أبو عبد المحسن
05-May-2011, 02:10 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله عجب ، ما يقضي الله له من قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له ".
الصبر ثلاثة أقسام :
صبر على الطاعة حتى يفعلها ، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبر ومصابرة ، ومجاهدةٍ لعدوه الظاهر والباطن ، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.
صبرٌ عن المنهي حتى لا يفعله ، فإن النفس ودواعيها وتزيين الشيطان وقرناء السوء تأمره بالمعصية ، وتجرئُه عليها ، فبحسب قوة الصبر يكون تركه لها. قال بعض السلف : أعمال البر يفعلها البر والفاجر ، ولا يقدر على ترك المعاصي إلا صدِّيق.
الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب وهي نوعان :
* نوع لا اختيار للخلق فيه ، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية ، فهذه يسهل الصبر فيها ، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره ، وأنه لا مدخل للناس فيها ، فيصبر إما اضطراراً وإما اختياراً.
* ونوع ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه ، فهذا النوع يصعب الصبر عليه جدًّا ، لأن النفس تستشعر المؤذيَ لها ، وهي تكره الغلبة ، فتطلب الانتقام ، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصدّيقون.
وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والهدى والسرور والأمن ، والقوة في ذات الله ، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له ، وزيادة العلم. ولهذا قال الله تعالى : )وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) . فالصبر واليقين يُنال بهما الإمامة في الدين ، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقَّى العبد في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و)ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة:4) ولهذا قال الله تعالى : )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34) .
ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء :
1- أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد ، حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرّةٌ إلا بإذنه ومشيئته ، فالعباد آلةٌ ، فانظر إلى الذي سلطهم عليك ، ولا تنظر إلى فعلهم بك ، تسترح من الهم والغم.
2- أن يشهد ذنوبه ، وأن الله سلطهم عليه بذنبه ، كما قال تعالى : )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30) . فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه ، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها ، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم.قال علي بن أبي طالب – كرّم الله وجهه – كلمة من جواهر الكلام : " لا يرجوَنَّ عبدٌ إلا ربه ، ولا يخافَنَّ عبدٌ إلا ذنبه. ورُويَ عنه وعن غيره : ما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ ، ولا رُفِعَ إلا بتوبة.
3- أن يشهد العبدُ حُسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر ، كما قال تعالى : )وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40) . ولما كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام : ظالم يأخذ فوق حقه ، ومقتصد يأخذ بقدر حقه ، ومحسن يعفو ويترك حقه ، ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية ، فأولها للمقتصدين ، وأوسطها للسابقين ، وآخرها للظالمين. ويشهد نداء المنادي يوم القيامة : " ألا لِيَقم من وجب أجره على الله " ، فلا يقوم إلا من عفا وأصلح ، وإذا شهد مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء ، سَهُلَ عليه الصبر والعفو.
4- أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه ، ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وإرادة الشر ، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلاً وآجلاً ، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافاً مضاعفة ، ويدخل في قوله تعالى : )الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) ، فيصير محبوباً لله ، ويصير حاله حال من أُخذ منه درهمٌ ، فعُوِّض عليه ألوفاً من الدنانير ، فحينئذ يفرح بما منَّ الله عليه أعظم فرحاً يكون.
5- أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلاًّ يجده في نفسه ، فإذا عفا أعزَّه الله تعالى ، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : " ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزًّّا " . فالعز الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام ، فإن هذا عِزٌّ في الظاهر ، وهو يورث في الباطن ذُلاًّ ، والعفو ذُلٌّ في الباطن ، وهو يورث العز باطناً وظاهراً.
6- أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل ، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب ، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه ، ومن غفر لهم غفر الله له . فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله من جنس عمله ، فيعفو عنه ويصفح ، ويحسن إليه على ذنوبه ، ويسهل عليه عفوه وصبره ، ويكفي العاقل هذه الفائدة.
7- أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه ، وتفرق عليه قلبه ، وفاته من مصالحه ما لا يُمكن استدراكه ، ولعل هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم ، فإذا عفا وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
8- أن انتقامه واسيفاءه وانتصاره لنفسه ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط ، مع أن أذاه أذى الله ، ويتعلق به حقوق الدين ونفسه أشرف الأنفس وأزكاها وأبرها ، وأبعدها من كل خلقٍ مذموم ، وأحقها بكل خلقٍ جميل ، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها ، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله عجب ، ما يقضي الله له من قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له ".
