عرض مشاركة واحدة
غير مقروء 18-Sep-2007, 06:52 AM رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
شوردي العتيبي
عضو ماسي
إحصائية العضو






شوردي العتيبي غير متواجد حالياً

افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم



الفصل الثاني عشر والأخير: سقوط الأندلس


انتهاء عصر الدولة الإسلامية في الأندلس


كان مقتل موسى بن أبي غسّان وتسليم ابن الأحمر الصغير غرناطة إيذانا بانتهاء عصر الدولة الإسلامية في مملكة غرناطة.

أعطى أبو عبد الله محمد الصغير الموافقة بالتسليم للملكين فرناندو الثالث وإيزابيلا، ولم ينس أن يرسل إليهما بعضا من الهدايا الخاصة، وفي خيلاء يدخل الملكان قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس.

وفي نكسة كبيرة وذل وصغار يخرج أبو عبد الله بن محمد بن الأحمر الصغير من القصر الملكي، ويسير بعيدا في اتجاه المغرب، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه وإلى ذاك المجد الذي قد ولّى، وبحزن وأسى قد تبدّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه عائشة الحرة: أجل، فلتبك كالنساء مُلْكا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.

وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل الذي وقف عليه أبو عبد الله بن محمد الصغير ما زال موجودا في أسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه، يتأملون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكا عظيما كان قد أسسه الأجداد، ويعرف (هذا التل) بـ زفرة العربي الأخيرة، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين ترك ملكه.

وقد تم ذلك في الثاني من شهر ربيع الأول، لسنة سبع وتسعين وثمانمائة من الهجرة، الموافق الثاني من يناير، لسنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وألف من الميلاد.

وقد هاجر بعدها أبو عبد الله بن محمد الصغير إلى بلاد المغرب، وهناك اعتقله ملكها بتهمة الخيانة لبلاد المسلمين، ثم وضعه في سجنه، وكما يقول المؤرخون فقد شوهد أولاده (أولاد أبي عبد الله بن محمد الصغير) بعد ذلك بسنوات وسنوات يشحذون في شوارع المغرب.

فلعنة الله على هذا الذُلّ، ولعنة الله على هذا التَرْك للجهاد اللذَيْن يوصلان إلى هذا المثوى وتلك المنزلة.

وما كان من أمر، فقد اندثرت حضارة ما عرفت أوروبا مثلها من قبل، إنها حضارة الدنيا والدين، وقد انطوت صفحة عريضة خسر العالم أجمع بسببها الكثير والكثير، وقد ارتفع علم النصرانية فوق صرح الإسلام المغلوب، وأفل وإلى الآن نجم دولة الإسلام في بلاد الأندلس.

وليت شعري، أين موسى بن نصير؟ أين طارق بن زياد؟ أين يوسف بن تاشفين؟ أين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر؟ أين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟ أين يعقوب المنصور المُوَحدي؟ أين يعقوب المنصور الماريني؟ أين كل هؤلاء؟ غابوا وانقطعت آثارهم وإمداداتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

النصارى في غرناطة.. لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة

كالعادة ولطبيعة جُبلت نفوسهم عليها، وبعد أن ترك أبو عبد الله بن محمد الصغير البلاد، لم يوف النصارى بعهودهم مع المسلمين، بل تنكّروا لكلامهم، وأغفلوا شروطهم السبعين، وقد أهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم، وكان ذلك مصداق قوله تعالى: [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] {التوبة:8} .

وبعد تسع سنوات من سقوط غرناطة، وفي سنة إحدى وخمسمائة وألف من الميلاد أصدر الملكان فرناندو الثالث وإيزابيلا أمرا كان خلاصته أن الله قد اختارهما لتخليص الأندلس من الكفرة (يقصدان المسلمين)، ولذلك يحظر وجود المسلمين في بلاد الأندلس، ويعاقب من يخالف ذلك بالقتل.

ومن هذا المنطلق قام النصارى بعدة أمور، كان منها:

أولا: التهجير


هجر المسلمون بلاد الأندلس بالكلية، هجروها إلى بلاد المغرب والجزائر، وإلى تونس وغيرها من بلاد المسلمين.

