اختيار تصميم الجوال
|
|
|
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات » |
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
30-Jul-2009, 08:48 AM | رقم المشاركة : 91 | |||
|
الحديث الثاني والسبعون
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذَرَّة من كِبْر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبْر: بَطْر الحق، وغَمْط الناس) رواه مسلم. قد أخبر الله تعالى: أن النار مثوى المتكبرين. وفي هذا الحديث أنه (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فدلّ على أن الكبر موجب لدخول النار، ومانع من دخول الجنة. وبهذا التفسير الجامع الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم يتضح هذا المعنى غاية الاتضاح؛ فإنه جعل الكبر نوعين: كبر النوع الأول: على الحق، وهو رده وعدم قبوله. فكل من رد الحق فإنه مستكبر عنه بحسب ما رد من الحق. وذلك أنه فرض على العباد أن يخضعوا للحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه. فالمتكبرون عن الانقياد للرسل بالكلية كفارٌ مخلدون في النار؛ فإنه جاءهم الحق على أيدي الرسل مؤيداً بالآيات والبراهين. فقام الكبر في قلوبهم مانعاً، فردوه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} يوجد نقص ص 134 فإنه ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، فكم من صاحب ثروة وقلبه فقير متحسر، وكم من فقير ذات اليد، وقلبه غني راض، قانع برزق الله. فالحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته. والله أعلم. |
|||
|
|
30-Jul-2009, 08:52 AM | رقم المشاركة : 92 | |||
|
الحديث الرابع والسبعون
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، عِظْني وأوجز. فقال: إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودِّع، ولا تَكَلم بكلام تعذر منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس) رواه أحمد. هذه الوصايا الثلاث يا لها من وصايا، إذا أخذ بها العبد: تمت أموره وأفلح. فالوصية الأولى: تتضمن تكميل الصلاة، والاجتهاد في إيقاعها على أحسن الأحوال. وذلك بأن يحاسب نفسه على كل صلاة يصليها، وأنه سيتم جميع ما فيها: من واجب، وفروض، وسنة، وأن يتحقق بمقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات. وذلك بأن يقوم إليها مستحضراً وقوفه بين يدي ربه، وأنه يناجيه بما يقوله، من قراءة وذكر ودعاء ويخضع له في قيامه وركوعه، وسجوده وخفضه ورفعه. ويعينه على هذا المقصد الجليل: توطين نفسه على ذلك من غير تردد ولا كسل قلبي، ويستحضر في كل صلاة أنها صلاة مودِّع، كأنه لا يصلي غيرها. ومعلوم أن المودع، يجتهد اجتهاداً يبذل فيه كل وسعه. ولا يزال مستصحباً لهذه المعاني النافعة، والأسباب القوية، حتى يسهل عليه الأمر، ويتعود ذلك. والصلاة على هذا الوجه: تنهى صاحبها عن كل خلق رذيل، وتحثه على كل خلق جميل؛ لما تؤثره في نفسه من زيادة الإيمان، ونور القلب وسروره، ورغبته التامة في الخير. وأما الوصية الثانية: فهي حفظ اللسان ومراقبته؛ فإن حفظ اللسان عليه المدار، وهو مِلاك أمر العبد. فمتى ملك العبد لسانه ملك جميع أعضائه. ومتى ملكه لسانه فلم يصنه عن الكلام الضار، فإن أمره يختل في دينه ودنياه. فلا يتكلم بكلام، إلا قد عرف نفعه في دينه أو دنياه. وكل كلام يحتمل أن يكون فيه انتقاد أو اعتذار فليدعه، فإنه إذا تكلم به ملكه الكلام، وصار أسيراً له. وربما أحدث عليه ضرراً لا يتمكن من تلافيه. وأما الوصية الثالثة: فهي توطين النفس على التعلق بالله وحده، في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله. ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس؛ فإن اليأس عصمة. ومن أيس من شيء استغنى عنه. فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله. فيبقى عبداً لله حقيقة، سالماً من عبودية الخلق. قد تحرر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم. والله أعلم. |
|||
|
|
30-Jul-2009, 08:53 AM | رقم المشاركة : 93 | |||
|
الحديث الخامس والسبعون
