السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تتابع لما مضى ذكره.
باب ما تجوز الوصية:
تصح الوصية بكل ما يمكن نقل الملك فيه ، من مقسوم ، ومشاع ، معلوم ، ومجهول ، لأنه تمليك جزء من ماله ، فجاز في ذلك ، كالبيع . وتجوز بالحمل في البطن ، واللبن في الضرع وبعبد من عبيده ، وبما لا يقدر على تسليمه ، كالطير في الهواء ، والآبق ، لأن الموصى له يخلف الموصي في الموصى به ، كخلاف الورثة في باقي المال ، والوارث يخلفه في هذه الأشياء كلها ، كذلك الموصى له . وإن وصى بمال الكتابة ، صح لذلك . وإن وصى برقبة المكاتب ، انبنى على جواز بيعه . فإن جاز ، جازت الوصية به ، وإلا فلا . وإن وصى له بما تحمل جاريته ، أو شاته ، أو شجرته ، صح ، لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة ، فجاز أن يملك بالوصية .
فصل :
وتجوز الوصية بالمنافع ، لأنها كالأعيان في الملك ، بالعقد ، والإرث ، فكذلك في الوصية . وتجوز الوصية بالعين دون المنفعة ، وبالعين لرجل ، والمنفعة لآخر ، لأنهما كالعينين ، فجاز فيهما ما جاز في العينين . وتجوز بمنفعة مقدرة المدة ، ومؤبدة ، لأن المقدرة كالعين المعلومة ، والمؤبدة كالمجهولة فصحت الوصية بالجميع .
فصل :
وتجوز الوصية بما يجوز الانتفاع به من النجاسات ، كالكلب ، والزيت النجس ، لأنه يجوز اقتناؤه للانتفاع ، فجاز نقل اليد فيه بالوصية . ولا تجوز بما لا يحل الانتفاع به ، كالخمر ، والخنزير ، والكلب الذي يحرم اقتناؤه ، لأنه لا يحل الانتفاع به ، فلا تقر اليد عليه .
فصل :
ويجوز تعليقها على شرط في الحياة ، لأنها تجوز في المجهول ، فجاز تعليقها على شرط ، كالطلاق . ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت ، لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة . وإن قال : وصيت لك بثلثي ، وإن قدم زيد ، فهو له ، فقدم زيد في حياة الموصي ، فهو له . وإن قدم بعد موته فقال القاضي : الوصية للأول ، لأنه استحقها بموت الموصي فلم ينتقل عنه . ويحتمل أنها للثاني ، لأنه جعلها له بقدومه وقد جود .
فصل :
وإن كانت الوصية لغير معين ، كالفقراء ، أو لمن لا يعتبر قبوله ، كسبيل الله ، لزمت بالموت ، لأنه لا يمكن اعتبار القبول ، فسقط اعتباره . وإن كان لآدمي معين ، لم تلزم إلا بالقبول ، لأنها تمليك ، فأشبهت الصدقة . ولا يصح القبول إلا بعد الموت ، لأن الإيجاب لما بعده ، فكان القبول بعده . فإذا قبل ، ثبت له الملك حينئذ ، لأن القبول يتم به السبب ، فلم يثبت الملك قبله ، كالهبة . ويحتمل أنه موقوف ، إن قبل ، بنينا أن ملكه من حين الموت ، لأن ما وجب انتقاله بالقبول ، وجب انتقاله من جهة الموجب بالإيجاب ، كالبيع والهبة ، والمذهب الأول . فما حدث من نماء منفصل قبل القبول ، فهو للوارث . وإن وصى لرجل بزوجته ، فأولدها قبل القبول ، فولده رقيق للوارث . وعلى الاحتمال الثاني ، يكون النماء للموصى له ، وولده الحر .
فصل :
وإن رد الوصية في حياة الموصي ، لم يصح الرد ، لأنه لا حق له في الحياة ، فلم يملك إسقاطه ، كالشفيع قبل البيع . وإن ردها بعد الموت قبل القبول ، صح ، لأن الحق ثبت له فملك إسقاطه ، كالشفيع بعد البيع ، وإن رد بعد القبول ، لم يصح الرد ، لأنه ملك ملكاً تاماً فلم يصح رده ، كالعفو عن الشفعة بعد الأخذ بها . فإن لم يقبل ولم يرد ، فللورثة مطالبته بأحدهما . فإن امتنع ، حكمنا عليه بالرد ، لأن الملك متردد بينه وبين الورثة ، فأشبه من تحجر مواتاً وامتنع من إحيائه ، أو وقف في مشرعة ماء يمنع غيره ، ولا يأخذ .
فصل :
فإن مات الموصى له قبل موت الموصي ، بطلت الوصية ، لأنه مات قبل استحقاقها . فإن مات بعده قبل القبول ، فكذلك في قياس المذهب ، واختيار ابن حامد ، لأنه عقد يفتقر إلى القبول ، فبطل بالموت قبل القبول ، كالهبة ، والبيع . وقال الخرقي : يقوم الوارث مقام الموصى له في القبول والرد ، لأنه عقد لازم من أحد طرفيه فلم يبطل بموت من له الخيار ، كعقد الرهن . فإن قبل الوارث، ثبت الملك له ، فلو وصى لرجل بأبيه ، فمات الموصى له قبل القبول ، فقبل ابنه ، وقلنا بصحة ذلك ، فإن الملك ينتقل إلى الموصى له بموت الوصي ، ورث الموصى به من أبيه السدس ، لأنا تبينا أنه كان حراً . وإن قلنا : لا ينتقل إلا بالقبول ، لم يرث شيئاً ، لأنه كان رقيقاً .
يتبع