محب الهيلا
05-May-2008, 01:58 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النابغة الذبياني
هو زياد بن معاوية بن ضباب البياني ؛ كنيته أبو أمامة ، و لقبه النابغة ، لقب به نبوغه في الشعر
و إكثاره منه بعدما احتنك .
قال عنه ابن رشيق في عمدته : " إن شعره كان نظيفاً من العيوب ، لأنه قاله كبيراً ،
و مات عن قرب و لم يهتر " أراد أنه لم يخرف و يضعف عقله .
و هو أحد شعراء الطبقة الأولى ، المقدمين على سائر الشعراء ، عده ابن سلام بعد امرئ القيس و قبل زهير و الأعشى . و كان عمر بن الخطاب يعده أشعر العرب .
أخبر ربعي بن مراش قال : قال عمر : يا معشر غطفان ، من الذي يقول :
أتيتك عارياً خلقـاً ثيابـي ؛؛ على خوف ، تظن بي الظنون
قلنا : النابغة . قال : ذاك أشعر شعرائكم .
و روى الشعبي أن عمر قال : من أشعر الناس ؟ قالوا : أنتم أعلم يا أمير المؤمنين . قال : من الذي يقول :
إلا سليمان ، إذ قال الإلـه لـه :قم في البرية ، و احددها عن الفند
و خيس الجن ، إني قد أذنت لهميبنون تدمر بالصفـاح و العمـد
قالوا : النابغة . قال : فمن الذي يقول
حلفت ، فلم أترك لنفسك ريبـة ،و ليس ، وراء الله ، للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشايـة ،لمبلغك الواشي أغـش و أكـذب
و لست بمستبـق أخـاً لا تلمـهعلى شعث ، أي الرجال المهذب ؟
قالوا : النابغة . قال : فذا أشعر الععرب .
و روى ابن المؤمل قال : قام رجل إلى ابن عباس فقال : أي الناس أشعر ؟ فقال ابن عباس : أخبره يا أبا الأسود الدؤلي . قال : الذي يقول :
فإنك كالليل الذي هـو مدركـي ؛؛ و إن خلت أن المنتأى عنك واسع
و النابغة شاعر بلاط تردد إلى قصور الملوك في العراق و الشام و مدحهم و أخذ جوائزهم .
و قد حظي عند أبي قابوس النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، فقربه إليه دون سائر الشعراء ، و جعله في حاشيته ينادمه و يؤاكله في آنية من الفشة و الذهب .
و هو أول شاعر تكسب بشعره ، فكثر ماله . و قد جر عليه تقريب النعمان له ، و إغداقه عليه العطايا ، حسد المنخل اليشكري ، الشاعر ، و أبناء عوف بن قريع ، و كانوا من بطانة النعمان ، فأخذوا يتربصون به ليبعدوه عن بلاط المناذرة .
و اتفق أن نظم النابغة قصيدته الشهيرة في المتجردة زوج النعمان ، و ذكر في وصفه لها ما لا يليق ذكره . فاتخذها المنخل اليشكري ، و كان يهوى المتجردة ، حجة لإيغار صدر النعمان عليه ، فخاف النابغة ، و هرب إلى قبيلته ، فاغتنم الأقارع فرصة غيابه و نظموا ، على لسانه ، أبيات هجو للنعمان ، و أوصلوها إليه فزادوا في نقمته عليه . و على كونه كان سيداً من سادات قبيلته يرجعون إليه في خطوبهم ، فيليبهم ، لم يسلم من حسد بني قومه لعفته و شرفه ؛ فنالوا منه بألسنتهم ، فتضايق و انطلق إلى الغساسنة في الشام ، و نزل بعمرو بن الحارث الأصغر ، فمدحه و مدح أخاه النعمان . ثم انقطع بعد موت النعمان الغساني إلى أخيه عمرو ، فلبث عنده إلى أن رضي عنه النعمان بن المنذر ، فعاد إليه و بقي في بلاط المناذرة إلى أن مات .
و كان في أثناء نزوله عند الغساسنة ، يمدح النعمان بن المنذر ، و يعتذر إليه ، مبرئاً نفسه مما رماه به أبناء عوف بن قريع . و هذه القصائد ، التي مدح بها النععمان و اعتذر إليه ، هي التي تسمى الاعتذاريات . و هي من أجمل شعر النابغة ، اشتهر فيها بلياليه التي صور فيها خشيته النعمان ، حتى ضرب المثل فيها فقيل : ليلة نابغية .
و سئل عمرو بن العلاء بذلك فقيل له : أمن مخافته امتدح النعمان و أتاه بعد هربه أم لغير ذلك ؟
فقال : " لا لعمر الله ، لا لمخافته فعل ، إن كان لآمناً من أن يوجه إليه جيشاً ، و ما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة ، و لكنه رغب في عطاياه و عصافيره . " و العصافير نوق كرائم من ذوات السنامين ، كانت للنعمان ، و كان االنعمان يعطي النابغة منها .
