السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تواصل لما سبق ذكره
باب ما يعتبر من الثلث
ما وصي به من التبرعات ، كالهبة والوقف والعتق والمحاباة ، اعتبر من الثلث سواء كانت الوصية في الصحة ، أو المرض ، لأن لزوم الجميع بعد الموت .
وعنه : أن الوصية في الصحة من رأس المال ، والأول أصح . فأما الواجبات ، كقضاء الدين والحج والزكاة ، فمن رأس المال ، لأن حق الورثة بعد أداء الدين ، لقوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين . وقال علي رضي الله عنه : (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الدين قبل الوصية)) رواه الترمذي . والواجب لحق الله بمنزلة الدين . لقول النبي صلى الله عليه وسلم : دين الله أحق أن يقضى فإن وصى بها مطلقاً ، أو من رأس ماله ، فهي من رأس ماله ، فإن قال : أخرجوها من ثلثي ، أخرجت من الثلث ، وتممت من رأس المال . فإن كان معها وصية بتبرع ، فقال القاضي : يبدأ بالواجب ، فإن فضل عنه من الثلث شيء ،فهو للموصى له بالتبرع ، فإن لم يفضل شيء ، سقط ، إلا أن يجيز الورثة . ويحتمل أن يقسم الثلث بين الوصيين بالحصة ، فما بقي من الواجب ، تمم من الثلثين ، فيدخله الدور ، ويحتاج إلى العمل بطريق الجبر ، فتفرض المسألة فيمن وصى بقضاء دينه ، وهو عشرة ، ووصى لآخر بعشرة ، وتركته ثلاثون ، فاجعل تتمة الواجب شيئاً ، ثم خذ ثلث الباقي وهو عشرة إلا ثلث شيء ، قسمها بين الوصيين ، فحصل لقضاء الدين خمسة إلا سدس شيء ، إذا أضفت إليه الشيء المأخوذ كان عشرة ، فأجبر الخمسة من الشيء بسدسه ، يبقى خمسة دنانير وخمسة أسداس شيء تعدل العشرة ، فالشيء ستة ، وحصل لصاحب الوصية الأخرى أربعة .
فصل :
فأما عطيته في صحته ، فمن رأس ماله ، لأنه مطلق في التصرف في ماله ، لا حق لأحد فيه . وإن كان في مرض غير مخوف ، فكذلك ، لأنهم في حكم الصحيح . وإن كان مخوفاً اتصل به الموت ، فعطيته من الثلث ، لما روى عمران بن حصين : أن رجلاً أعتق ستة أعبد له عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ، وقال له قولاً شديداً . رواه مسلم . ولأنه في هذه الحال لا يأمن الموت ، ، فجعل كحال الموت . فإن برئ ثم مرض ومات ، فهو من رأس المال ، لأنه ليس بمرض الموت . وإن وهب ما يعتبر قبضه وهو صحيح ، وأقبضه وهو مريض ، اعتبر من الثلث ، لأنه لم يلزم إلا بالقبض الذي وجد بالمرض .
فصل :
والمرض المخوف كالطاعون ، والقولنج ، والرعاف الدائم ، والإسهال المتواتر ، والحمى المطبقة ، وقيام الدم ، والسل في انتهائه ، والفالج في ابتدائه ، ونحوها . وغير المخوف ، كالجرب ووجع الضرس ، والصداع اليسير ، والإسهال اليسير من غير دم ، والسل قبل تناهيه ، والفالج إذا طال . فأما الأمراض الممتدة فإن أضني صاحبها على فراشه ، فهي مخوفة ، وإلا فلا . وقال أبو بكر : فيها وجه آخر أنها مخوفة على كل حال ، فإن أشكل شيء من هذه الأمراض ، رجع إلى قول عدلين من أهل الطب ، لأنهم أهل الخبرة به .