ثانيا: التنصير

ولكي يعيش آخرون في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الأسبان، تَنَصّر من المسلمين آخرون، وهؤلاء لم يرتض لهم النصارى الأسبان حتى بالنصرانية، فلم يتركوهم دون إهانة، وقد سمّوهم بالمُورِسْكِيين احتقارا لهم وتصغيرا من شأنهم، فلم يكن المُورِسْكِي نصرانيا من الدرجة الأولى، لكنه كان تصغيرا لهذا النصراني الأصيل.

ثالثا: محاكم التفتيش

لم يقف الأمر عند حد التهجير والتنصير، وإنما تلى ذلك أن قام رئيس الأساقفة الأسباني كان يُدعى كِنِّيس وكان صليبيا حاقدا قام بحرق ثمانين ألف كتاب إسلامي من مكتبة قرطبة وأشبيلية وغرناطة في يوم واحد.

وهو نفسه الذي قام بعد ذلك بما سُمّي في التاريخ بمحاكم التفتيش؛ وذلك للبحث عن المسلمين الذين ادّعوا النصرانية وأخفوا الإسلام، فكانوا إذا وجدوا رجلا يدّعي النصرانية ويخفي إسلامه، كأن يجدوا في بيته مصحفا، أو يجدوه يصلي، أو كان لا يشرب خمرا، أقاموا عليه الحدود المغلظة، فكانوا يلقون بهم في السجون، ويعذبونهم عذابا لا يخطر على بال بشر، فكانوا يملأون بطونهم بالماء حتى الاختناق، وكانوا يضعون في أجسادهم أسياخا محمية، وكانوا يسحقون عظامهم بآلات ضاغطة، وكانوا يمزقون الأرجل ويفسخون الفك، وكان لهم توابيت مغلقة بها مسامير حديدية ضخمة تنغرس في جسم المعذب تدريجيا، وأيضا أحواض يقيّد فيها الرجل ثم يسقط عليه الماء قطرة قطرة حتى يملأ الحوض ويموت.

كانوا أيضا يقومون بدفنهم أحياء، ويجلدونهم بسياط من حديد شائك، وكانوا يقطعون اللسان بآلات خاصة.

كل هذه الآلات الفتاكة وغيرها شاهدها جنود نابليون حين فتحوا أسبانيا بعد ذلك، وقد صوروها في كتاباتهم، وعبروا عن شناعتها بأنهم كانوا يصابون بالغثيان والقيء، بل والإغماء من مجرد تخيل أن هذه الآلات كان يُعذّب بها بشر، وقد كان يُعذّب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

تاريخ الأندلس ووقفة معتبر

على طول الدراسة السابقة كان تاريخ الأندلس يحوي أكثر من ثمانمائة عام، الأمر الذي ينبغي على المسلمين أن يقفوا معه وقفات ووقفات، يأخذون منه العبرة والدرس، ويكررون ما حدث فيه من أفعال العظماء، وفي ذات الوقت يتجنبون أفعال الأقزام، تلك التي أدت إلى هذه الحال التي رأيناها آخر عهود الأندلس وفترات السقوط.

بداية لم يكن سقوط الأندلس بالسقوط المفاجئ، فقد كان هذا متوقعا منذ أكثر من مائتي عام، إلا أنها وبمدد من بني مارين مرة، وبخلاف النصارى مرة أخرى مع بعضهم البعض، صمدت وصبرت بعض الشيء، لكن الذي حدث في النهاية هو الذي كان متوقعا.

وهنا لا بد لنا من وقفة على أسباب هذا الانهيار والتي كان من شأنها أنها ما إن تكررت في أيٍ من الأزمان أو الأوقات، وفي أيٍ من البلدان أو القارات، فإنها ولا شك ستعمل عملها، وتكون العاقبة والنتيجة من نفس العاقبة وتلك النتيجة.

الدرس الأول:

سقوط وضياع غرناطة.. العوامل والأسباب


كانت عوامل انحدار وسقوط وضياع الأمم قد تشابهت وإلى حد كبير في كل فترات الضعف في تاريخ الأندلس، وهذه العوامل نفسها قد زادت وبشدة في فترة غرناطة؛ ولذلك كان السقوط كاملا وحاسما، وكان من هذه العوامل ما يلي:

العامل الأول:

كان الإغراق في الترف، والركون إلى الدنيا وملذاتها وشهواتها، والخنوع والدعة والميوعة، هي أولى العوامل التي أدت إلى تلك النهاية المؤلمة، وقد ارتبطت كثيرا فترات الهبوط والسقوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات، والميوعة الشديدة في شباب الأمة، والانحطاط الكبير في الأهداف، قال تعالى: [وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ(11)فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(12)لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ] {الأنبياء:11 ،12 ،13} .

