الأدلة من السنة النبوية المطهرة
الدليل الأول:
ما راوه أبو داود بسنده عن علي : (أن يهودية كانت تشتم النبي وتقع فيه، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول الله دمها)( )
قال العلاَّمة المحدِّث شمس الحق العظيم آبادي في شرحه لهذا الحديث: (فيه دليل على أنه يقتل من شتم النبي وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صريحاً وجب قتله)( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه لهذا الحديث: (وهذا الحديث نَصٌّ في جواز قتلها لأجل شتم النبي ، ودليلٌ على قتل الرَّجل الذِّمِّي وقتل المسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأولى )( )
الدليل الثاني:
ما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعمى كان على عهد رسول الله ، وكانت له أم ولد وكان له منها ابنان، وكانت تكثر الوقيعة برسول الله وتسبه، فيزجرها فلا تنـزجر، وينهاها فلا تنتهي، فلمَّا كان ذات ليلة ذكرت النبي فوقعت فيه فلم أصبر أن قمت إلى المِغول( ) فوضعته في بطنها فاتكأت عليه فقتلتها فأَصْبَحَت قَتِيلاً، فذُكِرَ ذلك للنبي فجمع الناس وقال: أنْشُد الله رجلاً لي عليه حقٌ فعل ما فعل إلاَّ قـام، فأقبل الأعمى يتدلدل( )، قال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت أم ولدي وكانت بي لطيفة رفيقة، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، ولكنها كانت تُكْثِرُ الوقيعة فيك وتشتمك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنـزجر، فلما كانت البارحة ذَكَرْتُكَ فوقعت فيك، فقمت إلى المِغول فوضَعْتُه في بطنها فاتكأت عليها حتى قتلتها. فقال رسول الله ألا اشهدوا أنَّ دَمَها هدرٌ)( )
قال العلاَّمة المُحَدِّث السندي في حاشيتة على سنن النسائيّ: (وفيه دليل على أنَّ الذِّمي إذا لم يَكُفّ لسانه عن الله ورسوله فلا ذِمَّة له فيحل قتله. والله تعالى أعلم)( )
قال ابن تيمية: (قال الخطابي: فيه بيان أن سابّ النبي يقتل، وذلك أنَّ السبّ منها لرسول الله ارتدادٌ عن الدين)( )
الدليل الثالث:
ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال رسول الله : (مَنْ لكعب بن الأشرف؟ فإنَّه قد آذى الله ورسوله). فقال محمد بن مسلمة: يارسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال: (نعم) قال: ائذن لي فلأقل. قال: (قُل). فأتاه فقال له وذكر ما بينهما. وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقةً. وقد عنَّانا، فلمَّا سمعه قال: وأيضاً والله ! لتملُّنَّه. قال: إنَّا قد اتبعناه الآن. ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمره. قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً. قال: فما ترهنني ؟ قال: ما تريد. قال: ترهنني نساءكم. قال: أنت أجمل العرب. أنرهنك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم. قال: يُسَبُّ ابن أحدنا. فيقال: رُهِنَ في وسقين من تمر. ولكن نرهنك اللأمة (يعني السلاح). قال: فنعم. وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر. قال: فجاؤوا فدعوه ليلاً. فنـزل إليهم. قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم. قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة ليلاً لأجاب. قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم. قال: فلمَّا نزل، نزل وهو متوشِّحٌ. فقالوا: نجد منك ريح الطيب. قال: نعم. تحتي فلانة. هي أعطر نساء العرب. قال: فتأذن لي أن أشُمَّ منه. قال: نعم. فشم. فتناول فشم. ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه. ثم قال: دونكم. قال: فقتلوه.( )
قال الإمام النووي: (فقال الإمام المازري: إنما قتله كذلك لأنه نقض عهد النبي وهجاه وسبّه)( )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقال الواقدي: حدَّثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النَّضري: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدراً، ومحمد بن مسلمة جالسٌ شيخ كبير، فقال: يا مروان أيُغَدَّر رسول الله عندك؟ والله ما قتلناه إلاَّ بأمر رسول الله ، والله لا يؤويني وإياك سقف بيتٍ إلاَّ المسجد، وأما أنت يا ابن يامين فللَّه عليَّ إن أفلت وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك، فكان ابن يامين لا ينـزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولاً ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر، وإلاَّ لم ينـزل، فبينا محمدٌ في جنازة وابن يامين في البقيع فرأى محمّدٌ نعشاً عليه جرائد يظنه لا يراه، فعاجله، فقام إليه الناس، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك، فقام إليه فلم يزل يضربه جريدةً جريدةً حتى كسر ذلك الجريد على وجهه ورأسه حتى لم يترك به مصحاً، ثم أرسله ولا طباخ به، ثم قال: والله لو قدرت على السيف لضربتك به)( )
الدليل الرابع:
ما رواه النسائي عن أبي برزة الأسلمي قال

أغلظ رجلٌ لأبي بكر الصديق، فقلت: أقتله، فانتهرني وقال: ليس هذا لأحَدٍ بعد رسول الله )( )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه لحديث أبي برزة الأسلمي: (وقد استدل به على جواز قتل ساب النبي جماعة من العلماء منهم أبو داود، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم من العلماء، وذلك لأنَّ أبا برزة لمَّا رأى الرجل قد شتم أبا بكر وأغلظ له حتى تغيَّظ أبوبكر استأذنه في أن يقتله بذلك، وأخبره أنه لو أمره لقتله، فقال أبو بكر: ليس هذا لأحدٍ بعد النبي . فعلم أن النبي كان له أن يقتل من سَبَّه ومن أغلظ له، وأنَّ له أن يأمر بقتل من لا يعلم الناس منه سبباً يبيح دمه، وعلى النَّاس أن يطيعوه في ذلك، لأنَّه لا يأمر إلاَّ بما أمر الله به، ولا يأمر بمعصية الله قط، بل من أطاعه فقد أطاع الله. فقد تضمَّن الحديث خصيصتين لرسول الله :
إحداهما: أنه يطاع في كل من أمر بقتله.
