أسعار الصرف وأسعار النفط.. ما موقف الريال ؟
صالح السلطان
في خضم موجة التضخم الحالية، ظهرت خلال الشهور الأخيرة عدة مقالات وتقارير كتبها متخصصون حول موضوع سعر صرف الريال وارتباطه بالدولار، وعلاقة ذلك بموجة التضخم الحالية. ورغم أن هذه المقالات والتقارير لا تعد دراسات وبحوثا علمية، بالمعنى المتعارف عليه في الأوساط الأكاديمية أو البحثية، إلا أنها تفيد في إثراء النقاش مع عموم المهتمين بالشأن الاقتصادي.
كاتب هذه السطور في مقالات كتبت سابقا في هذه الجريدة، وغالبية المتخصصين كما يبدو لي، يرون أن مساوئ رفع السعر تغلب على المحاسن، والمقام هنا ليس لتكرار ما سبق قوله. لكن من المهم جدا التنبه إلى أن الرأي بعدم تحبيذ رفع سعر صرف الريال، لا يعني تبني أو عدم تبني حصر ربط الريال بالدولار، فهذان موضوعان منفصلان، يخلط كثيرون بينهما.
جل المقالات لم تتطرق صراحة إلى ما يخص جانب سعر الصرف الحقيقي، الذي يعني باختصار الأسعار في دولة مقارنة بالأسعار في دولة أخرى، أو مجموعة من الدول. ومعروف في الاقتصاد الكلي والنقدي والمالية الدولية أن استقرار سعر الصرف الحقيقي له دور محوري في استقرار الاقتصاد والنمو الاقتصادي، نظرا لتعلقه بحركة رأس المال مع العالم الخارجي والمزايا النسبية في التجارة الدولية، وخاصة على المدى البعيد. كما أن رسم السياسات الاقتصادية الكلية يتطلب النظر بدرجة أكبر إلى سعر الصرف الحقيقي.
ما علاقة ما سبق بسياسة سعر صرف الريال؟
المشكلة أن النفط سلعة أولية تتميز اقتصاديا بخصيصتين:
الأولى أنه مادة ناضبة أو غير متجددة، وكل برميل يخرج، لا يعوض.
الثانية مروره بدورات حادة من التقلبات في الأسعار - مثلا، مرت أسعار النفط، خلال العقود الثلاثة الماضية، بدورات من الارتفاع والانخفاض، بحيث تجاوزت ارتفاعا 40دولارا للبرميل، وانخفاضا إلى أقل من 10دولارات للبرميل.
تثبيت سعر الصرف إزاء عملة أو سلة عملات، مع وجود تلك الدورات الحادة في أسعار وإيرادات مورد غير متجدد، يعتمد عليه الاقتصاد، يتسبب في وجود صعوبات ومتاعب كبيرة، وخاصة على المدى البعيد. ذلك أن هذه الظروف تؤثر على حركة أسعار الصرف الحقيقية ورسم السياسات الاقتصادية الكلية. مما يعني أن هناك معضلة تواجه المملكة وغيرها من الدول المعتمدة اقتصاداتها على النفط، في إدارة سعر صرف عملاتها.
طرح أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد (البروفسور) جفري فرانكل Jeffrey Frankel اقتراحا لمعالجة المعضلة بربط سعر الصرف بأسعار النفط بدرجة من درجات الربط. وسأعرض اقتراحه لاحقا، دون تعليق. وأشير هنا إلى أن فرانكل مرجع في الاقتصاد الكلي والمالية الدولية، وسبق أن كان عضوا في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي كلنتون.
فهم المعضلة يتطلب أولا فهم سعر الصرف الحقيقي.
سعر الصرف الحقيقي
سعر الصرف المعتاد على سماعه، والذي يعني سعر عملة دولة بعملة دولة أخرى، (مثلا الدولار يساوي 3.75ريالات، أو الريال يساوي 0.27دولار)، يسمى سعر الصرف الاسمي، وهو بطبيعته لا يظهر مدى تناسب أسعار السلع والخدمات بين الدول. مثلا كون الدولار يساوي 100ين ياباني أو أقل أو أكثر، هذا لا يفيد شيئا بدون مقارنة مستويات الأسعار بين أمريكا واليابان.
