ما حدث في الأيام الأخيرة من انتشار للفوضى في العراق وزيادة المخاوف من اندلاع حرب أهلية أدى إلى تخيل سيناريوهات مرعبة سيطرت على أذهان الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة, كما أثرت على الفصائل العراقية السياسية المبنية على تقسيمات طائفية، كما سيطرت على تركيز وسائل الإعلام حول العالم. فقد أدى تفجير القبة الذهبية في سامراء إلى إشعال فتيل الفتنة الطائفية بهذا الاعتداء على رمز من رموز الشيعة، في حين لا يعلم أحد حتى الآن المسئول عن هذه العملية، ولكنها تنذر بكابوس يخيم على العراق والمنطقة بأسرها، وهو أمر قد يخرج عن نطاق السيطرة الأمريكية بقواتها المتورطة في الشرق الأوسط.
وقد افترض الرئيس بوش أن التجربة الأمريكية مع الديمقراطية مفيدة بشدة للعالم. حقًا إنها مفيدة, ولكن هناك وجه آخر للعملة: وهو أن الولايات المتحدة ورثت بشكل أساسي مؤسساتها عن التراث الأنجلو – ساكسوني؛ ولهذا فإن خبراتها على مدى 230 عامًا كانت منصبة على وضع حد للقوى الاستبدادية أكثر منه على خلق قوى من البداية. ولأن النظام في بلادنا يعتبر أمرًا بديهيًا, فإننا لم نكن نخشى الفوضى. ولكن الحالة معكوسة في الكثير من أجزاء العالم, وهنا يكون التحدي - كيف يمكن أن نقيم مؤسسات شرعية عاملة في تلك المناطق القاحلة تمامًا
وقد كتب توماس هوبز - فيلسوف إنجليزي, وأحد رموز القرن السابع عشر الميلادي في علم الاجتماع - في كتابه الشهير 'ليفياثان' أنه قبل أن تتواجد تعبيرات مثل 'العدل' و'الظلم', ينبغي أن يتواجد أولاً نوع ما من القوى الاستبدادية. فبدون وجود من يحتكر استخدام القوة ويتولى تقرير الصواب من الخطأ, لن يتحقق الأمن لأي شخص, ولن يتمتع أي شخص بالحرية. ولا يزال أمن الفرد على نفسه وحياته يعد حرية الإنسان الأساسية. ولذا فكون الدول استبدادية لا يعني بالضرورة أنها غير أخلاقية. هذه هي الحقيقة الجوهرية السائدة في الشرق الأوسط والتي غفلت عنها الدول الخارجية المهتمة بفرض الديمقراطية في تلك المنطقة.
فبالنسبة للمواطن العادي الذي يرغب فقط في أن يمشي في الطريق دون أن تنتهك آدميته أو يتعرض لانفجار إحدى القنابل, فإن الدولة الاستبدادية التي تستطيع حمايته تعتبر أكثر أخلاقية وأشد نفعا له من دولة ديمقراطية لا تستطيع توفير تلك الحماية. وقد كتب العالم الراحل بكلية شيكاغو, مارشال هيجسون, أن الملكية كانت هي النموذج المفضل لمدة قرون. وذلك يرجع بشكل خاص إلى أن شرعية الملك تأتي كما هي من الإله, وينظر إلى من يتولى هذه السلطة على أنه لا يخضع للوم أو المحاسبة, إلى درجة أنه يمكن أن يصبح الملك شخصًا خيرًا في الوقت الذي يستمر فيه في استخدام القوة. وهذا يعني أن أكثر الدول اعتدالاً واستنارة في الشرق الأوسط في العقود الأخيرة تميل إلى أن تكون تلك الدول التي تسيطر علي حكمها الأسر المالكة. لقد أضفت تلك الأسر على نفسها صفة الشرعية نتيجة لطول فترة حكمها, ومن بين تلك الدول المغرب والأردن والإمارات وغيرها من الأنظمة العربية التي تقوم على الجمهوريات الملكية وتؤمن بالتوريث الجمهوري.