و كان النابغة حكم سوق عكاظ تضرب له قبة من أدم ، و يأتيه الشعراء ، فيعرضون عليه أشعارهم ، فيحكم لأفضلهم بالجائزة التي كانت تقدمها قريش ، أو الغساسنة .
و اختياره لهذا المنصب دليل على ما كان له من مقام رفيع ، و على ملكة النقد الأدبي المتأصلة قيه ،
و حسن تذوقه لفن الشعر .
و كان يستعبد قريحته لفنه فيعنى بتهذيب شعره و تنقيحه ، و بحسن اختيار الألفاظ الجميلة الموسيقية .
قيل : إنه كان يقول : إن في شعري عاهة ما أقف عليها . و كانت هذه العاهة الأقواء ، و هو اختلاف حركة الروي فتكون في بيت ضمة ، و في آخر كسرة . " فلما قدم المدينة هابوه أن يقولوا له : إنه يقوي ، فدعوا قينة و أمروها أن تغني في شعره ، ففعلت ؛ فلما سمع قوله : واتقتنا باليد ؛ و يكاد من اللطافة يعقد ، تبين له ، لما مدت باليد فصارت الكسرة ياء ، و مدت يعقد فصارت الضمة كالواو ، ففطن ، فغيره و جعله : عنم على أغصانه لم يعقد . و كان يقول : وردت يثرب و في شعري بعض العاهة ، فصدرت عنها و أنا أشعر الناس . "
و النابغة شاعر مطبوع ، و مصور بارع ، و من صوره ما هو حسي و ما هو خيالي ، يدخل فيها قصصاً لذيذاً ، تحليه جزالة صنع حاذق ، دقيق الاحساس بجمال اللفظ ، بعيد من التكلف و الهجنة . و قد أصاب ابن سلام حين وصفه بقوله : " إنه كان أحسنهم ديباجة شعر ، و أكثرهم رونق كلام ، و أجزلهم بيتاً ، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف
المعلقة
يَـا دَارَ مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ ، فالسَّـنَـدِ
أَقْوَتْ ، وطَالَ عَلَيهَـا سَالِـفُ الأَبَـدِ
وقَفـتُ فِيهَـا أُصَيـلانـاً أُسائِلُـهـا
عَيَّتْ جَوَاباً ، ومَا بالرَّبعِ مِـنْ أَحَـدِ
إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيــاً مَــا أُبَيِّنُـهَـا
والنُّؤي كَالحَوْضِ بالمَظلومـةِ الجَلَـدِ
رَدَّتْ عَلـيَـهِ أقَاصِـيـهِ ، ولـبّـدَهُ
ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بالمِسحَـاةِ فِـي الثَّـأَدِ
خَلَّـتْ سَبِيـلَ أَتِـيٍّ كَـانَ يَحْبِسُـهُ
ورفَّعَتْهُ إلـى السَّجْفَيـنِ ، فالنَّضَـدِ
أمْسَتْ خَلاءً ، وأَمسَى أَهلُهَا احْتَمَلُوا
أَخْنَى عَليهَا الَّذِي أَخْنَـى عَلَـى لُبَـدِ
فَعَدِّ عَمَّا تَـرَى ، إِذْ لاَ ارتِجَـاعَ لَـهُ
وانْـمِ القُتُـودَ عَلَـى عَيْرانَـةٍ أُجُـدِ
مَقذوفَةٍ بِدَخِيـسِ النَّحـضِ ، بَازِلُهَـا
لَهُ صَريفٌ ، صَريفُ القَعْـوِ بالمَسَـدِ
كَأَنَّ رَحْلِي ، وَقَـدْ زَالَ النَّهَـارُ بِنَـا
يَومَ الجليلِ ، عَلَـى مُستأنِـسٍ وحِـدِ
مِنْ وَحشِ وَجْرَةَ ، مَوْشِـيٍّ أَكَارِعُـهُ
طَاوي المَصِيرِ ، كَسَيفِ الصَّيقل الفَرَدِ
