بعد الاحتلال تغيرت المفردات اليومية لعاصمة الرشيد، بحيث بات من المألوف أن ترصد أعين العدسات وكاميرات التلفزيونات طوابير المواطنين أمام المجمعات الاستهلاكية, فيما يفترش آلاف العاطلين أرصفة نهري دجلة والفرات، وبين العاطلين والجائعين، تتراص مئات العربات أمام محطات الوقود.
وإذا لم يعجبك المشهد فاذهب إلى أحد المقاهي المكتنزة بآلاف المشردين من وزارتي الدفاع والإعلام، وأدر مؤشر الراديو لتسمع محطة 'سوا' الأمريكية تزف إليك بشرى مجلة 'ذا إيكونوميست' البريطانية بأن العراق يعيش 'حلم الرأسمالية'..
'جون سيمبسون' محرر الشئون الدولية في هيئة الإذاعة البريطانية، قرر أن يختبر حقيقة المشهد وطبيعة الحلم الرأسمالي، بزيارة بغداد التي استقبلته بسخونة أجوائها السياسية والعسكرية.. فماذا رأى وماذا كتب؟
بدأ جون سيمبسون رحلته بزيارة أحد المقربين إليه في العاصمة العراقية بغداد، وبينما كانا يتناولان أكوابًا من الشاي إذا بأصوات الرصاص تكسر حالة الصمت التي تخيم على العاصمة.. لكن المواطن العراقي أراد أن يخفف عن الصحفي البريطاني قائلاً: رغم تردي الأحوال 'فإننا على الأقل نعرف أن الأمريكيين سيضعونا على أقدامنا مرة أخرى'.
استقل سيمبسون سيارته وخرج ليقرأ حقيقة المشهد بعينه في شوارع العاصمة فكان أول ما دونه في مفكرته 'أول شيء ستلاحظه هو زحام المرور، فأحد المجالات التي حققت فيها قوات التحالف نجاحًا هو زيادة ملكية السيارات، حتى لو صاحبها نقص في إمدادات البترول بشكل تمتد معه الطوابير أمام الكثير من محطات تزويد السيارات بالوقود'... 'علامة أخرى من علامات النجاح وهي المحلات التي تمتلئ بالسلع الآن لكن أيضًا الكثير من الناس عرضة لسيارات مفخخة يمكن أن تزهق حياتهم'.
عذرًا سيد سيمبسون .. القارئ يحتاج إلى وقفة ليفهم حقيقة المشهد السابق، فعلام تدل زيادة ملكية السيارات، والمحلات المكتنزة بالبضائع، وإلى ما تشير الطوابير المصطفة أمام محطات التزود بالوقود.
رغم أن سيمبسون التزم الصمت، فإن رزنامة القوانين التي صدرت في عهد المندوب السامي الأمريكي بول بريمر حاكم العراق بعد سقوط بغداد في 9 أبريل 2003، تقول إنه تم إصدار سلسلة من القرارات غيرت بشكل جذري النظام الاقتصادي العراقي، حيث حددت الضرائب عند سقف الـ15 % وألغيت الرسوم على الواردات.
وهكذا بجرة قلم، تحول الاقتصاد العراقي بعد نحو أربعة عقود من الاقتصاد المركزي الموجه، إلى اقتصاد السوق، وأصبح 'العلاج بالصدمة' على الطريقة الروسية في أواخر الثمانينات، الوصفة الأمريكية الجاهزة، للقفز بالعراق إلى قطار السوق الحرة الأمر الذي يسهل ويفسر إلى حد كبير لماذا تكدست المحال بالبضائع والمنتجات الغربية.
ورغم أن سياسة 'الانفتاح' أو الباب المفتوح التي أطلقتها سلطات الاحتلال 'لتشجيع اقتصاديات السوق، وليس أنظمة القبضة الستالينية' على حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد إلا أنه تم إعفاء قطاع النفط، من هذه السياسية، فباستثناء الشركات الأمريكية والبريطانية لم يكن من المسموح لأية دولة الاستثمار في النفط العراقي الذي كان هدفًا للسرقة والاغتصاب من جانب الشركات الأمريكية.
فطبقًا لشهادة مدققي حسابات انتدبتهم الأمم المتحدة، يعتبر العراق البلد الوحيد المنتج للنفط في العالم الذي لم تستخدم فيه سلطات الاحتلال عدادات لقياس كميات النفط المستخرجة والمصدرة وتسجيلها.
