الرئيسية التسجيل التحكم


اختيار تصميم الجوال

العودة   الهيـــــــــــــلا *** منتدى قبيلة عتيبة > المنتديات العامة > تاريخ قبائل الجزيرة العربية

« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: البيت لاعجبني اجاريه باحساس (آخر رد :الريشاوي)       :: كل عضو او شاعر يسجل بيتين غزل الفهاا من قصائده .. بشرط ان تكون غزليه فقط .. (آخر رد :الريشاوي)       :: ودي ولا ودي وابيهم ولا ابيه (آخر رد :الريشاوي)       :: واكتبي هذا أنا أنا ليلى العامرية (آخر رد :الريشاوي)       :: البيت لاعْجَبني اجاريه باحساس (آخر رد :الريشاوي)       :: أنـا لا تلوموني ولو ملـت كل الميل (آخر رد :الريشاوي)       :: اوافق .. واقول النفس صعبه مطالبها (آخر رد :الريشاوي)       :: الحب اقفى في ديانا ودودي (آخر رد :الريشاوي)       :: امير قبيلة المحاقنة قبل الدولة السعودية (آخر رد :متعب الوحيدب)       :: امير قبيلة المحاقنة قبل الدولة السعودية (آخر رد :متعب الوحيدب)      

إضافة رد
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
غير مقروء 07-Sep-2009, 12:00 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سويلم المرشدي
عضو
إحصائية العضو





التوقيت


سويلم المرشدي غير متواجد حالياً

افتراضي الصناع ... بين القبول والرفض لواقعهم الحالي

الصناع ... بين القبول والرفض لواقعهم الحالي الذي ارتضاه أجدادهم

قرأت كلاماً غاية بالروعة والجمال في الفصل السابع من كتاب: (حائل قبل مئة عام، تحدث فيه المؤلف عن شريحة هامة من شرائح المجتمع هناك. شريحة ليست بالجديدة ولا الغريبة على مجتمع الجزيرة العربية والمجتمع السعودي تحديداً، فهذه الفئة من الناس موجودين مع كل المجتمعات سواءً المجتمعات الكبيرة المتحضرة في المدن أو بين المجتمعات القبلية سواءً القرويين أو البادية، فصناع المدينة معروفين، وصناع القرية معروفين، وصناع القبيلة معروفين أيضا. ومعروفة أوضاعهم داخل هذه المجتمعات.
إلا أنه خرج من هذه الفئات بعض الأسر وقاموا بمحاولات غريبة ومستميتة في سبيل تغيير هوياتهم الحالية إلى هويات جديدة، ومحاولة التسمي أو الانتساب إلى أعراق أو أصول غير الأصول التي جاءوا منها أساساً، كأن يحاول مثلاً صناع المدينة عمل شجرة عائلة يقومون فيها بنسبة أنفسهم إلى أحد القبائل العربية المعروفة ويتبعون من أجل تحقيق هذا الهدف كل السبل الممكنة لتحقيق هذه الغاية. وصناع القرية يعملون العمل نفسه وينسبون أنفسهم إلى القبيلة التي يعيشون معها كصناع (حرفيين) لها. ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل تحقيق هذه الغاية أيضا.
وهذا بالطبع أمر غير صحيح ولا مقبول من جميع النواحي سواءً الدينية أو الاجتماعية. فالإسلام نهى عن الانتساب إلى غير الأب وهذا ثابت بالأحاديث والنصوص الشرعية، والعرف الاجتماعي أيضا يحارب هذا النوع من الانصهار والتمازج بين الأعراق. فمن غير المنطق أن يأتي من يجهل نسبه وينتمي إلى فئة صريحة في نسبها!. لما لذلك الخلط من آثار اجتماعية سيئة لمخالفاتها لتعاليم الدين والعرف.
والدراسة التالية توضح وضع اجتماعي صحيح لهذه الفئة (الصناع) في منطقة محددة من المملكة العربية السعودية، وتبين جوانب مضيئة للصناع وواقع اجتماعي واضح النهج لهم ولنمط الحياة التي يعيشون بها بين أخوانهم أبناء القبائل. والذي لا يختلف عن نمط حياة القبائل (صريحي النسب)، لسبب بسيط أنهم لم يدعوا انتسابهم لأصول هذه القبيلة أو تلك التي عاشوا معها كصناع، بل رضوا بواقعهم الذي وجدوا آباءهم وأجدادهم عليه وعاشوا حياة كريمة هانئة كما تصفهم الدراسة التالية- بأنه لا يختلف الصناع عن غيرهم من القبائل سوى في جانب واحد فقط وهو جانب المصاهرة والاختلاط في موضوع الأنساب، وهذا هو المهم، فعندما تقف الأمور على هذا الحد وكل يعرف إلى من ينتمي تستمر الأمور طبيعية، ولا خلاف في ذلك فكل له طابعه الاجتماعي الخاص به. فلا تعدي على نسب أحد ولا طعن في نسب أحد من الفئتين. لأن الأجداد لكلى الفئتين ارتضوا لأنفسهم هذا الوضع، فالصانع سلك طريق العيش بطريقته الخاصة التي رسمها نهجاً لحياته فلا ضير عنده في امتهان أي عمل يدر عليه مال ليعيش منه ولا ضيّر عنده أيضا في مصاهرة من شاء من الناس درى نسبه أو جهِله تماشياً مع وضعه.
وهذا عكس القبلي المنتمي إلى قبيلة لها شروطها وقوانينها التي تحدد للفرد نمط العيش والمصاهرة والتركيز على عدم مصاهرة مجهولي النسب مهما كانت الأسباب. بل أنهم في البادية ولدى بعض القبائل المعروفة يمكن لأحد أبناءهم أن يتزوج من (قينة) أي أمة سوداء مملوكة، ولا يتزوج من أخرى مجهولة النسب كالصناع!!.
ومن هنا بدأت الأجيال المتأخرة من فئة الصناع تحاول كسر هذا الحاجز الوحيد الذي يفصل بينهم وبين القبائل –صريحة النسب- وهذا ما خلق مشكلة كبيرة يعاني منها الطرفين ونظام الدولة الذي يحرص على ردم مثل هذه الهوة أو على الأقل عدم إثارتها في المجتمع حتى يكون هناك وعيّ وفهم لبساطة هذا الوضع وأنه بإمكان الفئتين التعايش بأمن وسلام ما دام أن هناك عقليات من هذه الفئات يمكن أن تفكر وتتمعن في أصل المشكلة كما جاء في الدراسة التالية التي أرى إنها أقرب الحلول للتعايش بدون فوارق اجتماعية ظاهرة قد تحدث شرخ بين الفئتين، حيث تقول الدراسة: التي قام بها الأستاذ سليمان عبدالعزيز العتيق في كتابه (حائل قبل مئة عام. سيرة مدينة ... في سيرة رجل) في فصله السابع تحت عنوان: الصنّاع. ما يلي:
رابط الغلاف:

