بين كاشغري وسلمان رشدي
د. نايف بن محمد العصيمي
كنتُ قد كتبتُ قبل أكثر من عشرين عاماً كتاباً عن التشاؤم، وضمَّنت في المقدمة الأسباب التي دعتني لإخراج الكتاب، ومن ضمنها "انتكاس المفاهيم" عند بعض الناس، كانوا قلة في ذلك الوقت، أصبح عندهم الحق باطلاً والباطل حقاً، وانعكست تصوراتهم؛ فأصبح المهم غير مهم، والعكس! وأصبحت الدنيا مقدَّمة على الآخرة، والآخرة ليست بالحسبان. عندما يصل الناس إلى هذه المرحلة يأتي الأسلوب القرآني بالإنكار والتقريع {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} "67" سورة العنكبوت.
وكان مرادي حينها منحصراً في مجال المعلومات فيما يتعلق بالخير والشر من الجهة التعبدية والدينية، وأشرت إلى أن الانفتاح المعرفي وثورة المعلومات والاتصالات أدخلت على الناس الغث والسمين؛ فاختلط على الكثيرين ممن ليس لهم دراية واهتمام بالجوانب الدينية الحق بالباطل. ونحن في هذا الصدد ننادي دوما بأن يأتي دور العلماء والمثقفين الحقيقيين والمفكرين الربانيين والمربين في توعية المجتمع ومعالجة قضاياه الفكرية والنفسية بالموعظة والتربية والكتاب والمقالة والخطبة والندوة والتقنية والمال والأعمال، ونحو ذلك مما يحفظ للمجتمع المسلم هويته، ويعزز الفطرة وأصولها في الفكر المسلم، وإلا فإن تمادى الزحف الاستشراقي المضلل فسيكون الأصل فرعاً والهامش أصلاً والقشور لُبًّا واللب قشوراً..
وقد جاء في بعض الآثار عن أبي أمامة مرفوعاً "يكون في أُمَّتِي فَزِعَةٌ، فَيَصيْرُ النّاسُ إلَى عُلَمَائِهِم، فإذا هم قِرَدَة وَخَنَازِير". "ذكره الحكيم الترمذي –نوادر الأصول". والمعنى هنا أن من غيَّر الحق من العلماء يُمسخ؛ لأنهم غيَّروا الحق عن جهته، وحرَّفوا الكلام عن موضعه؛ فمسخوا قلوب الخلق وأعينهم عن رؤية الحق؛ فمسخ الله تعالى صورهم، وبدَّل خلقتهم كما بدَّلوا الحقّ باطلاً.
إن ما كنت أخشى منذ زمن بعيد على عامة الناس قد تغلغل في هذا الزمن في عقول كثير من المثقفين والكتّاب وبعض الدعاة المصلحين!
ولا أدل على ذلك من دفاع كثير من الكتّاب عن "كاشغري" جاحد الربوبية والألوهية، منتقص رسول رب البرية عليه أتم الصلوات الزكية؛ فبين مهوّن لفعلته ومحام عنه ومنتهز للحدث لافتعال الانشقاق والتربص بالبلاد والعباد ومحرض ونائح في الإعلام الغربي..!!
ولا أدل من تغلغل انتكاس المفاهيم وانقلاب الموازين عند بعض الصالحين تخاذلهم لنصرة نبيهم وقد طُعن في نبوته من المقربين بعد البعيدين، بل بعضهم قالوا دعوا الأمر يوماً وسيندثر ويموت! ولا أدل على ذلك أن ذلك الداعية نفسه هو مَنْ قلب الحق باطلاً والباطل حقًّا عندما أحل المعازف والغناء، واستشاط غضباً على المحرِّمين، أليس هذا انقلاباً في الموازين وانتكاساً للمفاهيم؟ وآخر شرع في البيان في غير فنه ولا في زمان بيانه، وأخَّر البيان عن وقت حاجته؛ فلم ينبس ببنت شفة في حادثة حمزة وأعوانه، أين هو الآن؟ لم نرَ منه تمعراً ولا إنكاراً، وقد أنكر فيما سلف على الغيورين حميتهم على الدين!
ذكّرني كاشغري وكتاباته بالمسخ اللعين سلمان رشدي وكتابه وروايته آيات شيطانية الذي انتفضت الدنيا ونددت وخرجت الملايين في إسلام آباد ولندن وطهران وبومبي ودكا وإسطنبول والخرطوم ونيويورك وبنغلاديش والسودان وجنوب إفريقيا وكينيا وسريلانكا وتايلاند وجمهورية تنزانيا المتحدة وإندونيسيا وفنزويلا وسنغافورة في احتجاجات ومظاهرات تندِّد بالكتاب، وتطالب بإحراقه وصاحبه، ولا أخال العلمانيين والأوربيين المتحضرين في ذلك الوقت توانوا في الدفاع عن ذلك الشيطان وكتابه، بل كُرِّم، وأشاروا إلى أن روايته سحرية!! بيد أني ضد المظاهرات والتظاهرات في بلدي، والفتوى في ذلك واضحة معلومة، وإنما استشهدت لقياس الغيرة لدى الناس.
وملخص الكتاب أن صاحبه تهكم بالله وملائكته، وأوغل في الفحش الجنسي، ولكم أن تقيسوا المسافة الزمنية وحجم الجرم وحجم الانتفاضة والغيرة في تلك الأيام، ثم تقارنوها مع انتفاضة القلة في البلاد تجاه جرم كاشغري، وقد ذاع جرمه في الإعلام العالمي، وطار في الآفاق؛ لتعلموا هل انتكست المفاهيم حقًّا؟ وإلى أي مدى تخلخلت الموازين؟!
قفلة: لم نستغرب توافق الليبراليين وتكاتفهم مع صاحب الكتابات الشيطانية كاشغري؛ لأنهم وببساطة يسيرون في الاتجاه نفسه. ولأولئك نقول كما قال الله {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } "135" سورة طـه.
وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، والله المستعان.
الدكتور/ نايف بن محمد العصيمي
| التوقيع |
|
التوقيع
محمد الذيابـــي |
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
21-Feb-2012, 05:08 PM
بين كاشغري وسلمان رشدي للدكتور نايف العتيبي
العرض العادي