هناك سعر الصرف الحقيقي، والذي يقيس أسعار السلع والخدمات في دولة بالنسبة للأسعار في دولة أخرى، أو مجموعة من الدول. وعلى هذا يتكون سعر الصرف الحقيقي من جزأين: الأول سعر الصرف الاسمي، والثاني السعر النسبي بين دولتين (السعر في دولة مقسوما على السعر في الدولة الأخرى).
مزيد من التوضيح في الإطار 1:
إطار 1: قياس سعر الصرف الحقيقي
يمكن قياس السعر النسبي بين دولتين بأكثر من طريقة. من هذه الطرق، أن نقارن بين أسعار سلة تحوي السلع القابلة للتجارة دوليا (ما يقبل الاستيراد أو التصدير) بما لا يقبل (كأكثر الخدمات وقلة من السلع العينية)، مضروبة بسعر الصرف الاسمي. وبهذا كأننا (في حالة التطبيق على المملكة) نقارن بين الأسعار في الدول الأخرى بالنسبة للسلع والخدمات التي يمكن لنا أن نستوردها (سواء استوردناها فعلا أو لم نستوردها)، بأسعار السلع والخدمات التي لا يمكن لنا أن نستوردها. هذه الطريقة يرى كثيرون أنها أنسب للاستناد إليها عند رسم أو اقتراح السياسات الاقتصادية الكلية، مثلا تفيد في التعرف على ودراسة المحددات النقدية المؤثرة على سعر الصرف الحقيقي على المدى القصير، مثل خفض (أو رفع) سعر الصرف الاسمي والتوسع النقدي.
تسهيلا وتبسيطا، لنسمي أسعار ما يقبل "نعم"، وأسعار ما لا يقبل "لا"، ولنحصر المقارنة بين السوقين السعودي والأمريكي:
سعر الصرف الحقيقي = نعم/لا * سعر الصرف الاسمي (مثلا 3.75ريالات للدولار)
ماذا نفهم من هذا التركيب؟
هناك عنصران في البسط: أسعار ما يقبل الذي سميناه نعم، وسعر الصرف الاسمي، وارتفاع قيمة كليهما أو أحدهما يعني انخفاض سعر الصرف الحقيقي (تذكر أن الرقم يكبر عند انخفاض سعر الصرف، والعكس بالعكس).
مثال تطبيقي:
لنفترض أن لدينا مجموعة محددة من السلع القابلة لأن تستورد، سواء كانت كلها مستوردة أو لا (مثلا فواكه أو أثاث)، وأن سعر ما في هذه السلة في السوق السعودية يبلغ 750ريالا. كما نفترض أن لدينا مجموعة محددة من السلع (أو الخدمات) غير القابلة لأن تستورد (بمعنى أنه لا يمكن استهلاكها إلا إذا أنتجت بصورتها النهائية محليا، كتناول وجبة طعام في مطعم)، وأن سعرها 375ريالا.
375/750* 3.75= 7.5= سعر الصرف الحقيقي
لنفترض أن أسعار ما لا يقبل الاستيراد ارتفع من 375ريالا إلى 450ريالا، بنسبة ارتفاع 20%، وأن أسعار ما يقبل الاستيراد ارتفعت من 750ريالا إلى 825ريالا، بنسبة ارتفاع 10%.
بعملية حسابية بسيطة، سعر الصرف الحقيقي تغير من 7.5إلى 6.9تقريبا.
ماذا يعني ذلك؟
ارتفاع أسعار ما لا يقبل (ما سميناه لا)، يعني ارتفاع سعر الصرف الحقيقي. ارتفاع سعر الصرف الاسمي يجعل الحياة في السعودية (مثلا) أغلى نسبيا مقارنة بالوضع في الدول الأخرى موضع المقارنة، كما أن ارتفاع أسعار السلع والخدمات غير القابلة للتصدير مع بقاء سعر الصرف الاسمي كما هو، يعطي نفس الأثر (جعل الحياة في السعودية أغلى). والسبب هو افتراض أن أسعار السلع القابلة لأن تستورد متقاربة بين الدول، طالما أنها متماثلة، وطبعا باستبعاد تدخلات مؤثرة مثل وجود فروق شاسعة في الضرائب الجمركية أو دعم حكومي قوي.