وبحسب تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية فإن غياب العدادات كان الطريقة التي اختفى بها الجزء الأكبر من الأموال العراقية المنهوبة. يضاف إلى هذا أن عوائد النفط العراقي لا توضع في صندوق تنمية العراق، ما يشكل خرقًا لقرارات الأمم المتحدة.
تابع السيد سيمبسون جولته في شوارع العاصمة، التي هاله ما رآه فيها من خراب ودمار قائلاً: 'عندما أقود سيارتي في أي مكان في بغداد يدهشني قلة أعمال البناء على الرغم من أنها عاصمة بلد يفترض أنه في مرحلة إعادة إعمار واسعة، وهذا يعني ببساطة أن هذه العملية لا تتم'.
أحلام سيمبسون الخاصة بإعمار العراق، يبدو أنها ارتبطت في ذهنه بمؤتمر المانحين الذي عقد بالعاصمة الإسبانية مدريد في أكتوبر 2003 والذي انتهى بتخصيص 32 مليار دولار لإعادة إعمار العراق. لم يأخذ منها العراق سوى خمسة مليارات دولار.
ولو أن السيد سيمبسون كان متابعًا جيدًا لبرنامج 'فايل أون فور' الذي بثته القناة الإذاعية الرابعة في إذاعة 'بي بي سي' التي يعمل بها لعرف أن ما يزيد على 20 مليار دولار من ثروة العراق النفطية وثلاثة مليارات دولار من أموال الضرائب الأمريكية صرفت على أعمال بناء وتنمية وهمية في العراق، لكنها في الواقع بددت سرقة ونهبًا ورشوة. وهي العملية التي وصفتها المحطة بأنها 'أكبر فضائح الفساد في التاريخ'.
ماذا تبقى من حلم الرأسمالي؟؟
أراد سيمبسون أن يأخذ قسطًا من الراحة فنزل بأحد فنادق بغداد، وفي ردهة الفندق كانت هناك شاشة تلفزيونية عملاقة يلتف حولها عدد من الصحفيين والزوار الأجانب الذين ارتسمت على وجوههم علامات التعجب والاستغراب ممزوجة بابتسامة خفيفة تنم عن سخرية مستترة، حيث ظهر في الشاشة 'دانيل سبكهارد' مدير مكتب إدارة إعادة بناء العراق ليعلن في مؤتمر صحفي: 'إن العراق على وشك تحقيق طفرة كبيرة في النمو بنسبة 10 بالمائة بعد التوسع الذي حققه في عام 2005 الماضي'.!!
تصريحات سبكهارد يبدو أنها أثارت حفيظة جون سيمبسون، الذي أخرج مفكرته من جيبه مرة ثانية لينهي مدونته قائلاً: 'بعض العراقيين سعداء لأن صدام حسين أزيح عن كاهلهم، إلا أن هناك غضبًا حقيقيًا بين العراقيين أن أغنى أمة على الأرض تولت مقاليد بلادهم، جعلتهم في وضع أسوأ، في كثير من النواحي، عما كانوا عليه من قبل'.
طبيعة الوضع الأسوأ الذي لم يتحدث عنه سيمبسون تفضحه وثيقة مشروع خصخصة شركات القطاع العام في العراق، التي أعدها مقدم البحرية الأمريكية براد جاكسن.. حيث تحدثت الوثيقة عن عرض 192 شركة للبيع نصفها تقريبًا شركات صناعية رئيسة وعددها 94 شركة، تأتي بعدها شركات الخدمات العامة التي تؤمن حياة المواطنين. وهو الأمر الذي ينتهك اتفاقات جنيف الخاصة بإدارة المناطق المحتلة.
ورغم أن أوراق السيد سيمبسون الكثيرة عرجت على كثير من الأوضاع الحياتية لملايين العراقيين فالأسعار مرتفعة، وكذلك البطالة تجاوزت 50% من القوى العاملة.. إلا أن السيد سيمبسون نسى أن يذكر في مفكرته أن الدولة التي كان يشع منها نور العلم باتت تقضي ليلها بمصابيح الكيروسين التقليدية، فيما تنار المنطقة الخضراء بالمولدات الكهربائية، حيث أصبح العراق أكبر مستورد للمولدات في العالم .. وكل هذا بالطبع أحد ثمار جنة الرأسمالية الغربية التي بشرت بها أسبوعية 'ذا إيكونوميست' البريطانية.