والثانية: أن له أن يقتل من شتمه وأغلظ له.
وهذا المعنى الثاني الذي كان له باقٍ في حقه بعد موته، فكل من شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزاً، بل ذلك بعد موته أوكد وأوكد، لأن حرمته بعد موته أكمل، والتساهل في عرضه بعد موته غير ممكن. وهذا الحديث يفيد أنَّ سَبَّه في الجملة يبيح القتل، ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم)( )
الدليل الخامس:
ما رواه أبو داود عن سعد ابن أبي وقاص قال: لمَّا كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفَّان، فجاء به حتى أوقفه على النبي ، فقال: يارسول الله بَايِعْ عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه - ثلاثاً - كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله)؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت لنا بعينك؟ قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)( )
قال شيخ الإسلام شارحاً هذا الحديث: (فوجه الدلالة أنَّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي أنه كان يُتَمِّم له الوحي ويكتب له ما يريد، فيوافقه عليه، وأنه يُصَرِّفه حيث يشاء، ويغيِّر ما أمره به من الوحي، فيُقرُّه على ذلك، وزعم أنه ينـزل مثل ما أنزل الله، إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله ، وهذا الطعن على رسول الله وعلى كتابه، والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرَّد الكفر به والردة في الدين، وهو من أنواع السب)( )
الدليل السادس:
عن أنس بن مالك : أن النبي دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المِغْفَرُ فلما نزعه جَاءهُ رجُلٌ فقال: ابن خطلٍ متعلق بأستار الكعبة، فقال: (اقتله)( )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه لهذا الحديث: (فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السَّبِّ والهجاء، وأن السَّابَّ وإن ارتد، فليس بمنـزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة، ولا يؤخر قتله، وذلك دليلٌ على جواز قتله بعد التوبة. وقد استدل بقصة ابن خطل طائفةٌ من الفقهاء على أن من سَبَّ النبي من المسلمين يقتل - وإن أسلم - حدّاً)( )
أقوال أهل العلم فيمن استهزأ بالله تعالى
أو برسله الكِرام أو بشىءٍ من دينه
تعريف الشتم والسَّبّ في اللغة:
قال ابن منظور : (الشتم: قبيح الكلام وليس فيه قذف)( )
وقال الراغب الأصفهاني : (السَّبُّ: الشتم الوجيع، قال تعالى: {وِلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وسبهــم الله ليس على أنهم يسبونه صريحاً، ولكنهم يخوضون في ذكره، فيذكرونه بما لايليق، ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنـزه تعالى عنه)( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (السَّبُّ ... هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يُفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم، كاللعن، والتقبيح، ونحوه)( )
وقال الحافظ ابن حجر: (الشتم: هو الوصف بما يقتضي النقص)( )
أقوال علماء الشريعة وأئمة السنة
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (من سبَّ الله ورسوله، أو سبَّ أحداً من الأنبياء فاقتلوه)( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنَّ سَبَّ الله أو سَبَّ رسوله كفرٌ ظاهراً وباطناً، سواء كان السابُّ يعتقد أنَّ ذلك محرَّماً أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل)( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وهو أحد الأئمة، يعدل بالشافعي وأحمد: قد أجمع المسلمون أنَّ مَنْ سَبَّ الله أو سَبَّ رسوله عليه الصلاة والسلام، أو دفع شيئاً مما أنزل الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بما أنزل الله)( )
وقال أيضاً: (قال أصحابنا: التعريض بسبِّ الله وسبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم رِدَّة، وهو موجب للقتل، كالتصريح)( )
وقال القاضي عياض: (جميع مَنْ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله، أو عرض به شبهة بشيء على طريق السَبِّ له، والإزراء عليه، أو الغض منه والعيب له، فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم الساب: يقتل)( )
وقال ابن تيمية: (فإنْ نَظَم ذلك شعراً كان أبلغ في الشتم ؛ فإن الشعر يُحفظ ويروى وهو الهجاء، وربما يُؤَثِّر في نفوس كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تأثير البراهين، فإن غُنِّي به بين ملأ من الناس فهو الذي تفاقم أمره)( )
وقال شيخ الإسلام أيضاً: (قال محمد بن سحنون وهو أحد الأئمة من أصحاب مالك، وزمنه قريب من هذه الطبقة: أجمع العلماء أن شاتم النبي عليه الصلاة والسلام المنتقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كَفَر)( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: (قال القاضي أبو يعلى في المعتمد: من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر، سواء استحلَّ سبه أو لم يستحله…؛ لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله إلا أنه غير معتقد لعبادته، غير مصدق بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام)( )
وقال ابن القاسم عن مالك: (من سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يُستتب) قال ابن القاسم

أو شتمه أو عابه، أو تنقصه، فإنه يقتل كالزنديق)( )
ويقول ابن تيمية أيضاً: (وأما الساب فإنه مظهر للتنقيص والاستخفاف والاستهانة بالله، منتهك لحرمته انتهاكاً يعلم هو من نفسه أنه منتهك مستخف مستهزئ، ويعلم من نفسه أنه قد قال عظيماً، وأن السموات والأرض تكاد تنفطر من مقالته وتخر الجبال، وأن ذلك أعظم من كل كفر)( )
وقال إسحاق بن راهويه شيخ البخاري: (قد أجمع العلماء على أن من سَبَّ الله عز وجل، أو سبَّ رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر)( )
وقال ابن تيمية: (فصل فيمن سَبَّ الله تعالى: فإن كان مسلماً وجب قتله بالإجماع، لأنه بذلك كافر مرتد، وأسوأ من الكافر، فإنَّ الكافر يُعظِّم الرب، ويعتقد أنَّ ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مَسَبَّة له)( )