مؤثرات في سعر الصرف الحقيقي
في حال تثبيت أسعار الصرف كالريال إزاء الدولار، وهو موضع التركيز هنا، فإن المحددات تنصب على المكون الثاني لسعر الصرف الحقيقي وهو الأسعار النسبية. تحكم هذه الأسعار النسبية محددات ثلاث: نظرية القوة الشرائية وعلاقة بالاسا-ساملسون والمرض الهولندي.
نظرية القوة الشرائية Purchase Power Parity (PPP): وفقا لهذه النظرية، يجنح سعر عملة بلد ما للارتفاع عندما يقوى الطلب على صادرات تلك الدولة، ويجنح للانخفاض عندما يضعف سوق صادراتها.
علاقة بالاسا-ساملسون Balassa Samuelson: بدراسة تطبيقية على السلوك السعري المقارن بين الدول، لوحظ أن الأسعار في الدول ذات متوسط الدخل الفردي الأعلى لوحظ أنها تجنح لأن تكون أعلى (طبعا لابد أن يعبر عنها بعملة واحدة عند المقارنة بين الدول).
رغم وجود خلافات في تفاصيل حول النظرية والعلاقة، إلا أنهما تجدان على وجه الإجمال قبولا لدى عامة الاقتصاديين.
المرض الهولندي : Dutch disease ويعني باختصار ارتفاع سعر الصرف الحقيقي، الناشئ من ارتفاع حاد في الدخل ذي المصدر الخارجي (على سبيل المثال جراء صادرات مورد طبيعي).
مزيد من التوضيح في الإطار 2:
إطار 2: المرض الهولندي
أصل إطلاق المصطلح كان على الآثار غير المرغوب بها على الصناعة الهولندية من جراء اكتشاف الغاز الطبيعي في القرن التاسع عشر الميلادي. ذلك بأن هذا الاكتشاف تسبب في زيادة أجور اليد العاملة الهولندية مقارنة بالأجور في ألمانيا، وارتفاع سعر الصرف الاسمي والحقيقي للعملة الهولندية، وهذا بدوره أدى إلى ضعف منافسة الصناعة الهولندية في الداخل والخارج.
لاحقا توسع في استعمال المصطلح ليشمل عامة حالات ارتفاع سعر الصرف الحقيقي، الناشئ من ارتفاع حاد في الدخل الوارد من الخارج (مثلا مقابل صادرات مورد طبيعي)، بغض النظر عن حجم الصناعة المحلية.
كتب عن المرض كثيرا، وتناولت تلك الكتابات أنماطا من الاقتصادات الصناعية والنامية المعتمدة اقتصاداتها اعتمادا كبيرا على الموارد الطبيعية. وقد نالت دول مجلس التعاون نصيبا جيدا من هذه الكتابات، وتركزت هذه الكتابات على طفرة السبعينات وأوائل الثمانينينات من القرن الميلادي الماضي. بينت هذه الكتابات أن معدلات الصرف الاسمية والحقيقية ارتفعت، بما يشير إلى وجود المرض الهولندي، وقد كتبت حول هذا الموضوع دراسة عرضت في لقاء الجمعية الاقتصادية السعودية العاشر، المنعقد عام 1417الموافق
1996.كيف يحدث المرض لمثل الاقتصاد السعودي؟
يصحب زيادة إنفاق الحكومة والقطاع الخاص زيادة إنفاق استهلاكي، ومن ثم فائض في الطلب على الخدمات والسلع واليد العاملة، وهذا هو الأثر الإنفاقي.