اضغط على الصورة لرؤيتها بالحجم الطبيعي

الفصل السابع
الصناع
عبد الكريم الطارق وأخوه سالم: ينتمون إلى عائلة من عوائل صنّاع حائل، كما هي الحال في غالبية أهل (لبده) وما حولها، وفي كثير من حاضرة هذه المدينة. والصنّاع هؤلاء: شريحة من شريحتين رئيستين، تتكون منهما الغالبية العظمى من سكان المدينة وبعض قراها؛ وقد أُطلق عليهم اسم الصنّاع اصطلاحاً، وإن لم يكونوا في حقيقة أمرهم يمتهنون الصنعة، أي الحدادة أو النجارة، والقليل النادر من كان منهم حداداً أو نجاراً. غير أنهم لا يأنفون من هذه الصنعة ولا يرونها تعيب صاحبها ولا يجدون ضيراً في مصاهرة من يمتهنها. وهذا بخلاف الشريحة الرئيسة الثانية: التي تكوّن مع الصناع كما قلنا غالبية هذا المجتمع، وهم من اصطلح على تسميتهم بالحررة (جمع حر). وهم القبيليون فهم – أي الحررة – يأنفون من امتهان الصنعة، ويرونها لا تليق بهم ولا بأصهارهم، ويجعلون منها ومن امتهانها أو مصاهرة من يمتهنها، حداً فاصلاً بينهم وبين شريحة الصناع. وهؤلاء الحررة ينتمون إلي قبائل عربية معروفة, مثل شمر وبني تميم وحرب وعنزه وغيرهم من القبائل.

متى يظهر التفريق بين القبائل والصناع:
لا يظهر في الحياة العملية هذا المفترق الذي يفصل بين الشريحتين القبائل والصناع, إلا في قضية واحدة فقط، هي قضية المصاهرة والزواج. أما ما عدا ذلك من تفاعلات المجتمع، وتقلبات وتصاريف الحياة، وما تقتضيه المعايشة والمجاورة والتعامل.

