5/تابع
تنظيم العلاقة الأسرية مع الجيران:
إن الإسلام ربط الفرد بالأسرة وربط الأسرة بالمجتمع لتكوين وحدة اجتماعية، وقد نعلم كيف ربط الفرد بالبيت، ونذكر هنا كيف ربط البيت بالمجتمع عن طريق إقامة الترابط والعلاقات بين البيوت المتجاورة. وقد ربط الإسلام بين البيوت كما ربط بين الأفراد، وكانت الأسس التي أقام عليها هذه العلاقة هي الأسس التي أقام عليها علاقة كل مسلم بأخيه المسلم. وأهم هذه الأسس هي:
أولاً: عدم التجسس على البيوت المجاورة والبعيدة:
هذه النقطة مهمة، ذلك أن هناك جيراناً يحاولون أن يعرفوا كل شيء حتى خصوصيات الأشياء السرية لدى الجيران، ثم إذا اكتشفوا شيئاً من ذلك يعلنونه فيما بين الناس، وكأنهم كشفوا شيئاً هاماً يكافأون عليه، أو كأنهم اخترعوا شيئاً يفتخرون به؟!.
هذه الأمور تثير البغضاء والفتن والخصومات بين الجيران، ولهذا منع الله التجسس فقال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}(59).
كذلك منع الإسلام الإطلاع على عورات الجيران، والنظر إلى البيوت ليطلعوا على ما حرم الله الإطلاع عليه، وهذا من الخصال الخبيثة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ )(60)
ثانياً: عدم إيذاء الجيران بأي شيء، كسد طرقهم أو إلقاء القمامة أمام دورهم، أو فتح المذياع بصوت مرتفع:
لقد منع الإسلام إيذاء الجيران حتى بريح القدر أو بألوان الأكلات الشهية. فعليه أن يسترها عن أعينهم، وإلا فالواجب أن يعطيهم منها، ولهذا ينبغي على المسلم ألا يترك أولاده يأكلون طعامهم خارج البيت، حتى لا تقع عيون جيرانهم على طعامهم، فتتوق نفوسهم إليه، ثم لا يقدرون الحصول عليه، فيشعرون بالحرمان ويحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله. لذا قال الرسول الكريم r : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَـالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيـَوْمِ الْآخِـرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ .. )(61)
ثالثاً: مشاركة الجيران مشاعرهم في السراء والضراء:
إن مثل هذه المشاركة هي التي تضفي على العلاقات المودة والمحبة والمشاعر الإنسانية النبيلة ولهذا فعليهم أن يشاركوهم في أفراحهم وأتراحهم. فعليهم أن يهنئوهم إذا أصابهم الخير، وأن يعزوهم إذا ألمت بهم الملمات، وأن يعودوهم إذا مرضوا، وأن يطعموهم إذا جاعوا، ولهذا كله كان يوصي الرسول r بالجار دائماً، وكان يقول: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ )(62)، وقال أيضاً: "ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه" (63).
رابعاً: التهادي والتزاور واستقبالهم بالبشاشة والترحيب:
فالتهادي يورث المحبة، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تهادوا تحابوا) (64)، ولهذا دعا إلى عدم ازدراء الهدية مهما كانت صغيرة، لأن ازدراء الهدية يورث النقمة ويفسد العلاقات، لهذا وذاك كان الرسول r يقول: "لو أُهْدِيَ لي فَرْسنُ شاة لقبلت" (65).
والتزاور سنة لأنهم قد يرون حاجة يقضونها، أو عجزاً عن شي يساعدون فيه. وكذلك استقبالهم بالبشاشة والترحيب له تأثير في الألفة وإدخال السرور في نفوسهم، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ :قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ )(66)
خامساً: التعاون على البر وإزالة المنكر:
يجب أن يعاون الجار جاره إذا طلب منه العون، لأن ذلك من حقه، كذلك يجب أن يتعاون المتجاورون على الأمر بالمعروف وتحقيق البر والتقوى، وذلك وفقاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(67). هذا التعاون يجب أن يتم أولاً في إطار أفراد الأسرة، ثم في إطار الجيران وأخيراً في إطار المجتمع كله.
من هذا كله نرى مدى اهتمام الإسلام في تنظيم المجتمع الأسري من جميع النواحي لأنه أساس المجتمع الكبير. ومن هنا نرى الشرع الشريف يشير إلى تلك الأمور مجتمعة في هذا الأثر عن حقوق الجار عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون ما حق الجار ؟ إن استعان بك أعنته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن افتقر عدت عليه ، وإن مرض عدته ، وإن مات اتبعت جنازته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، ولا تستطل عليه بالبناء ، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له ، فإن لم تفعل فأدخلها سرا ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ به ولده ، ولا تؤذه بقتـار قـِدرك إلا أن تغـرف له منها ) (68)
بل أكثر من هذا فالإسلام قد ربط إكرام الجار بالإيمان بالله تعالى فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ : سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ )(69)
ولننظر إلى هذه المبادئ الإسلامية المتعلقة بالجيران لو أنها طبقت في الحياة العملية هل يبقى إنسان جائع بين الناس، وهل توجد هناك المشكلات والخصومات التي نراها كل يوم فيما بين الجيران؟ وهل يبقى عاجز عن الشيء؟ بالإضافة إلى هذا، كم تكون هناك محبة ومودة أو ألفة متبادلة بينهم وبالتالي بين أفراد المجتمع كله. ثم كم يكون هناك هناء ووئام بين الأسر؟ إن بهجة الحياة لا تكتمل ما لم تكن هناك معاشرة جميلة بين الناس الذين يربطهم جميعاً المكان والزمان بصفة مستمرة. وكل ذلك من وسائل سعادة بناء البيت الإسلامي السعيد، وهل يمكن أن يشعر بالبهجة والسرور إذا بنى علاقته مع جيرانه على العداوة والبغضاء والنفور والكراهية؟ ولا يأمنون شره ولا يأمن هو الآخر شر جيرانه، ولذا فقد حذر الرسول r من عاقبة مثل هذه المعاملة السيئة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ )(70).
________________________________________________
(59)سورة الحجرات , الآية (12) (60) أخرجه مسلم كِتَاب الْآدَابِ /بَاب تَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ (7/391) حديث رقم (2158) وغيره
(61)أخرجه البخاري كِتَاب الْأَدَبِ بَاب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ (10/502) حديث رقم (6018) وغيره
(62) أخرجه البخاري كتاب الأدب بَاب الْوَصَاةِ بِالْجَارِ(10/497) حديث رقم (6014) ، ومسلم كِتَاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ بَاب الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ (8/424) حديث رقم (2624)
(63)
(64)أخرجه الطبراني المعجم الأوسط (16/24) حديث رقم (7448)
(65)
(66)أخرجه الترمذي كِتَاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ بَاب مَا جَاءَ فِي صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ (445) حديث رقم (1956)
(67)
(68)أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (1/236 ) حديث رقم (227)
(69)أخرجه البخاري ِكتَاب الْأَدَبِ بَاب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ(10/503) حديث رقم (6019) ، ومسلم كِتَاب الْإِيمَانِ بَاب الْحَثِّ عَلَى إِكْرَامِ الْجَارِ وَالضَّيْفِ وَلُزُومِ الصَّمْتِ إِلَّا عَنْ الْخَيْرِ وَكَوْنِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْإِيمَانِ (1/293) حديث رقم (47)
(70)أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بَيَانِ تَحْرِيمِ إِيذَاءِ الْجَار(1/293) حديث رقم (47) وغيره
يتبع/6