سَرتْ عَلَيهِ ، مِنَ الجَوزَاءِ ، سَارِيَـةٌ
تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيـهِ جَامِـدَ البَـرَدِ
فَارتَاعَ مِنْ صَوتِ كَلاَّبٍ ، فَبَاتَ لَـهُ
طَوعَ الشَّوَامتِ مِنْ خَوفٍ ومِنْ صَرَدِ
فبَثّهُـنَّ عَلَـيـهِ ، واستَـمَـرَّ بِــهِ
صُمْعُ الكُعُوبِ بَرِيئَاتٌ مِـنَ الحَـرَدِ
وكَانَ ضُمْرانُ مِنـهُ حَيـثُ يُوزِعُـهُ
طَعْنَ المُعارِكِ عِندَ المُحْجَـرِ النَّجُـدِ
شَكَّ الفَريصـةَ بالمِـدْرَى ، فَأنفَذَهَـا
طَعْنَ المُبَيطِرِ ، إِذْ يَشفِي مِنَ العَضَـدِ
كَأَنَّه ، خَارجَا مِـنْ جَنـبِ صَفْحَتِـهِ
سَفّـودُ شَـرْبٍ نَسُـوهُ عِنـدَ مُفْتَـأَدِ
فَظَلّ يَعْجُمُ أَعلَى الـرَّوْقِ ، مُنقبضـاً
فِي حالِكِ اللّونِ صَدْقٍ ، غَيرِ ذِي أَوَدِ
لَمَّا رَأَى واشِـقٌ إِقعَـاصَ صَاحِبِـهِ
وَلاَ سَبِيـلَ إلـى عَقْـلٍ ، وَلاَ قَـوَدِ
قَالَتْ لَهُ النَّفسُ : إنِّي لاَ أَرَى طَمَعـاً
وإنَّ مَولاكَ لَمْ يَسلَـمْ ، ولَـمْ يَصِـدِ
فَتِلكَ تُبْلِغُنِي النُّعمَانَ ، إنَّ لـهُ فَضـلاً
عَلَى النَّاس فِي الأَدنَى ، وفِي البَعَـدِ
وَلاَ أَرَى فَاعِلاً ، فِي النَّاسِ ، يُشبِهُـهُ
وَلاَ أُحَاشِي ، مِنَ الأَقوَامِ ، مِنْ أحَـدِ
إلاَّ سُليمَـانَ ، إِذْ قَـالَ الإلـهُ لَــهُ
قُمْ فِي البَرِيَّة ، فَاحْدُدْهَا عَـنِ الفَنَـدِ
وخيّسِ الجِنّ ! إنِّي قَـدْ أَذِنْـتُ لَهـمْ
يَبْنُـونَ تَدْمُـرَ بالصُّفّـاحِ والعَـمَـدِ
فَمَـن أَطَاعَـكَ ، فانْفَعْـهُ بِطَاعَـتِـهِ
كَمَا أَطَاعَكَ ، وادلُلْـهُ عَلَـى الرَّشَـدِ
وَمَـنْ عَصَـاكَ ، فَعَاقِبْـهُ مُعَاقَـبَـةً
تَنهَى الظَّلومَ ، وَلاَ تَقعُدْ عَلَى ضَمَـدِ
إلاَّ لِمثْلـكَ ، أَوْ مَـنْ أَنـتَ سَابِقُـهُ
سَبْقَ الجَوَادِ ، إِذَا استَولَى عَلَى الأَمَدِ
أَعطَـى لِفَارِهَـةٍ ، حُلـوٍ تَوابِعُـهَـا
مِنَ المَواهِبِ لاَ تُعْطَـى عَلَـى نَكَـدِ
الوَاهِـبُ المَائَـةِ المَعْكَـاءِ ، زَيَّنَهَـا
سَعدَانُ تُوضِحَ فِـي أَوبَارِهَـا اللِّبَـدِ
والأُدمَ قَـدْ خُيِّسَـتْ فُتـلاً مَرافِقُهَـا
مَشْـدُودَةً بِرِحَـالِ الحِيـرةِ الجُـدُدِ
والرَّاكِضاتِ ذُيولَ الرّيْـطِ ، فانَقَهَـا
بَرْدُ الهَوَاجـرِ ، كالغِـزْلاَنِ بالجَـرَدِ
والخَيلَ تَمزَعُ غَرباً فِي أعِنَّتهَا كالطَّيرِ
تَنجـو مِـنْ الشّؤبـوبِ ذِي الـبَـرَدِ
احكُمْ كَحُكمِ فَتاةِ الحَـيِّ ، إِذْ نظـرَتْ
إلـى حَمَـامِ شِـرَاعٍ ، وَارِدِ الثَّمَـدِ
يَحُفّـهُ جَانِـبـا نِـيـقٍ ، وتُتْبِـعُـهُ
مِثلَ الزُّجَاجَةِ ، لَمْ تُكحَلْ مِنَ الرَّمَـدِ
قَالَتْ : أَلاَ لَيْتَمَـا هَـذا الحَمَـامُ لَنَـا
إلـى حَمَامَتِنَـا ونِصـفُـهُ ، فَـقَـدِ
