عرض مشاركة واحدة
غير مقروء 14-Jan-2004, 07:18 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الابرق
عضو ماسي
إحصائية العضو






الابرق غير متواجد حالياً

افتراضي رحلة إلى الفلَّوجة (قصة واقعية)

في سنة 1998م ، وأثناء دراستي في جامعة بغداد ، دعاني صديقي أبو محمد الكبيسي لزيارته في بيته في الفلّوجة ، لتناول طعام الإفطار في أحد أيام شهر رمضان المبارك ، و أصرَّ أبو محمد أن يدعو كل من يسكنون معي من الفلسطينيين ، وعندما اعتذرت بأن سيارتي لا تتسع لهم جميعاَ ، قال بأنه سيأتي بسيارته وسيارة أخرى ، ووافقت بسبب رغبته الشديدة في دعوتنا ، ولأني أشعر بصدق أخوته ومحبته، وهذه المشاعر أجدها نحو كل من تعرفت عليهم من أهل السنة العراقيين، وخصوصاً المتدينين منهم . تحركت السيارات الثلاث نحو مدينة الفلَّوجة التي تبعد عن بغداد حوالي ثمانين كيلو متراً -بعد العصر -، وسرنا غرباً في طريق الرمادي السريع ، وكنا في غاية السرور ، نتقارب بسياراتنا تارة ، ويسبق أحدنا الأخر تارة أخرى ، وبينما كنت أحاول أن أسبق أبا محمد استجابة لتحريض من يركبون معي ،تعطلت سيارتي عطلاً شديداً ، وتم الاتفاق أن يسبقونا إلى الفلَّوجة ليرسلوا سيارة معها حبل لجر سيارتنا .

كانت الشمس على وشك الغروب ، وتوقعنا أن يتأخر إفطارنا إلى وقت العشاء، إذ لا نحمل معنا ماء ولا طعاماً ، ولا نرى حولنا إلا رمالاً وأشجاراً بعيدة . وغابت الشمس ، ونزلنا من السيارة وصلينا المغرب ، ثم دفعنا البرد للعودة إلى السيارة، وجلسنا ننتظر من سيرسله أبو محمد لإنقاذنا . و إذا برجل وغلام يظهران من بين الرمال والأشجار ، ويتقدمان نحونا ، وتعجبنا، إذ لا نرى على مدى بصرنا بيوتاً أو سكاناً ،ونزلنا لننظر ما خطبهما ، فاقتربا وسلَّما ، وقال الرجل : من المؤكد أنكم صائمون، ولم تفطروا إلى الآن ، وقد جئناكم بالطعام والشاي فتفضلوا . حاولنا أن نعتذر بأننا مدعوون على الإفطار ، وأننا ننتظر من سيجر سيارتنا إلى الفلَّوجة لكنه أصَّر ، وحمدنا الله أنه أصر ، إذ كنا قد لقينا من سفرنا هذا نصبا .
نظرنا إلى الطعام، فوجدنا لحماً وأرزاً وتمراً معجوناً بالسمن البلدي ، فأخذنا نأكل على استحياء ، والرجل يرحب بنا ويشجعنا ، وعندما انتهينا ناولنا صابوناً أحضره معه، وأصرَّ أن يصب علينا الماء بنفسه . ثم قدم لنا الشاي وقال : من الواضح أنكم لستم عراقيين ، من أين أنتم ؟ فقلنا : فلسطينيون من غزة ، فأخذ الرجل يكبر ويعانقنا ويهتف: نحن الذين سنحرر فلسطين ، نحن الذين سنحرر القدس . كان حماسه كبيراً ، وكلماته صادقة مؤثرة ، أبكت عيوننا ، وكان كرمه رائعاً لن ننساه أبداً . فقد مشي مسافة كبيرة تاركاً إفطاره من أجل إكرام أناس لا يعرفهم ، وقدم لنا طعاماً ، حسبت قيمته فوجدته يتجاوز قيمة راتب موظف عراقي في الشهر فتعجبت، وعندما حدثنا أبا محمد بما جرى قال : إن هذا أمر طبيعي ، وإنها عادة كل العشائر العراقية السنية في هذه المناطق.

جاءت سيارة الإنقاذ قبيل العشاء ، ووصلنا إلى بيت أبي محمد ، وكان الجميع بانتظارنا ، وقد رفضوا تناول الطعام إلا معنا ، وحدثناهم بما جرى، وأننا اضطررنا للإفطار ، ولا قدرة لنا على مشاركتهم . وجاء الطعام الذي أعده لنا أبو محمد ، وعندما رأيناه لم نقوَ على مقاومته ، ولم نستطع إلا أن نسبقهم إليه ، إذ كانت المائدة تجمع في آنٍ واحد بين اللحم والسمك والدجاج ، وكله مشوي ، ومعد بطريقة رائعة . لقد لفت نظري أشياء كثيرة أخرى أثناء هذه الزيارة كلها تفسر الأخبار الرائعة التي نسمعها عن الفلوجة منذ أن بدأ الاحتلال الأمريكي للعراق .

لقد رأيت صورة الشهيد يحيى عياش معلقة على حائط الغرفة في بيت أبي محمد ، وعندما سألناه عن ذلك نادى ولده محمد ، وكان في الثالثة عشرة من عمره ، فجاء وسلّم علينا ، وهو يلف كوفية فلسطينية حول عنقه ، وطلب إليه والده أن ينشد ، فأخذ ينشد بصوت ندي الأناشيد نفسها التي ينشدها أشبال المساجد في غزة ، وهو يتقنها باللهجة الفلسطينية . وعندما انتهى، تحلق هو وبعض أصدقاء أبي محمد – وهم من الفلوجة- حولنا وأخذوا يمطروننا بالأسئلة عن غزة وأبطالها وشهدائها ، ويذكرونهم بالاسم ، ويعرفون تفاصيل أخبار جهادهم ، وكأنهم يعيشون معهم .

ثم دعونا لحضور حفل إسلامي من إعدادهم وتنظيمهم ، وذهبنا إلى الحفل ، فنسينا تماماً أننا في العراق وشعرنا أننا في غزة ، فالكلمات والخطب والمسرحيات كلها عن فلسطين ، وحتى الأناشيد التي تهتز لها قلوب الجماهير المحتشدة هي أناشيدنا في غزة ، وباللهجة نفسها ، حتى ظننت أن المنشدين فلسطينيون يعيشون في العراق .
لقد كنت أتذكر أهل الفلوجة وشبابها عندما سكت العراقيون في الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي ، وأقول مستحيل أن يسكت هؤلاء . وفعلاً كان للفلوجة الشرارة الأولى ، وكانت فلسطين هي المدرسة .


د. خالد الخالدي

أستاذ التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة

drkkhaldi@hotmail.com

7/15/2003


http://islamonline.net/Arabic/alhdth.../images/02.jpg















رد مع اقتباس