عشنا مع الخادمات وتركنا ملكات الجمال



عبدالله الجعيثن
لقد كنا طوال تلك الفترة الذهبية من أعمارنا من الثامنة إلى الرابعة والعشرين من العمر ندرس قواعد البلاغة وهي قواعد متكلفة وجافة جداً، وكنا نترك روائع الشواهد من غرر القصائد العربية، كانت المناهج والمدرسون - غفر الله لنا ولهم - يقومون بالتركيز الشديد على القواعد والإهمال العجيب لروائع الشواهد .

أهُزُّ رأسي أسفاً وعجبا كلما تذكرتُ ما مرَّ بي من سنوات طويلة أدرس فيها اللغة العربية بدءاً من أواخر الابتدائي إلى نهاية كلية اللغة العربية.

لقد كنا طوال تلك الفترة الذهبية من أعمارنا من الثامنة إلى الرابعة والعشرين من العمر ندرس قواعد البلاغة وهي قواعد متكلفة وجافة جداً، وكنا نترك روائع الشواهد من غرر القصائد العربية، كانت المناهج والمدرسون - غفر الله لنا ولهم - يقومون بالتركيز الشديد على القواعد والإهمال العجيب لروائع الشواهد، كانوا يكتفون في التمثيل على القاعدة ببيت من الشعر واحد كأنه غصن قطع من شجرة خضراء فجفّ والتوى.. لا معنى لبيت من الشعر واحد مبتور عن بقية القصيدة الجميلة، ولم تكن الأبيات التي يختارونها جميلة دائماً وإنما كانت متوافقة مع القاعدة، كان هدفهم هو القواعد لا الشواهد، هو تقعيد البلاغة وتربيطها وسجنها ،أمَّا البلاغة نفسها فلم نكن نراها.. كنا نرى تقريباً قيودها وأغلالها ولم نكن نرى روعتها وجمالها.. لم يكن الجمال الفني مقصوداً أو حتى ملحوظاً في دراسة البلاغة العربية وإنما كان المقصود هو القواعد والقيود التي يجب على الطلاب أن يحفظوها عن ظهر قلب ولو كان بعضها قبيحاً طالما كان يُمثِّل القاعدة..

وإلى الآن، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من تخرجنا من كلية اللغة العربية، كنت كلما صادفت زميلاً عزيزاً من زملاء الكلية أسأله:

- هل لازلتَ تحفظ شيئاً من شواهد البلاغة العربية التي كنا ندرسها في الكلية..؟

وأغلبهم يجيب ضاحكاً:

- نعم أحفظ هذا البيت الذي قالته الجنّ كما يزعم المنهج:

وقبرُ حربٍ بمكان قَفءرٍ

وليس قُرءب قبر حربٍ قبرُ!!

والأغرب أنني سألت زميلاً ممن تخرج معنا وأصبح استاذاً للبلاغة في جامعة الملك سعود: ما هو الكتاب والمنهج الذي تدرسونه في البلاغة الآن؟

فقال:

- هو الكتاب والمنهج الذي كنا ندرسه قبل ثلاثين عاماً "كتاب التلخيص للقزويني"!!!

@ @ @

وكتاب (التلخيص للقزويني) أشهر من نار على علم في تدريس البلاغة العربية منذ عصور الانحطاط حتى الآن!!

وهو تلخيص لكتاب (المفتاح) للسكاكي.. والسكاكي أعجمي من ناحية.. وعالم في المنطق وليس في البلاغة فضلاً عن أن يكون أديباً أو صاحب ذوق أدبي راقٍ يهتز لروائع الأشعار ويتوله بملكات الجمال من القصائد الخالدة في تراثنا العربي الغني والأصيل، فهو عالم منطق وصاحب تقعيد وتقسيم، وقد حاول اخضاع فنون البلاغة لعلم المنطق وطبق على فنونها القسمة العقلية، والقسمة العقلية جافة جامدة، فهي لا تعرف الخيال من بعيد أو قريب، والبلاغة خاصة، والفنون والآداب عامة تقوم على الخيال، ولهذا يتعسف (السكاكي) رحمه الله في اخضاع فن البلاغة لعلم المنطق ولقسمة العقل، حتى انه أحياناً حين لا يجد أي شاهد عربي يدل على ركن من أركان الأقسام العقلية يقول:

ومثال ذلك بيت من الشعر الفارسي هذه ترجمته..