ينشأ من فائض الطلب زيادة الأسعار النسبية للخدمات والسلع غير القابلة للتداول في التجارة الدولية، بدرجة أعلى (من حيث المتوسط أو المجموع) من الزيادة في أسعار السلع القابلة لأن تستورد، بسبب أن المنافسة في الثانية أقوى. وهذا يعني ارتفاع أسعار الصرف الحقيقية (أسعار سلع وخدمات دولة مقارنة بأسعار سلع وخدمات دولة أو دول أخرى، ولذلك فهي تعتمد على أسعار الصرف وعلى مستويات الأسعار في الدول).
زيادة الأسعار النسبية لما لا يقبل التداول دوليا يصحبه عادة ارتفاع معدلات الربح فيها، وهذا عامل رئيس في دفع المستثمرين إلى استثمار أموالهم في قطاعات السلع والخدمات التي يصعب استيرادها، أكثر من استثمارها في قطاعات ما يمكن استيراده. وهذا من أهم أسباب التفاوت الكبير في النمو لصالح القطاعات التي لا تقبل المتاجرة دوليا، وتزايد اعتماد الاقتصاد على الاستيراد.
المشكلة
كون النفط مادة ناضبة، ووجود الدورات الحادة في أسعار وإيرادات النفط، يتسبب في وجود صعوبات ومتاعب كبيرة في إدارة أسعار الصرف.
كيف؟
عندما يشتد الطلب على الصادرات النفطية، وترتفع أسعاره، وتزيد إيراداته بصورة قوية، كما هو حاصل هذه السنين، فإن سعر الصرف الاسمي والحقيقي يبدو منخفضا أقل من اللازم.
من الصعب الوصول إلى معيار مقبول من الجميع أو حتى الغالبية العظمى للقيمة العادلة أو الأنسب لعملة ما، وتزداد الصعوبة في عملات الدول المثبت سعرها بعملات أخرى، كما هو وضع الريال. رغم ذلك فهناك دلائل على كون سعر الصرف الحالي للريال يبدو منخفضا أقل من اللازم، مثل وجود فائض مرتفع في الحساب الجاري أو الميزان التجاري مع الخارج. ومن ثم تتجه ضغوط لرفع سعر الصرف.
هنا أحب التنبيه على مسالة تختلط على الكثيرين: يتوقع أن يؤدي رفع سعر الريال إلى التخفيف من حدة التضخم (إلى أي حد؟ هذه مسألة تطبيقية قياسية، لا تجيب عنها المناقشات النظرية)، ولكن بقاء سعر الريال على حاله، لا يعني بالضرورة وجود علاقة سببيه كبيرة بين سعره والتضخم. على سبيل المثال، قد ترتفع أسعار سلع مستوردة، حتى بدون تغير سعر الريال تجاه عملات الدول المصدرة لتلك السلع، أو أن التغير أقل كثيرا من تغير أسعار السلع المستوردة.
من جهة أخرى، نسبة كبيرة من التضخم محلية المنشأ. وغالب التضخم المحلي المنشأ راجع إلى الطفرة الاقتصادية التي نشهدها. وربما كانت عبارة الاقتصادي الشهير آرثر أوكن هي خير معبر عن هذا الأمر العضال:
إن محاولة الجمع بين الازدهار واستقرار الأسعار مشكلة في الأداء الاقتصادي، وهي مشكلة كبرى عصية على الحل.
في حالة الريال، فإن الضغوط التي تقول بوقوعها النظرية الاقتصادية السابقة، تجد مسارا مسدودا في دفع أسعار الصرف (الاسمية) لترتفع (لأن سعر الصرف مثبت)، ويكون الارتفاع في أسعار الصرف الحقيقية بصورة تغير الأسعار النسبية بين الدول، بأن ترتفع أسعار ما لا يقبل الاستيراد بصورة أكبر من ارتفاع أسعار ما يقبل الاستيراد. وطبعا هذا يعني وجود تضخم. هذا في الأجل القصير إلى المتوسط.
سؤال جوهري: ولماذا لا ترفع أسعار الصرف الاسمية؟
نعود إلى خصيصتي السوق النفطية: التقلبات الحادة في الأسعار والنضوب.