وقال ابن حزم: (وأما سب الله تعالى، فما علىظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد)( )
وقال ابن تيمية فيمن تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم : (وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه، أو برئ منه، أو كذبه: أنه مرتد، وكذلك قال أصحاب الشافعي: كل من تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح ؛ فإن الاستهانة بالنبي كُفْرٌ … فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أنَّ التنقُّص له كفر مبيح الدم)( )
وقال الإمام أحمد: (كل من ذكر شيئاً يعرِّضُ به الرب تبارك وتعالى، فعليه القتل مسلماً كان أو كافراً، هذا مذهب أهل المدينة)( )
ومذهب الإمام الأوزاعي: (أن المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فقد ارتدَّ، فيستتاب، وإلا قتل إن لم يتب)( )
وسئل أبو محمد ابن أبي زيد عن رجل لعن رجلاً ولَعَنَ الله، فقال: إنما أردت أن ألعن الشيطان فزلَّ لساني. فأجاب: (يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره، وأمَّا فيما بينه وبين ربه فمعذور)( )
وقال الإمام ابن القيم: (قال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أيُّما مسلم سب الله ورسوله، أو سب أحداً من الأنبياء، فقد كذَّبَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردَّةٌ، يُستتاب، فإنْ رجع، وإلا قُتل)( )
وقال ابن قدامة المقدسي: (ومن سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحاً أو جاداً، وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه)( )
وقال أيضاً : (والردة تحصل بجحد الشهادتين، أو أحدهما، أو سب الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم)( )
وقال المرداوي في الإنصاف: (من سب الله أو رسوله كفر بلا نزاع في الجملة)( )
وقال المرداوي أيضاً: (نقل حنبل: من عرّض بشيءٍ من ذكر الرب. فعليه القتل مسلماً كان أو كافراً وأنه مذهب أهل المدينة)( )
وقال البهوتي: (… أو سب الله أو رسوله كفر؛ لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد، أو استهزأ بالله تعالى أو بكتبه أو رسله)( )
وقال أيضاً: (فمن أشرك بالله كفر… أو سب الله سبحانه أو سب رسوله أي رسولاً من رسله أو أدعى النبوة فقد كفر)( )
وقال ملا علي قاري: (من وصف الله بما لا يليق به كفر)( )
وقال الفخر الرازي في تفسيره: (إن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله ؛ وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال)( )
وقال القاضي عياض: (وأما من تكلم من سَقْط القول، وسخف اللفظ، ممن لم يضبط كلامه، وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه … أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق في حق خالقه، غير قاصد للكفر والاستخفاف، ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه وعُرف به … فهذا كفر لا مرية فيه)( )
ونقل القاضي عياض عن محمد بن سحنون أنه قال: (أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر)( )
ونقل عن أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون أنه قال: (من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسود، يُقتل)( )
وجاء في كتاب روضة الطالبين للنووي: (أو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنى: بسم الله تعالى، استخفافاً باسم الله تعالى كفر)( )
وقال محدث الهند العلامة محمد صديق حسن خان القنوجي البخاري: (وأكثر الناس ابتلاءً بـهذا الاستهزاء الشعراء، فهزلهم بالشريعة وبأهلها: من النصحاء والوعاظ والفقهاء والمحتسبين والعلماء الصالحين، فوق ما تحصره الأقلام، أو يحيط به ضبط الأرقام … ومن جاء بهذا، فلا شك في كفره ؛ بل في كفر من شك في ذلك)( )
قال القاضي عياض: (أفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي وصلبه بما شُهد عليه من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم، وخَتَنِ حيدرة…
وأفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري… في الاستهزاء بالله، وأنبيائه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأُحضر له القاضي يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء وأمر بقتله وَصَلْبِهِ فُطُعِنَ بالسّكين وصُلِبَ مُنَكَّساً ثم أُنزل وأُحرق بالنار.
وحكى بعض المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته وزالت عنها الأيدي استدارت وَحَوَّلته عن القبلة فكان آيةً للجميع، وكبّر الناس، وجاء كلب فولغ في دمه)( )
وقال ابن نُجيم: (فيكفر إذا وصف الله بما لا يليق به، أو سخر باسمٍ من أسمائه)( )
وقال القاضي عياض: (قال مالك في كتاب ابن حبيب، ومحمد، وقال ابن القاسم، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وسحنون، فيمن شتم الأنبياء، أو أحداً منهم، أو تنقصه: قُتل ولم يُستتب)( )
وقال الدردير المالكي: (من سب نبياً مجمعاً على نبوته، أو عرّض بسب نبي، بأن قال عند ذكره: أمَّا أنا فلست بزانٍ، أو سارقٍ، فقد كفر)( )
ويقول الشربيني الشافعي: (من كذّب رسولاً أو نبياً، أو سبه، أو استخف به أو باسمه... فقد كفر)( )
وقال الإمام مالك: (من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو شتمه، أو عابه، أو تنقصه قُتل، مسلماً كان أو كافراً، ولا يُستتاب)( )
وقال أيضاً: (من قال إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم وسخ، أراد عيبه، قُتل)( )
وقد سأل الرشيد الإمام مالكاً في رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن فقهاء العراق أفتوه بجلده، فغضب مالك، وقال: (يا أمير المؤمنين، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها، من شتم الأنبياء قُتِل، ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جُلد)( )
قلت : وما بقاء أهل الأرض والسماء جميعاً ومن في هذا الكون كله بعد شتم الجبار سبحانه وتعالى والاستهزاء به والسخرية منه، تعالى ربنا وتقدس وتنـزه عن كل نقصٍ وثلب، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أرَادَ أنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ في الأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 17].