وهكذا يا أهل غرناطة، أين ستذهبون؟ وإلى أين ستركضون؟ ارجعوا إلى قصر الحمراء، وارجعوا إلى مساكنكم وما أترفتم فيه، وسلموا هذه البلاد إلى النصارى، وتذوقوا الذُلّ كما لم تعملوا للعزة وللكرامة.

ولننظر إلى ذاك الرجل الذي كان يرثي سقوط غرناطة، ولنعي ما يقول في شعره الذي كان يعد كما ذكرنا إعلام هذا العصر الذي يُحَفّز الناس على أفكار معينة، يقول يرثي غرناطة:

غرناطة يا أجمل المدن

لن تَسريَ بعد اليوم نغمات العود الناعمة

في شوارعك المُقمرة

ولن تُسمع ألحان العُشّاق

تحت قصورك العالية

وستسكت دقات الصنوج المرحة

التي كانت تتناغم فوق تلالك الخصبة

وستقف الرقصات الجميلة

تحت عرائشك الوريفة

واحسرتاه

لن يستمع عربي بعد اليوم إلى البلابل

تصدح في مروجك الفسيحة

ولن يُستَروح أريج الريحان وأزهار البرتقال

في ربوعك المؤنسة

لأن نور الحمراء أُطفئ إلى الأبد


فحتى بعد هذا السقوط الشنيع لغرناطة يقف هذا الرجل وبهذه الكلمات الفجة يرثيها، هذا ما كان يهمه في هذه البلاد، لا يهمه الثغور التي خرجت منها الجيوش تجاهد في سبيل الله، ولا يهمه المكتبات التي أُحرقت، ولا المساجد التي دُنّست وحُولت إلى كنائس، بل لا يهمه المسلمون الذين قُتلوا بأيدي النصارى.

فلننظر إلى مثل هذا ونقارنه بأحوال الشباب الذين انحطتّ أهدافهم، حتى أصبح حلم حياتهم أن يُحدّث فتاة من الفتيات أو يخرج معها، أو يبادلها حبا غير مشروع لا يرتضيه هو لأخته أو لابنته.

لننظر حين يُصَوّر مثل هذا الشعر هذا الحب على أنه أسمى درجات الحب، فيضحي الرجل من أجله، ويسمو عنده فوق كل حب، حتى يسمو عنده فوق حب الدين وحب الله وحب رسوله وحب الجهاد وحب الوالدين وحب الوطن وحب الفضيلة، بل وقد يضحي بحياته انتحارا إذا فارق محبوبه.

فأي انحدار هذا؟! وأي انحطاط هذا؟! وأي سفاهة وأي تفاهة أكبر من هذا؟ وقد قال الله تعالى: [قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {التوبة:24} .

وليس ببعيد عنا ما فعله زرياب وأمثال زرياب في تاريخ الأندلس، وكيف قادوا الشباب إلى هذه الميوعة التي أسقطتها في النهاية وإلى الأبد.

العامل الثاني:

ترك الجهاد في سبيل الله، وهو أمر ملازم لمن أُغرق في الترف؛ فالجهاد سنة ماضية إلى يوم القيامة، وقد شرعه الله ليعيش المسلمون في عزة ويموتون في عزة، ثم يدخلون بعد ذلك الجنّة ويُخلّدون فيها.

وإن الناظر إلى عهد الأندلس ليتساءل: أين أولئك الذين كانوا يجاهدون في حياتهم مرة أو مرتين كل عام، وبصفة مستمرة ودائمة؟! أين يوسف بن تاشفين، وأين أبو بكر بن عمر اللمتوني؟ وأين الحاجب المنصور؟ وأين عبد الرحمن الناصر وغيرهم؟

وإنها لعبرة وعظة حين ننظر إلى ملوك غرناطة، ومن كان على شاكلتهم حين ذُلوا وأُهينو لما تركوا الجهاد في سبيل الله، يقول تعالى:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {التوبة:38 ،39} .

