمعة أكواما أكواما، بعضها قرب بعض.. اقتربنا من قرية أبي غريب.. قرية صغيرة على أطراف بغداد، بدت لي عن بعد تلفها غمامة من الغبار الناشئ عن حركة الأرجل، ودوران عجلات السيارات والشاحنات، التي تسير في فوضى، باتت اليوم من أهم ميزات العراق.. بضائع قليلة من مناشئ متنوعة، محلية أو مستوردة.. خضر أو فواكه أو ملابس أو علب غذاء. وجوه مائلة إلى السواد، وملابس بين مدنية وريفية، تجتمع وتتمازج بشكل غريب في أبي غريب.. طوابير طويلة من السيارات تنتظر دورها في التزود بالبنزين. وحركة وصخب وغبار لا يعرف التوقف، وأطفال متسربون من المدارس يبيعون السجائر وأشياء صغيرة تافهة، بوجوه مغبرة، وأرجل حافية أو شبه حافية. السيارة تطوي الأرض مسرعة.. والسائق له قانونه الخاص في السير في الطريق، مثله مثل سائر نظرائه من العراقيين، الذين لا يتقيدون بقانون.. بتنا قريبا من الفلوجة.. بعض الأدخنة السوداء والبيضاء تتصاعد من مصانع قرب المدينة.. آية قرآنية مكتوبة بخط جميل على لافتة كبيرة، تنبئ بالاقتراب من مدينة الجوامع.. "مرحبا بكم في الفلوجة".. صوامع المساجد والجوامع وقبابها بدأت تظهر بوضوح أكثر، وعدد السيارات في الطريق بدأ يتزايد، والسائق خفض في سرعة سيارته.. إننا الآن في الفلوجة، هذه هي المدينة، التي كنت أتوق إليها، وأتهيب الاقتراب منها وأرغب فيه، قد ألقيت بنفسي بين ذراعيها أخيرا، لعلي أسبر بعض أغوارها، وأعرف شيئا عن أهلها، وأفهم بعضا من أسرارها. مدينة الجوامع ثائرة على الغزاة تنام الفلوجة بين أحضان الفرات، بل لعلها تضمه بحنان إلى قلبها.. وتضعه بين حنايا الضلوع.. هذا هو النهر، الذي يحمل اسما شهيرا، يعرفه كل عربي، من المحيط إلى الخليج، منذ الفطام، ويحلم سائر العرب بالشرب من مائه، حتى لا يظمأ الواحد منهم بعد ذلك أبدا.. هذا هو النهر، الذي شرب منه الشعراء والأمراء والعظماء، منذ آلاف السنين، وخلده الشعر: ديوان العرب، في آلاف من القصائد، التي لا تعرف النهاية، على مر الدول والعصور والأجيال. يقسم الفرات الفلوجة إلى نصفين.. نصف يطلق عليه أهلها اسم المدينة، ويطلقون على النصف الثاني اسم القرية، ويربط بينهما جسران.. الجسر القديم، وبني في العام 1929، والجسر الجديد، أو جسر الوحدة، الذي يذكر لك كثير من أهل الفلوجة، حتى الأطفال وطلاب المدارس، متى أسس، ويتفقون على أنه أسس في العام 1965، ويذكرون لك من ساهم من الحكام العرب في تأسيسه، ومن صلى في الجامع الكبير من الزعماء العرب. أهل الفلوجة كما يقول الشيخ زين الدين القاضي، شقيق الضابط صلاح القاضي، الذي عرّفه لي الأهالي بأنه من أشهر الضباط في تاريخ الجيش العراقي، والذي انتهى إلى الإعدام على يد الرئيس السابق صدام حسين، بسبب خلاف بين الرجلين في تقدير مصالح الجيش والدولة العراقية، هم عرب أقحاح محافظون مترابطون، الدين هو الحاكم الأول في حياتهم.. خصوماتهم يحلها الأئمة وعلماء