صور من طبيعة العلاقة بين القبائل والصناع:
العلاقات التي تقوم بين أفراد هاتين الشريحتين من المجتمع –القبائل والصناع- تبدو كأفضل ما تكون عليه علاقة البشر فيما بينهم من:
- تلاحم واحترام متبادل.
- تعامل وتعاون وتعاضد وصداقات.
- وجاهة وتصدي للمهمات والملمات.
- إقدام عند الشدائد والحروب والأزمات, وعند كل أمر هو ذي شأن.
كل ذلك وغيره من شئون الحياة، فلا فرق ولا تمييز بين هاتين الشريحتين فيما بينهما، وفي نظرتهما لبعضهما البعض، وفي نظرة الناس جميعاً حكاماً ومحكومين لهما، وفي نظرة كل من له صلة أو احتكاك بهذا المجتمع، حرباً أو سلماً متاجرة أو مرافقة أو مجالسة, فالكل أمام المسؤوليات في الشدائد، وأمام الأريحيات والسخاء في الرخاء، وأمام مكارم الأخلاق، ومعاني العفة والفزعات في كل مناحي الحياة، الكل أمام ذلك سواء، فلا يطلب أو يطالب فرد من إحدى الشريحتين، بما لا يطالب به مثيله من الشريحة الأخرى، ولا يعتمد على فلان من الناس أو يكلف بأمر من أمور الرجولة أو الوجاهة، بناء على انتمائه إلى شريحة بعينها. بل الجميع أمام ذلك سواء، ولا فرق بين الصانع والحر في ذلك.
كل هذه الأمور وما تتطلبه من مواقف، يتصدى لها الجميع على حد السواء، ويواجهونها مواجهة متماثلة، كتماثل الند للند.
لقد خاض هؤلاء وأولئك غمار هذه الحياة، وكابدوا مصاعبها وعالجوا أمورها كلها، على حد سواء.
ففي الشدائد والحروب: يقف الجميع في صف واحد، لا فرق بينهما، في الثبات وفي التضحية والاستبسال، وفي الإقدام وعدم التخلف، وفي كثافة المشاركة وعدد الرجال. وكذلك هم في الوجاهة والسعي بحوائج الناس، والدفاع عن حقوقهم والمنافحة عن مصالحهم، وتشريفهم بالمناسبات والاستقبالات والضيافات, فهؤلاء وأولئك سواء بسواء. وهم في الاستقامة على الدين والعبادة والعفة والطهارة فهؤلاء وبيوتهم ونساؤهم وأولئك سواء بسواء. وفي الكرم ومواقف الشهامة هم كذلك على حد سواء. فلا ينتظر من هذا أو ذاك عمل من هذه الأعمال: شجاعة وأقداماً وسخاء وتضحية وعفة وطهارة؛ لا ينتظر من هذا أو ذاك من هذه الأمور وغيرها، مل لا ينتظر من موازينه ومماثله من الشريحة الثانية، بل إن مقياس كل هذه الأمور، لا ترد عند الجميع إلى كونه حراً أو صانعاً. فهم كما أنهم أمام الله سواء، فهم أمام بعضهم البعض وأمام عرف مجتمعهم، وميزانه الذي يزن به الأعمال والرجال سواء.
ثم امتداداً لهذه النظرة وتوافقاً مع هذا التعميم: تشكلت شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراد هذا المجتمع، بناءاً على ذلك.
وكانت علاقاتهم الحياتية العملية، تطبيقاً وتصديقاً لنظرتهم تلك, فالصداقات تجمع بين الحر والصانع، جمعاً مستفيضاً بين عدد غير محدود من هؤلاء الناس، بحيث أنها لا تحتاج إلى من يدلل عليها.
وإنها لتستعصي لكثرتها واستفاضتها على الحصر والتعداد. وأعني بالصدقة: تلك العلاقة التي تتوثق عراها وتقوى أواصرها وتمتد وشائجها، لتشمل الحياة كلها، حتى لتكاد أن تكون أكثر متانة وأشد قوة من صلة اللحم والدم، من حيث التواصل والمحبة والبر والتشاور، وإبداء الأسرار والاستئناس بالمجالسة والمنادمة.
ومثل الصداقات تكون الشبات: وهي نوع من الصداقة القائمة على المسامرة. (والشبة) تعني مجموعة من الأصدقاء، يلتقون في كل ليلة، في بيت واحد منهم بالتناوب. يسمرون ويتحادثون ويأنس ويمازح بعضهم البعض، ويخرجون (بقيلات) أي رحلات برية معاً، وهذه الشبات تتكون من أعداد تتراوح بين الخمسة إلى خمسة عشر، وليس بالضرورة أن يكونوا من حارة واحدة، أو من حارات متقاربة. بخلاف (الجماعة): والذين هم مجموعة مماثلة كالسبة، ولكنهم يسكنون حارة واحدة. فكل حارة من حارات حائل يتألف من رجالها، جماعة يلتقون على فترتين باليوم والليلة, إحداهما بين الظهر والعصر، والفترة الثانية بين العشاءين. ولقاء الشبة والجماعة، لا شك أنه لقاء ينبني على نوع من الصداقة والانسجام والتوافق، بالأمزجة والرغبات والاستئناس بالمجالسة.
والشبة والجماعة مظهر آخر، يتمثل به مدى التلاحم والتوافق بين أفراد الشريحتين الحررة والصناع في حائل. فتلك المجموعات تتكون من أفراد من الشريحتين، بلا تفريق ولا انتقاء ولا تمييز. ومثل ذلك كذلك ينسحب على الشراكات، في ضروب التجارة والمزارعة والحدرات والسفرات والتغريبات الطويلة والقصيرة.
ومثل هذا التفاعل والتلاحم، يظهر بارزاً جلياً وبقوة فاعلة في الجيرة والتجاور بالمسكن. فإن الصلة القائمة بين الجيران من أفراد هاتين الشريحتين، صلة بارزة جلية ظاهرة، لا من حيث كثرتها وتوافرها فحسب، بل ومن حيث أيضا قوتها ومدى رسوخها ومتانتها وتمسك الجميع بأهدابها، وتطاولها وامتدادها لتشمل أجيالاً متعاقبة؛ بحيث يصبح الجيران فيما بين أفرادهم، شيوخاً وشباباً ذكوراً وإناثاً وصبياناً وبنات، وكأنهم أهل بيت واحد. يسعدون لسعادة جيرانهم، ويشقون لشقائهم، ويفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم.
من هم الصناع؟:
نقول كل ما تقدم ونؤكد علبه: ثم نمضي ونقول عن هؤلاء الصناع أي شئ هم؟ من هم؟ ومن أين جاؤا وكيف تكونوا؟ ثم كيف تحلوا بهذا القبول والتواؤم مع جيرانهم من أبناء القبائل؟.
إنهم مجموعات بشريه من قبائل عربية، (وغير عربية) استقرت قديماً في حواضر نجد، وانقطعت صلاتها بقبائلها. وفدت هذه المجموعات البشرية إلى هذه البلاد، كما هي الحال بجيرانهم من أبناء القبائل, إلا أن قدوم هؤلاء جاء على فترات متفرقة من الأزمنة، وبأعداد قليلة، قد تقل فتكون فراداً واحداً منفرداً، أو تكثر فلا تتجاوز أسرة صغيرة تتكون من عدة أفراد( ).
والفرد أو المجموعة الأفراد، يقدمون إلى مجتمع قبلي متماسك قائم بذاته، لا يخالطه غرباء، وتسوده روح قبيلة قوية واحدة، أو عدة قبائل متعارفه ومتقاربه. سيجدون صعوبة بالغة بالاندماج بهذا المجتمع، وسيبذلون جهداً ووقتاً غير يسير، قبل أن يتم انصهارهم في بيئتهم الجديدة، وقبل أن يتم قبولهم والتعامل معهم من قبل جيرانهم، وحتى يحدث ذلك: تجدهم يتوجهون مندفعين لأقرب عناصر هذا المجتمع استجابة لهم. وليس أقرب في حالة هؤلاء الصناع من أمثالهم من الوافدين على شاكلتهم.
وهكذا تألفت وتجمعت هذه العناصر الوافدة المتفردة حول بعضها؛ لتؤلف مجموعة بشرية في هذا الوسط الذي حلت به، وتؤلف مجتمعاً داخل المجتمع، له روابطه وصلاته ومصاهراته وأرحامه وقراباته.