وقال الإمام سليمان بن عبد الله آل الشيخ: (ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئاً من ذلك، فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه، كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً)( )
وقال العلامة الشيخ سعيد بن حِجي الحنبلي النجدي: (فأما نواقض لا إله إلا الله فعسيرٌ إحصاؤها … فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته … ومن ادَّعى النبوة، أو صدَّق من ادّعاها، أو جحد البعث، أو سبَّ الله ورسوله، أو استهزأ بالله، أو كتبه، أو رسله، كفر)( )
وقال العلامة المحدث أحمد شاكر: (إن من يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي كلمة لا تليق بمقامه الكريم، حكمه عند المسلمين معروف، لا يخالف فيه عالم أو جاهل؛ بل لا يخفى على أجهل العوام، أنه مرتد عن ملة الإسلام، تجري عليه أحكام المرتدين المعروفة)( )
وقال الشيخ ابن ضويان: (ويحصل الكفر بأحد أربعة أمور: بالقول، كَسَبِّ الله تعالى، أو رسوله، أو ملائكته؛ لأنَّه لا يسبه إلا وهو جاحد به...)( )
وقال إمام أهل السنة في زمانه سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- : (سَبّ الدين والرَّبّ جلَّ وعلا، كل ذلك من أعظم أنواع الكفر بإجماع أهل العلم)( )
وقال العلامة الفقيه الشيخ محمد بن صالح العثيمين: (الحكم فيمن سَبَّ الدين الإسلامي أنه يكفر ؛ فإنّ سَبَّ الدين والاستهزاء به رِدَّة عن الإسلام وكفر بالله عز وجل وبدينه)( )
وقال أيضاً: (فالاستهزاء بدين الله، أو سَبّ دين الله، أو سبّ الله ورسوله، أو الاستهزاء بهما كفر مخرج من الملة)( )
وقال في موضعٍ آخر رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة: (الاستهزاء بالله تعالى، أو برسوله صلى الله عليه وسلم، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كفرٌ وَرِدَّةٌ يخرُجُ به الإنسان من الإسلام)( )
وقال أيضاً: (هذا العمل وهو الاستهزاء بالله، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كتابه، أو دينه، ولو كان على سبيل المزاح، ولو كان على سبيل إضحاك القوم، كُفْرٌ ونِفَاقٌ)( )
وإليك أخي القارئ واقعة تاريخية توضِّح المراد كما سجَّلها القاضي عياض في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" حيث يقول: (وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بـ((ابن أخي عجب))، وكان خرج يوماً، فأخذه المطر، فقال: بدأ الخرّاز يرش جلوده. وكان بعض الفقهاء به - أي بقرطبة - أبو زيد، وعبد الأعلى بن وهب، وابن عيسى قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذٍ موسى بن زياد، فقال ابن حبيب: "دمه في عنقي، أيشْتُم ربّاً عبدناه ولا ننتصر له ؟ إنَّا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين"، وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن ابن الحكم الأموي (ت 282ه). وكانت "عجب" عمة هذا المطلوب من حظاياه، أي من أحب الزوجات لعبد الرحمن ابن الحكم، وأُعْلِمَ باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه، وأمر بقتله، فقُتِلَ وصُلِبَ بحضرة الفقيهين: ابن حبيب، وأصبغ، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء وسبهم)( )
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي ((عجب)) تلفَّظ بعبارة تقتضي استخفافاً بالرَّبِّ جلَّ وعلا، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرَّجُل لم يجاهر بهذه العبارة عبر وسائل إعلام مقروءة أو مسموعة أو مرئية، أو دواوين وُزِّع منها قرابة ثلاث ملايين نسخة في مجتمعات تتبنى الإسلام!!، أو قُدِّمَ على أنه شاعر الحب الأول، أو أمير الشعراء في عصرنا الحالي. ومع ذلك فهذه العبارة في غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي آنذاك فلم يقبلها بالكلية، بل نفر منها تماماً، حتى جعلت أهل العلم في قرطبة يجتمعون لها، ويحكمون على صاحبها بالرِدَّة وإهدار الدم بالقتل، بل بأن يُصْلَب حتى يكون عبرةً لكل زِنْدِيقٍ يحاول التجرؤ على أمرٍ مُقَدَّسٍ في قلوب المؤمنين الموحدين.
أقول : فأين سيف الحق البتار ماله لا يخرج من غمده ويقيم على هؤلاء المرتدين ذلك الحد الذي غاب قروناً عديدة، وسنين مديدة؛ فإن خشبة الصَّلْب قد حَنَّت لأجسادهم، والأرض في شوقٍ لدمائهم، لتشرب منها تعبداً لله وتقرباً.
وقفات مع أصناف من الناس
وهنا أقف وقفات -معاشر الفضلاء والأتقياء- مع أصنافٍ من الناس، وموقفهم من نزار:
الصِّنْفُ الأوَّل:
أهل الصلاح والفضل والدين، وأصحاب الشريعة، ووُرَّاث النبوة، أولئك الذين ظهروا على صدور المجلات والجرائد( ) السيَّارة في بلاد المسلمين، في وقت خروج نزار قباني من الدنيا إلى الدار الآخرة، وعن بعض فتاواهم التي أوهمت القارئ بأنَّ نزار قباني هو شاعر فسقٍ وعُهرٍ وخنا لا غير، وبهذا فإنَّ حكمه حكم الفاسق بكبيرته، المؤمن يإيمانه، وهذا فيه تدليس واضحٌ، وغَررٌ بَيِّنٌ لعامَّة المسلمين وخاصَّتهم.