عن مصعب بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) رواه البخاري. فهذا الحديث فيه: أنه لا ينبغي للأقوياء القادرين أن يستهينوا بالضعفاء العاجزين، لا في أمور الجهاد والنصرة، ولا في أمور الرزق وعجزهم عن يوجد نقص ص 138 فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد). متفق عليه. هذا الحديث يدل على تنوع كرم الكريم، وأن كرمه وفضله متنوع من وجوه لا تعد ولا تحصى، ولا يدخل في عقول الخلق وخواطرهم. فهذان الرجلان اللذان قتل أحدهما الآخر قيض الله لكل منهما من فضله وكرمه سبباً أوصله إلى الجنة. فالأول: قاتل في سبيله، وأكرمه الله على يد الرجل الآخر – الذي لم يسلم بعد – بالشهادة التي هي أعلى المراتب، بعد مرتبة الصديقين، وغرضه في جهاده إعلاء كلمة الله، والتقرب إلى ربه بذلك. فأجره على الله. وليس له على القاتل حق، فثبت أجره على الله. وأما الآخر: فإن الله تعالى جعل باب التوبة مفتوحاً لكل من أراد التوبة بالإسلام وما دونه، ولم يجعل ذنباً من الذنوب مانعاً من قبول التوبة، كما قال تعالى في حق التائبين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فلما أسلم وتاب محا الله عنه الكفر وآثاره، ثم منَّ عليه بالشهادة، فدخل الجنة، كأخيه الذي قتله وأكرمه على يده، ولم يهنه على يد أخيه بقتله، وهو كافر. فهذا الضحك من الباري يدل على غاية كرمه وجوده، وتنوع بره. وهذا الضحك الوارد في هذا الحديث وفي غيره من النصوص كغيره من صفات الله. على المؤمن أن يعترف بذلك ويؤمن به، وأنه حق على حقيقته، وأن صفاته صفات كمال، ليس له فيها مثل، ولا شبه ولا ند. فكما أن لله ذاتاً لا تشبهها الذوات فله تعالى صفات لا تشبهها الصفات، وكلها صفات حمد ومجد وتعظيم، وجلال وجمال وكمال. فنؤمن بما جاء به الكتاب والسنة من صفات ربنا، ونعلم أنه لا يتم الإيمان والتوحيد إلا بإثباتها على وجه يليق بعظمة الله وكبريائه ومجده. وهذا الحديث من جملة الأحاديث المرغبة في الدخول في الإسلام وفتح أبواب التوبة بكل وسيلة؛ فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وما عمله الإنسان في حال كفره، وقد أسلم على ما أسلف، حتى الرقاب التي قتلها نصراً لباطله، والأموال التي استولى عليها من أجل ذلك. كل ذلك معفو عنه بعد الإسلام. وقولنا: (من أجل ذلك) احتراز ن الحقوق التي اقتضتها المعاملات بين المسلمين والكفار؛ فإن الكافر إذا أسلم وعليه حقوق وديون وأعيان أخذها وحصلت له بسبب المعاملة، فإن الإسلام لا يسقطها؛ لأنها معاملات مشتركة بين الناس، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم. بخلاف القسم الأول. فإن كلام من الطرفين – المسلمين والكفار – إذا حصل الحرب، وترتب عليه قتل وأخذ مال، لا يرد إلا طوعاً، وتبرعاً ممن وصل إليه. والله أعلم. ويشبه هذا من بعض الوجوه، قتال أهل البغي لأهل العدل، حيث لم يضمنهم العلماء ما أتلفوه حال الحرب، من نفوس وأموال للتأويل، كما أجمع على ذلك الصحابة رضي الله عنهم حين وقعت الفتنة، فأجمعوا على أن ما تلف من نفوس، وأتلف من أموال، ليس فيه ضمان من الطرفين. وفي قوله: (ثم يتوب الله على الآخر فيسلم) دليل على أن توبة الله على من أسلم أو تاب من ذنوبه متقدمة على توبة العبد؛ فإنه تعالى أذن بتوبته وقدرها، ولطف به، إذ قيض له الأسباب الموجبة لتوبته، فتاب العبد، ثم تاب الله عليه بعد ذلك، بأن محا عنه ما سبق من الجرائم – الكفر فما دونه – فتوبة العبد محفوفة بتوبتين، تفضل بهما عليه ربه: إذنه له وتقديره وتيسيره للتوبة حتى تاب، ثم قبول توبته ومحو زلته. فهو تعالى التواب الرحيم. والتوبة من أجلّ الطاعات وأعظمها فهذا الحكم ثابت في جميع الطاعات كلها. يوفق الله لها العبد أو لا، وييسر له أسبابها، ويسهل له طرقها. ثم إذا فعلها المطيع قبلها، وكتب له بها رضوانه، وثوابه، فما أوسع فضل الكريم. وما أغزر كرمه المتنوع العميم. والله أعلم. |
|||
|
|
30-Jul-2009, 08:54 AM | رقم المشاركة : 94 | |||
|
الحديث السابع والسبعون
