كان الشاعر محمد بن عبدالله القاضي شاعر يتسم بالوقار .. إذا حضر في محلٍ ما كان قطب ذلك المجلس لما تحمل طيات أحاديثه المشوقة من أدب وشعر وطرافة وعفة غزل.
حدث أن شاعرنا والذي إعتاد إرتياد أحد المجالس ( الديوانيات ) أن قال له صاحب مجلسه : إنك يا القاضي لا تستطيع الإتيان بقصيدة دون أن تعرج على ذكر الغزل فيها .. وتحدى صاحب المجلس القاضي بأن يأتي على قصيدة لا تقل عن عشرين بيتاً دون أن يأتي فيها على بيت واحد من الغزل .. لمعرفته بطبع القاضي الرقيق وحبه لذكر الغزل العفيف ووصف المحبوب بما يليق من الأوصاف الراقية لفظا ومعنى .. وكان الرهان بينهما أن يولم الخاسر في الرهان لرواد المجلس وإتفقا على يوم معين يأتي فيه القاضي ليلقي قصيدته ..
أتى الشاعر محمد بن عبدالله القاضي وقد أعد واحدة من أجمل القصائد التي وصفت القهوة وظلت إلى يومنا الحاضر مرجعا في الشعر النبطي لوصف القهوة وطريقة صنعها وما يضاف إليها من بهار للعناية بها قبل تقديمها للضيوف
قال القاضي في وصفه للقهوة وقد بدأ قصيدته بوصف حال نفسه وما توطنها من هموم:
|
يا مـل قلـب كلمـا إلتـم بالأشـواقمن عام الأول به دواكيـك وخفـوق |
كنـه مـع الـدلال يجلـب بـالأسـواقوعايم عند إمعزل الوسط ما سوق |
يجاهد جنود فـي سواهيـج الأطـراقويكشف له اسرار كتمهـا بصنـدوق |
لا عن لـه تذكـار الأحبـاب وإشتـاقباله وطاف بخاطره طاري الشوق |
|
* ثم راح يصف القهوةوكيفية صنعها تفصيلا وهو موضوع القصيدة والرهان ...
|
دنيـت لـه مـن غـالـي الـبـن مــا لاقبالكـف ناقيهـا عـن العـذف منسـوق |
إحمـس ثـلاث يـا نديمـي علـى سـاقريحه على جمر الغضى يفضح السوق |
وإيــاك والـنـيـة وبـالــك والأحـــراقوإحذر تصيـر بحمسـة البـن مطفـوق |
إلى إصفـر لونـه ثـم بشـت بالأعـراقأصفر كما الياقوت يطرب لها المـوق |
وعطـت بـريـح فـاخـر فـاضـح فــاقريحه كمـا العنبـر بالأنفـاس منشـوق |
دقــه بنـجـر يسمـعـه كــل مشـتـاقراع الهـوى يطـرب إلـى دق بخـفـوق |
لـقِــم بـدلــة مـولــع كـنـهـا ســـاقمصـبـوبـة مـربـوبـة تـقــل غـرنــوق |
أصفـر قـمـوره كالـزمـرد بالأشـعـاقوكبارها الطافـح كمـا صافـي المـوق |
|
* بعد طبخ القهوة .. وإستوائها ودليل ذلك ريحتها الفواحة الطيبة التي تزكم الأنوف طيبا .. يذكر القاضي البهارات التي تضاف للقهوة آنذاك ( والتي سبقها بقوله خمسة أرناق) أي خمسة أصناف وهو ما يدل على عناية العرب بالقهوة قديما :
|
زله على وضحى بها خمسـة أرنـاقهيـل ومسمـار بالأسبـاب مسحـوق |
مع زعفران والشمطري إلى إنساقوالعنبر الغالي على الطاق مطبـوق |
|
* الآن جهزت القهوة .. وجاء وصف تقديمها .. يقول القاضي مسترسلا :
|
فليـا اجتـمـع هــذا وهــذا بتيـفـاقصبه كفيت العوق عن كل مخلوق |
بفنجان صين زاهـي عنـد الأرمـاقيغضي بكرسيه كما إغضاة غرنوق |
إلى إنطلق من ثعبته تقل شبـراقأو دم قلـب وإنمـزع منـه معلـوق |
|
* أثناء قيام القاضي بسرد أبياته منذ البداية .... علم صاحب البيت بشاعرية القاضي وأنه خاسر لا محالة .. وكان قد اتفق مع أهله أن يدبروا دعابة تلهي القاضي وتصرفه عن الشعر والمعنى الذي اعده .. لكي يعرج مضطرا على الغزل .. لكن كيف يمكنه فعل ذلك ؟؟ لابد أن يرى فتاة وأي فتاة .. لابد أن يرى فتاة جميلة تصرفه عن القهوة وتشده طائعا للغزل .. قبل أن يصل القاضي للبيت الثامن عشر .. دخل صاحب البيت وأشار لفتاة جميلة من أهل بيته ، فتاة بيضاء في زهرة الشباب إختلط بياض وجهها مع حمرته .. وكانت ممتلئة الجسم بضة، قيدت الحجول ساقيها وضقن ذرعا بها وكذلك الذراعان فهن الأخريات حبيسات للأساور ينشدن الحرية ..طلب من الفتاة أن تحمل وعاء من الفخار مملوء ماءاً وتدخله من باب المجلس الذي يفيء على فناء الدار .. تدخل الوعاء عند الباب .. بمسافة كافية وتتركه وتنصرف .. لمدة وجيزة كافية لكي يراها القاضي وينصرف عن الأبيات التي أعدها عن موضوع القصيدة والرهان.. وكان ذلك ... فما أن رآها القاضي حتى تحول أتوماتيكيا للغزل فقال مكملا مرتجلا باقي القصيدة:
|
إلى حصل لك صاحبك وأنت مشتاقإقطف زهر ما لاق والعمـر ملحـوق |
عبـث يعيـل بحـبـه مــا بـعـد مــاقوهـو يزاهـي بـاهـر الـبـدر بعـشـوق |
بيـن إشفتيـه إلـى غنـج حـق بــراقعجل رفيفـه بالطهـا يعطـي طبـوق |
سطر كتب من حبـر عينيـه بـأوراقخديـه صاديـن ونونـيـن مــن فــوق |
كـن العـرق بخدودهـا حمـر الأرنـاقينثر على الوجنات باللـون معشـوق |
إلـى تبسـم شـع وأشــرق بـالآفـاقنـوره يفـوق البـدر سحـر ومنطـوق |
بالعنـق كـن المسـك والـخـد بــراقشخص بصدره كمـا الشـاخ مدقـوق |
يمشي برفق خايـف مدمـج السـاقيفصم حجول ضامها الثقل من فوق |
فليا حضر ما قلـت عنـدي بـالأرزاقبـيـد كـريـم كافـلـن كــل مخـلـوق |
صـلاة ربــي عــد مــا بــارق حــاقعلى النبـي الهاشمـي خيـر مخلـوق |
|
وهكذا خسر القاضي بدعابة مدبرة من صاحب المجلس .. إلا ن صاحب المجلس أخبر القاضي بتدبيره وأولم للحاضرين بالمجلس