فهل قول نزار قباني مثلاً: (أنا أرفض الإحسان من يدي خالقي).
وقوله: (وربٌ لا يطاردني).
وقوله: (بلادي تقتل الرب الذي أهدى لها الخصبا) وقوله: (حين رأيت الله.. في عمّان مذبوحاً..).
وقوله: (من بعد موت الله، مشنوقاً على باب المدينة)
وقوله: (لم تبق للصلوات قيمة.. لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة..).
وقوله: (كم سنة ضَيَّعْتَ في نحته؟ قل لي: ألم تتعبِ؟.. ألم تسأمِ؟..).
وقوله: (إني أعبد الأصنام رغم تأثمي).
وقوله: (اصلبيني بين نهديك مسيحاً.. عمِّديني بمياه الورد).
وقوله: (وشجعت نهديك.. فاستكبرا على الله حتى فلم يسجدا).
وقوله

فاعذروني أيها السادة إن كنت كفرت).
وقوله: (ويتزوج الله حبيبته).
وقوله: (بعتُ الله بعتُ رماد أمواتك).
وقوله: (لأن الله منذ رحلتِ دخل في نوبة بكاء عصبية، وأضرب عن الطعام).
وقوله: (شكراً لحبك فهو مروحةٌ.. وهو المفاجأة التي قد حار فيها الأنبياء).
وقوله: (يا إلهي إن كنت رباً حقيقياً فدعنا عاشقينا).
وقوله: (أين غرور الله من غروري؟).
ومثل قوله: (وكتبت شعراً لا يشابه سحره إلاَّ كلام الله في التوراة.. مارست ألف عبادةٍ وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي).
وغير ذلك من الأقوال ينطبق عليه فتوى من قال في حق نزار قباني: (… وعليه فيجب على المسلمين الصلاة على العصاة والفسقة من المسلمين، ودفنهم في مقابر المسلمين، والدعاء لهم في الصلاة عليهم بالمغفرة والرحمة، فإن الله غفور رحيم).
والفتوى الأخرى التي خرجت في حق نزار التي يقول فيها صاحبها: (كون الإنسان يمارس الكتابة في الجنس، ويحترف الشعر الجنسي، فهذا ليس معناه أنه كافر، ويترتب عليه أحكام الكفار، فهذه الممارسات لا تخرج من الدين، وبالتالي لا يوجد مسوغ لمعاملته معاملة الكفار، ومنعه من دخول المسجد للصلاة عليه، إلاَّ إذا أظهر إلحاداً واستهزاءً بدين الله، أو بَيَّن شيئاً يستلزم كفره، وارتداده عن الدين)!!.
وغيرها من هذه الفتاوى التي أجزم بأن هؤلاء المشايخ الفضلاء لم يعلموا بأقوال نزار الكفرية التي ذكرناها آنفاً.
ولهذا وجب عليهم التوضيح في مقالٍ آخر إبراءً للذمة، وتوضيحاً للأمة، وكشفاً لِلَّبس الذي قد حصل بين العامَّة والخاصَّة من المسلمين. علماً بأنَّ نزار قباني له دواوين وُزِّعت ونُشِرَت بين أبناء المسلمين، وحيث إن المراهقين والمراهقات يقتنون دواوينه!! ويترنـّمون بها!! ويعيرها بعضهم إلى بعض حتى في بعض البلاد التي لا يظن فيها إلاَّ الخير والصلاح والتوحيد، وحيث بلغ مجموع ما وُزِّع تقريباً من دواوينه العفنة الفاجرة قرابة ثلاث ملايين نسخة في العالم العربي، والله أعلم بما سيخرج بعد موته وهلاكه من دواوين له.
قال الله تعالى: {إنَّ الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُـونَ} [ البقرة: 159 ]
وقال الله تعالى: {إنَّ الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ * أُولَئِكَ الذِينَ اشْتَرَواْ الضَّلاَلةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174-175]
الصِّنْفُ الثاني:
هم من عِدادِ المرتزقة الذين يفرحون بقتل كل فضيلة وعفة، ويُسَرُّون بنشر كل رذيلةٍ وخسيسة، وهمُّهم الوحيد خفض دين الله تعالى بكل الطرق والوسائل، أولئك الكُتَّاب المستأجرون على حطامٍ من الدنيا قليل، وهم عند ربهم وخالقهم من الآثمين الخاطئين، الذين تَبَاكَوْا على نزار قباني وعلى أمثاله من المرتدين والزنادقة، ومَنْ وَصَفُوه بشهيد الشُّعراء!! وبشاعر الأمة العربية!!، وبشاعر المرأة!!.. وغير ذلك من الكذب والإفك المبين، أولئك الكُتَّاب الذين سال مِدَادُ أقلامهم حُزناً على كلِّ فاجر وفاجرة، ومنافق ومنافقة، بالمدح والثناء على صدور المجلات والجرائد، من غير فتورٍ ولا مَلَل، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم: { هآ أنتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء: 109].
يا من تكتبون بأداة عند الله عظيمة وهي القلم، ذلك المخلوق الذي أنزل الله فيه سورة من سور القرآن تُتْلَى في المصاحف، وتُحفظ في صدور الرجال، إلى أن يرفعه الله من المصاحف ومن صدور الرجال، بل أقسم به سبحانه وتعالى، وهو لا يقسم إلاَّ بعظيم، فقال جلَّ وعلا: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]
قال الإمام الشوكاني: (أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان، وهو واقع على كل قلم يكتب به) اه( ).
