فبدأ الشاب عبد العزيز وهو في مقتبل العمر مفتول العضل ، طويل القامة ، صلب العود ، جم النشاط ، يجوب الفيافي ليل نهار ، ومشى أحيانا المسافات الطويلة ممتطيا جواده في كر وفر فارسا شجاعا . . قلما يهدأ له بال ، أو يعرف القرار ، خاطف المزاج كالبرق اللامع يهب سريعا ويسكن في مثل سرعته ، حليم الطباع ، طيب العشرة ، لطيف النفس ، قوي الإرادة ، كريم الأخلاق ، لا يغضب إلا نادرا- وخاصة عندما يعتدى على حرمات الله . وهذه الصفات الجمة التي اتصف بها عبد العزيز جعلت والده يعتمد عليه ، ويوكل إليه الكثير من المهام السياسية والقيادية ، فكان يؤديها بدراية تامة ، وينجزها على أحسن وجه .
فقد أرسله والده الإمام عبد الرحمن في سفارة إلى الهفوف قاعدة الأحساء ، هدفها مفاوضة العثمانيين نيابة عن والده في مسألة الإقامة في الأحساء ، لكن طلبه هذا ووجه من الولاة الأتراك في الأحساء بعدم القبول خوفا من أن يؤثر وجوده هناك في القبائل وسكان المدن فيلتفوا حوله ، ويعلنوا ولاءهم, فيتخذ من الأحساء قاعدة لتحركه لاسترداد ملك آبائه وأجداده- خاصة وأن الأحساء مليئة برجال قبيلتي آل مرة ، والعجمان الموالين لآل سعود ، والذين تربطهم بهم صلة الرحم .
ونظرا لأن حياة الصحراء علمت الشاب عبد العزيز الصبر على المكاره ، والثقة بالنفس ، وحسن التخطيط لتجاوز المصاعب بحكمة وقوة إرادة ، فإن ذلك لم يخرجه عن طوره إلى مزالق التفرقة ، بل أخذ الأمر بصمت وأن النصر سيكون قريبا بإذن الله .
وكان بإمكان الإمام عبد الرحمن وأسرته العودة إلى الرياض ، ولكنه وجد أن الوقت لم يحن لذلك ، فقرر الاستقرار في الكويت في انتظار الفرج الكبير من الله . وفي الكويت رحب به أميرها الشيخ محمد الصباح بعد أن استتب له الأمر هناك وأحسن إكرامه ، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 1310 هـ الموافق نوفمبر 1892 م . وكان ابنه الشاب عبد العزيز ورفاقه ومعهم الأسرة قد سبقوه إلى هناك للإعداد لسكن يليق بالإمام وأسرته ، وعندما قدم الإمام عبد الرحمن إليهم التأم الشمل في البلد المضياف وسارت الأمور على خير ما يرام .
وفي الكويت أخذ الشاب عبد العزيز يحضر الاجتماعات التي كان يعقدها مبارك الصباح مع مندوبي الدول الكبرى مثل : روسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والدولة العثمانية ، وشيوخ القبائل المحيطة بالمنطقة ، والاستماع إلى كل ما يجري فيها من أحاديث وخطط ومشروعات حول مستقبل ومصير المنطقة ، وكان مندوب كل دولة من تلك الدول يعمل على ما يوفر لدولته من تحقيق لمطامعها في البحار العربية المحيطة بشبه الجزيرة العربية ، وإنشاء مواقع لها على السواحل الغربية للخليج العربي ، تكون مرتكزا لها لتحقيق أطماعها وخدمة مصالحها في المنطقة العربية .
لقد كانت ألمانيا تريد الوصول إلى الخليج العربي وذلك عن طريق إنشاء سكة حديد تمتد من برلين إلى إسطنبول ومنها إلى بغداد ، ثم البصرة لنقل المؤن من الهند إلى أوربا ، وترك المضائق لبريطانيا للخلاص من الحصار الذي كانت تفرضه بريطانيا على التجارة العالمية في تلك الفترة . أما الروس فكانوا يرغبون في جعل الكويت محطة من محطات الفحم في محاولة لمد سلطتهم إلى منطقة الخليج ، لتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة لهم في تلك المناطق ، ولذلك قادتهم أطماعهم إلى التفكير في تأسيس سكة حديد تمتد من بحر قزوين إلى البصرة فالكويت وربما إلى بندر عباس على الجانب الشرقي للخليج العربي . وكانت بريطانيا ترى أن الكويت محطة ارتكاز لها تربطها بالمشرق العربي ، وشركاتها التجارية في الهند وأوربا ، ولا تريد لأي قوة مهما كانت أن تعرض مصالحها ومستعمراتها في الهند للخطر ، فأخذت في تركيز وجودها في منطقة الخليج .
أما الدولة العثمانية فإنها تنظر بإعجاب لما يدور لكنها أصبحت كما يقال ( الرجل المريض ) ، فالحروب والانقسامات تحيط بها من كل جانب نظرا لسياستها غير الحكيمة في تلك الفترة ، وتسلط حزب تركيا الفتاة على السلطة فيها .
كان الشاب عبد العزيز يستمع إلى معظم ما يجري في اجتماعات مبارك الصباح ، ويطلع على الخطط والتقارير التي يقدمها مندوبو تلك الدول لديوان شيخ الكويت ، فكانت فرصة كبرى له ، عرف من خلالها نوايا وأطماع تلك الدول الكبرى في المنطقة العربية والخليجية بالذات لخدمة مصالحها التوسعية وطرق تجارتها . وقد استفاد من ذلك فائدة كبيرة جعلته يدرك أن المنطقة أصبحت لقمة سائغة للطامعين ، وأنها مقبلة على مصير مشؤوم .
فأدرك عبد العزيز أن ما يريد تحقيقه ليس مجرد الرغبة في استعادة ملك الآباء والأجداد فقط ، وإنما هو في الواقع تحرك يجب أن يكون من أجل البناء والوحدة ، ونشر الأمن والسلام في ربوع المنطقة ، وأن هذا لا يكون إلا بالتضيحة الواعية ، والإرادة القوية ، والإيمان الكامل بالله ، وكلها صفات تتميز بها شخصيته الفذة ، وذلك من أجل إنقاذ البلاد والعباد ومن زحف شيوعي واستعماري صليبي ومصير مشؤوم خاصة وأن الدولة العثمانية أصبحت في تلك الفترة وفي تلك المنطقة بالذات غير قادرة على حماية المناطق الخاضعة لها من تسلط تلك الدول الاستعمارية الكبرى .
التوقيع |
حسابي في تويتر
faheed_1234 |