وقد يظن البعض أنه يجب على الملتزمين بالمنهج الإسلامي أن يضحوا بأرواحهم ويظلوا يعيشون حياة الضنك والتعب والألم في الدنيا؛ وذلك حتى يصلوا إلى الآخرة، وإن حقيقة الأمر على عكس ذلك تماما؛ إذ لو عاش المسلمون الملتزمون بمنهج الإسلام على الجهاد لعاشوا في عزة ومجد، وفي سلطان وملك من الدنيا عريض، ثم لهم في الآخرة الجنّة خالدين فيها بإذن الله.

العامل الثالث:

يتبع العامليْن السابقين عامل الإسراف في المعاصي، فجيش المسلمين لا يُنصَر بالقوة ولا بالعدد والسلاح، لكنه يُنصر بالتقوى، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنكم لا تُنصرون على عدوكم بقوتكم ولا عُدتكم، ولكن تُنصرون عليه بطاعتكم لربكم ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العُدّة والعتاد.

فإذا بعُد المسلمون عن دين ربهم، وإذا هجروا نهج رسولهم صلى الله عليه وسلم كُتب عليهم الهلكة والذلّة والصغار، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ.

وإذا كان هذا حال محقّرات الذنوب، تلك التي يستحقرها العبد من فرط هوانها، فما تزال تجتمع عليه حتى تهلكه، فما البال وما الخطب بكبائر الذنوب من ترك الصلاة، والزنا، والتعامل بالربا، وشرب الخمور، والسب واللعن، وأكل المال الحرام، فأي نصر يُرجى ويُتَوقّع بعد هذا.

وهذه كانت أهم عوامل السقوط في دولة الأندلس، وهناك غيرها الكثير مثل:

- الفُرقَة والتَشرذُم.

- موالاة النصارى واليهود والمشركين.

وقد قال سبحانه وتعالى: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ] {البقرة:120} . وقال أيضا:

[لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ] {التوبة:10} . وأيضا:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {المائدة:51} . وآيات غيرها كثير.

- توسيد الأمر لغير أهله

وكان ذلك واضحا جدا خاصة في ولاية هشام بن الحكم، وولاية الناصر بعد أبيه يعقوب المنصور الموحدي، وأيضا ولاية جميع أبناء الأحمر في ولاية غرناطة.

- الجهل بالدين

وقد وضح جيدا قيمة العلم والعلماء في زمن عبد الله بن ياسين، وزمن الحَكم بن عبد الرحمن الناصر، وما حدث في عهدهما من قوّة بعد هذا العلم، ووضح أيضا أثر الجهل في نهاية عهد المرابطين، وفي عهد دولة الموحدين، حيث انتشر الجهل بين الناس، وسادت بينهم آراء ومعتقدات غريبة وعجيبة،

كان من ذلك أيضا ما حدث من الجهل بأمر الشورى، والذي هو أصل من الأصول التي يجب أن يحكم بها المسلمون، وكيف اعتدوا بآرائهم، وكيف قبل الناس ذلك منهم؟!

ومثل أيضا ما كان من غزو محمد بن الأحمر الأول لأشبيليّلة، وقد تبعه الناس في ذلك ظنا منهم أنهم على صواب، وأنهم أصحاب رسالة وفضيلة، وأيّ جهل بالدين أكثر من هذا؟!

الدرس الثاني:

أمل النصر لا تخبو جذوته أبدا

بعد الدرس الأول والوقوف على عوامل وأسباب السقوط كان هذا الدرس الثاني، وهو ما نستقيه من تاريخ الأندلس، حيث إنه لا يغيب الأمل أبدا في نصر الله، فإن الله دائما ما يقيض لهذه الأمة من ينصرها، ومن يجدد لها أمر دينها.

وقد حدث مثل ذلك كثيرا في تاريخ الأنلس، كان منه ما حدث في نهاية عهد الولاة، وذلك بقيام عبد الرحمن الداخل، ثم ما حدث أيضا في نهاية الإمارة الأموية على يد عبد الرحمن الناصر، وهكذا في كل عهد تجد من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، تجد يوسف بن تاشفين، وتجد يعقوب المنصور الموحدي، وتجد يعقوب المنصور الماريني، وغيرهم الكثير.

وقد يتساءل البعض قائلا: لقد انتهى الإسلام من بلاد الأندلس بالكلية، فأين ذاك القيام، الذي من المفترض أن يكون بعد هذا الانتهاء، طالما كانت قد جرت السنة على ذلك؟!