بل للشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة، منها قول أبي الفتح البستي:
إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفــهم
وعَدُّوه مما يكسب المجد والكـرم
كفى قلم الكُتَّاب عزاً ورفعـــــةً
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
يا معاشر الكتَّاب والأدباء.. أين أنتم من نُصرة الله تعالى ودينه، والذب عن حياض السنة المطهرة من أن يَلِغَ فيها كلُّ مرتد بلسانٍ سُلِّط حرباً عليها؟ أين أنتم يا معاشر الكتَّاب والأدباء عن تلك الأفكار والمعتقدات والفرق الهدامة المرتدة، التي نخرت جسد الأمة المحمدية، ومازالت تنخر فيه وتنشر أصولها ومعتقداتها الفاسدة الخبيثة بكل نشاط واجتهاد من رافضة مجوسية اثني عشرية، وإسماعيلية باطنية، ونُصيرية علوية، ودرزية شيطانية، وشيوعية ملحدة، وبعثية هدامة، وعلمانية كافرة، وحركات للتغريب، ولتحرير المرأة المسلمة، وقاديانية أحمدية، وقومية عربية جاهلية، وماسونية خفية، وصوفية قبورية غالية، وقرآنيين منكرين للسنة المحمدية المرضية، وبريليوية وثنية، وأباضية إبليسية، وحبشية قبورية وغيرها من الفرق التي خلعت من عنقها ربقة الإسلام والتوحيد، وارتدت عن ما جاء به خير خلق الله قاطبة صلى الله عليه وسلم.
أين أنتم من جراح أمتنا الإسلامية التي انتشرت في كل عضوٍ من أعضائها، فلم تسلم الأعضاء من جروحٍ أو قروحٍ تنـزف؟
أين أدبكم وشعركم لِمَ لَمْ يتغنَّ على أطلال الأندلس المسلوبة، ومآذنها المحزونة؟ وعلى جبال كشمير المغصوبة؟ وعلى أشجار الفلبين الخضراء؟ وتلال أرتيريا وبورما وسهولها؟ وأرض البوسنة وجراحها؟ ومأساة كوسوفا؟
أين كتاباتكم أيها الأدباء والكتَّاب عن أرض الملاحم والشهداء، وأرض الأنبياء والصلحاء، وأرض التين والزيتون، أرض الإسراء التي ترزح تحت أيدي أحفاد القردة والخنازير يهود الغدر والخيانة؟
أين مداد أقلامكم؟ ما لي أراها قد جفَّت، وأقلامكم قد تكسَّرت، عن كشف ما حلَّ في أمتنا من منكراتٍ وبدع وأهواء في الدين، قُدِّمَت على دين الله تعالى وشرعه، وانقاد إليها الناس أفواجاً إثر أفواج، وأسراباً تتبعها أسراب!!
ما بال أصواتكم قد خرستْ، وأفواهكم قد لُجِمَت عن الدفاع عن الحق وأهله من علماء الملة والدين؟ وعن أعراض المسلمات الطاهرات التي اغتصبت في مشارق الأرض ومغاربها على أيدي علوجٍ من الصليبيين الحاقدين؟
فهل يا تُرى قد جاء ذلك الزمان الذي أخبرنا عنه حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّبُ فيها الصَّادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين)( ).
إني أوجه إليكم هذه الكلمات شفقةً وخوفاً عليكم من عذاب الجبار سبحانه وتعالى وانتقامه ؛ فإن عذابه أليم شديد، قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} [النساء: 30].
وقال تعالى: {وَأمَّا الذِينَ اسْتَنْكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابَاً ألِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء: 173].
وقال تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ الله عَذَاباً ألِيماً في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ في الأَرْضِ مِنْ وَليٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [التوبة: 74].
وقال تعالى فيمن استكبر عن الحق وافترى على الله الكذب: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].
الصِّنْفُ الثالث:
هم من أهل الخير والاستقامة لا يُعرف عنهم إلاَّ كل خيرٍ وصلاح نحسبهم كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، أصحابُ عقيدةٍ صافية، وطريقةٍ سُنِّيَّةٍ مرضية، لكنهم - يا للأسف والحزن - قد توقفوا في أمر نزار قباني وحكمه في الدنيا، أهو من أهل الإسلام أم من أهل الردة والإلحاد؟
ورحمة الله على محدِّث الفقهاء، وفقيه المحدثين في زمانه أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين وقعت له فتنة خلق القرآن فثبت ثبوت الجبال الرواسي، وأفتى بكفرِ مَنْ قال : إن القرآن مخلوق. وتوقَّفَ أُناسٌ في القرآن وأمسكوا، فلم يقولوا بأنه غير مخلوق أو مخلوق، وقد كانوا طوائف، فمنهم مَنْ وَقَفَ مُطلقاً ولم يصرح بشيء، مُدَّعِياً أنَّ الأمر لم يتبين له!! وطائفةٌ قالت: إن القرآن كلام الله فقط.
وقد كانت القضية عند الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة الأعلام من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، مما جعل الإمام أحمد يحكم بكفر مَنْ توقَّف في قضية خلق القرآن.
فعن يعقوب بن بختان قال: (سألت أبا عبد الله عن الرجل يقف. قال: هذا عندي شاكٌّ مرتاب)( ).
وعن أحمد بن محمد بن الليث قال: (سُئل أحمد ابن حنبل وأنا حاضر عن الواقفة فقال: الواقفة والجهمية واللفظية عندنا سواء)( ).
وقال أبو حاتم الرازي: (قال مصعب: هؤلاء الذين يقولون في القرآن: لا ندري مخلوق أم غير مخلوق، هم عندنا شَرٌّ مِمَّن يقول مخلوق. يُسْتَتَابون، فإن تابوا وإلا ضُرِبَت أعناقهم)( ).