من السهل أن يجري التركيز على الطفرة الحالية، وتجاهل ما بعدها، فالانسان خلق عجولا. لكن طفرة النفط تستمر سنوات قليلة، هكذا علمنا التاريخ، ولن تبقى عقودا من الزمن، بله أن تبقى عصورا. ومن جهة أخرى، النفط سلعة ناضبة.
ماذا يحدث عندما تنتهي الطفرة الحالية وتنخفض أسعار النفط
مع مرور السنين، يتكيف الاقتصاد على أسعار النفط المرتفعة السائدة هذه السنوات. كما أن مالية الحكومة تتكيف مع الأسعار المرتفعة، وأكثر ما يكون هذا التكيف عبر تزايد الانفاق بصورة حادة، وستكون أرقام مخصصات الرواتب لوحدها بعد سنوات في مستوى أرقام إيرادات النفط قبيل الارتفاع الحالي لأسعار النفط.
لكن سوق النفط متقلبة، ولذا يثار سؤال جوهري: ماذا سيحدث لأسعار الصرف الاسمية والحقيقية لو انخفضت أسعار النفط، بصورة ملموسة، بعد بضع سنوات من الآن؟ وقوع هذا ليس بعيد الاحتمال، فقد حدث أكثر من مرة من قبل. سيبدو سعر الصرف مرتفعا أكثر من اللازم (تطبيقا لنظرية القوة الشرائية)، وسيبدو مرتفعا أكثر لو رفعت السلطات النقدية سعر الريال في الوقت الحاضر. وتبعا لذلك، ستجد السلطات النقدية (مؤسسة النقد مثلا) صعوبات في المحافظة على سعر الصرف.
لكن السلطات نفسها تجد صعوبات أيضا في خفض أسعار الصرف لتبعاته الكثيرة على الاقتصاد، وعلى مستويات المعيشة، الذي يجعل مبدأ الخفض صعب جدا تقبله من الناس، الذين جبلوا على المحافظة على ما اكتسبوه، ويصعب عليهم التنازل عن ذلك.
ثمن المحافظة على سعر الصرف عند انخفاض أسعار المورد الذي يعتمد عليه الاقتصاد باهظ. فخلال عقد التسعينات من القرن الميلادي السابق، الذي تعرضت فيه أسعار سلع أولية (ومنها النفط) للهبوط، وسعر الدولار للارتفاع، تعرضت عملات عدد من الدول المصدرة لسلع أولية كروسيا واندونيسيا والأرجنتين ومكسيكو، تعرضت للانخفاض تحت الضغوطات -حسب النظرية الاقتصادية- ولكن من خلال ثمن باهظ تمثل في أزمات نقدية مؤلمة، وفقدان ثقة مستثمرين، وركود اقتصادي.
لم تتعرض المملكة لأزمة نقدية حادة خلال ذلك العقد، نظرا لصمود مؤسسة النقد في الدفاع عن سعر صرف الريال بالدولار، ولكن كان هناك ثمن باهظ من نوع آخر: انخفض الإنفاق الحكومي على المشاريع وتجديد وتوسيع المرافق العامة وتمويل صناديق التنمية انخفاضا كبيرا. فقد انخفض من نحو 25% من مخصصات الميزانية في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي الماضي إلى نحو 7% في أواخر التسعينات، وكان بالامكان تقليل هذا العجز عبر خفض قيمة الريال، ومن ثم زيادة إيرادات الحكومة. وحيث إن الانسان خلق عجولا، لم يتبين للناس ضرر هذا الانخفاض بوضوح إلا في هذه السنوات، فنحن نعايش أزمات اقتصادية أحد أسبابها خفض الانفاق الاستثماري الحكومي خلال العقد الماضي.
بدون تنويع حقيقي لمصادر الدخل، وبدون بناء اقتصاد قوي، يقل فيه الاعتماد على مورد النفط، فإن سعر الصرف سيبدو مرتفعا زيادة عن اللازم على المدى البعيد، ومن الصعب جدا المحافظة عليه.