فصل :
وإن ضرب الحامل الطلق ، فهو مخوف ، لأنه من أسباب التلف ، وما قبل ستة أشهر فهي في حكم الصحيح . فإن صار له ستة أشهر ، فقال الخرقي : عطيتها من الثلث ، لأنه وقت لخروج الولد ، وهو من أسباب التلف . وقال غيره : هي كالصحيح ، لأنه لا مرض بها . وإن وضعت الولد وبقيت معها المشيمة ، أو حصل مرض ، أو ضربان ، فهو مخوف ، وإلا فلا ، ومن كان بين الصفين حال التحام الحرب ، أو في البحر في هيجانه ، أو أسير قوم عادتهم قتل الأسرى ، أو قدم للقتل ، أو حبس له، أو وقع الطاعون ببلده ، فعطيته من الثلث ، لأنه يخاف الموت خوف المريض وأكثر ، فكان مثله في عطيته . قال أبو بكر : وفيه رواية أخرى : أن عطاياهم من جميع المال ، لأنه لا مرض بهم .
فصل :
فأما بيع المريض بثمن المثل ، وتزويجه بمهر المثل ، فلازم من جميع المال ، لأنه ليس بوصية ، إنما الوصية التبرع ، وليس هذا تبرعاً . وإن حابى في ذلك ، اعتبرت المحاباة من الثلث ، لأنها تبرع ، وإن كاتب عبده ، اعتبرت من الثلث ، لأن ما يأخذه عوضاً من كسب عبده ، وهو مال له ، فصار كالعتق بغير عوض . وإن وهب له من يعتق عليه ، فقبله ، عتق من المال كله ، لأنه لم يخرج من ماله شيئاً بغير عوض . وإن مات ، ورثه ، لأنه ليس بوصية .
فصل :
وإن عجز الثلث عن التبرعات ، قدمت العطايا على الوصايا ، لأنها أسبق ، فإن عجز الثلث عن العطايا ، بدئ بالأول فالأول ، عتقاً كان أو غيره ، لأن السابق استحق الثلث ، فلم يسقط بما بعده ، وإن وقعت دفعة واحدة ، تحاصوا في الثلث ، وأدخل النقص على كل واحد بقدر عطيته ، لأنهم تساووا في الحق ، فقسم بينهم كالميراث .
وعنه : أن العتق يقدم ، لأنه آكد ، لكونه مبنياً على التغليب والسراية ، فإن كان العتق لأكثر من واحد ، أقرع بينهم فكمل العتق في بعضهم ، لحديث عمران ، ولأن القصد تكميل الأحكام في العبد ، ولا يحصل إلا بذلك ، وإن قال: إن أعتقت سالماً ، فغانم حر ، ثم أعتق سالماً ، قدم على غانم ، لأنه عتقه أسبق . وإن قال : إن أعتقت سالماً فغانم حر مع حريته ، فكذلك ، لأننا لو أعتقنا غانماً بالقرعة ، لرق سالم ، ثم بطل عتق غانم ، لأنه مشروط بعتق سالم ، فيفضي عتقه إلى بطلان عتقه ، وإن كانت التبرعات وصايا ، سوي بين المتقدم والمتأخر ، لأنها توجد عقيب موته دفعة واحدة ، فتساوت كلها .
فصل :
وإذا أعتق بعض العباد بالقرعة ، تبينا أنه كان حراً من حين الإعتاق فيكون كسبه له . وإن أعتق بعضه ، ملك من كسبه بقدره . فإن أعتق عبداً لا يملك غيره ـ قيمته مائة ـ فكسب في حياة سيده مائة ، عتق نصفه ، وله نصف كسبه ، ويحصل للورثة نصفه ، ونصف كسبه ، وذلك مثلا ما عتق منه ، فطريق عملها أن يقول : عتق منه شيء وله من كسبه شيء ، وللورثة شيئان ، فيقسم العبد وكسبه على أربعة أشياء ، فيخرج للشيء خمسون ، وهو نصف العبد . ولو كسب مثلي قيمته ، لقلت : عتق منه شيء ، وله من كسبه شيئان ، وللورثة شيئان ، فيعتق منه ثلاثة أخماسه ، وله ثلاثة أخماس كسبه ، وللورثة الخمسان .