وكذلك قال الإمام إسحاق بن راهويه حين سُئل عن الرجل يقول: القرآن كلام الله ويقف؟ قال: (هو عندي شرٌّ مِنَ الذي يقول مخلوق؛ لأنه يقتدي به غيره)( )
وهذا قول أهل العلم: أنَّ مَنْ تَوَقَّفَ في القرآن فهو كافر بالله العظيم، وهو قول أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل بغداد، وأهل مصر، وأهل الشام، وأهل الجزيرة، وأهل خراسان وأهل الثغور.( )
وبعد هذا كله أيُتَوَقَّف في أمـر نزار قباني وحكمه في شريعة الإسلام ؟!.
يا أصحاب الفطر السليمة.. أسألكم بالذي خلق لكم عينين ولساناً وشفتين: هل في قلوب المؤمنين المخبتين أعظم من ذلك الرب الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ ومن قال في كتابه الكريم وهو يمجد نفسه ويثني عليها، وهو أهل الثناء وأهل المجد: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُمر: 67].
يا حماة الإسلام.. أيُستهزأُ بالخالق سبحانه وتعالى ويُرْمَى بكُلِّ نقيصةٍ وعيبٍ، وهو المنـزه عن ذلك سبحانه وتعالى، ثُمَّ لا يُحكم على ذلك المستهزئ بالرِدَّة عن دين الله تعالى؟!!.
يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً..
أيُشتمُ ربٌّ عبدناه، ولا ننتصر له؟ فوالله إنَّا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين.
فيا قلة السالكين!! ويا كثرة الهالكين والمخذولين!!
ورحمة الله على الإمام ابن بطة العكبري قائد لواء أهل الحديث في زمانه، الذي كان يشكو بثه وحزنه إلى طلابه مما كان يراه في زمانه من غربةِ الدينِ بين أهله وذويه وحامليه، فمِمَّا قاله: (يا إخواني عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء، ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غِيَرِ( ) الزمان وزخاريف الشيطان، فقد كثر المغترون بتمويهاتها، وتباهى الزائغون والجاهلون بلبسة حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحلَّ الذي حذَّرَنَاه نبينا صلى الله عليه وسلم من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، وواقع أكثرنا الذي عنه نهينا، وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلية الإيمان، وانكشف الغطا، وبرح الخفا، فعبدت الأهواء، واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة وانتشرت أعلامها، وظهرت الرِدَّة وانكشف قناعها، وقُدحت زناد( ) الزندقة فاضطرمت نيرانـها، وخلف محمد صلى الله عليه وسلم في أمته بأقبح الخلف، وعظمت البليَّة، واشتدت الرزيَّة، وظهر المبتدعون، وتنطَّع المتنطِّعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهُتِكتْ سُجفُ( ) المشاينة، وشُهِرَ سيف المحاشة( ) بعد أن كان أمرهم هيِّناً، وحدهم ليِّناً، وذاك حتى كان أمرُ الأمَّةِ مجتمعاً، والقلوبُ متآلفةً، والأئمةُ عادلةً، والسلطانُ قاهراً، والحقُّ ظاهراً، فانقلبت الأعيانُ، وانعكس الزمانُ، وانفرد كلُّ قومٍ ببدعتهم، وحزب الأحزابُ، وخُولِفَ الكتابٌ، واتخذ أهلُ الإلحادِ رؤوساً أرباباً، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك( ) في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونَعَقَ( ) إبليسُ بأوليائه نعقةً فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا نحوه مسرعين من كل قاصية، فألبسوا شيعاً، وميزوا قطعاً، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة، والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله، وصدفهم عن الحقِّ، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله عز وجل عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فأُشْعِلَت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب مَنْ قبلهم مِنَ الأمم الماضين، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار ورويت فيهم الآثار)( ).
وقال أيضاً : (فلو أنَّ رجلاً عاقلاً أمعن النظر اليوم في الإسلام وأهله، لَعَلِمَ أنَّ أمورَ النَّاس تمضي كلها على سنن أهل الكتابين وطريقتهم، وعلى سُنَّة كسرى وقيصر، وعلى ما كانت عليه الجاهلية، فما طبقة من الناس، وما صنف منهم، إلاَّ وهم في سائر أمورهم مخالفون لشرائع الإسلام وسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، مضاهون فيما يفعل أهل الكتابين والجاهلية قبلهم، فإنْ صَرَّفَ بصرَهُ إلى السَّلطنة وأهلها وحاشيتها، ومَنْ لاذ بها من حكامهم وعُمَّالهم، وَجَدَ الأمر كله فيهم بالضد مِمَّا أُمِرُوا به، ونُصِّبُوا له، في أفعالهم وأحكامهم، وزِيِّهم ولباسهم، وكذلك في سائر الناس بعدهم: من التُّجَّار، والسوقة، وأبناء الدنيا وطالبيها: من الزُّرَّاع، والصُّنَّاع، والأُجَراء، والفُقَراء، والقُرَّاءِ، والعلماء، إلاَّ مَن عصمه الله، ومتى فكَّرت في ذلك وجدت الأمرَ كما أخبرتك في المصائب والأفراح، وفي الزيِّ واللِّباس، والآنية، والأبنية والمساكن، والخُدَّام والمراكب، والولائم والأعراس، والمجالس والفرش، والمآكل والمشارب، وكل ذلك، فيجري خلاف الكتاب والسُنَّة بالضد مِمَّا أمر به المسلمون، ونُدِبَ إليه المؤمنون، وكذلك مَنْ باع واشترى، وملك واقتنى، واستأجر وزرع وزارع، فمن طلب السلامة لدينه في وقتنا هذا مع الناس عدمها، ومَنْ أحبَّ أن يلتمس معيشة على حكم الكتاب والسُنَّة فقدها، وكثر خصماؤه وأعداؤه ومخالفوه ومبغضوه فيها، فالله المستعان، فما أشد تعذُّر السلامة في الدين في هذا الزمان، فطرقات الحق خالية مقفرة موحشة، قد عدم سالكوها، واندفنت محاجها وتهدَّمت صواياها( ) وأعلامها، وفقد أدلاؤها وهُدَاتها، قد وقفت شياطين الإنس والجن على فجاجها وسبلها تتخطَّف الناس عنها، فالله المستعان، فليس يعرف هذا الأمر ويهمه إلاَّ رجلٌ عاقلٌ مُمَيِّزٌ قد أدَّبه العلم، وشرح الله صدره بالإيمان)( ).