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرر أصابه. فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) متفق عليه. هذا نهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء. فإن في تمني الموت لذلك مفاسد. منها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر والقيام بوظيفته. ومعلوم أن تمني الموت ينافي ذلك. ومنها: أنه يُضعف النفس، ويحدث الخَوَر والكسل. ويوقع في اليأس، والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به. وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه. ومنها: أن تمنى الموت جهل وحمق؛ فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت، فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله. ومنها: أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها والقيام بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له. فكيف يتمنى انقطاع عملٍ، الذَّرةُ منه خير من الدنيا وما عليها. وأخص من هذا العموم: قيامه بالصبر على الضر الذي أصبه. فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب. ولهذا قال في آخر الحديث: (فإن كان لا بد فاعلاُ فليقلك اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) فيجعل العبد الأمر مفوضاً إلى ربه الذي يعلم ما فيه الخير والصلاح له، الذي يعلم من مصالح عبده ما لا يعلم العبد، ويريد له من الخير ما لا يريده، ويلطف به في بلائه كما يلطف به في نعمائه. والفرق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت. اللهم ارحمني إن شئت. ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له) :أن المذكور في هذا الحديث الذي فيه التعليق بعلم الله وإرادته: هو في الأمور المعيّنة التي لا يدري العبد من عاقبتها ومصلحتها. وأما المذكور في الحديث الآخر: فهي الأمور التي يعلم مصلحتها بل ضرورتها وحاجة كل عبد إليها. وهي مغفرة الله ورحمته ونحوها. فإن العبد يسألها ويطلبها من ربه طلباً جازماً، لا معلقاً بالمشيئة وغيرها؛ لأنه مأمور ومحتم عليه السعي فيها، وفي جميع ما يتوسل به إليها. وهذا كالفرق بين فعل الواجبات والمستحبات الثابت الأمر بها؛ فإن العبد يؤمر بفعلها أمر إيجاب أو استحباب، وبعض الأمور المعينة التي لا يدري العبد من حقيقتها ومصلحتها، فإنه يتوقف حتى يتضح له الأمر فيها. واستثنى كثير من أهل العلم من هذا، جواز تمني الموت خوفاً من الفتنة. وجعلوا من هذا قول مريم رضي الله عنها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} كما استثنى بعضهم تمني الموت شوقاً إلى الله. وجعلوا منه قول يوسف صلى الله عليه وسلم: {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . وفي هذا نظر؛ فإن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يتمن الموت. وإنما سأل الله الثبات على الإسلام، حتى يتوفاه مسلماً، كما يسأل العبد ربه حسن الخاتمة. والله أعلم. |
|||
|
|
03-Aug-2009, 09:51 AM | رقم المشاركة : 95 | |||
|
الحديث الثامن والسبعون
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم. أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بحال الدنيا وما هي عليه من الوصف الذي يروق الناظرين والذائقين. ثم أخبر أن الله جعلها محنة وابتلاء للعباد. ثم أمر بفعل الأسباب، التي تقي من الوقوع في فتنتها. فإخباره بأنها حلوة خضرة يعم أوصافها التي هي عليها. فهي حلوة في مذاقها وطعمها، ولذاتها وشهواتها، خضرة في رونقها وحسنها الظاهر، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . فهذه اللذات المنوعة فيها، والمناظر البهيجة، جعلها الله ابتلاء منه وامتحاناً، واستخلف فيها العباد لينظر كيف يعملون؟ فمن تناولها من حلها، ووضعها في حقها، واستعان بها على ما خلق له من القيام بعبودية الله، كانت زاداً له وراحلة إلى دار أشرف منها وأبقى، وتمت له السعادة الدنيوية والأخروية. ومن جعلها أكبر همه، وغاية علمه ومراده، لم يؤتَ منها إلا ما كتب له. وكان مآله بعد ذلك إلى الشقاء، ولم يهنأ بلذاتها ولا شهواتها إلا مدة قليلة. فكانت لذاته قليلة. وأحزانه طويلة. وكل نوع من لذاتها فيه هذه الفتنة والاختبار. ولكن أبلغ ما يكون وأشد فتنة: النساء؛ فإن فتنتهن عظيمة، والوقوع فيها خطير وضررها كبير؛ فإنهن مصائد الشيطان وحبائله، كما صاد بهن من مُعافى فأصبح أسير شهوته، رهين ذنبه، قد عَزَّ عليه الخلاص، والذنب ذنبه فإنه الذي لم يحترز من هذه البلية، وإلا فلو تحرز منها، ولم يدخل مداخل التهم، ولا تعرض للبلاء، واستعان باعتصامه بالمولى، لنجا من هذه الفتنة، وخلص من هذه المحنة. ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث منها على الخصوص. وأخبر بما جَرَّت على من قبلنا من الأمم؛ فإن في ذلك عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين. والله أعلم. |
|||
|
|
03-Aug-2009, 09:52 AM | رقم المشاركة : 96 | |||