وفي معرض الرد على مثل هذا السؤال نسوق حدثا في غاية الغرابة، فقد حدث قبل سقوط الأندلس الأخير بنحو أربعين سنة حادثا عجيبا، وأعجب منه هذا التزامن الذي فيه، فقد فُتحت القسطنطينية في سنة سبع وخمسين وثمانمائة من الهجرة، أي قبل سقوط الأندلس بأربعين عاما، فكان غروب شمس الإسلام على أوروبا من ناحية المغرب يزامنه شروق جديد عليها من ناحية المشرق، واستبدل الله هؤلاء الذين باعوا، وأولئك الذين خانوا من ملوك غرناطة في الأندلس بغيرهم من العثمانيين المجاهدين الفاتحين الأبرار، الذين فتحوا القسطنطينية وما بعدها، وقد بدأ الإسلام ينتشر في شرق أوروبا انتشارا أسرع وأوسع مما كان عليه في بلاد الأندلس وفرنسا.

وإنها وأيم الله لآية من آيات الله سبحانه وتعالى تبعث الأمل وتبثه في نفوس المسلمين في كل وقت وكل حين، مبشرة ولسان حالها: أمة الإسلام أمة لا تموت.

الدرس الثالث:

فلسطين اليوم أندلس البارحة

كان الدرس الثالث من تاريخ الأندلس هو الأخطر من نوعه، وتبدو معالمه في سؤال ربما يكون قد شغل أذهان البعض كثيرا، وهو: لماذا انتهى الإسلام بالكليّة من بلاد الأندلس؟!

فبلاد الأندلس (أسبانيا والبرتغال) هي اليوم من أقل بلاد العالم في عدد المسلمين، والذين بلغ عددهم فيها مائة ألف مسلم فقط، أي أقل من عدد المسلمين في مدينة من مدن أمريكا.

ففي مدينة دالاس الأمريكية وحدها يصل عددهم إلى مائة ألف مسلم، وهي بعد لم تكن قد حكمت بالإسلام، بينما تعداد المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية (أسبانيا والبرتغال) وبعد أن حُكمت ثمانية قرون بالإسلام لا يزيد عن مائة ألف مسلم، وهو أمر في غاية الغرابة.

ومن هنا كان هذا السؤال: لماذا انتهى الإسلام من بلاد الأندلس بالكليّة كأفراد وشعوب ولم ينته من البلاد الأخرى، والتي استُعمرت استعمارا صليبيا، طال أمده في بعض الدول مثل الجزائر التي احتُلت ثلاثين ومائة سنة، ومصر التي احتُلت سبعين سنة، وفلسطين احتُلت مائتي سنة في زمن الصليبيين، وغيرها من الدول الإسلامية التي غُلبت على أمرها، ورغم ذلك لم يندثر المسلمون أيا كانت طريقة اندثارهم ولم يتغيروا، وظلوا مسلمين وإلى الآن؟!

وللإجابة على هذا التساؤل لننظر أولا ما كان يفعله الاستعمار الأسباني في بلاد الأندلس، فقد كان الاستعمار الأسباني استعمارا استيطانيا إحلاليا، ما إن يدخلوا بلدا إلا قتلوا كل من فيه من المسلمين في حرب إبادة جماعية، أو يطردونهم ويهجّرونهم إلى خارج البلد، ثم يُهجّروا إليها من النصارى من أماكن مختلفة من الأندلس وفرنسا من يحل ويعيش في هذه المدن وتلك الأماكن التي خلفها المسلمون، وبذلك لم يعد يبقى في البلاد مسلمون.

وحكم البلاد وعاش فيها بعد ذلك نصارى وأبناء نصارى، على عكس ما كان يحدث في احتلال البلاد الإسلامية الأخرى مثل مصر والجزائر وليبيا وسوريا وغيرها، فإن الاحتلال في هذه البلاد كان بالجيوش لا بالشعوب، واحتلال الجيوش ولا شك مصيره إلى ردة وزوال.

وإن مثل هذا ليضع أيدينا على شيء هو في غاية الأهمية، ذلك أن الاحتلال الاستيطاني هذا الذي حدث في بلاد الأندلس لم يتكرر في أيٍ من بلاد العالم إلا في مكان واحد فقط، وهو أيضا يخص المسلمين، وهو فلسطين.