وعلى الرغم من وضوح حقيقة عدم شرعية هؤلاء الحكام, ولكن اعتقادنا بأن من سيخلفهم سوف يكون بالضرورة مماثلاً لهم في التوازن والوعي يعد نوعًا من الهواجس التي تؤدي إلى سياسات خارجية غير مسئولة. تذكر أن من احتفلوا في عام 1979 عند وفاة شاه إيران قد لقوا ما هو أسوأ. وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية تقوم على النظام الملكي, إلا أن الأسرة المالكة تعد الوحيدة القادرة على السيطرة على مثل تلك الدولة التي لا يصعب تعيين حدودها الجغرافية.
ففي حالة العراق, قلل ما بلغته الدولة تحت حكم صدام من شدة تعسف ووحشية من علاقاتها بغيرها من الأنظمة الديكتاتورية. وذلك لأنه تحت حكم صدام يمكن أن يختفي أي شخص, وقد حدث ذلك بالفعل, في منتصف الليل ويتم تعذيبه بأبشع الطرق. لقد أنشأت الحكومة البعثية نمطًا من الفوضى تحت قناع من الطغيان. وعلى الرغم من أن قرار التخلص من الحكومة العراقية يمكن الدفاع عنه, إلا أنه ليس أمرًا إلهيًا. إن الصورة التي ظهرت للعراق منذ سقوطه تظهره على أن صدام كان من الممكن أن يمنع حدوث مزيد من الفوضى عن ذلك النمط من الفوضى الذي كان سائدا تحت حكمه.
الدرس الذي نستخلصه من هذا هو أنه إذا ما تعلق الأمر بأنظمة استبدادية أخرى في المنطقة - لا تماثل تقريبًا استبداد نظام صدام حسين - فإن آخر ما يجب علينا فعله هو أن نسارع بتعجيل إنهاء تلك الأنظمة. فكلما تركنا تلك الأنظمة لتتطور وتنحل بصورة طبيعية, كلما قلت احتمالات تدفق الدماء. وينطبق هذا بشكل خاص على سوريا وباكستان, الذين يمكن أن يماثلا يوغسلافيا المسلمة أثناء تطورها, حيث إنها تتكون إقليميًا من جماعات عرقية محتفظة بتاريخ من الكراهية لبعضها البعض. لذلك فإن تطلع المحافظين الجدد للإطاحة ببشار الأسد به من المخاطرة ما يماثل رغبة الليبراليين في تقويض حكم مشرف.
ولا تنتمي أفغانستان لأي من هذه الفئات. لقد أطحنا بأحد الحركات في أفغانستان, والمعروفة باسم حركة طالبان, ولكننا لم نُطِح بالدولة نفسها, وذلك لأنه لم يكن هناك فعليًا ثمة دولة. حتى في تلك الفترة شديدة القصر في منتصف القرن العشرين التي تمتعت فيها أفغانستان بوجود سلطة مركزية, كان نطاق سيطرة الحكومة لا يكاد يتعدى المدن الكبرى والطريق الدائري الذي يربط بينهم. والآن ما تتمتع به القرى الأفغانية من حكم ذاتي صار عاملاً مساعد للرئيس الأفغاني حامد كرزاي كي يبدو وكأنه قام بإنشاء نظام شرعي غير استبدادي.
فالعولمة وغيرها من القوى الحركية سوف تستمر في تخليص العالم من الأنظمة الديكتاتورية. كما أننا لسنا في حاجة إلى فرض التغيير السياسي على الشعوب, وذلك لأن التغيير سوف يحدث على أية حال. ما ينبغي علينا فعله من أجل أن نكسب عرفان الشعوب التي تختلف عنا في الخبرات التاريخية, هو العمل على تسوية الأوضاع وليس العمل على فرض الديمقراطية. ينبغي أن يكون هدف مؤسساتنا العسكرية والدبلوماسية هو ترسيخ أقدام الأنظمة الديمقراطية حديثًا, وتمهيد طريق التنمية للأنظمة غير الديمقراطية. فكلما توخينا الحذر في ذلك العالم الذي يعاني فعليًا من آلام مخاض ثورات عنيفة, كلما زادت إنجازاتنا.
* كاتب هذه المقالة مراسل لمجلة 'الأطلسي' الشهرية, ومؤلف كتاب 'الفوضى القادمة: انهيار أحلام ما بعد الحرب الباردة'