وحركات التاريخ تقول: إن سكان حائل كقبيلة شمر وغيرها, كانوا كهؤلاء الصناع وافدين إلى هذه الديار من كل فج عميق؛ وذلك بعد أن انحسر ظل طي عن سفوح أجأ, فتفرقت هذه القبيلة وتلاشت حينما بهيج (حدروه السناعيس من عقدة اللي ما يزحزح قناها) كما قال شاعرهم. فلم يتبق من طيء إلا من تحضر وانصهر في حواضر حائل، مثل موقق وفيد وجبة وطابة وبقعاء وغيرها. وهم أي طيء الذين كانوا فيما مضى سكان هذه الأرض وعامريها منذ ما قبل القرن العاشر الهجري. فحلت بذلك قبيلة شمر محل طيء حسب ما هو متواتر في كتب التاريخ, وعلى هذا النحو وفدت قبائل أخرى وحلت في حائل، لتشكل مجتمعها المعروف بحدود القرون الثلاثة الماضية.
غير أن قدوم هذه القبائل إلي حائل، لم يكن كقدوم هؤلاء الصناع، أفراداً وجماعات متفرقة، بل إن هذه القبائل قد زحفت إلى هذه الأرض ودخلتها واستقرت بها، على شكل كيان قائم متماسك، أي كقبيلة كاملة بأفخاذها وتفريعاتها وتعاضدها وتلاحمها، فلم يكن هذا القدوم إلى أرض جديدة نزوح غربة، ولم تشعر القبيلة في موطنها الجديد بالغربة والاغتراب، لأن الوضع في هذه الحال، يشكل انتقال مجتمع كامل بصلاته ومصاهرته وكافة روابطه الاجتماعية، ينتقل هذا المجتمع هذه النقلة، ويظل الفرد يعايش محيطه وقراباته وجيرانه وعزوته كلها فيما استجد له من موطن؛ كما كان يعايش كل ذلك في مواطنه السابقة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الانتقال من موطن إلى آخر،لا يعني لدى القبيلة اغتراباً، ولا يسمى غربة. لكون الارتحال وتغيير الديار ديدن هذه القبائل، بحثاً عن مواطن الخصب والكلأ. فلم تكن الأرض والارتباط بها تشكل عنصراً قوياً في تكوين المجتمعات القبلية بل كانت القبيلة هي الوطن.
غير أن قدوم هؤلاء الصناع إلى هذا المجتمع، كأفراد أو كمجموعات قليلة، جعل هذا المجتمع يستقبلهم في حينها كعناصر من خارج القبيلة وممانعة؛ ويتعامل معهم كما يتعامل أي وسط اجتماعي وتجمع بشري؛ مع أية عناصر من خارجه وغريبة عنه. وإن هذا الأمر لمعروف ومشاهد في كل زمان ومكان، حتى ولو كان هذا الغريب كما هي الحال في هؤلاء، ينتمي إلى قبائل معروفة، وحتى لو كان المجتمع الذي يفدون إليه على علم بقبائلهم ومكانتها وعراقتها، فإنه سوف يتوقف كثيراً ويمتنع أكثر, عن إندماجهم في رحمه وخاصة فيما يتعلق بأمر المصاهرة والتزاوج, وذلك هو ما حدث لهؤلاء الوافدين إلى مجتمع قبائل حائل للأسباب التالية:
أولاً: أن هذه القبائل المقيمة في حائل، هي من الاكتفاء والاستغناء ببعضها البعض، بحيث لم تكن بحاجة إلى التسرع بمصاهرة هذا القادم المتفرد، وتلك حالة يشهدها المرء كما أشرنا في كل تجمع، يستغني بعناصره عن الانجذاب إلى القادم الجديد وخاصة في أمر المصاهرة.
ثانياً: يكون هذا التوقف والممانعة في حالة القبيلة أقوى وأشد؛ وذلك لشيوع وتأصل العادة التي تجعل الأولوية والأحقية بالزواج من الفتاة، لابن عمها القريب أو البعيد ما لم يرغب ابن العم خلاف ذلك. وقد تصل في أحايين كثيرة إلى حد (تحييرها): أي الحجر عليها من قبل ابن العم هذا. فلا تتزوج الفتاة إلا من ابن العم الذي حيرها، إلا أن يتنازل ابن عمها عن ذلك، استجابة لطلب يتقدم به أي خاطب، (بالفلوس أو بالناموس كما يقال). وحتى أبوها وولي أمرها، فهو لا يملك حق التصرف بتزويج ابنته من أي خاطب يتقدم لها، مهما كانت قيمة هذا الخاطب، ومهما كان اعتباره، ومهما كان الأب والأهل جميعاً راغبين بتزويجه. فلن يتم شيء من ذلك خارج إرادة ابن العم البنت الذي حيرها.
هذا ما يحدث والفتاة بصدد الزواج من أحد أفراد القبيلة، أما الزواج من خارج هذه القبيلة، فهذا أمر لا يحدث إلا نادراً واستثناءً. وتلك عادة قائمة متأصلة عند القبائل كلها.
من هنا افترق الطريق وتحددت أُطر العلاقة بين الشريحتين، وتم الاتفاق ضمناً على استبعاد المصاهرة من هذه العلاقة، وأصبح هؤلاء الصناع مجتمعاً داخل مجتمع، يتزاوجون فيما بينهم وتشكل وشائج القربى وتتواصل روابط الرحم، ليألف من كل ذلك كيان قائم بذاته.
وظل أبناء القبائل كذلك مجموعة أخرى، تتصاهر فيما بينهم, لها قراباتها ولها أرحامها ولها أصهارها.
هذه الأسباب التي ذكرنا، هي التي منعت المصاهرة بين الشريحتين، وهي العلة التي أوجدت مفترق المصاهرة، وجعلتهما لا يلتقيان في هذا الأمر كالتقائهما في أمور الحياة كلها. وليست العلة في ذلك كون هؤلاء الصناع مجهولي الأنساب، أو لم يكونوا من قبائل معروفة كما أسلفنا، والدليل على صحة ذلك: أن من بين هؤلاء الصناع من هم ينتمون إلى قبائل معروفة، وأنسابهم في ذلك مشهورة وصريحة وثابتة عند الجميع، ولا يزال أبناء عمومتهم يحملون أسماءهم وأسماء أفخاذهم في قبائلهم التي نزحوا منها.
بالإضافة إلى ذلك: فإن احترام هذا المجتمع لهؤلاء الناس, وإقامة الاعتبار الكامل لهم، وفي كل الأحوال والمناسبات وعلى الوجه الذي أوضحناه فيما سبق، والذي يشهد به الجميع، لهو دليل قاطع وقوي على أن افتراق المصاهرة، لم يحصل نتيجة التقليل من قيمة هؤلاء أو من قيمة أنسابهم، بل جاء ذلك نتيجة للأسباب التي ذكرنا فيما قبل: وهي استغناء أبناء كل قبيلة بأفرادها, والعزوف عن الاندفاع لمصاهرة هذا الغريب عنها، بالإضافة إلى عادة انكفاء القبيلة على ذاتها، بحيث لا تزوج ولا تتزوج في الأغلب الأعم، إلا بعضها من بعض، كسبب آخر لذلك المفترق.
غير أن هذا المفترق بالمصاهرة، لم يضر هؤلاء الصناع، ولم يحز في نفوسهم، ولم يقلل من قيمتهم في نظر أنفسهم ولا في نظر جيرانهم. كما أنه لم يورث حقداً أو ضغينة لديهم على هؤلاء الجيران، بل لقد عذروهم في دخائل أنفسهم بناء على قاعدة (من لا يعرفك لا يثمنك). فتقبلوا هذا الأمر برحابة صدر وثقة بالنفس, واستقر في نفوسهم وأدبياتهم، أن لأولئك قراباتهم ولنا قراباتنا، ولهم أصهارهم ولنا أصهارنا، ولنا منهم ولهم منا، حسن الجوار وحسن المعشر والصحبة والتعاون والتكاتف والتآخي؛ واستغني كل فيمن عنده في مسألة الزواج والمصاهرة. ومضت حياتهم جميعاً على النحو، رضية هانئة تسودها روح الأخوة والمحبة والاحترام المتبادل، على الوجه الذي فصلناه فيما سبق.
عاش هؤلاء الصناع في هذا المجتمع، عيشة كريمة فاضلة مجيدة, رؤسهم مرفوعة، تشهد لهم أعمالهم وعلاقتهم وتضحياتهم وتفانيهم وبذلهم للغالي والرخيص؛ من أجل مجتمعهم ووطنهم ومن أجل جيرانهم ومن أجل كرامة ذواتهم؛ يشهد لهم كل ذلك بطيب معدنهم وعلو همتهم.
عاشوا كأفضل ما تعيش مجموعة بشرية، تسودها روح التعاون والتآخي، وتحكمها معاني العفة والشهامة والاستقامة وكف الأذى ومد يد العون والأخوة؛ لمحيطهم ولمن حولهم. شاركوا في كل فعاليات مجتمعهم، وأسهموا بسهم وافر في حياة هذا المجتمع، ونموه وتطوره وعزته وكرامته. وأصبح لهم نتيجة ذلك ثقلهم: وصاروا يشكلون قوة مؤثرة فاعلة، وشهد لهم بذلك كل ذي ذمة وعقل وبصيرة.

الصناع مجتمع فاضل:
أقام هؤلاء الناس نموذجاً فريداً للمجتمع الفاضل المترابط المتماسك، الذي تسوده روح من النقاء والصفاء والأثرة، وتظله معاني الرحمة والتواصل والإخاء، حتى لقد أصبح كل من حولهم يخطب ودهم ويهفو إلى جيرتهم، ويثق ويطمئن للتعامل معهم.
عندما أصل إلى هذا الحد من الإطراء والثناء على أبناء هذه الشريحة، أجد نفسي مضطراً على التأكيد أن ليس فيما ذكرت شيء من المبالغة، وليس به ما يجانب الحقيقة. بل إن ما قلته هو الحقيقة بعينها: يقولها خبير بها، يعرف خفايا القوم وأسرارهم ويعرف تطلعاتهم وآمالهم، وحبهم للخير وأهلة. لا يحتقرون أحداً ولا يهضمون حق أحد، ولا يقبلون النقيصة ولا يقرونها من أحد، حتى ولو كان أقرب الناس إليهم.
لقد وصل هؤلاء الناس إلى هذه المكانة، واعتلوا هذه المرتبة, من احترام الذات واحترام الغير، وتوثيق الصلات والتروع إلى الخير والصلاح والنفع العام، استجابة لعدة عوامل أحصرها فيما يلي:
أولا: إن النزوع إلى الاغتراب وتغير الأوطان وتحت أي دافع ومهما كانت الأسباب، هو عمل من أعمال الرجولة والشجاعة, لا يقدم عليه إلا ذو فضل وقوة، وذو عزيمة وطموح وتصميم وإرادة.
فالضعفاء لا يغتربون، يعجزهم ضعفهم وخورهم عن ذلك. والهمة الخائرة تقعد بصاحبها حيث هو، تعجزه عن النهوض وتسلمه إلى الهوان وتشده إلى واقعه، سواء ارتضى هذا الواقع أم لم يرتضه, ومهما الحت عليه دواعي الهجرة والنزوح، اضطهاداً أو قلة ذات يد, أو حتى لو اجترح من الأعمال ما يسقطه ويسقط اعتباره في نظر مجتمعه، يظل هذا الضعيف الخائر قاعداً حيث هو، عاجزاً عن الانعتاق من محيطه والتحرر من واقعه، غير قادر على استشراف آفاق أرحب في الحياة والكرامة. وهذا المعنى توحي به الآية الكريمة في سورة النساء (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) فهؤلاء الذين عددتهم الآية الكريمة، هم المعذورون بالقعود عن الهجرة لعجزهم وقلة حيلتهم. وإن كان الذي تعنيه الآية أمر الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، إلا أننا نستقي منها شاهداً علي ما نقوله: من أن الأقوياء القادرين هم المطالبون بالهجرة والنزوع إليها.
فالهجرة والاغتراب عملية انتقاء، لعناصر فذة قوية ومؤثرة, تأنف من الركون إلى الضعة، أو الاستسلام لقلة الحيلة والقعود عن علو الهمة. فوحدهم هم الأقوياء الأفذاذ الذين يغتربون. يتحدون الظروف ويطمحون إلى الأفضل. هم الذين يتخطون المصاعب لتجاوز الواقع سيراً إلى الأمام.
ولا شك أن هذه الشريحة من المجتمع، وهي تبني لنفسها هذه المكانة، وترسم لمجتمعها هذا الإطار المتميز الذي فرض احترامه على محيطه، وأثبت في مختلف الظروف والأحداث جدارته، وهو يعيش عصامية مجردة، بلا قبيلة تحمي ظهره وبلا عصبية تجمع شتاته. لاشك بأن هذه المكونات، قد تولدت استجابة لنوازع وصفات ذاتية, توافرت في عناصر هذه الشريحة، كان للغربة والاغتراب إسهام في انتقائها وتميزها.
يحكون: أنه قد أجتمع في مجلس الأمير محمد بن رشيد، عدد من مشاهير كرماء العرب، فرحب بهم الأمير وأثني على عاطر ذكرهم وأشاد بكرمهم وأريحيتهم. ثم إنه ألقى عليهم (يوم الله جمعهم) كما قال: سؤالا طالما حاك في نفسه، وطلب منهم الإجابة عليه، حيث قال: إنه يسألهم، وهم الذين يعتزون بكرمهم ويفخرون بجودهم وسخائهم، أيهم أكرم؟ فلم يجيبوا ولزموا الصمت، وطال صمتهم فلم يجرأ أحد منهم أن يدعي لنفسه الأفضلية على الآخرين. وبعد أن ألح الأمير بالسؤال، وكرره وأعاده، قام أحدهم وقال بملء فيه:
- أنا يا طويل العمر أكرمهم وأسخاهم.
- فقال له الأمير: وما دليلك على ذلك؟
- فرد قائلاً: إن جميع هؤلاء الرجال، من بيوت كرم، توارثوا الكرم عن آبائهم، وبيوتهم معروفة مشهورة بهذا الكرم فيمن قبلهم، فهم كما قال: (ركبوا شداداً مشدوداً). ثم أنهم لم يستطيعوا أن يتخلفوا عن مسيرة أهليهم وعمن كان قبلهم. إلا أنا فإن بيت أهلي لم يُعرف بالكرم ولم يشتهر به. ولم أكن مطالباً أو ملزماً أن أواصل مسيرة من سبقني, وإنما كرمي جاء مني ومن ذاتي، وأنا السباق إليه.
- فقال له الأمير: صدقت.. وأقر له الجميع ذلك.
يتناقل الناس هذه الحكاية ثناءاً على الأجواد، فالذين يتدفق جودهم وكرمهم وحسن سيرتهم، من ذواتهم ولا تأخذهم إلى ذلك وتلزمهم به عادة معتادة، ولا تقودهم إليه خطوات رسمها من كان قبلهم.
مثل حال هذا العصامي الكريم: جاءت حال هؤلاء الذين تدفق جودهم وكرمهم وحسن سيرتهم فيضاً من ذواتهم.
ثم إن عملية التزاوج بين أفراد هذه الشريحة، وهم الذين يتألفون من أرومات متعددة ومن أعراق متباعدة، حقق مزيداً من الانتقائية والانتخاب، لأفضل هذه العناصر والأعراق، حسب ما يقوله علم الأجناس، وحسب ما ورد في الأثر الذي يقول: (اغتربوا لا تضووا).
العامل الثاني الذي كان له الأثر في بناء مجتمع هذه الشريحة، وتكوين نسيجه، وتشكيل قيمه ومقوماته، هو أنهم قد وفقوا بمجاورة هذه القبائل العربية الكريمة، التي وفدت إلى حائل واستقرت بها. وعلى رأسها قبيلة شمر وقبيلة بني تميم. وهما قبيلتان كريمتان، منيعتا الجانب. من جاورهما وخالطهما لا يناله منهما إلا عز الجانب وحسن الجيرة، فما عرف عن هاتين القبيلتين من كرم وعزة وشجاعة وشهامة ونخوة، تجعل من الاحتكاك بهما ومعايشتهما، سبباً قوياً لحمل كل هذه القيم والتطبع بطبائعها، لمن كان لديه الاستعداد والقابلية لذلك.. (الاجواد وإن قاربتهم ما تملهم).
لقد اندمج هؤلاء الناس في هذا المجتمع، واختلطوا به وتفاعلوا مع أهلة، في كل مسارب الحياة، على الوجه الذي أوضحنا، وخاصة قبيلة شمر، التي كان ظلها ضاف على هذه الديار، حتى أن الجبل تسمى باسمها وكان حكام هذا الجبل منذ أن حلت هذه القبيلة في حائل كان الحكام منهم؛ ابتداء من آل علي ثم آل رشيد( ).
هؤلاء الصناع، بما جاؤوا يحملونه من قيم فاضلة في نفوسهم, وتميز في ذواتهم، وانتقائية في عزائمهم. كان لهم مع ذلك شرف مجاورة هذه القبائل الكريمة، والتفاعل معها ومع قيمتها وفضائلها, والتأثر والتأثير بمحيطهم ذاك، ومن المعلوم أن للبيئة والمحيط أثراً بالغاً ومؤثراً على سلوكيات الإنسان وتوجهاته؛ مما جعل لاندماج وتفاعل قيم هاتين القبيلتين، مع قيم هؤلاء الصناع، أثر واضحاً وجلياً، بتكوين هذا المجتمع الفاضل، وانصهار كل عناصره في بوتقة واحدة متجانسة ومتماثلة، تحمل كل معاني العزة والكرامة.
ويمكن لسائل أن يسأل ويقول: أن كل ما ذكر من هذه الصفات الحميدة، وما تميز به هؤلاء الناس من أفضلية، وما نالوه من مكانة، لا نرى له كبير أثر في أبيات هذه المنطقة شعراً أو نثراً، فلم ينل هؤلاء الناس من التمجيد والثناء، ما يتناسب مع ما ذكرناه، من صفات وأعمال جليلة ومكانة عالية وصلوا إليها. فلم يتناول الشعر مدحاً لهم وثناء عليهم، إلا بالنزر اليسير, كذلك لم تدون وتتناقل الحكايات والقصص عن بطولات أو أعمال جليلة يذكرون بها. وأن ما ذكر في هذا الصدد لا يفي بحق مكانتهم العالية، وبأعمالهم الجلية، وبالثناء الذي يستحقونه.
هذا التساؤل حق وواقع: ويقرر حقيقة ملموسة ومشاهدة.
فما ورد لهؤلاء الناس من ذكر في أبيات هذه المنطقة، لم يكن ليتناسب مع ما كان لهم من مكانة ومشاركة بتاريخ هذه البلاد. وما تحلوا به من حسن سيرة وجليل أعمال. وذلك لسببين رئيسين هما:
أولاً: أن هؤلاء الناس حضر، كلهم ومن كلتا الشريحتين الحررة والصناع، كانوا في هذا الأمر سواء. فلم يكن ذكرهم والثناء عليهم، متناسباً مع مكانتهم وعظيم قدرهم. بخلاف البدو الذين كان لهم السهم المعلى في أبيات هذه البلاد. كما هي الحال في بلاد الجزيرة كلها. وذلك يرجع لصاحب الشأن ذاته, وما يملكه من مقدرة ومهارة في هذا السبيل. فالبدوي يملك من القدرة على الإبداع والتذوق والرواية والإلقاء، شعراً ونثراً مالا يملكه الحضري. فالحضر أناس تشغلهم أمور حياتهم من أعمال الزراعة والتجارة وغيرها، عن التفرغ لذلك وإتقانه. كما أن لحصونهم ودورهم دوراً، في إكسابهم مزيداً من الأمان والطمأنينة, التي تسلمهم إلى مزيد من الدعة والسكينة، وتزهدهم وتغنيهم عن كل دواعي الإثارة والتحفز، وشحذ الهمة والترقب. وذلك بخلاف البدوي، الذي كانت شجاعته ويقظته وشحذ همته، هي حصنه الذي يركن إليه، وهو يعيش في صحرائه بلا حصون تؤويه, ولا دولة ينظوي تحت لوائها. فكان لسجل البطولات وتمجيدها وتلقينها لأفراد القبيلة كابر عن كابر، أعظم الاهتمام وعظيم العناية لديهم، وذلك لشحذ الهمة والترقب والتحفز دوماً، للدفاع والمواجهة، فكان الإبداع شعراً ونثراً طريق ذلك ووسيلة.
ثانياً: المدح والثناء والمفاخرة عند الحاضرة، يتوجه في الأعم الأغلب إلى الدولة التي ينظوون تحت لوائها، ويحتمون بحماها، ولا يرون لأنفسهم قوة ولا بطولة وشجاعة، إلا باجتماعهم تحت رايتها وسيرهم بقيادتها. واعتادوا على صرف كل مديح ومفاخرة إلى هذه القيادة، ونأوا بأنفسهم عن ذلك، وألفوا هذا الخطاب. حتى أصبح مدح الذات أو القرابات من الأمور التي لا تجد قبولاً ولا استحساناً لديهم. وفي هذا السياق يقول ابن قبال(1) رداً على مفاخرة دغيم الظلماوي بكرمه، مراجعاً كل الفخر والثناء، إلى الأمير محمد بن رشيد حيث يقول:
الضيغمي كل الراجل بعبه *** وحنا نلقط ما وقع بالتراب( )