فصل :
وإن وهب المريض مريضاً عبداً قيمته عشرة لا يملك غيره ، ثم وهبه الثاني للأول ، ولا يملك غيره ، فقد صحت هبة الأول في شيء ، وصحت هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء ، بقي له ثلثا شيء ، ولورثة الأول شيئان ، أبسط الجميع أثلاثاً ، تكن ثمانية والشيء ثلاثة ، فلورثة الأول ستة هي ثلاث أرباع العبد ، ولورثة الثاني ربعه .
فصل :
ولو تزوج المريض امرأة صداق مثلها خمسة ، فأصدقها عشرة لا يملك غيرها ، فماتت قبله ، ثم مات ، فقد صح لها بالصداق خمسة وشيء ، وعاد إلى الزوج نصف ذلك ديناران ونصف ، ونصف شيء ، فصار لورثته سبعة ونصف ، إلا نصف شيء ، تعدل شيئين ، أجبرها بنصف الشيء ، تصر شيئان ونصف ، تعدل سبعة ونصفان ، أبسطها ، تصر خمسة ، تعدل خمسة عشر . فالشيء إذاً ثلاثة ، فلورثة الزوج ستة ، ولورثتها ، أربعة .
فصل :
وإن باع المريض عبداً لا يملك غيره قيمته ثلاثون ، بعشرة ، فأسقط الثمن من قيمته ، ثم انسب ثلث العبد كله إلى الباقي من ثمنه ، يكن نصفه ، فيصح البيع في نصفه بنصف ثمنه . ولو اشتراه بخمسة عشر . كانت نسبة الثلث إلى باقيه بثلثين ، فيصح البيع في ثلثه بثلثي ثمنه .
فصل :
ومن وصى لرجل بثلث ماله ومنه حاضر وغائب وعين ودين ، فللموصى له ثلث العين الحاضرة ، وللورثة ثلثاها ، وكلما اقتضى من الدين شيء ، أو حضر من الغائب شيء ، اقتسموه أثلاثاً ، لأنهم شركاء فيه . وإن وصى بمائة حاضرة وله مائتان غائبة ، أو دين ، ملك الموصى له ثلث الحاضرة ، وله التصرف فيه في الحال ، لأن الوصية فيه نافذة ، فلا فائدة من وقفه ، ووقف ثلثاها ، فكلما حضر من الغائب شيء أخذه الوارث ، واستحق الموصى له من الحاضرة قدر ثلثه ، وإن تلفت الغائبة ، فالثلثان للورثة ، وكذلك لو دبر عبده ومات وله دين مثلاه ، عتق ثلثه ، ووقف ثلثاه لما ذكرناه .
فصل :
وإن وصى له بمنفعة عبد سنة ، ففي اعتبارها في الثلث وجهان :
أحدهما : تقوم المنفعة سنة ، ويقوم العبد مسلوب المنفعة سنة على الوارث .
والثاني : يقوم العبد كامل المنفعة ، ويقوم مسلوب المنفعة سنة ، فيعتبر ما بينهما . وإن وصى بنفعه حياه . ففيه وجهان :
أحدهما : يقوم العبد بمنفعته ، ، ثم يقوم مسلوب المنفعة ، فما زاد على قيمة الرقبة المنفردة ، فهو قيمة المنفعة .
والثاني : يقوم العبد بمنفعته على الموصى له ، لأن عبداً لا نفع فيه لا قيمة له . وإن وصى لرجل بنفعه ، ولآخر برقبته ، اعتبر خروج العبد بمنفعته من الثلث وجهاً واحداً . وإن وصى له بثمرة شجرة أبداً ، ففي التقويم الوجهان لما ذكرناه .
يتبع