وترجمة السكاكي ليست شعرية لأنه ليس شاعرا، ولا متذوقاً للشعر، وإنما هو عالم منطق ولهذا يترجم البيت بالمعنى الأولى لمجرد تحقيق القاعدة دون أن تجد في ترجمته أي اشراقة بلاغية، وهو - أي السكاكي - قد بذل جهده، وأعطى ما عنده، وهو جهد يشكر عليه، وعطاء بذل فيه استطاعته، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، والسكاكي فاقد للذوق الأدبي، والحس الفني، وحسن اختيار الشواهد..

وقد لخصَّ القزويني كتاب(المفتاح للسكاكي) بشكل دقيق، وقام الأزهريون باعتماده في تدريس البلاغة منذ زمن طويل، ثم نقلوه معهم إلى المملكة، إذ كانوا أول من قام بتدريس البلاغة في مدارسنا وجامعاتنا، ومن الطبيعي أن ينقلوا معهم المنهج الذي درسوه طويلاً طويلاً حتى حفظوه عن ظهر قلب، ولكن ليس من الطبيعي في شيء أن نظل أسيرين لذلك المنهج الجاف في دراسة البلاغة العربية على مدى السنين، فقد تقدم الأدب في المملكة كثيراً، وترقى الذوق الأدبي والحس البلاغي، ووجد أساتذة يجمعون بين دراسة البلاغة على منهج السكاكي والقزويني، ويدرسون الأدب والشعر القديم والحديث، ومن العجيب انهم لم يبادروا لتغيير ذلك المنهج القديم الذي يهتم بالقواعد أكثر من اهتمامه بالشواهد، ويحرص على التقسيمات والتفريعات أكثر من حرصه على تربية الذوق الأدبي والإحساس بجمال البلاغة العربية من خلال تقديم شواهد رائعة الجمال وهي موجودة بغزارة في آي الذكر الحكيم، وفي الشعر العربي القديم والحديث، وفي خطب العرب بل وفي الحكم والأمثال..

ولكن ذلك كله شبه مهمل، وخاصة الأدب الجميل الذي جاء بعد تأليف القزويني لكتابه التلخيص، فأصبح طلاب البلاغة مسجونين في القواعد، محصورين في بعض الشواهد من العصور القديمة، والمقصورة على توضيح القاعدة، مقطوعين عما استجد من آداب معزولين عن فنون القول الحديثة..

@ @ @

ومن الأمثلة على إشغال الطلاب بالتقسيمات والمنطق على حساب جمال البلاغة قوله:

(علم البيان)

"وهو علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، ودلالة اللفظ إمَّا على تمام ما وضع له، أو على جزئه، أو على خارج عنه، وتسمى الأولى وضعية، وكلُّ من الأخريين عقلية، وتختص الأولى بالمطابقة، والثانية بالتضمن، والثالثة بالالتزام، وشرطه اللزوم الذهني، ولو لاعتقاد المخاطب بُعرف أغيره، والايراد المذكور لا يتأتى بالوضعية، لأن السامع إذا كان عالماً بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح، وإلا لم يكن كل واحد دالاً عليه، ويتأتى بالعقلية، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح، ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له إن قامت قرينة على عدم إرادته فمجاز، وإلا فكناية، وقدِّم عليها لأن معناه كجزء من معناها، ثم منه ما يبنى على التشبيه، فتعيّن التعرض له، فانحصر في الثلاثة"!!!

انتهى كلام القزويني بالحرف الواحد ص 237- 238بشرح البرقوقي.. بربكم أهذا كتاب بلاغة أم كتاب طلاسم تقطع الأنفاس؟!