فَحَسَّبـوهُ ، فألفُـوهُ ، كَمَـا حَسَبَـتْ
تِسعاً وتِسعِينَ لَمْ تَنقُـصْ ولَـمْ تَـزِدِ
فَكَمَّلَـتْ مَـائَـةً فِيـهَـا حَمَامَتُـهَـا
وأَسْرَعَتْ حِسْبَـةً فِـي ذَلـكَ العَـدَدِ
فَلا لَعمرُ الَّذِي مَسَّحتُ كَعْبَتَـهُ وَمَـا
هُرِيقَ ، عَلَى الأَنصَابِ ، مِنْ جَسَـدِ
والمؤمنِ العَائِذَاتِ الطَّيرَ ، تَمسَحُهَـا
رُكبَانُ مَكَّـةَ بَيـنَ الغَيْـلِ والسَّعَـدِ
مَا قُلتُ مِنْ سـيّءٍ مِمّـا أُتيـتَ بِـهِ
إِذاً فَلاَ رفَعَتْ سَوطِـي إلَـيَّ يَـدِي
إلاَّ مَقَالَـةَ أَقــوَامٍ شَقِـيـتُ بِـهَـا
كَانَتْ مقَالَتُهُـمْ قَرْعـاً عَلَـى الكَبِـدِ
إِذاً فعَاقَبَـنِـي رَبِّــي مُعَـاقَـبَـةً
قَرَّتْ بِهَا عَيـنُ مَـنْ يَأتِيـكَ بالفَنَـدِ
أُنْبِئْـتُ أنَّ أبَـا قَابُـوسَ أوْعَـدَنِـي
وَلاَ قَـرَارَ عَلَـى زَأرٍ مِـنَ الأسَـدِ
مَهْـلاً ، فِـدَاءٌ لَـك الأَقـوَامُ كُلّهُـمُ
وَمَا أُثَمّـرُ مِـنْ مَـالٍ ومِـنْ وَلَـدِ
لاَ تَقْذِفَنّـي بُركْـنٍ لاَ كِـفَـاءَ لَــهُ
وإنْ تأثّـفَـكَ الأَعــدَاءُ بـالـرِّفَـدِ
فَمَا الفُـراتُ إِذَا هَـبَّ الرِّيَـاحُ لَـهُ
تَرمِـي أواذيُّـهُ العِبْرَيـنِ بالـزَّبَـدِ
يَمُـدّهُ كُـلُّ وَادٍ مُـتْـرَعٍ ، لـجِـبٍ
فِيهِ رِكَـامٌ مِـنَ اليِنبـوتِ والخَضَـدِ
يَظَلُّ مِنْ خَوفِهِ ، المَـلاَّحُ مُعتَصِمـاً
بالخَيزُرانَـة ، بَعْـدَ الأيـنِ والنَّجَـدِ
يَومـاً ، بأجـوَدَ مِنـهُ سَيْـبَ نافِلَـةٍ
وَلاَ يَحُولُ عَطـاءُ اليَـومِ دُونَ غَـدِ
هَذَا الثَّنَاءُ ، فَإِنْ تَسمَـعْ بِـهِ حَسَنـاً
فَلَمْ أُعرِّضْ ، أَبَيتَ اللَّعنَ ، بالصَّفَـدِ
هَـا إنَّ ذِي عِـذرَةٌ إلاَّ تَكُـنْ نَفَعَـتْ
فَـإِنَّ صَاحِبَهـا مُـشَـارِكُ النَّـكَـدِ
شرح المعلقة
اعتبر التبريزي قصيدة النابغة الدالية الاعتذارية من القصائد العشر وهي المعلّقات المذهبات. ومطلع هذه القصيدة:
يا دار ميَّة بالعلياء فالسَّنَدِ- أقْوَتْ وطال عليها سالِفُ الأبد
ومن أهم جوانب هذه القصيدة: ذكر الديار الدارسة، الانتقال إلى وصف الناقة وتشبيهها في قوّتها ونشاطها بالثور الوحشي، وصف الصراع بين الثور والكلاب، التخلص من وصف الناقة إلى مدح النعمان، الاعتذار والاجتهاد في تبرئة نفسه مما اتهم به.
وفي شعر النابغة بعامة، وفي غسّانياته كما في اعتذارياته، ومنها قصيدته الدالية التي أنزلها التبريزي منزلة المعلّقات.. في جميع ذلك تتجلّى صورة واحدة لشاعرية متكاملة ذات خصائص بيّنة واضحة المعالم من أهمها البعد عن التكلف ودقة التعبير وحسن الديباجة ورونقها والعناية بالكنايات والاستدارات التشبيهية فضلاً عن الاستهلالات الجيدة وحسن التخلص إلى الأغراض الأساسية كالمدح والاعتذار.
ويبدو أن النابغة لم يطب له المقام طويلاً بين غساسنة الشام، أو أنه هيّجه حنينُه إلى العراق. وكان الزمن أسرع إلى برْء النابغة من خوفه وألمه من النعمان، وإلى إذابة أحقاد النعمان على النابغة، مما زرعه في نفسه الحسَّاد والوشاة. ولذلك يعود النابغة إلى قصور الحيرة، تسبقه اعتذاريات رائعة للملك، كان من أفضلها القصيدة الدّاليّة. ولقد فتحت هذه القصيدة باب الحيرة وقلب ملكها أمام الشاعر الطريد مرة أخرى، وعاد الصّفاء إلى علاقتهما.
والقصيدة تتردّد ما بين الوقوف على الأطلال عبر نغم جديد حزين، إلى وصف ناقته وتشبيهها بالثّور، ومناظر من الصّيد والقنص، والعراك ما بين الثور والكلاب، إلى أن بلغ موضوعه الأساسي، فيقدّم نفسه مرة أخرى للملك، مُبْرءاً ومبرراً من أخطائه، معتذراً عن الجفوة السابقة، لاجئاً أخيراً إلى نوع من المديح المغلّف بالحب والصداقة، وتكرار طلب التصافي والإخلاص ما بين ندّيْن.
ويمتزج النفس القصصي بالسيّالة الشعريّة، حتى يبدو ثمة انسجام داخلي، في بنية القصيدة. وفي لوحة وقوفه أمام الأطلال عرض لخلاصة قصة حب، كان ذروتها ذلك البيت الشّهير.
أمست خلاءاً وأمسى أهلُها احتملُوا- أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ.
وقد تضمن كذلك إشارة إلى أسطورة لبد، التي توحي بجبروت الزمان واندراس الذكريات، ومضيّ الأحبة، تحت كرّ أيامه. وينتقل الشاعر إلى وصف منظر صيد، بعد أن يشبه ناقته بالثور، ثم كيف همت الكلاب بالصيد. ويستخدم الشاعر صوراً واقعية بارعة في وصف التَّضاد والصراع، وألوان الهجوم والطعن. ويرصد لكرم الملك وشجاعته بصور مضخَّمة، مفَخَّمة، اللّفظ والإيحاء والتشابيه. حتى يصل إلى قصة أخرى، هي قصة زرقاء اليمامة، وكأنه في تشبيه صواب الرؤية عند الملك بزرقاء اليمامة، يطلب منه أن يحكم في موضوعه بنفس النظرة والروية
النابغة الذبياني
هو زياد بن معاوية بن ضباب البياني ؛ كنيته أبو أمامة ، و لقبه النابغة ، لقب به نبوغه في الشعر
و إكثاره منه بعدما احتنك .
قال عنه ابن رشيق في عمدته : " إن شعره كان نظيفاً من العيوب ، لأنه قاله كبيراً ،
و مات عن قرب و لم يهتر " أراد أنه لم يخرف و يضعف عقله .
و هو أحد شعراء الطبقة الأولى ، المقدمين على سائر الشعراء ، عده ابن سلام بعد امرئ القيس و قبل زهير و الأعشى . و كان عمر بن الخطاب يعده أشعر العرب .
أخبر ربعي بن مراش قال : قال عمر : يا معشر غطفان ، من الذي يقول :
أتيتك عارياً خلقـاً ثيابـي ؛؛ على خوف ، تظن بي الظنون
قلنا : النابغة . قال : ذاك أشعر شعرائكم .
و روى الشعبي أن عمر قال : من أشعر الناس ؟ قالوا : أنتم أعلم يا أمير المؤمنين . قال : من الذي يقول :
إلا سليمان ، إذ قال الإلـه لـه :قم في البرية ، و احددها عن الفند
و خيس الجن ، إني قد أذنت لهميبنون تدمر بالصفـاح و العمـد
قالوا : النابغة . قال : فمن الذي يقول
حلفت ، فلم أترك لنفسك ريبـة ،و ليس ، وراء الله ، للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشايـة ،لمبلغك الواشي أغـش و أكـذب
و لست بمستبـق أخـاً لا تلمـهعلى شعث ، أي الرجال المهذب ؟
قالوا : النابغة . قال : فذا أشعر الععرب .
و روى ابن المؤمل قال : قام رجل إلى ابن عباس فقال : أي الناس أشعر ؟ فقال ابن عباس : أخبره يا أبا الأسود الدؤلي . قال : الذي يقول :
فإنك كالليل الذي هـو مدركـي ؛؛ و إن خلت أن المنتأى عنك واسع
و النابغة شاعر بلاط تردد إلى قصور الملوك في العراق و الشام و مدحهم و أخذ جوائزهم .
و قد حظي عند أبي قابوس النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، فقربه إليه دون سائر الشعراء ، و جعله في حاشيته ينادمه و يؤاكله في آنية من الفشة و الذهب .