الصبر ثلاثة أقسام :
صبر على الطاعة حتى يفعلها ، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبر ومصابرة ، ومجاهدةٍ لعدوه الظاهر والباطن ، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.
صبرٌ عن المنهي حتى لا يفعله ، فإن النفس ودواعيها وتزيين الشيطان وقرناء السوء تأمره بالمعصية ، وتجرئُه عليها ، فبحسب قوة الصبر يكون تركه لها. قال بعض السلف : أعمال البر يفعلها البر والفاجر ، ولا يقدر على ترك المعاصي إلا صدِّيق.
الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب وهي نوعان :
* نوع لا اختيار للخلق فيه ، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية ، فهذه يسهل الصبر فيها ، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره ، وأنه لا مدخل للناس فيها ، فيصبر إما اضطراراً وإما اختياراً.
* ونوع ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه ، فهذا النوع يصعب الصبر عليه جدًّا ، لأن النفس تستشعر المؤذيَ لها ، وهي تكره الغلبة ، فتطلب الانتقام ، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصدّيقون.
وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والهدى والسرور والأمن ، والقوة في ذات الله ، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له ، وزيادة العلم. ولهذا قال الله تعالى : )وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) . فالصبر واليقين يُنال بهما الإمامة في الدين ، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقَّى العبد في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و)ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة:4) ولهذا قال الله تعالى : )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34) .
ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء :
1- أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد ، حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرّةٌ إلا بإذنه ومشيئته ، فالعباد آلةٌ ، فانظر إلى الذي سلطهم عليك ، ولا تنظر إلى فعلهم بك ، تسترح من الهم والغم.
2- أن يشهد ذنوبه ، وأن الله سلطهم عليه بذنبه ، كما قال تعالى : )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30) . فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه ، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها ، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم.قال علي بن أبي طالب – كرّم الله وجهه – كلمة من جواهر الكلام : " لا يرجوَنَّ عبدٌ إلا ربه ، ولا يخافَنَّ عبدٌ إلا ذنبه. ورُويَ عنه وعن غيره : ما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ ، ولا رُفِعَ إلا بتوبة.
3- أن يشهد العبدُ حُسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر ، كما قال تعالى : )وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40) . ولما كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام : ظالم يأخذ فوق حقه ، ومقتصد يأخذ بقدر حقه ، ومحسن يعفو ويترك حقه ، ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية ، فأولها للمقتصدين ، وأوسطها للسابقين ، وآخرها للظالمين. ويشهد نداء المنادي يوم القيامة : " ألا لِيَقم من وجب أجره على الله " ، فلا يقوم إلا من عفا وأصلح ، وإذا شهد مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء ، سَهُلَ عليه الصبر والعفو.
4- أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه ، ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وإرادة الشر ، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلاً وآجلاً ، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافاً مضاعفة ، ويدخل في قوله تعالى : )الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) ، فيصير محبوباً لله ، ويصير حاله حال من أُخذ منه درهمٌ ، فعُوِّض عليه ألوفاً من الدنانير ، فحينئذ يفرح بما منَّ الله عليه أعظم فرحاً يكون.
5- أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلاًّ يجده في نفسه ، فإذا عفا أعزَّه الله تعالى ، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : " ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزًّّا " . فالعز الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام ، فإن هذا عِزٌّ في الظاهر ، وهو يورث في الباطن ذُلاًّ ، والعفو ذُلٌّ في الباطن ، وهو يورث العز باطناً وظاهراً.
6- أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل ، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب ، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه ، ومن غفر لهم غفر الله له . فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله من جنس عمله ، فيعفو عنه ويصفح ، ويحسن إليه على ذنوبه ، ويسهل عليه عفوه وصبره ، ويكفي العاقل هذه الفائدة.
7- أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه ، وتفرق عليه قلبه ، وفاته من مصالحه ما لا يُمكن استدراكه ، ولعل هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم ، فإذا عفا وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
8- أن انتقامه واسيفاءه وانتصاره لنفسه ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط ، مع أن أذاه أذى الله ، ويتعلق به حقوق الدين ونفسه أشرف الأنفس وأزكاها وأبرها ، وأبعدها من كل خلقٍ مذموم ، وأحقها بكل خلقٍ جميل ، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها ، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب.