قيمة العقل - الهيـــــــــــــلا *** منتدى قبيلة عتيبة

ابوبجاد الرويس · 29-Jun-2007, 08:31 PM

قيمة العقل
عبد الله بن محمد السعوي

تفعيل العقل عبر ممارسة النشاط الذهني العميق, ومباشرة ذلك على أوسع نطاق, من أبرز البواعث التي تسمو بالفرد, وترتقي به في مدارج الكمال, والإسلام كبنية حضارية سامية رسّخ في الوعي المتماهي مع إملاءاته, ضرورة بذل المجهود العقلي، وتكثيف حضوره وعلى نحو مستمر بحسبه شرطا حيويا لخصوبة البنية الذهنية, ولما له من أثر جلي في عملية بناء المجتمع،وتوجيه قيمه, وتسديد تحركاته, وبالتالي مضاعفة الإضافة البنائية في مشروع النمو العام.

إن التركيبة العقلية بطبيعتها تأخذ بالتآكل والضمور كأثر حتمي ينشؤه تواري الفاعلية الذهنية, والتي لا تتحقق هي الأخرى إلا بدرجة عالية من الوعي بمحورية توفير الشروط المؤسسة لحياة ثرية يحياها الفرد بكل كفاءة وإيجابية واقتدار.

التفكير كقوة عقلية لون من ألوان السفر, ولكنه سفر بالعقل, وتحرير له من دوغمائية اللحظة الفكرية الساكنة, إلى التحليق الحرّ في الآفاق النائية المدى, ليعود من ثم بإنجازات ثرية تحسن شروط العيش، وتدفع بمكونات الحياة إلى أعلى.

ما معنى أن نفكر؟ أن نفكر هو أن نمارس وجودنا الفردي, هو أن نبحث عن أي ثغرة للنفاذ عبرها نحو العالم الذي ننشده ونتلمس فيه حضورنا إنسانيا.

أن نفكر هو أن ننعتق من ربقة الأفكار الكلاسيكية ونيمم وجوهنا نحو الأبنية المفاهيمية البناءة لتبنيها وإشاعتها في الأوساط الاجتماعية لتحسين مستوى القرارات، وترشيد تداعياتها.

غياب التفكير يعني غياب العقل. سطحية التفكير تعني الوقوف عند الظواهر والقشور, وعدم التجاوز إلى الجوهر والصميم، التفكير يكون هنا أحد البواعث المرسخة للتخلف الفكري، فهو لا يعبر عن السير إلى الأمام, بقدر ما يعبر عن الصعود إلى الهاوية، الذي لا يفكر معناه أنه مسكون بمشاعر الرضى والتسليم بما هو متجسد, معناه أنه أسير لسكونية اللحظة الحضارية وليس بوسعه منها انفكاكا.

أن نفكر هو أن نكون أحرارا لا مجرد كائنات شكلية, بلهاء, لا تتقن سوى التصنع والمحاكاة.

عندما يوظف التفكير في سياقاته الموضوعية فهو من أسمى ألوان الأنشطة التعبدية التي تعبر عن حراك عقلي فعال ناء عن السلوكيات الاجترارية التي بقدر ما يطغى فيها المنحى الوجداني تتراجع المحاكمة الذهنية وتصل إلى درجة التلاشي.

إن من الجلي لكل راصد للحراك الاجتماعي أن هذا الضرب هو النمط العام السائد للتفكير لدى السواد الأعظم. ولا ريب أن هذا يؤكد على حاجتنا الملحة والماسة إلى قوة تفكيرية تمتلك القدرة على ابتداع العناصر المعينة على التكيف المقنن مع مستجدات الآني والقدرة على مواجهة تحدياته.

العقل في الثقافات المغلقة مقيد بضروب من العقابيل المعيقة له عن التواصل حتى مع ذاته! العقل يتنفس في الهواء المتجدد, ولكن في محيط كهذا هو مرشح وبنسبة عالية للإصابة بالاختناق الحاد! والإشكالية تكمن عندما يجري هذا باسم الدين, وباعتباره مؤشرا عاليا على نقاء المنهج, وصفاء التدين. هنا يجري كبح جماح العقل, وحصر نشاطه فيما هو مرسوم له في الواقع. ليس بمقدوره تجاوزه.

ولا ريب أن هذا ضرب من (الوأد) بل هو من الوأد أشد نفيا، الفرد في محيط كهذا مستعبد, فهو عبد لغيره في طريقة تفكيره, ومختلف سلوكياته.

إنه ينفي فرادته تفاديا لسخط بيئي قد يحدث إزاء إجراء من هذا اللون! هذا السخط بطبيعته قاتل، فهو قد يحيل المسخوط عليه أحيانا إلى أعلى درجات (الرجيمية) وبامتياز!.

العبودية هنا لا تعني الخضوع الجسدي بل تتجاوزه إلى ما هو أسوأ, إلى الخضوع الروحي المرهون لسلطة الغير. هذا الغير قد يكون داخلا ضمن حدود الأنا وقد يكون منتميا إلى منظومة الآخر المباين فكريا أشد ما تكون المباينة.

القاسم المشترك بين التوجهين هو القابلية (الميكانيكية) للاستعباد, وتعميق تغييب العقل, بل والحكم عليه بالإعدام.

الإنسان كائن مفكر ولكي يكون جديرًا بما ينطوي عليه من عنصر إنساني، وليتخلص من سلطة النمطية والتقليد الأعمى، لا بد له من تفعيل بعده العقلي ليعيش حالة من التوتر الذي يرفض بموجبه الركون إلى الإجابات المسكتة التي تدعي الإطلاقية لذاتها, لابد أن يستحيل تفكيره إلى ثقافة لها طابع الثبات والاستمرارية، تمارس بآلية ممنهجة، وأن تكون فعلاً أولياتجري مباشرته كمبدإ عام لا كردة فعل، واستراتيجية مؤقتة. إن مما تجدر الإشارة إليه هو أنه من الواجبات الحتمية عقلنة التفكير بمؤديات مدلولات الخطاب القرآني الكريم. ومن الثابت أن إطلاق العنان للعقل بدون قيد ولا ضابط, هو المعادل الطبيعي لنفيه ومصادرة نشاطاته.

وثمة علاقة وثيقة بين العاقل - الإنسان, وبين العقل الذي يظل طليقا ومقيدا في آن.

فهو طليق ما دام لم يجسد رؤاه على نحو مّا, مادامت أفكاره مجردة غير مشخصة في الأعيان،ماظلت حبيسة الحيز الذهني، وفي المقابل هو مقيد أيضا بحسبه مرهونا للعاقل الذي بمكنته ترويضه, فهو يعيش ب (إمرته) ما دام محكما لزمامه, فبوسعه ترشيده والتحكم في نزعاته, ولكن عندما يحل العاقل العقال عن العقل، ويفتح له المجال على نحو لا نهاية لمداه فهنا العقل يغادر عاقله, إنه يشب عن الطوق, يبيت متأبيا على العقلنة, إنه يتمرد, يهرب, يطلق ساقيه للريح - يستحيل إلى كائن مشاكس يصعب استرجاعه, وهكذا فهو لم يعد مملوكا بل مالكا يقرر مصير صاحبه الذي يعيش في أسره, تحت رحمته, لا انعتاق له من ربقته البتة.

إن ثمة تصورا خاطئا ترسخ في بعض الأذهان مؤداه ان تفعيل العقل وإعماله لا يتمثل إلا في مباينة ما هو مألوف ومكرس في بنية المجتمع وأنه كلما أمعن الفرد في المخالفة كلما كان أكثر تقديرا لعقله وتفعيلاله !. المخالفة هنايجري إستحضارها لذات المخالفة, لا لموضوعية أملتها! مخالفة السائد والتغريد خارج الحدود المرعية فحسب هو المبتغى الغائي، وذلك لما تمنحه هذه المخالفة للمثل لها من ألوان الهالة - حتى ولو كانت ذات منحى هجائي! - ولفت الأنظار.

إن الإفراط في الإعلاء من قيمة العقل المحض والاعتماد الكلي على أحكامه ليس تحريرا له, بقدر ما هو إقصاء له, وإعياء لوعيه .

العقل هنا يكون محكوما بأناه التي تمنعه من معاينة معقوله على حقيقته وهذا ما يجعله يهوي بصاحبه في هوة تقوض أركانه, يبيت العقل هنا غير جدير باسمه, إنه يستحيل إلى سجن معتم لصاحبه الذي ينطوي عليه في القارّ من أعماقه اللجية, حيث يحول بينه وبين الانفتاح على الآفاق الأسمى رحابة. الفرد هنا أحيانا ينعت ذاته بأنه عقلاني, وأنه قد حقق أعلى درجات النقاء والتجرد والمحاكمة العقلية! هكذا يخيل له! نعم، ربما كانت الحقيقة هدفا له, ولكن الإشكالية التي لا يعيها, هي أن الوهم وجه آخر لاعتقاده! هو قد لا يشعر بتغلغل هذا الداء.إن عدم الوعي بوجوده، لا يعني عدم وجوده!

وصفوة القول هو أن التفكير الفعال هو الشعاع الممتد إلى الظلمات ليمد صاحبه بقوة ملهمة تضيء له سبل البحث عن الغائب و (المغيب) عبر حفريات معرفية تستصحب الإجراءات الاحترازية الواقية من الجنوح ومن (السرطان) المادي في متباين تنويعاته