الصِّنْفُ الرَّابع:
هم أهل الضلال والزندقة والمجون، أصدقاء نزار قباني ومحبّوه، ومَنْ هم على شاكلته ونهجه. والجِعْلان( ) على أشكالها تقع، من مثل:أدونيس( )،وعبد العزيزالمقالح( )،وعبدالوهاب البياتي( ) ومـحمود درويـش( )، وصلاح عبد الصبور( )، وفدوى طوقان،( )
وأمل دنقل،( ) وغيرهم ممن استهزؤوا وسخروا من الرب العظيم في قصائدهم وأشعارهم، فإني أطلب منهم أن يتذكروا حالهم بعين البصيرة وقد كانوا قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان لفسدت وأَنتنت، وكيف استخرجكم رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادين لقدرته، مطيعين لمشيئته، مذللين الانقياد على ضيق الطرق واختلاف المجاري، إلى أن ساقكم اللطيف البصير إلى مستقركم ومجمعكم في أرحام أمهاتكم. وكيف جمع سبحانه وتعالى بين آبائكم وأمهاتكم وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى ذلك الاجتماع الذي هو سبب لتخليقكم وتكوينكم، وكيف قدّر سبحانه وتعالى اجتماع ذينك الماءين( ) مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد، وجعل لهما قراراً مكيناً لايناله هواء يفسده، ولابرد يجمده.
ثم أيها المستهزئون الساخرون أعيدوا النظر فيكم وفي أنفسكم مرة أخرى، من الذي دبركم بألطف التدبير وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم في موضع لا يد تنالكم، ولا بصر يدرككم، ولا حيلة لكم في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر، فمن الذي أجرى إليكم من دم أمهاتكم ما يغذوكم به كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لكم لبناً ولم يزل يغذيكم به بجوده وكرمه في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب والطلب، حتى إذا كَمُلَ خلقكم واستحكم وقوى أديمكم على مباشرة الهواء وبصركم على ملاقاة الضياء، وصلبت عظامكم على مباشرة الأيدي والتقلب على الغبراء، هاج الطلق بأمهاتكم، وأزعجكم إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضكم الرحِم ركضةً من مكانكم، كأنه لم يضمكم قط، ولم يشتمل عليكم.
فصار يستغيث ويعج إلى ربه من ثقلكم، فمن الذي فتح لكم بابه حتى ولجتم، ثم ضمه عليكم حتى حُفظتم وكملتُم، ثم فتح لكم ذلك الباب ووسعه حتى خرجتم منه كلمح البصر لم يخنقكم ضيقه، ولم تحبسكم صعوبة طريقكم فيه فلو تأملتم حالكم في دخولكم من ذلك الباب وخروجكم منه لذهب بكم العجب كل مذهب، فمن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليكم وأنتم نطفة حتى لاتفسدوا هناك، وأوحى إليه أن يتسع لكم ويتفسح حتى تخرجوا منه سليمين.
وبعد أن خرجتم فريدين وحيدين ضعفاء، لا قشرة لكم ولالباس، ولامتاع ولامال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم.
ثم ماذا بعد ذلك يا أيها المستهزئون الساخرون من الله تعالى لقد صرف سبحانه وتعالى ذلك اللبن الذي كنتم تتغذون به في بطون أمهاتكم إلى خزانتين معلقتين على صدرها، تحمل غذاءكم على صدرها كما حملتكم في بطنها، ثم ساقه الحي القيوم إلى تينك الخزانتين ألطف سوق على مجارٍ وطرق قد تهيأت له، فلا يزال واقفاً في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة فيجري وينساق إليكم من عند الذي لاتنفد خزائنه، ولا يزول ملكه، فمن الذي رققه لكم؟ ومن الذي صفاه، وأطاب طعمه، وحسَّن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحار المؤذي، ولا بالبارد الردي، ولا المر، ولا المالح، ولا الكريه الرائحة؟ (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ).
وحين خرجتم إلى الدنيا وبدأت الشفاه تتحرك للرضاع؛ فما كان من ذلك الثدي المعلق كالإداوة إلا قد تدلى برحمته سبحانه وتعالى إليكم، وأقبل بدره عليكم، ثم جعل في رأسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر أفواهكم فلا يضيق عنها، ولا تتعبوا بالتقامها، ثم ثقب لكم في رأسها ثقباً لطيفاً بحسب احتمالكم، فلم يوسعه فتختنقوا باللبن، ولم يضيقه عليكم فتمصونه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ورحمته. فمن الذي عطف عليكم قلب الأم، ووضع فيه ذلك الحنان العجيب، والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنأ مايكون من شأنها وراحتها ومقيلها، فإذا أحست منك بأدنى صوت أو بكاء، قامت إليك وآثرتك على نفسها على عدد النفس منقادةً إليك بغير قائد ولا سائق، إلا قائد الرحمة وسائق الحنان، تود لو أن كل ما يؤلمك بجسمها، وأن حياتها تزاد في حياتك( ) فمن الذي قذف هذا في قلوب عباده يامعاشر الساخرين والمستهزئين؟
إنه الله الواحد الأحد، والفرد الصمد، والقائم على كل نفس بالخلق والرزق.