المقال الثاني
وسائل الانكار هذه ليست مخالفة للشريعة وليست خروجاً عن طاعة ولي الأمر
ما يحدث اليوم ثورة شعوب بأكملها لمواجهة الظلم في الدين والدنيا
اقامة العدل ودفع الظلم هما مقصود الشريعة الأعظم، فأعظم عدل هو التوحيد، وأعظم ظلم هو الشرك، ومن أجل ذلك بعث الله الرسل وأنزل الكتب وشرع الأحكام، فالاعتداء على الدين والنفس والعقل والعرض والمال محرم عند جميع الرسل، فكانوا ملة واحدة في اقامة العدل وتحريم الظلم وان اختلفت شرائعهم، فكلهم حارب الشرك وحارب المنكر والظلم الظاهر، كلوط عليه السلام الذي حارب الاعتداء على الاعراض، وشعيب عليه السلام حارب الاعتداء على الاموال، وموسى عليه السلام حارب الاستبداد والطغيان {ألم تر كيف فعل ربك بعاد، ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد} (الفجر).
ومن أجل ذلك كانت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي للحفاظ على هذه الضرورات الخمس وعدم الاعتداء عليها، ولذلك كانت هذه الفريضه شعيرة واجبة على هذه الأمة كل حسب استطاعته «من رآى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل».
والواقع اليوم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه تطور وتوصيف فقهي جديد، وذلك من خلال المواثيق والعقود بين الحكام والمحكومين بما اصطلح عليه بـ«الدستور»، وفي هذه الدساتير كالدستور الكويتي نظمت العلاقه بين ولي الأمر ونظام الحكم والشعب الكويتي، وخاصه فيما نحن فيه من وسائل الانكار، فالدستور نص على ان الذات الأميرية مصونة، وأن الأمير يحكم من خلال وزرائه، وأعطى الحصانة للنائب ليعبر عن رأيه وينكر كما يشاء، وقنن وسائل الانكار من سؤال وتحقيق واستجواب وغيرها، وأعطى الحرية لوسائل التعبير بالقول والكتابة، ومن هذه الوسائل التجمعات السلمية والتي عندما أرادت الحكومة الكويتية تقييدها بقانون حكمت المحكمة الدستورية وهي المرجع في تفسير مواد الدستور ببطلان هذا القانون، ونظم الدستور العلاقة بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية لضمان تنفيذ هذا الميثاق.
ووسائل الانكار هذه ليست مخالفة للشريعة وليست خروجا عن طاعة ولي الأمر بل هي من الوفاء بالعقد بين الحاكم والمحكوم، وهي تقنين لانكار المنكر ودفع الظلم، فمن أنكر المنكر ضمن هذا الميثاق هو مطيع لولي الأمر، ومن أنكر عليه استعماله للأدوات الدستورية المباحة هو في الحقيقه ينكر على ولي الأمر عمله بهذا الميثاق.
وهذا ما دعا العلماء الربانيين كالعلامتين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله للموافقة على المشاركة في مجلس الأمة بعد اطلاعهما التام على الدستور ومواده التي تجعل الشعب شريكا حقيقيا للحاكم في احقاق الحق ودفع الظلم، ويعطي الأمة القدرة على انكار المنكر ومحاسبة المفسدين والوقوف في وجه الظالمين.
أما من يصف المتظاهرين والمعتصمين بالخروج والخوارج فهذا لم يفقه شروط الفقهاء في الخوارج أو أهل البغي التي فصلوها في كتبهم، ووقع في أمر عظيم من التبديع والتكفير، خاصه اذا علمنا باختلاف العلماء في وصف قتال الخوارج هل هو قتال مرتدين أم فساق من أهل الكبائر، هذا مع التذكير بأن التجمعات السلمية هي ضمن الميثاق بين الحاكم والمحكوم، وضمن المواثيق العالمية التي صادقت عليها دولة الكويت.
والسؤال: لو خرجت هذه التجمعات دون اذن ماهو الموقف منها؟ ولن أنتظر الجواب من متعالمي زماننا، فقد سمعت جوابهم حين ضرب المتجمعون سلميا في ديوان الحربش وأهينت كرامتهم، فكان الجواب أنهم يستحقون هذه الاهانة لأنهم خالفوا الأوامر، كالعادة للأسف في تبرير الظلم.
والجواب في فقه سلف الأمة الذين آمنوا بوجوب تحقيق العدل ودفع الظلم، وقبل ان أذكر أقوال العلماء أبدأ بسيد الناس رسول الله وموقفه من الرجل الذي لم يحسن التأدب معه، كما في حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له فهمَ به أصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم: «دعوه فان لصاحب الحق مقالا» ثم قال: «أعطوه سنا مثل سنه «قالوا يارسول الله لا نجد الا أمثل من سنه، قال: «أعطوه، فان خيركم أحسنكم قضاء» فلم ينظر صلوات الله وسلامه عليه الى تعدي الرجل على مقامه الشريف، وانما نظر الى ميزان العدل الذي يجب ان يترسخ في قلوب الأمة.
