الحديث السادس والثمانون
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
هذا كلام جامع. استدل به أهل العلم على مشروعية جميع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وما قاله في حجة وجوباً في الواجبات، ومستحباً في المستحبات، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فكما أن ذلك يشمل جزئيات الصلاة كلها. فهذا يشمل جزئيات المناسك كلها.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام حسن جداً في خلاصة حج النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره في القواعد النورانية. فقال قدس الله روحه ورضي عنه:
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة. فقال: (من شاء أن يهل بعمرة فليفعل. ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل. ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل) فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه لا يُحل حتى يَبْلغ الهديُ مَحِلَّه ، فراجعه بعضهم في ذلك. فغضب، وقال: (انظروا ما أمرتكم به فافعلوه). وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، فلم يحل من إحرامه. ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي. ولجعلتها عمرة، ولولا أن معي الهدي لأحللت). وقال أيضاً: (إني لَبِّدْتُ رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر). فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي، منهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله. فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج، وهم ذاهبون إلى منى. فبات بهم تلك الليلة بمنى. وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم سار بهم إلى نمرة، على طريق ضَبٍّ، ونمرة خارجة من عرفة، من يمانيها وغربيها، ليست من الحرم، ولا من عرفة. فنصبت له القبة بنمرة. وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده، وبها الأسواق، وقضاء الحاجة، والأكل، ونحو ذلك. فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عُرنَةَ، حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم، ولا من عَرَفَة. وإنما هو برزخ بين المشعرين: الحلال والحرام هناك، بينه وبين الموقف نحو ميل. فخطب فيهم خطبة الحج على راحلته. وكان يوم الجمعة، ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين. ثم سار – والمسلمون معه – إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة. واسمه (إلال) على وزن هلال. وهو الذي تسميه العامة عرفة. فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس. فدفع بهم إلى مزدلفة، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال، حين نزلوا بمزدلفة، وبات بها حتى طلع الفجر، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها، مغلساً بها زيادة على كل يوم، ثم وقف عند قُزَح، وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام. فلم يزل واقفاً بالمسلمين إلى أن أسفر جداً، ثم دفع بهم حتى قدم منى، فاستفتحها برمي جمرة العقبة، ثم رجع إلى منزله بمنى، ثم أتى المنحر ونحر ثلاثاً وستين بَدَنة من الهدي الذي ساقه. وأمر عليَاً فنحر الباقي. وكان مائة بدنة ثم حلق رأسه. ثم أفاض إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة. وكان قد عَجَّل ضَعَفة أهله من مزدلفة قبل طلوع الفجر، فرموا الجمرة بليل. ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث، يصلي بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة، يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يستفتح بالجمرة الأولى – وهي الصغرى، وهي الدنيا إلى مني – والقصوى من مكة. ويختتم بجمرة العقبة، ويقف بين الجمرتين: الأولى والثانية، وبين الثانية والثالثة وقوفاً طويلاً بقدر سورة البقرة، يذكر الله ويدعو ؛ فإن المواقف ثلاث: عرفة ومزدلفة، ومنى. ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات هو والمسلمون، فنزل بالمحصَّب، عند خيف بني كنانة، فبات هو والمسلمون ليلة الأربعاء. وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن؛ لتعتمر من التنعيم، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة، من طريق أهل المدينة. وقد بُني بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة؛ لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة؛ لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة. فلم تطف قبل الوقوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (اقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة) ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة. ولم يقم بعد أيام التشريق، ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة – رضي الله عنها – وحدها فأخذ فقهاء الحديث – كأحمد وغيره – بسنته في ذلك كله، إلى آخر ما قال رحمه الله ورضي عنه. والله أعلم.