الدين، ونادرا ما يلجؤون إلى المحاكم. ويعيش أغلب أهلها على الزراعة في البساتين القريبة التي يرويها الفرات، أو بالعمل في المعامل والمصانع القريبة منها، أو ينتشرون في سائر محافظات العراق، يعملون في تخصصات متنوعة. وتسكن الفلوجة عشائر البوعلوان والجبور والمحامدة والجميلية والبوعيسى، وتنتشر منها في سائر النواحي والأقضية، ويمتد بعضها حتى سورية والأردن وتركيا والسعودية. ويضيف الشيخ القاضي، وهو من كبار وجهاء الفلوجة، واصفا أهلها بأنهم أناس طيبون، ومتدينون بعمق، لا يقبلون الأجنبي إذا جاء إليهم غازيا، ولو على رقابهم، مشددا على أن هذا ليس مجرد كلمات، بل حقائق يعيشها أهل الفلوجة بعمق وبساطة. ويستطرد محدثنا قائلا إن المدينة، التي تضم نحو 300 ألف نسمة، تحتضن بحنو ورفق بين أطرافها أكثر من 180 جامعا، وهو ما أميل إلى تصديقه. لكني قرأت في مصادر لم أستطع التأكد من مدى صحتها، وسمعت من بعض أهل الفلوجة ما يؤيدها، أن سكان المدينة يقدرون بنحو 700 ألف نسمة، وفيها ما بين 400 إلى 500 مسجد وجامع، وربما يكون سبب الاختلاف بين الروايتين اقتصار إحداها على المدينة في تعداد الأنفس والمساجد، وتوسيع الأخرى التعداد حتى يشمل الأقضية والنواحي التابعة للفلوجة. ويقول المهندس محمد العلواني، وهو رجل يقترب من الخمسين، إن أهالي الفلوجة متدينون ومثقفون، وينتشر بينهم أصحاب الشهادات العليا بكثافة، قد تفوق مناطق كثيرة في العراق والعالم، مؤكدا أن الدين هو الحاكم الفيصل في سلوك أهل المدينة، وأنه سبب جرأة أهلها وقدرتهم على تكبيد قوات الاحتلال خسائر لا تحصى، مشددا على أن المساجد والجوامع، التي جال بنا في عدد منها، وذكر لنا تاريخ تأسيس كل منها، هي روح الفلوجة، وهي التي تصبغ المدينة بصبغتها، حتى باتت تسمى مدينة الجوامع. ويفخر المهندس العلواني بأن الدرجات العلمية لأكثر شباب الفلوجة تفوق بكثير الدرجات العلمية لسائر الجنود والضباط الأمريكيين، الذين يحاولون إخضاع المدينة الثائرة. ويسر لي المهندس الكهل، الذي بدا لي أكبر من عمره، الذي ذكره لي، بأنه واجه العديد من الضباط والجنود الأمريكان بالقول لهم إن عليهم أن يتعاملوا مع أهل الفلوجة بكل التقدير والاحترام، لأنهم يتفوقون عليهم في العلم والذوق والأدب. جوامع الفلوجة ساحرة جميلة.. صوامعها تناجي السماء، وقبابها مزخرفة بأيد بارعة، ألوانها وأشكالها تأخذ بالألباب. أشهر جوامع الفلوجة الجامع الكبير، وأسسه الشيخ عبد العزيز السامرائي، في نحو عام 1899 على نهر الفرات، وتعتقل قوات الاحتلال إمامه، الذي دعا جهارا نهارا إلى الجهاد ضد الأمريكان. ويجل أهل الفلوجة الشيخ السامرائي، ويحتفون بذكراه، باعتباره أيضا مؤسس مدرسة الجامع الكبير، التي تخرج منها الكثير من علماء المدينة، وكثير من علماء الهند وباكستان ودول كثيرة، كما ذكر لي الأهالي. ومن الجوامع الشهيرة جامع الخلفاء، وجامع أبي بكر الصديق، وجامع