على المدى الأبعد، النفط مورد غير متجدد، حتى لو بقي عشرات السنين، فسيأتي وقت تجف فيه الآبار، ومن هنا يفترض فينا أن نعطي استراتيجيات تنويع مصادر الدخل، وترسيخ النمو الاقتصادي أهمية أقوى من محاولات معالجة المشكلات بحلول آنية.
الخلاصة
إبقاء سعر الصرف على حاله الآن يتجاهل الغلاء، ولكن من الصعب رفعه الآن مأخوذا بعين الاعتبار صعوبة تخفيضه عند تغير الظروف، كما أن الرفع ليس بحل على المدى البعيد، مع ضعف بنية الاقتصاد.
ربط الريال بعملة واحدة رغم محاسنه إلا أن عليه مآخذ طبعا يفهم من ذلك أن فكرة تعويم الريال (أي جعل سعر صرفه حرا) غير واردة إطلاقا، والأسباب باختصار لأن الاقتصاد السعودي ليس كبيرا بما فيه الكفاية على الساحة العالمية، ومفتوح جدا، وغير متطور، ويعتمد على تصدير سلعة أولية، لا تسعر ولا تباع بالريال.
تثبيت سعر الريال بعملة واحدة أو حتى مجموعة عملات، له فوائد أهمها أنه يضبط العملة المحلية في الداخل والخارج، حتى لا تصيبها انهيارات مثلما أصاب سوق الأسهم، على سبيل المثال، إلا أن التثبيت لا يخلو من مشاكل، منها أن نقع رهينة السياسات النقدية للدولار (أو أي عملات يرتبط بها)، وهذا يمنع الريال من التكيف مع الظروف، بالصورة التي تحدثت عنها في الفقرات السابقة.
أذكر بما نبهت عليه في البداية من أن عدم تحبيذ رفع سعر صرف الريال، لا يعني تبني أو عدم تبني حصر ربط الريال بالدولار، فهذان موضوعان منفصلان. قد ترفع الحكومة سعر الريال مع إبقاء ربطه بالدولار وحده. وقد لا ترفع سعر الريال، ولكن تفك حصر ارتباطه بالدولار، وتربطه بسلة عملات. وفي هذه الحالة، ومن منظار اقتصادي بحت، في حكم المؤكد أن يكون للدولار أكبر وزن في السلة، يما يعكس أهمية الدولار، وأهمية الاقتصاد الأمريكي في خارطة الاقتصاد العالمي. وللتذكير قد ترتفع أسعار الدولار خلال سنوات لاحقة، كما حدث من قبل.
باختصار، لا توجد عملة أو مجموعة عملات يمكن ربط الريال بها بدون عيوب.
هل من رأي آخر لمشكلة التغير غير المرغوب فيه في أسعار الصرف الحقيقية؟
عرض البروفسور فرانكل Frankel (أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد) نظام سعر صرف جديد، سمي ربط سعر الصادرات أو ربط السعر التصديري peg export price (PEP). أنظر، على سبيل المثال، مقالته:
Peg the Export Price Index: A Proposed Monetary Regime for Small Countries. Journal of Policy Modeling. June 2005.
الاقتراح موجه للدول المعتمدة اقتصاداتها كثيرا على انتاج سلعة أولية سواء معدنية أو زراعية. وذلك بتثبيت قيمة العملة المحلية بسعر السلعة. مثلا، يمكن لدولة منتجة للذهب أن تربط عملتها بسعر الذهب، ولدولة معتمدة على انتاج النفط أن تربط عملتها بسعر النفط، وهكذا.
ربط الريال بالنفط قد يكون ربطا كليا أو جزئيا، عبر سلة يشكل النفط أهم مكوناتها. يرتفع وينخفض سعر الريال بالدولار تبعا لحركة سعر النفط بالدولار. وهذا الربط يشبه نظريا كون مؤسسة النقد تحتفظ باحتياطيات من النفط لدعم قيمة الريال. هذا وبالله التوفيق،،،،
@ متخصص في الاقتصاد الكلي والمالية العامة - دكتوراه