|
الحديث التاسع والسبعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شُعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه. هذا الحديث من جملة النصوص الدالة على أن الإيمان اسم يشمل عقائد القلب وأعماله، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان فكل ما يقرب إلى الله، وما يحبه ويرضاه، من واجب ومستحب فإنه داخل في الإيمان. وذكر هنا أعلاه وأدناه، وما بين ذلك وهو الحياء ولعل ذكر الحياء؛ لأنه السبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان. فإن من استحيا من الله لتواتر نعمه، وسوابغ كرمه، وتجليه عليه بأسمائه الحسنى، والعبد – مع هذا كثير التقصير مع هذا الرب الجليل الكبير يظلم نفسه ويجني عليها – أوجب له هذا الحياء التوقِّي من الجرائم، والقيام بالواجبات والمستحبات. فأعلى هذه الشعب وأصلها وأساسها: قول: (لا إله إلا الله) صادقاً من قلبه بحيث يعلم ويوقن أنه لا يستحق هذا الوصف العظيم، وهو الألوهية إلا الله وحده؛ فإنه هو ربه الذي يربيه ويربي جميع العالمين بفضله وإحسانه. والكل فقير وهو الغني والكل عاجز وهو القوي، ثم يقوم في كل أحواله بعبوديته لربه، مخلصاً له الدين؛ فإن جميع شعب الإيمان فروع وثمرات لهذا الأصل. ودلّ على أن شعب الإيمان بعضها يرجع إلى الإخلاص للمعبود الحق، وبعضها يرجع إلى الإحسان إلى الخلق. ونبه بإماطة الأذى على جميع أنواع الإحسان القولي والفعلي. الإحسان الذي فيه وصول المنافع، والإحسان الذي فيه دفع المضار عن الخلق. وإذا علمنا أن شعب الإيمان كلها ترجع إلى هذه الأمور، علمنا أن كل خصلة من خصال الخير فهي من الشعب. وقد تكلم العلماء على تعيينها. فمنهم: من وصل إلى هذا المبلغ المقدر في الحديث. ومنهم: من قارب ذلك، ولكن إذا فهم المعنى تمكن الإنسان أن يعتد بكل خصلة وردت عن الشارع – قولية أو فعلية، ظاهرة أو باطنة – من الشعب. ونصيب العبد من الإيمان بقدر نصيبه نم هذه الخصال، قلة وكثرة، وقوة وضعفاً، وتكميلاً وضده. وهي ترجع إلى تصديق خبر الله وخبر رسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما. وقد وصف الله الإيمان بالشجرة الطيبة في أصلها وثمراتها، التي أصلها ثابت، وفروعها باسقة في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. والله أعلم. |
|||
|
|
03-Aug-2009, 09:52 AM | رقم المشاركة : 97 | |||
|
الحديث الثمانون
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه تَرْجمان فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم. وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تِلقَاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة. فمن لم يجد فبكلمة طيبة) متفق عليه. هذا حديث عظيم. تضمن من عظمة الباري ما لا تحيط به العقول ولا تعبر عنه الألسن. أخبر صلى الله عليه وسلم فيه: أن جميع الخلق سيكلمهم الله مباشرة من دون ترجمان ولا واسطة. ويسألهم عن جميع أعمالهم: خيرها وشرها، دقيقها وجليلها، سابقها ولاحقها، ما علمه العباد وما نسوه منها. وذلك أنه لعظمته وكبريائه كما يخلقها ويرزقهم في ساعة واحدة، ويبعثهم في ساعة واحدة، فإنه يحاسبه جميعهم في ساعة واحدة. فتبارك من له العظمة والمجد، والملك العظيم والجلال. وفي هذه الحالة التي يحاسبهم فيها ليس مع العبد أنصار ولا أعوان ولا أولاد ولا أموال. قد جاءه فرداً كما خلقه أول مرة. قد أحاطت به أعماله تطلب الجزاء بالخير أو الشر، عن يمينه وشماله، وأمامه النار لابد له من ورودها. فهل إلى صدوره منها سبيل؟ لا سبيل إلى ذلك إلا برحمة الله، وبما قدمت يداه من الأعمال المنجية منها. ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على اتقاء النار ولو بالشيء اليسير، كشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة. وفي هذا الحديث: أن من أعظم المنجيات من النار، الإحسان إلى الخلق بالمال والأقوال، وأن العبد لا ينبغي له أن يحتقر من المعروف ولو شيئاً قليلاً، والكلمة الطيبة تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون، وإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية. وتشمل الكلام المسر للقلوب، الشارح للصدور، المقارن للبشاشة والبشر. وتشمل الذكر لله والثناء عليه، وذكر أحكامه وشرائعه. فكل كلام يقرب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله. فهو داخل في الكلمة الطيبة. قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وقال تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [وهي كل عمل وقول يقرب إلى الله، ويحصل به النفع لخلقه] {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} والله أعلم. |