عمر بن الخطاب، وجامع عثمان بن عفان، وجامع علي بن أبي طالب، وجوامع أخرى كثيرة.. وأسماء الجوامع تكشف عن الانتماء المذهبي لأهل الفلوجة، فهم من أهل السنة والجماعة، وفيهم من يتطرف في محبة أهل السنة، والإشادة بهم، والتنكير على مخالفيهم. وأشهر مطاعم الفلوجة مطعم زرزور، ومطعم البادية، ومطعم حجي حسين، وهي قريبة من بعضها البعض.. تقدم أطباقا لذيذة شهية، لكنها متشابهة، وأسعارها متشابهة أيضا، وأهمها الكباب، كما قال لي مرافقي. أدخلنا مضيفنا مطعم البادية، وكنت أميل بشكل غامض للأكل في مطعم زرزور، لأني جربت الأكل في فرعه في بغداد، والمرء يميل إلى ما يعرف، وينفر مما يجهل، دون معرفة الأسباب. لكن مطعم البادية لم يخذلنا، وقدم لنا طعاما لذيذا أكلناه بنهم، بعد جولة مطولة ومتعبة، لكنها كانت ممتعة، في أرجاء الفلوجة وأزقتها، وبين حواريها الجميلة القذرة. والفلوجة خالية من مقرات الأحزاب. وأهلها ينظرون إلى مجلس الحكم المؤقت باعتباره مجلسا تابعا للأمريكيين، يخدم أعتاب الاحتلال. لكن ما لفت نظري هو وجود مقر فخم للحزب الإسلامي العراقي، الذي قيل لي مرات كثيرة في الفلوجة وخارجها، إنه بات يمثل مرجعية سياسية لأهل السنة في العراق، الذين باتوا يتخوفون من تنامي نفوذ الأحزاب المتطرفة في العراق، فمالوا لهذا الحزب، الذي يحاول أن يقف في منطقة وسط، تحت الخطوط الحمراء لقوات الاحتلال، وقريبا من نبض الشارع السني، معبرا عن أشواقه وتطلعاته. كيف بدأت المقاومة؟ يذكر الشيخ زين الدين القاضي، وهو أحد اثنين مدّاني بمعلومات كثيرة عن الفلوجة، أن قوات الاحتلال، بعد سقوط بغداد، دخلت المدينة دون الكثير من القتال، مشيرا إلى أنها وضعت أيديها على مؤسسات الدولة الرسمية، وعلى مقرات حزب البعث الحاكم سابقا في العراق، وعلى سائر المدارس، ونشرت فيها قواتها، باعتبارها أماكن استراتيجية بالمنطق العسكري، للسيطرة على المدينة، والتحكم في سائر مجرياتها. وأشار إلى أن ذلك آذى كثيرا أهالي المدينة المحافظين بطبعهم، فتطوع خيرون كثيرون من وجوه الفلوجة وقادة عشائرها ومثقفيها، كما قال، للحديث مع قوات الاحتلال، لإقناعها بالخروج بالحسنى من المدارس، التي تنتشر في معظم الأحياء، ويطل منها الجنود الأمريكان على بيوت الناس، ويهتكون ستر نسائهم، بحسب ما ذكر لنا.. لكن الأمريكان رفضوا ذلك بإصرار، مما جعل الأهالي يفكرون في الخيار العنيف لإخراجهم من المدينة. ويتطوع شاب، متخصص في الترجمة إلى اللغة الفرنسية، عمره يناهز الثلاثين عاما، ليشرح لي الأمر بالقول "الأمريكان دخلوا بلدنا بالقوة.. كانوا يعمدون إلى إذلالنا.. قتلوا 13 وجرحوا 7، من خيرة شبابنا، في يوم واحد، حين طالبناهم، بشكل سلمي، بالخروج من مدينتنا، فلم يكن أمامنا سوى اللجوء إلى القوة، لأن من دخل بالقوة لا يمكن أن تخرجه من مدينتك إلا بالقوة، لأنه لا يفهم منطقا سواها". الناس في شوارع الفلوجة وأزقتها، العامرة