و هو أول شاعر تكسب بشعره ، فكثر ماله . و قد جر عليه تقريب النعمان له ، و إغداقه عليه العطايا ، حسد المنخل اليشكري ، الشاعر ، و أبناء عوف بن قريع ، و كانوا من بطانة النعمان ، فأخذوا يتربصون به ليبعدوه عن بلاط المناذرة .
و اتفق أن نظم النابغة قصيدته الشهيرة في المتجردة زوج النعمان ، و ذكر في وصفه لها ما لا يليق ذكره . فاتخذها المنخل اليشكري ، و كان يهوى المتجردة ، حجة لإيغار صدر النعمان عليه ، فخاف النابغة ، و هرب إلى قبيلته ، فاغتنم الأقارع فرصة غيابه و نظموا ، على لسانه ، أبيات هجو للنعمان ، و أوصلوها إليه فزادوا في نقمته عليه . و على كونه كان سيداً من سادات قبيلته يرجعون إليه في خطوبهم ، فيليبهم ، لم يسلم من حسد بني قومه لعفته و شرفه ؛ فنالوا منه بألسنتهم ، فتضايق و انطلق إلى الغساسنة في الشام ، و نزل بعمرو بن الحارث الأصغر ، فمدحه و مدح أخاه النعمان . ثم انقطع بعد موت النعمان الغساني إلى أخيه عمرو ، فلبث عنده إلى أن رضي عنه النعمان بن المنذر ، فعاد إليه و بقي في بلاط المناذرة إلى أن مات .
و كان في أثناء نزوله عند الغساسنة ، يمدح النعمان بن المنذر ، و يعتذر إليه ، مبرئاً نفسه مما رماه به أبناء عوف بن قريع . و هذه القصائد ، التي مدح بها النععمان و اعتذر إليه ، هي التي تسمى الاعتذاريات . و هي من أجمل شعر النابغة ، اشتهر فيها بلياليه التي صور فيها خشيته النعمان ، حتى ضرب المثل فيها فقيل : ليلة نابغية .
و سئل عمرو بن العلاء بذلك فقيل له : أمن مخافته امتدح النعمان و أتاه بعد هربه أم لغير ذلك ؟
فقال : " لا لعمر الله ، لا لمخافته فعل ، إن كان لآمناً من أن يوجه إليه جيشاً ، و ما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة ، و لكنه رغب في عطاياه و عصافيره . " و العصافير نوق كرائم من ذوات السنامين ، كانت للنعمان ، و كان االنعمان يعطي النابغة منها .
و كان النابغة حكم سوق عكاظ تضرب له قبة من أدم ، و يأتيه الشعراء ، فيعرضون عليه أشعارهم ، فيحكم لأفضلهم بالجائزة التي كانت تقدمها قريش ، أو الغساسنة .
و اختياره لهذا المنصب دليل على ما كان له من مقام رفيع ، و على ملكة النقد الأدبي المتأصلة قيه ،
و حسن تذوقه لفن الشعر .
و كان يستعبد قريحته لفنه فيعنى بتهذيب شعره و تنقيحه ، و بحسن اختيار الألفاظ الجميلة الموسيقية .
قيل : إنه كان يقول : إن في شعري عاهة ما أقف عليها . و كانت هذه العاهة الأقواء ، و هو اختلاف حركة الروي فتكون في بيت ضمة ، و في آخر كسرة . " فلما قدم المدينة هابوه أن يقولوا له : إنه يقوي ، فدعوا قينة و أمروها أن تغني في شعره ، ففعلت ؛ فلما سمع قوله : واتقتنا باليد ؛ و يكاد من اللطافة يعقد ، تبين له ، لما مدت باليد فصارت الكسرة ياء ، و مدت يعقد فصارت الضمة كالواو ، ففطن ، فغيره و جعله : عنم على أغصانه لم يعقد . و كان يقول : وردت يثرب و في شعري بعض العاهة ، فصدرت عنها و أنا أشعر الناس . "