وسأذكر أجوبة العلماء مجتمعة ثم أعلق عليها، قال الامام الشافعي رحمه الله: ينبغي ان نسألهم ما نقموا، فان ذكروا مظلمة بينة ردت، فان لم يذكروا بينة قيل لهم:عودوا لما فارقتم من طاعة الامام العادل وأن تكون كلمتكم وكلمة أهل دين الله على المشركين واحدة، وأن لا تمتنعوا من الحكم فان فعلوا قبل منهم، وان امتنعوا قيل: انا مؤذنوكم بحرب فان لم يجيبوا قوتلوا، ولا يقاتلون حتى يدعوا ويناظروا الا ان يمتنعوا من المناظرة فيقاتلوا.الأم (218/4)
وقال الحافظ ابن حجر: وأما من خرج عن طاعة امام جائر أراد الغلبة على ماله أونفسه أوأهله فهو معذور ولا يحل قتاله، وله ان يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبدالله بن الحارث، عن رجل من بني نضر، عن علي رضي الله عنه وذكر الخوارج فقال: «ان خالفوا اماما عدلا فقاتلوهم، وان خالفوا اماما جائرا فلا تقاتلوهم فان لهم مقالا» قلت: وعلى ذلك يحمل ماوقع للحسين بن علي، ثم لأهل المدينة في الحرة، ثم لعبدالله بن الزبير.. الفتح (315/12)
وقال البدر العيني: وان كانوا ممتنعين من الظلم فهم محقون لا يجب قتالهم، بل يجب معاونتهم لأنهم حينئذ خرجوا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاذا علم ان خروجهم لم يكن لظلم لحقهم أو لحق غيرهم، دعوا الى الجماعة والدخول في طاعة الامام، والأصل فيه قوله تعالى:{وان طائفتان من المؤمنين }فاستفدنا من الآية حكمين: أحدهما: ما كان لنا طمع في استصلاحهم ورجوعهم فعلينا ان ندعوهم ونستصلحهم لقوله تعالى {فأصلحوا بينهما} والثاني: أنهم اذا لم يجيبوا الى الصلح والرجوع وأظهروا البغي، وجب علينا قتالهم.البناية شرح الهداية (229/7)
وقال ابن حزم: وأما من دعا الى أمر بمعروف أو نهي عن منكر واظهار القرآن والسنن والحكم بالعدل فليس باغيا، بل الباغي من خالفه.المحلى (335/11)
وقال ابن جماعة: فاذا خرج على الامام طائفة من المسلمين لهم شوكة ومنعة وقصدت خلعه، أو تركت الانقياد لطاعته، أومنعت حقا من الحقوق الواجبة بتأويل أظهرته، ولم يقدر على ردها الى طاعته الا بقتالها، فهم البغاة.فيبدأ السلطان أولا بمراسلتهم بما ينقمونه، ويناظرهم فيما يظنونه، فان ذكروا شبهة أزالها بجواب يرجعون اليه، وان شكوا مظلمة أزالها، فان رجعوا الى طاعته كف عنهم، وان أبوا قاتلهم.(تحرير الأحكام).
وتعليقي على هذه النقول في النقاط التالية:
أولا: الحديث عن بغاة ومقاتلين وليس عن مسالمين يطالبون بحقوقهم.
ثانيا: ورغم ما سبق أجمعوا على وجوب محاورتهم والاستجابة لمظالمهم.
ثالثا: وهذه من أروعها في تحقيق العدل ودفع الظلم، ان هؤلاء البغاة اذا ذكروا مظلمة في دينهم أو أنفسهم يتحولون الى دعاة حق يجب معونتهم والوقوف معهم.
رابعا: التنبيه على انصاف علمائنا، وصدق عبارتهم، وتجردهم للحق وصدعهم به أمام السلاطين والأمراء، فلم يعطوهم صكوكا للفتك بمخالفيهم، ولم يشرعوا لهم قتل البغاة ابتداء فضلا عن المطالبين السلميين، بعكس مانرى من كتابات البعض التي تحرض على المسالمين بوصفهم خوارج وطلاب سلطة وانقلابيين، مما يوغر صدور الأمراء على شعوبهم.
وختاما: تكلم العلماء عن بغاة وخوارج، وما يحدث اليوم ثورة شعوب بأكملها بعلمائها ومثقفيها، بشبابها وكبارها، بنسائها ورجالها، بغنيها وفقيرها، تحركوا يواجهون ظلما عاما في دينهم ودنياهم، فلابد لعلماء الأمة من اعلان موقفهم الصادق في وجه الظلم والظالمين، ولابد من بيان ان الأمم ما دخلت في دين الله أفواجا الا لما رأت من عدالة الاسلام، وتكريمه للانسان، ورفضه لكل أنواع الظلم والطغيان، فهل يعقل ان نحذر من انتحار انسان ونترك من ينحر البشر والانسانية، ونختلف في حكم المظاهرات ونتناسى جور الطغاة الذي حول البلاد الى دول بوليسية، ومعتقلات لشعوبها، وكبت لحرياتها، كيف تثق بنا شعوبنا وهي ترى تقاعسنا عن نصرتها والدفاع عن حقوقها، انا شخصيا يواجهني الكثير داخل البلد وخارجها ويسائلني وأنا في مجال حقوق الانسان يقولون لي: أنتم آخر من كنا نظنه يدخل هذا المجال، فأنتم أبعد مايكون عن الدفاع عن المظلومين، والدفاع عن الحريات الأساسية للشعوب، والسؤال هل نحن فعلا كذلك؟ ولماذا تكونت هذه الفكرة؟ فلنعدل في تقديم الشريعة لأمتنا، ولنعدل في الدفاع عن قضايا أمتنا، ولنكن صفا واحدا مع المظلومين في وجه الظالمين، فالمتقون هم العادلون «اعدلوا هو أقرب للتقوى».
د.عادل الدمخي
رئيس جمعية مقومات حقوق الانسان
أستاذ الحديث في كلية الشريعة والدراسات الاسلامية
جامعة الكويت