الأعراب في جهدهم وضنك عيشهم*
قال زياد لغيلان بن خَرَشَه : أحب ان تحدثني عن العرب وجَهدها , وضنك عيشها , لنحمد الله على النعمه التي اصبحنا بها , فقال غيلان :حدثني عمي قال :
توالت على العرب سنون تسع في الجاهليه حطّمت كل شئ , فخرجت على بِكْر لي في العرب , فمكثت سبعاً لا اطعم الا ما ينال منه بعيري , او من حشرات الأرض فشددت على بطني حجراً من الجوع , حتى دفعت في اليوم السابع الى حواءٍ(1) عظيم , فإذا بيت جُحِش (2) عن الحي , فملت اليه , فخرجت الى إمرأةٍ طوالة (3) حسانه (4) , فقالت : من ؟ قلت: طارق ليل , يلتمس القِرى! قالت لو كان عندنا شيئاً لآثرناك به , والدال على الخير كفاعله , حسّ (5) هذه البيوت , ثم انظر الى اعظمها فإن يكن في شئ منها خير ففيه .
ففعلت حتى دفعت اليه , فرحب بي صاحبه , وقال : من ؟ قلت : طارق ليل , يلتمس القرى .فقال : يا فلان , فأجابه , فقال : هل عندك طعام ؟ فقال لا , فوالله ما وقَر(6) في اذني شئ كان اشد علي منه .
قال : هل عندك شراب ؟ قال : لا . ثمّ تأوه , فقال : قد بقينا في ظرع الفلانه(7) شيئاً لطارق ان طرق . قال : فأتي به . فأتى العطن(8) فأبتعثها , فما سمعت شيئاً قط كان اشد من شخب تيك الناقه في تلك العلبه(9) , حتى اذا ملأها وفاضت من جوانبها , وأرتفعت عليها رغوة كجمة الشيخ أقبل بها يهوي نحوي , فعثر بعودٍ او حجر , فسقطت العلبه من يده , فما أصبت بمصيبة افزع لقلبي , ولا أعظم موقعاً عندي من إنكفاء تلك العلبه على مثل الحال التي كنت فيها .
فلما رأى ذلك رب البيت خرج شاهراً سيفه , فبعث الإبل , ثم نظر الى اعظمها سناماً , ودفع الي مُدْيَه وقال : يا عبدالله , اصطل واحتمل .
فجعت اهوي بالضبعه (10) الى النار , فإذا بلغت إناها(11) أكلتها , ثم مسحت مافي يدي من إهالتها (12) على جلدي , وقد قحِل (13) علي ظمي , حتى كأنه شنّ(14) , ثم شربت شربة ماء , وخررت مغشياً علي , فما افقت الى السَحر .
وقطع زياد الحديث وقال : لا عليك الا تخبرنا بأكثر من هذا , فمن المنزول به ؟ قلت : عامر بن الطفيل .
الهوامش :
* المحاسن والمساوئ 99 ( طبعة ليبزج ) عيون الأخبار 3\244 .
(1) الحواء : جماعة البيوت المتدانيه .
(2) جحش : نحي وأبعد عن البيوت .
(3) طوالة : طويلة القامه .
(4) حسانة : حسناء .
(5) حس : تعرّف احوالهم .
(6) وقر : ثقل .
(7) الفلانه والفلان بالتعريف : كنايه عن غير الآدميين .
(8) العطن : مناخ الإبل حول وردها .
(9) العلبه : قدح ضخم من جلود الإبل او من خشب يحلب فيها .
(10) البضعه : القطعه من اللحم .
(11) بلغ إناه : نضجه وإدراكه .
(12) الإهاله : الشحم او ما أذيب من الشحم .
(13) قحل : يبس .
(14 ) الشن : القربه الخلق الصغيره .
من كتاب
قصص العرب
تأليف :
محمد احمد جاد المولى
علي محمد البجاوي
محمد ابو الفضل ابراهيم