و النابغة شاعر مطبوع ، و مصور بارع ، و من صوره ما هو حسي و ما هو خيالي ، يدخل فيها قصصاً لذيذاً ، تحليه جزالة صنع حاذق ، دقيق الاحساس بجمال اللفظ ، بعيد من التكلف و الهجنة . و قد أصاب ابن سلام حين وصفه بقوله : " إنه كان أحسنهم ديباجة شعر ، و أكثرهم رونق كلام ، و أجزلهم بيتاً ، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف
المعلقة
يَـا دَارَ مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ ، فالسَّـنَـدِ
أَقْوَتْ ، وطَالَ عَلَيهَـا سَالِـفُ الأَبَـدِ
وقَفـتُ فِيهَـا أُصَيـلانـاً أُسائِلُـهـا
عَيَّتْ جَوَاباً ، ومَا بالرَّبعِ مِـنْ أَحَـدِ
إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيــاً مَــا أُبَيِّنُـهَـا
والنُّؤي كَالحَوْضِ بالمَظلومـةِ الجَلَـدِ
رَدَّتْ عَلـيَـهِ أقَاصِـيـهِ ، ولـبّـدَهُ
ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بالمِسحَـاةِ فِـي الثَّـأَدِ
خَلَّـتْ سَبِيـلَ أَتِـيٍّ كَـانَ يَحْبِسُـهُ
ورفَّعَتْهُ إلـى السَّجْفَيـنِ ، فالنَّضَـدِ
أمْسَتْ خَلاءً ، وأَمسَى أَهلُهَا احْتَمَلُوا
أَخْنَى عَليهَا الَّذِي أَخْنَـى عَلَـى لُبَـدِ
فَعَدِّ عَمَّا تَـرَى ، إِذْ لاَ ارتِجَـاعَ لَـهُ
وانْـمِ القُتُـودَ عَلَـى عَيْرانَـةٍ أُجُـدِ
مَقذوفَةٍ بِدَخِيـسِ النَّحـضِ ، بَازِلُهَـا
لَهُ صَريفٌ ، صَريفُ القَعْـوِ بالمَسَـدِ
كَأَنَّ رَحْلِي ، وَقَـدْ زَالَ النَّهَـارُ بِنَـا
يَومَ الجليلِ ، عَلَـى مُستأنِـسٍ وحِـدِ
مِنْ وَحشِ وَجْرَةَ ، مَوْشِـيٍّ أَكَارِعُـهُ
طَاوي المَصِيرِ ، كَسَيفِ الصَّيقل الفَرَدِ
سَرتْ عَلَيهِ ، مِنَ الجَوزَاءِ ، سَارِيَـةٌ
تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيـهِ جَامِـدَ البَـرَدِ
فَارتَاعَ مِنْ صَوتِ كَلاَّبٍ ، فَبَاتَ لَـهُ
طَوعَ الشَّوَامتِ مِنْ خَوفٍ ومِنْ صَرَدِ
فبَثّهُـنَّ عَلَـيـهِ ، واستَـمَـرَّ بِــهِ
صُمْعُ الكُعُوبِ بَرِيئَاتٌ مِـنَ الحَـرَدِ
وكَانَ ضُمْرانُ مِنـهُ حَيـثُ يُوزِعُـهُ
طَعْنَ المُعارِكِ عِندَ المُحْجَـرِ النَّجُـدِ
شَكَّ الفَريصـةَ بالمِـدْرَى ، فَأنفَذَهَـا
طَعْنَ المُبَيطِرِ ، إِذْ يَشفِي مِنَ العَضَـدِ
كَأَنَّه ، خَارجَا مِـنْ جَنـبِ صَفْحَتِـهِ
سَفّـودُ شَـرْبٍ نَسُـوهُ عِنـدَ مُفْتَـأَدِ
فَظَلّ يَعْجُمُ أَعلَى الـرَّوْقِ ، مُنقبضـاً
فِي حالِكِ اللّونِ صَدْقٍ ، غَيرِ ذِي أَوَدِ
لَمَّا رَأَى واشِـقٌ إِقعَـاصَ صَاحِبِـهِ
وَلاَ سَبِيـلَ إلـى عَقْـلٍ ، وَلاَ قَـوَدِ
قَالَتْ لَهُ النَّفسُ : إنِّي لاَ أَرَى طَمَعـاً
وإنَّ مَولاكَ لَمْ يَسلَـمْ ، ولَـمْ يَصِـدِ
فَتِلكَ تُبْلِغُنِي النُّعمَانَ ، إنَّ لـهُ فَضـلاً
عَلَى النَّاس فِي الأَدنَى ، وفِي البَعَـدِ