|||
|
|
03-Aug-2009, 09:54 AM | رقم المشاركة : 98 | |||
|
الحديث الحادي والثمانون
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم) متفق عليه. هذه الأسئلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها: هي التي نهى الله عنها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وهي الأسئلة عن أشياء من أمور الغيب، أو من الأمور التي عفا الله عنها، فلم يحرمها ولم يوجبها. فيسأل السائل عنها وقت نزول الوحي والتشريع. فربما وجبت بسبب السؤال. وربما حرمت كذلك. فيدخل السائل في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعظم المسلمين جرماً: من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته). وكذلك ينهى العبد عن سؤال التعنت والأغلوطات، وينهى أيضاً عن أن يسأل عن الأمور الطفيفة غير المهمة. ويدع السؤال عن الأمور المهمة. فهذه الأسئلة وما أشبهها هي التي نهى الشارع عنها. وأما السؤال على وجه الاسترشاد عن المسائل الدينية من أصول وفروع، عبادات أو معاملات، فهي مما أمر الله بها ورسوله، ومما حث عليها. وهي الوسيلة لتعلم العلوم، وإدراك الحقائق، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} إلى غيرها من الآيات. وقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وذلك بسلوك طريق التفقه في الدين دراسة وتعلما وسؤالا، وقال: (ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِيِّ السؤال). وقد أمر الله بالرفق بالسائل، وإعطائه مطلوبه، وعدم التضجر منه. وقال في سورة الضحى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} فهذا يشمل السائل عن العلوم النافعة والسائل لما يحتاجه من أمور الدنيا، من مال وغيره. ومما يدخل في هذا الحديث: السؤال عن كيفية صفات الباري؛ فإن الأمر في الصفات كلها كما قال الإمام مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء على العرش؟ فقال: "الاستواء معلوم. والكيف مجهول. والإيمان به واجب. والسؤال عنه بدعة). فمن سأل عن كيفية علم الله، أو كيفية خلقه وتدبيره، قيل له: فكما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله، ويعرفون ما تعرف لهم به، من صفاته وأفعاله. وأما كيفية ذلك فلا يعلم تأويله إلا الله. ثم ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أصلين عظيمين: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه) فكل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة: وجب تركه، والكف عنه؛ امتثالاً وطاعة لله ورسوله. ولم يقل في النهي: ما استطعتم لأن النهي طلب كف النفس، وهو مقدور لكل أحد، فكل أحد يقدر على ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله. ولم يضطر العباد إلى شيء من المحرمات المطلقة؛ فإن الحلال واسع، يسع جميع الخلق في عباداتهم ومعاملاتهم، وجميع تصرفاتهم. وأما إباحة الميتة والدم ولحم الخنزير للمضطر، فإنه في هذه الحالة الملجئة إليه قد صار من جنس الحلال؛ فإن الضرورات تبيح المحظورات، فتصيرها الضرورة مباحة؛ لأنه تعالى إنما حرم المحرمات حفظاً لعباده، وصيانة لهم عن الشرور والمفاسد، ومصلحة لهم فإذا قاوم ذلك مصلحة أعظم – وهو بقاء النفس – قدمت هذه على تلك رحمة من الله وإحساناً. وليست الأدوية من هذا الباب، فإن الدواء لا يدخل في باب الضرورات، فإن الله تعالى يشفي المبتلى بأسباب متنوعة، لا تتعين في الدواء. وإن كان الدواء يغلب على الظن الشفاء به، فإنه لا يحل التداوي بالمحرمات، كالخمر وألبان الحمر الأهلية، وأصناف المحرمات، بخلاف المضطر إلى أكل الميتة، فإنه يتيقن أنه إذا لم يأكل منها يموت. الأصل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم) وهذا أصل كبير، دلّ عليه أيضاً قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . فأوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته، فإذا لم يقدر على واجب من الواجبات بالكلية، سقط عنه وجوبه. وإذا قدر