وإن ما يحدث الآن فيها وعلى أرضها ما هو إلا تكرار لأندلس جديدة، ما يفعله اليهود الآن من تهجير اليهود إلى أرض فلسطين، وإبادة في الشعب الفلسطيني بالقتل والطرد والتشريد، وإصرارهم (اليهود) على عدم عودة اللاجئين إلى ديارهم، ثم الإكثار من بناء المستعمرات، كل ذلك وغيره ما هو إلا خطوة من خطوات إحلال الشعب اليهودي مكان الفلسطيني.

فقد شُرّد الشعب الفلسطيني وبات مصيره في طي النسيان، بات العالم أجمع ينسى قضيته يوما بعد الآخر، بل بات محتملا أن ينسى هو نفسه (الشعب الفلسطيني) قضيته، وأخشى والله أن ينسى الفلسطينيون المشردون القضية تماما كما نسيها أهل الأندلس الذين هاجروا إلى بلاد المغرب وإلى تونس والجزائر بعد عام أو عامين، أو حتى بعد عشرة أو مائة عام، فقد مر الآن على سقوط الأندلس خمسمائة عام، فمن يفكر في تحريرها؟!

وهكذا وعلى هذا الوضع يسير اليهود ويجمعون ويُهجّرون شتاتهم إلى بلاد فلسطين لإحلال الشعب اليهودي مكان الشعب الفلسطيني.

فكانت قضية فلسطين شديدة الشبه بالأندلس، وتُرى لماذا عُقد اتفاق السلام الأخير بين اليهود وبين الفلسطينيين، ومن بين كل بلاد العالم هناك يعقد في إحدى مدن الأندلس القديمة في مدريد؟!

كانت مفاوضات السلام تدور في أوسلو وترعاها أمريكا وروسيا وغيرها من البلاد، ومع ذلك أُقيمت في مدريد، وفي إزالة علامات التعجب أن ذلك كان بسبب أن المفاوضات قامت في سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة وألف من الميلاد، وهي ذكرى سقوط الأندلس، حيث كان قد مر على سقوطها خمسمائة عام.

ففي تلك الأثناء كانت شوارع مدريد مكتظة بالاحتفالات والمهرجانات، حيث هزيمة المسلمين وانتصار الصليبيين في هذه الموقعة القديمة منذ خمسمائة عام، وكأنهم يبعثون برسالة مفادها: ها هو التاريخ يتكرر، وها هي أحداث الأندلس تتكرر من جديد في فلسطين، وها هي الانتفاضة التي تحدث في فلسطين تُقتَل كما قُتلت من قبل انتفاضة موسى بن أبي غسّان في غرناطة، ها هو التاريخ يتكرر، لا داعي للحرب ولا داعي للجدال والمحاورات الكثيرة؛ فإن مصيركم هو ما حدث في الأندلس من قبل.

وأخيرا

بعد هذه الدراسة، وبعد تلك الحقبة المهمة من تاريخ المسلمين، نستطيع أن نسطر من جديد: ما كان التاريخ- وتاريخ الأندلس خاصة- يوما ما بُكاء على اللبن المسكوب، ولا عيشا في صفحات الماضي، إنما كان لأخذ الدرس والعبرة، وكما ذكرنا في البداية : [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الأعراف:176} . وأيضا: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {يوسف:111} .

والذي يجب أن يشغلنا الآن هو أن نقف مع تاريخ الأندلس وقفة نفهم منها أحداث فلسطين وأحداث الشيشان وكوسوفا والبوسنة والهرسك وكشمير، وغيرها من البلاد، وما هو دور الشعوب والأفراد في قضية فلسطين حتى لا تصبح أندلسا أخرى.

والذي يجب أن يشغلنا هو أن يعرف كل منا دوره في الحياة، ومن ثم يقوم عليه بأحسن ما يكون وأحسن ما يجب أن يكون القيام، وإن معرفة مثل ذلك لتقبع خلف كل صفحة من صفحات تاريخ الأندلس، وخلف كل صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي بصفة عامة.

وليعلم كل منا أنه إنما هو على ثغرة عظيمة من ثغور الإسلام، فليحذر وليحرص كل الحرص على ألا يُؤْتى الإسلام من قِبله، ولا يُلدغ الثانية، وقد قال عز وجل: [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55} .

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات















آخر تعديل شوردي العتيبي يوم 25-Sep-2007 في 05:38 AM.
رد مع اقتباس