كانت حياة هؤلاء الناس حياة رضية شكورة، تظلها السكينة وتحفها الطمأنينة وتزينها الرحمة والتقوى والإحسان. لم تكن أعمالهم وأفضالهم ومآثرهم، تتفجر من معين المفاخرة والمباهاة والتعالي على الآخرين.عندما أقدم أحد أغنيائهم على توسيع وتضخيم وليمة زواج ابنه، ودعا إليها أهل سبعة مساجد، أي سبع حارات, وذلك خلاف المعتاد، خشي عقلاؤهم أن يكون ذلك مفتاح مفاخرة وبداية عادة، يلتزم بها الجميع قويهم وضعيفهم غنيهم وفقيرهم، مما ترتب على ذلك من أعباء وتكاليف لا يقدر عليها إلا القليلون. اجتمع أولئك الوجهاء وأقروا قانوناً يقول: بأن الوليمة عندما تقام في حي من الأحياء، فلا يدعى إليها إلا أهل الحي وحدهم، والذين هم يصلون في مسجد واحد. (وعيب ونقيصة): على كل من حضر وليمة لم تقم في حيه وفي جماعة مسجده.
وحادثه مثل هذه يعقد من أجلها اجتماع، ويقر قرار يلتزم به الجميع، تدل على مدى زهد هؤلاء بالمبالغة والتباهي، ومدى رغبتهم بالرفق والواقعية، لا بخلاً ولكن مراعاة لظروف وإمكانات الآخرين، الذين لا يقدرون على ذلك، والذين يعلمون عنهم علم اليقين أنهم لن يرضوا بالتخلف عما سوف تستقر علية عادة مجتمعهم, مهما تحملوا في السبيل من تبعات.
وهكذا فالمفاخرة والمباهاة، وكل الأعمال التي يكون لها دوي وإثارة وتعالٍ ومكابرة، لا يقرونها فيما بينهم ولا يقبلونها من بعضهم البعض.
كان كرمهم وجودهم يعنى وضع الأمور في مواضعها، وكان بذلهم وسخائهم على من يستحق ذلك، إما إكراماً لضيف أو رعاية ليتيم أو إعالة لعاجز أو مسكين. كان منهم من لا تخلو بيوتهم من الأيتام والضعفاء القريبين أو البعيدين، يؤونهم ويطعمونهم ويكسونهم ويحنون على أبنائهم وفلذات أكبادهم.
ويربونهم حتى يبلغوا مبلغ الرجال من الذكور، أو أن تبلغ المرأة مبلغ الزواج، فلا تخرج من بيتهم إلا ويدها بيد زوجها. كان فيهم من يسمون (مربية اليتامى)، وكان أحدهم يسمى أبو الأيتام. كان أحدهم قد أقدم على بيع أحد أبواب بيته، ليقيم بثمنه عشاء للعاملين ببناء بيت جاره.
نادي أحدهم أحد العراقيين المقيمين في حائل وهو يمر من أمام دكانه قائلاً: أنك سبق وأن ساومتني على أكياس القهوة فأنا بعتك إياها بسومك فخذها. فقال العراقي مندهشاً: يا عمي أنا سبق أن سمت منك وما بعت عليّ، والآن القهوة قد ارتفع سعرها عن ذلك اليوم، فكيف آخذها. فيرد عليه الشيخ: خذها لأنها زادت وارتفع سعرها، ولأنني نويت ذلك اليوم بقلبي أن أبيعها عليك, فعسى الله أن يبارك لك فيها.
مع إشراقة كل ما ذكرنا وعظمة كل هذه الأعمال التي عددنا, من رعاية الأيتام والمساكين وإكرام الضعيف والجار، والوفاء والصدق والأمانة، مع إشراقة كل ذلك وارتقائه إلى أعلى مراتب الكرم والأريحية والجود بالماجود؛ فإنه يظل هذا الفعل معتاداً لا ينال ما يستحقه من الإطراء والثناء والذكر والترديد؛ لأن مثل هذه الأعمال والممارسات، أصبحت من بديهيات التعامل في هذا الوسط. وأن ما يشذ عن ذلك ويخالفه، هو الأمر الذي يكون مثار استغراب، وتتبع وتناقل واستهجان. كان لهم مفخرة البعد عن اللصوصية والسلب والنهب، ولهم شرف الدفاع عن المنطقة وصد هجمات المهاجمين لها، ولهم أيضا شرف المضافات الكبرى في المنطقة في منازلهم.
كان من هؤلاء العلماء والفقهاء، وعرفت بيوت من بيوتهم بالعلم والقضاء والخطابة والإمامة. كانوا يشرفون بها ويتوارثونها, ويشيعون علمهم بين الجميع، ويعقدون لذلك المجالس ويلقون الدروس.
كان الفرح عندما يحل في بيت أحدهم، يفرح له الجميع، يتسابقون للمشاركة وتقديم التهاني والتبريكات, وإبداء الاستعداد للعون والمساعدات. كما أنهم يسارعون بالوقوف بجانب من حلت عليه فاجعة. يواسون ويعزون ويمدون يد المعونة, لا يتخلف منهم أحد عن ذلك. كانت أفراحهم وأحزانهم مشهودة ولافتة ومميزة، وذلك لكثافة مشاركاتهم وتفاعلهم وكأن الحدث يخص كل واحد منهم؛ وهذا عنوان الترابط والتآخي والتعاضد والتكافل.
كانوا أزهد الناس بما في أيدي الناس، فلم يعرف عنهم أن أحداً منهم اشترط – بل عيب ونقيصه – أن يشترط أحدهم شرطاً قليلاً أو كثيراً مهراً لابنته على من سوف يتزوجها؛ هذا إذا لم يتنازل عن قدر من المهر المعتاد ويرجعه إلى صهره.
كانت المشاكل والخصومات تقل فيما بينهم أو مع الآخرين, يفضون نزاعاتهم وخصوماتهم ويتوازعون شراكاتهم ومواريثهم فيما بينهم؛ بستر ومصونه كما يقولون.
أما عندما تستثيرهم الأحداث والوقائع، وتستدعي الظروف والأحوال حمل السلاح وبذل المهج والأرواح، فإن هدوءهم يتحول إلى عنفوان وحماس، وسكينتهم إلى صبر وعزيمة. أنهم أول من يقدم وآخر من يسلم. ومع ذلك فهم دوماً وفي كل المناسبات يدعون الله أن يبعد ساعة الشر. فإذا جاءت الساعة فهم يثبتون.
يا نور عيني يا أهل (لبده) *** الّلي على الموت دللاقه
قالتها بنت بن نقدان من آل مرة، عندما شاهدت فعل الحجلان بإحدى الوقائع الكبيرة. وهذا من الشعر القليل قيل في الثناء عليهم. أما هم فلا يكادون يثنون على أنفسهم أو يعددون مآثرهم ولا يحفلون بذلك.
كانوا أوفياء بعهودهم ملتزمين ببيعتهم، لا يشقون عصي الطاعة أو يفرقون الجماعة كان منهم الوزراء والسفراء وكتاب الإمارة، وكان منهم أهل الرأي والمشورة.
تلك صورة ناصعة ومشرقة ومشرفة، هذه بعض ملامحها وإشراقاتها. لم يجاوز كل ما ذكر الواقع والحقيقة، التي يشهد بها من عايش هؤلاء الناس ومن خالطهم واحتك بهم، لزمن طويل أو قصير, وأقر لهم بذلك جيرانهم وعارفوهم.
وأن هذه الحقيقة هي من الوضوح والجلاء، بحيث تستعصي على كل من أراد طمسها وإغفالها والتعالي على أصحابها، وفوق ذلك كله، والمهيمن عليه، والقول الفصل، هو قول الله تعالي: (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) سورة الحجرات( ).
وبالله التوفيق.
أرجوا من الأخوة الكرام الذين سوف يشاركون في هذا الموضوع أن يحسنوا الظن بيّ، وأن يعلموا أني أردت من إيراد كلام هذا الباحث الأستاذ سليمان العتيق، كسر حاجز الخوف والرهبة من مناقشة المواضيع الساخنة –كهذا الموضوع- والذي سوف يأتي عليه يوم ويهيج بأيدي حاقدين وعنصريين يريدون لهذا المجتمع التفكك والخراب.
كما أن هدفي الأسمى هو نشر هذه الصور الجميلة عن هذه الشريحة الطيبة (الصناع) الذين يعشون بيننا في كل مكان سواءَ في البادية أو الحاضرة. لأخذ العبرة، من حياتهم الجميلة واحترامهم لأنفسهم ومن حولهم.
والله الموفق .
أخوكم الباحث في الشئون الإجتماعية/سويلم المرشدي