بكثير من الأوساخ والحفر ومياه المجاري، سوداء اللون، يجمعون على تأكيد هذه الرواية، حتى وإن اختلفوا في صياغتها، وفي طريقة التعبير عنها، لكنهم يؤكدون جميعا أن الأمريكان هم من خلق المقاومة، بجهلهم للطرق المناسبة للتعامل مع العراقيين عامة، وأهل الفلوجة خاصة. ويؤكدون لك بقول، يكاد يتطابق، أن ابن الفلوجة لا يقبل الضيم، وأن عادات الحشمة وخلق الدين والعشيرة، التي تميزه لا تجعله يقبل بالكافر الأجنبي يطلع على حرمات نسائه وبنات عشيرته أو حيه. وقال لي أستاذ للغة العربية في المدينة، وهو كاتب وشاعر، كثيرا ما أسمعني، خلال الجولة، من عيون الشعر، مما يحفظ ومما ينظم، إنه يفضل الشهادة، وأن يجتز عنقه، أو يفصل رأسه عن جسده، على أن يقبل بأن ينتهك علج أمريكي كافر، كما يصف جنود الاحتلال، شرفه، أو يطلع على ستر نساء حيه أو مدينته، مشيرا إلى أن غرور القوة لدى الأمريكان وجهلهم بالعراقيين، هو الذي سيقودهم إلى حتفهم. مقاومة غير منظمة لكنها شرسة مما جمعته من معلومات، من مصادر مختلفة، بطرق متباينة، بتّ أميل إلى أن المقاومة في الفلوجة مقاومة لا ينتظمها هيكل محدد، فهي عمل تقوم به جماعات صغيرة مختلفة تنظيميا، قد تكون علاقات القرابة، أو علاقات الجيرة في الحي أو الشارع أو الزقاق، هي ما يربط أفرادها ببعض، لكن ثقافة تكاد تكون موحدة تجمع بين أطرافها، هي ثقافة الجهاد والمقاومة وحب الشهادة في سبيل الله ثم الوطن. وتحصل تلك المجموعات على السلاح بطرقها الخاصة.. أفرادها يعملون في النهار في مهن مختلفة، كثير منها مهن بسيطة، وينخرطون منذ بداية الغروب في المقاومة، لكن ثمة من الميسورين من تفرغ للمقاومة ليلا ونهارا، في حين تفرغ آخرون لتطوير السلاح وتصنيعه بوسائل محلية، استفادة من خبرتهم السابقة في القتال أو في التصنيع العسكري. أهل الفلوجة يحدثونك بإسهاب عن عمليات ناجحة للمقاومة ضد قوات الاحتلال.. الجميع يحدثونك وكأنهم أعضاء في المقاومة، أو كأنهم خبراء عسكريون متمرسون.. "في هذا المكان طحناهم طحنا".. "في هذا المثلث، بين الجسرين، أذقناهم الويل، وقطعنا رؤوس الكثيرين منهم".. "طائرات الشينوك الأمريكية المتطورة أسقطنا عددا كبيرا منها وتركنا (الرئيس الأمريكي جورج) بوش مذهولا". هذه الكلمات، أو كلمات قريبة منها، سمعتها مرات ومرات في الفلوجة. وكان أكثر ما يجمع بين قائليها الشعور بالفخر والاعتزاز الكبير بما تحققه المقاومة من نتائج، والشعور بالرضا أن يكون المرء من أهل الفلوجة.. ألم أقرأ في أماكن عديدة مكتوبا على جدران المدينة "ارفع رأسك إنك من أهل الفلوجة". سلاحك شرفك "سلاحك شرفك فلا تلقي شرفك".. "هبوا يا شباب العراق الشرفاء قاوموا الأمريكان".. "لا شرف بلا جهاد".. "عاش مجاهدو الفلوجة الأبطال الشرفاء".. شعارات كثيرة منتشرة في مدينة الفلوجة تقرن الجهاد والسلاح بالشرف.. فالغيرة على الشرف، وحب الشهادة طلبا للعزة والكرامة، ورفض