على بعضه – وذلك البعض عبادة – وجب ما يقدر عليه منه، وسقط عنه ما يعجز عنه. ويدخل في هذا من مسائل الفقه والأحكام ما لا يعد ولا يحصى. فيصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع صلى قاعداً، فإن لم يستطع صلى على جنبه. فإن لم يستطع الإيماء برأسه أومأ بطرفه. ويصوم العبد ما دام قادراً عليه. فإن أعجزه مرض لا يُرْجى زواله، أطعم عنه كل يوم مسكين. وإن كان مرضاً يرجى زواله: أفطر، وقضى عدته من أيام أخر. ومن ذلك، من عجز عن سترة الصلاة الواجبة، أو عن الاستقبال، أو توقِّي النجاسة: سقط عنه ما عجز عنه. وكذلك بقية شروط الصلاة وأركانها، وشروط الطهارة. ومن تعذرت عليه الطهارة بالماء للعدم، أو للضرر في جميع الطهارة، أو بعضها: عدل إلى طهارة التيمم. والمعضوب في الحج، عليه أن يستنيب من يحج عنه، إذا كان قادراً على ذلك بماله. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب على من قدر عليه باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. وليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج في ترك العبادات التي يعجزون عنها، أو تشق عليهم مشقة غير محتملة. ومن عليه نفقة واجبة، وعجز عن جميعها، بدأ بزوجته، فرفيقه، فالولد، فالوالدين، فالأقرب ثم الأقرب. وكذلك الفطرة. وهكذا جميع ما أمر به العبد أمر إيجاب أو استحباب، إذا قدر على بعضه، وعجز عن باقيه، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما عجز عنه. وكلها داخلة في هذا الحديث. ومسائل القرعة لها دخول في هذا الأصل؛ لأن الأمور إذا اشتبهت: لمن هي، ومن أحق بها؟ رجعنا إلى المرجحات. فإن تعذر الترجيح من كل وجه، سقط هذا الواجب للعجز عنه، وعدل إلى القرعة التي هي غاية ما يمكن. وهي مسائل كثيرة معروفة في كتب الفقه. والولايات كلها – صغارها وكبارها – تدخل تحت هذا الأصل؛ فإن كل ولاية يجب فيها تولية المتصف بالأوصاف التي يحصل بها مقصود الولاية. فإن تعذرت كلها، وجب فيها تولية الأمثل فالأمثل. وكما يستدل على هذا الأصل بتلك الآية وذلك الحديث، فإنه يستدل عليها بالآيات والأحاديث التي نفى الله ورسوله فيها الحرج عن الأمة، كقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} ، {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} . فالتخفيفات الشرعية في العبادات وغيرها بجميع أنواعها داخلة في هذا الأصل، مع ما يستدل على هذا بما لله تعالى من الأسماء والصفات المقتضية لذلك، كالحمد والحكمة، والرحمة الواسعة، واللطف والكرم والامتنان. فإن آثار هذه الأسماء الجليلة الجميلة كما هي سابغة وافرة واسعة في المخلوقات والتدبيرات، فهي كذلك في الشرائع، بل أعظم؛ لأنها هي الغاية في الخلق. وهي الوسيلة العظمى للسعادة الأبدية. فالله تعالى خلق المكلفين ليقوموا بعبوديته. وجعل عبوديته والقيام بشرعه طريقاً إلى نيل رضاه وكرامته. كما قال تعالى – بعد ما شرع الطهارة بأنواعها – {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فظهرت آثار رحمته ونعمته في الشرعيات والمباحات، كما ظهرت في الموجودات. فله تعالى أتمّ الحمد وأعلاه، وأوفر الشكر والثناء وأغلاه، وغاية الحب والتعظيم ومنتهاه. وبالله التوفيق. |
|||
|
|
06-Aug-2009, 10:35 AM | رقم المشاركة : 99 | |||
|
الحديث الثاني والثمانون
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم الناس: لا يرحمه الله) متفق عليه. يدل هذا الحديث بمنطوقه على أن من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وبمفهومه على أن من يرحم الناس يرحمه الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء). فرحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله. فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى : {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم. والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان: النوع الأول: رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم. والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك. ويعلم أن الجزاء من جنس العمل. ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخواناً متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك: من البغضاء، والعداوات، والتدابر. فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق. ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل. وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم. وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محباً لوصول الخير لكافة الخلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم. فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته. ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب، فإن كان حزنه عليه لرحمة، فهو محمود، ولا ينافي الصبر والرضى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما بكى لموت ولد ابنته، قال له سعد: (ما هذا يا رسول الله؟) فأتبع ذلك بعبرة أخرى، وقال: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) وقال عند موت ابنه إبراهيم: (القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون). وكذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم، وإدخال السرور عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم، فمن الجفاء والغلظة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقبلون أولادهم الصغار، فقال ذلك الأعرابي: إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو أملك لك شيئاً أن نزع الله من قلبك الرحمة؟). ومن الرحمة: رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش. فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة. وضدها: تعذيب المرأة التي ربطت الهرة، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، حتى ماتت. ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها. ومن أساء إليها: عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة؛ إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها. فنسأل الله أن يجعل في قلوبنا رحمة توجب لنا سلوك كل باب من أبواب رحمة الله، ونحنوا بها على جميع خلق الله، وأن يجعلها موصلة لنا إلى رحمته وكرامته، إنه جواد كريم. |
|||
|
|
06-Aug-2009, 10:37 AM | رقم المشاركة : 100 | |||
|
الحديث الثالث والثمانون
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثَره، فليَصِلْ رحمه) متفق عليه. هذا الحديث فيه: الحث على صلة الرحم، وبيان أنها كما أنها موجبة لرضى الله وثوابه في الآخرة، فإنها موجبة للثواب العاجل، بحصول أحب الأمور للعبد، وأنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه. وسبب لطول العمر. وذلك حق على حقيقته؛ فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها. وقد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقاً يُنال به. وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته وحمده، جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره، ووصل رزق، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته، ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل. وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء، واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب، من أسباب طول العمر. فكذلك صلة الرحم جعلها الله سبباً ربانياً، فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان: أمور محسوسة، تدخل في إدراك الحواس، ومدارك العقول. وأمور ربانية إلهية قَدَّرها مَنْ هو على كل شيء قدير، ومَنْ جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته، ومَنْ تكفل بالكفاية للمتوكلين، ووعد بالرزق والخروج من المضائق للمتقين. قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقصت صدقة من مال) بل تزيده. فكيف بالصدقة والهدية على أقاربه وأرحامه؟ وفي هذا الحديث دليل: على أن قصد العامل، ما يترتب على عمله من ثواب الدنيا لا يضره إذا كان القصد وجه الله والدار الآخرة. فإن الله بحكمته ورحمته رتب الثواب العاجل والآجل. ووعد بذلك العاملين؛ لأن الأمل واستثمار ذلك ينشط العاملين، ويبعث هممهم على الخير. كما أن الوعيد على الجرائم، وذكر عقوباتها مما يخوِّف الله به عباده ويبعثهم على ترك الذنوب والجرائم. فالمؤمن الصادق يكون في فعله وتركه مخلصاً لله، مستعيناً بما في الأعمال من المرغبات المتنوعة على هذا المقصد الأعلى. والله الموفق. |
|||
|
العلامات المرجعية |
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|