أشهد ألا إله إلا الله!.. لقد كنتُ من أكثر الطلاب عشقاً للبلاغة العربية ولكن هذا الكتاب يجعلك تكره البلاغة ودروسها وتستثقل قواعدها وأقسامها التي تتفرع بدورها إلى أقسام..

ويقول القزويني غفر الله لنا وله:

(علم المعاني)

"وهو علم يُعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يُطابق مقتضى الحال، وينحصر في ثمانية أبواب: أحوال الإسناد الخبري، أحوال المُسند إليه، متعلِّقات الفعل، القصر، الإنشاء، الفصل والوصل، الايجاز والإطناب والمساواة، لأن الكلام إما خبر أو إنشاء، لأنه ان كان لنسبته خارج يطابقه أو لا يطابقه فخبر، وإلا فإنشاء، والخبر لابد له من مسند إليه وإسناد، والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلاً أو في معناه، وكل من الإسناد والتعلُّق إما بقصر أو بغير قصر، وكل جملة قرنت بأخرى إما معطوفة عليها أو غير معطوفة، والكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد".

التلخيص ص 37- 38بالحرف الواحد..

قلت: هذه مغارات مظلمة وليست البلاغة العربية المشرقة..

ويقول القزويني في أحوال المُسند إليه:

"ومما يُرى تقديمه كاللازم لفظ (مثل وغير) في نحو: مثلك لا يبخل، من غير إرادة تعريض لغير المُخاطب، لكونه أعون على المراد بهما، قيل: وقد يقدَّم لأنه دال على العموم نحو: "كلُّ إنسان لم يقم" فإنه يُفيد نفي الحكم عن جملة الأفراد لا عن كل فرد، وذلك لكي لا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس، لأن الموجبة المهملة المعدولة المحمول في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن الجملة دون كل فرد، والسالبة المهملة في قوة السالبة الكلية المقتضية للنفي عن كل فرد لورود موضوعها في سياق النفي، وفيه نَظَر، لأن النفي عن الجملة في الصورة الأولى وعن كل فرد في الثانية إنما أفاده الإسناد إلى ما أضيف إليه كل، وقد زال ذلك بالإسناد إليها فيكون تأسيساً لا تأكيداً، ولأن الثانية إذا أفادت النفي عن كل فرد فقد أفادت النفي عن الجملة، فإذا حُملت على الثاني لا يكون كلّ تأسيساً ولأن النكرة المنفية إذا عمت كان قولنا: لم يقم إنسان، سالبة كلية لا مهملة" ص

86.قلت: هذا كلام فلسفة يُعقد من لا يتعقد، والبلاغة أبعد ما تكون عن الفلسفة فهي فن من أرقى الفنون، ولا يمكن دراستها بهذا الشكل، خاصة ان التركيز كان على القواعد والتفريعات مع الايجاز المخل في الشواهد، ولولا أن كتاب (التلخيص) لايزال هو الكتاب الذي يدرس في جامعاتنا (منهج البلاغة العربية) لما كتبنا هذا الكلام ونسينا ذلك الكتاب مع عصوره السابقة.

@ @ @

مع الأسف لقد عشنا في مدارسنا وجامعاتنا مع الخادمات - وهي قواعد البلاغة - ولم نر ملكات الجمال وهي روائع الشواهد من الذكر الحكيم والشعر الرائع البليغ وهذا يفسد الذوق ولا يربيه ويقتل الموهبة ولا ينميها..

(لأساتذة البلاغة)

ولدينا في المملكة أساتذة كثيرون في البلاغة العربية والنقد الأدبي وهم الآن مطالبون بتأليف كتب جديدة في البلاغة العربية لكي يدرسها الطلاب وتعتمد في المقام الأول على روائع الشواهد..

ان القواعد مجرد خادمات صغيرات وقد شغلنا نحن بخدمتهن وتعبنا من صعوبة كلامهن.. لعل جيلنا الجديد يعيش مع النصوص الرائعة التي تجعله يعشق البلاغة العربية ويتذوق الجمال الفني.

موضوعك ممتاز
وننتظر جديدك
وتقبل مروري

..::.. عمــــ الراوي ـــــر ..::..