الغرباء الغزاة، وهي مفاهيم دينية وقبلية في ذات الوقت، يمكن اعتبارها مفاتيح شخصية ابن الفلوجة، ويمكن من خلالها تفسير ثورة المدينة العارمة على المحتل، وإجماع أبنائها على المقاومة، كما يمكن من خلالها أيضا تفسير معاناة الاحتلال الأمريكي مع هذه المدينة الصغيرة الثائرة. عمليات نوعية للمقاومة كان اللقاء بمقاومين في الفلوجة أحد أهم أهدافي من زيارة المدينة.. كنت أريد أن أتحدث إليهم من دون واسطة، وأسمع منهم، وأسألهم عن أشياء كثيرة تدور في خاطري، لكن من يثق في صحفي جاء من بلد بعيد.. قواته شريكة في احتلال العراق. كنت أتفرس الوجوه، وأحاول أن أخمن إن كان محدثي من المقاومة أم مجرد ناقل خبر من أخبارها، تختلط لديه الحقيقة بالوهم، وتحجب لديه المبالغة وجه الحقيقة. كنت أجمع المعلومات، وأسمع الكلمات، وأدونها في دفتر كان بيدي، حتى انقضى النهار.. غربت الشمس، وكانت أضواء المدينة خافتة ضعيفة، بالكاد تسمح لي برؤية الزقاق، وتبصرني بمسارات المجاري والحفر الكبيرة، حتى لا أقع فيها. وفي أزقة معينة يختفي نور الكهرباء تماما، وتتشابه الوجوه، ولا يستطيع المرء "تمييز وجه صديقه من عدوه".. في واحد من تلك الأزقة شعرت بيد تحط بحنو على كتفي، وقال صاحبها: - السلام عليكم ورحمة الله. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. - الأخ صحفي. - نعم صحفي. - أنا مصطفى من المقاومة. - يا مرحبا.. يا مرحبا.. كنت أبحث عنكم طيلة النهار، وجئتني عندما أسدل الليل ستاره. - أعذرنا فنحن في ظرف احتلال وملاحقات أمنية لا تهدأ. كانت هكذا البداية.. وغرقنا في حديث مطول عن المقاومة والإعلام وعن العمليات والأمريكان.. "نقتل مائة منهم كل شهر في الفلوجة ودوائرها على أقل تقدير".. "قتلنا منهم في عملية 10 جنود، فأعلنوا أن واحدا من جنودهم جرح.. لقد أحصى المجاهدون القتلى وسلبوا سلاحهم، لكن قوات الاحتلال أعلنت عن جرح أمريكي واحد".. "الأمريكان كذابون".. "الأمريكان يرمون جثث جنودهم في الأنهار، أو يلقونهم في الصحراء حتى تأكلهم الذئاب والجوارح للتخلص منه، بعيدا عن الإعلام".. هكذا قال لي مصطفى بكل ثقة. لم أصدق الأمر.. كان أكبر من أن أصدقه، لكن مصطفى أدرك ما يجول بخاطري فقال "قد لا تصدق ما أقوله لك، لكن يمكنني أن أوفر لك بعض الصور في وقت لاحق.. بل يمكن أن آخذك إلى بحيرة الثرثار، ويمكن أن تشاهد بنفسك بعض بقايا جثث الأمريكان، وقد بدأت تتحلل.. هم يرمون جنودهم في الوديان ومقالع الرمل والحصى أو في بحيرة الثرثار". وذكر أسماء مواقع كثيرة توجد فيها جثث للجنود الأمريكان، لكنها غابت الآن عن ذاكرتي، إذ كان الظلام لا يسمح لي بتسجيل كل ما أسمعه على ورق. قال مصطفى إن ما يعلن الأمريكان عن قتله أو جرحه من قواتهم إنما هم الجنود الحاصلون على الجنسية الأمريكية، أما الذين لم يحصلوا عليها بعد، فيرمونهم في أماكن مختلفة، حتى صار الناس، في أماكن ذكرها