آخر تعديل سويلم المرشدي يوم 07-Sep-2009 في 12:08 AM.
رد مع اقتباس
غير مقروء 08-Sep-2009, 08:51 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
فواز المانعي
عضو نشيط
إحصائية العضو





التوقيت


فواز المانعي غير متواجد حالياً

افتراضي

بارك الله فيك وعلى الموضوع المميز, وجهد كبير تستحق الشكر عليه.



مع تحيات : فواز المانعي القحطاني















رد مع اقتباس
غير مقروء 09-Sep-2009, 05:25 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
إستراحة محارب
عضو ماسي
إحصائية العضو






التوقيت


إستراحة محارب غير متواجد حالياً

افتراضي

الصناع أعتقد أنهم قريبون للغاية إذا لم يكونوا مطابقين لعادات القبليين في المدن , في الطباع وفي التصوير والخلقة , عموماً كثير من الصناع من وجهاء حائل وذو مكانة فيها ... لكن المؤسف محاولة البعض منهم الإنتساب للقبائل وإدعائهم ذلك , مع علمهم وإدراكهم بأنهم ليسوا كذلك ...


عموما لدينا نحن المسلمون قاعدة نمشي عليها , وهي قول الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه : ( لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى ) ...



شكراً لك أستاذ سويلم جهد يستحق الثناء والمديح . بارك الله فيك ...















رد مع اقتباس
غير مقروء 09-Sep-2009, 04:09 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
ابورازن فالمريخ

رابطة محبي الهيلا


الصورة الرمزية ابورازن فالمريخ

إحصائية العضو






التوقيت


ابورازن فالمريخ غير متواجد حالياً

افتراضي

لاهنت ياذيبان















رد مع اقتباس
غير مقروء 10-Sep-2009, 11:15 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
سويلم المرشدي
عضو
إحصائية العضو





التوقيت


سويلم المرشدي غير متواجد حالياً

افتراضي

شكراً .... يا أخ فواز ... على مرورك وتعليقك الطيب الذي ينم عن أخلاق عالية يتحلى بها شخصكم الكريم .... وآسف على التأخير للرد عليك.

ومرة أخرى أكرر لك الشكر.















رد مع اقتباس
غير مقروء 12-Sep-2009, 03:29 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
سويلم المرشدي
عضو
إحصائية العضو





التوقيت


سويلم المرشدي غير متواجد حالياً

افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة إستراحة محارب مشاهدة المشاركة
الصناع أعتقد أنهم قريبون للغاية إذا لم يكونوا مطابقين لعادات القبليين في المدن , في الطباع وفي التصوير والخلقة , عموماً كثير من الصناع من وجهاء حائل وذو مكانة فيها ... لكن المؤسف محاولة البعض منهم الإنتساب للقبائل وإدعائهم ذلك , مع علمهم وإدراكهم بأنهم ليسوا كذلك ...


عموما لدينا نحن المسلمون قاعدة نمشي عليها , وهي قول الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه : ( لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى ) ...



شكراً لك أستاذ سويلم جهد يستحق الثناء والمديح . بارك الله فيك ...
شكراً على مرورك وتعليقك الوافي يا "استراحة محارب" وكلامك واقعي وفي صلب الموضوع ويدل دلالة واضحة على فكرك الراقي وذوقك الرفيع.

شكراً لمرورك وتعليقك الجميل مرة أخرى أخي الغالي.















رد مع اقتباس
غير مقروء 17-Sep-2009, 08:21 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
العوبثاني
عضو نشيط
إحصائية العضو






التوقيت


العوبثاني غير متواجد حالياً

افتراضي

مشكور علي النقل الطيب















رد مع اقتباس
غير مقروء 17-Sep-2009, 10:33 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
سويلم المرشدي
عضو
إحصائية العضو





التوقيت


سويلم المرشدي غير متواجد حالياً

افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبورازن الروقي مشاهدة المشاركة
لاهنت ياذيبان
والقايل ما يهون ... يا ابو رازن ... ومرورك شرفني أيها النبيل.















رد مع اقتباس
غير مقروء 19-Sep-2009, 05:26 AM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
سويلم المرشدي
عضو
إحصائية العضو





التوقيت


سويلم المرشدي غير متواجد حالياً

افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة العوبثاني مشاهدة المشاركة
مشكور علي النقل الطيب
شكراً لك يالعوبثاني على مرورك وتعليقك الطيب.















رد مع اقتباس
غير مقروء 20-Sep-2009, 11:54 PM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
حمد الدغيلبي
عضو نشيط
إحصائية العضو





التوقيت


حمد الدغيلبي غير متواجد حالياً

افتراضي

موضوع راقي

تشكر على جهودك فيه


فعلا فسرت امور يجهلها الكثيرين















رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


يتصفح الموضوع حالياً : 3 (0 عضو و 3 ضيف)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة



الساعة الآن »10:08 AM.


 Arabization iraq chooses life
Powered by vBulletin® Version 3.8.2
.Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
اتصل بنا تسجيل خروج   تصميم: حمد المقاطي