لي ونسيتها الآن، يضجرون من روائح الجثث المرمية.. قال إنهم يرمون الجثث بالطائرات، أو يفرغونها من العربات في أكياس، دون أن يدفنوها، ويولون هاربين. وذكر أن أهالي بعض المناطق، حين اكتشفوا جثث العشرات من الجنود، ذهبوا للأمريكان لإعلامهم بما عثروا عليه، لكن قوات الاحتلال أنكرت أن تكون الجثث عائدة لجنودها. ومضى مصطفى يقول معددا عمليات المقاومة "في منطقة القرطاسي سرية بأكملها أبدناها.. نصبنا لها كمينا وأبدنا كل من فيها". ويضيف "أسقطنا 8 مروحيات على الأقل، منها طائرة نقل ضمت أكثر من 60 جنديا كانوا في عطلة، وقد قتلناهم جميعا، لكن الأمريكان اعترفوا بمقتل 15 جنديا فقط". وأضاف "نقتل ما لا يقل عن مائة جندي في الشهر". "معسكرات الأمريكان في الحبانية وفي معسكر طارق وقرب مصنع العامر، أو صدامية الفلوجة (بحسب ما أذكر) نرجمها كل يوم بالهاونات وبالصواريخ فنقتل من نقتل منهم، وننغص حياة الباقين". ويتحدث مصطفى عن عملية نوعية، وقعت قبل نحو شهر، واصفا إياها بـ"الكارثة" على قوات الاحتلال. قال إن عدد القتلى الأمريكان فيها تجاوز الـ400 قتيل، وأشار إلى أن المقاومة استخدمت فيها أسلحة نوعية، وقد شعرتُ من حديثه عن الأسلحة النوعية بأنه يلمح إلى أن المقاومة استخدمت فيها أسلحة، قد تكون كيمياوية، وحين سألته عن ذلك رفض النفي أو التأكيد، وتركني أسبح في أوهامي وخيالاتي. ويفخر مصطفى بأن المقاومة نجحت في إخراج قوات الاحتلال من مدينة الفلوجة، وأنها حصرتهم في معسكرات على أطرافها، تتعرض للقصف باستمرار، كما قال. وأضاف "جاؤوا لفرض حظر التجول على المدينة، ففرضناه عليهم، وسنخرجهم من العراق بأسره بالقوة".. كانت تلك من آخر الكلمات، التي سمعتها من مصطفى، لكني سمعتها عشرات المرات من آخرين قبله. ودّعت الرجل الذي صافحني بيد خشنة، وسلكت طريق العودة، بعد أن سمعت انفجارا قويا لم أتبين كنهه.. فلعل المقاومة بدأت عملها، وطريق العودة إلى بغداد بات محفوفا بالمخاطر، من قنابل المقاومة على جنبات الطريق، ومن رصاص الأمريكان الطائش الهائج، لكنني اخترت مهنة المتاعب، وآن لي أن أتمتع بما في المغامرة من مشاعر متناقضة، من جرأة وخوف، وحب فطري للسلامة، وحب فطري لمعرفة المجهول.. وصلت بغداد وقد تقدم الليل.. مروحيات تجوب السماء، وطلقات رصاص ثقيل، وتفجيرات، تسمع من مكان بعيد، كانت تهدهدني، فنمت على أنغامها نوما عميقا. (قدس برس) |
|||
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() الله يعطيك العافيه على هالموضوع
لكن اه يالفلوجه اه |
|||
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||
|
![]() جزاك الله خير يا الابرق
موضوع أكثر من رائع ..................... يعطيك العافيه الفارس |
|||
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
العلامات المرجعية |
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|
![]() |
![]() |