وَلاَ أَرَى فَاعِلاً ، فِي النَّاسِ ، يُشبِهُـهُ
وَلاَ أُحَاشِي ، مِنَ الأَقوَامِ ، مِنْ أحَـدِ
إلاَّ سُليمَـانَ ، إِذْ قَـالَ الإلـهُ لَــهُ
قُمْ فِي البَرِيَّة ، فَاحْدُدْهَا عَـنِ الفَنَـدِ
وخيّسِ الجِنّ ! إنِّي قَـدْ أَذِنْـتُ لَهـمْ
يَبْنُـونَ تَدْمُـرَ بالصُّفّـاحِ والعَـمَـدِ
فَمَـن أَطَاعَـكَ ، فانْفَعْـهُ بِطَاعَـتِـهِ
كَمَا أَطَاعَكَ ، وادلُلْـهُ عَلَـى الرَّشَـدِ
وَمَـنْ عَصَـاكَ ، فَعَاقِبْـهُ مُعَاقَـبَـةً
تَنهَى الظَّلومَ ، وَلاَ تَقعُدْ عَلَى ضَمَـدِ
إلاَّ لِمثْلـكَ ، أَوْ مَـنْ أَنـتَ سَابِقُـهُ
سَبْقَ الجَوَادِ ، إِذَا استَولَى عَلَى الأَمَدِ
أَعطَـى لِفَارِهَـةٍ ، حُلـوٍ تَوابِعُـهَـا
مِنَ المَواهِبِ لاَ تُعْطَـى عَلَـى نَكَـدِ
الوَاهِـبُ المَائَـةِ المَعْكَـاءِ ، زَيَّنَهَـا
سَعدَانُ تُوضِحَ فِـي أَوبَارِهَـا اللِّبَـدِ
والأُدمَ قَـدْ خُيِّسَـتْ فُتـلاً مَرافِقُهَـا
مَشْـدُودَةً بِرِحَـالِ الحِيـرةِ الجُـدُدِ
والرَّاكِضاتِ ذُيولَ الرّيْـطِ ، فانَقَهَـا
بَرْدُ الهَوَاجـرِ ، كالغِـزْلاَنِ بالجَـرَدِ
والخَيلَ تَمزَعُ غَرباً فِي أعِنَّتهَا كالطَّيرِ
تَنجـو مِـنْ الشّؤبـوبِ ذِي الـبَـرَدِ
احكُمْ كَحُكمِ فَتاةِ الحَـيِّ ، إِذْ نظـرَتْ
إلـى حَمَـامِ شِـرَاعٍ ، وَارِدِ الثَّمَـدِ
يَحُفّـهُ جَانِـبـا نِـيـقٍ ، وتُتْبِـعُـهُ
مِثلَ الزُّجَاجَةِ ، لَمْ تُكحَلْ مِنَ الرَّمَـدِ
قَالَتْ : أَلاَ لَيْتَمَـا هَـذا الحَمَـامُ لَنَـا
إلـى حَمَامَتِنَـا ونِصـفُـهُ ، فَـقَـدِ
فَحَسَّبـوهُ ، فألفُـوهُ ، كَمَـا حَسَبَـتْ
تِسعاً وتِسعِينَ لَمْ تَنقُـصْ ولَـمْ تَـزِدِ
فَكَمَّلَـتْ مَـائَـةً فِيـهَـا حَمَامَتُـهَـا
وأَسْرَعَتْ حِسْبَـةً فِـي ذَلـكَ العَـدَدِ
فَلا لَعمرُ الَّذِي مَسَّحتُ كَعْبَتَـهُ وَمَـا
هُرِيقَ ، عَلَى الأَنصَابِ ، مِنْ جَسَـدِ
والمؤمنِ العَائِذَاتِ الطَّيرَ ، تَمسَحُهَـا
رُكبَانُ مَكَّـةَ بَيـنَ الغَيْـلِ والسَّعَـدِ
مَا قُلتُ مِنْ سـيّءٍ مِمّـا أُتيـتَ بِـهِ
إِذاً فَلاَ رفَعَتْ سَوطِـي إلَـيَّ يَـدِي
إلاَّ مَقَالَـةَ أَقــوَامٍ شَقِـيـتُ بِـهَـا
كَانَتْ مقَالَتُهُـمْ قَرْعـاً عَلَـى الكَبِـدِ
إِذاً فعَاقَبَـنِـي رَبِّــي مُعَـاقَـبَـةً
قَرَّتْ بِهَا عَيـنُ مَـنْ يَأتِيـكَ بالفَنَـدِ
أُنْبِئْـتُ أنَّ أبَـا قَابُـوسَ أوْعَـدَنِـي
وَلاَ قَـرَارَ عَلَـى زَأرٍ مِـنَ الأسَـدِ
مَهْـلاً ، فِـدَاءٌ لَـك الأَقـوَامُ كُلّهُـمُ
وَمَا أُثَمّـرُ مِـنْ مَـالٍ ومِـنْ وَلَـدِ
لاَ تَقْذِفَنّـي بُركْـنٍ لاَ كِـفَـاءَ لَــهُ
وإنْ تأثّـفَـكَ الأَعــدَاءُ بـالـرِّفَـدِ
فَمَا الفُـراتُ إِذَا هَـبَّ الرِّيَـاحُ لَـهُ
تَرمِـي أواذيُّـهُ العِبْرَيـنِ بالـزَّبَـدِ
يَمُـدّهُ كُـلُّ وَادٍ مُـتْـرَعٍ ، لـجِـبٍ
فِيهِ رِكَـامٌ مِـنَ اليِنبـوتِ والخَضَـدِ
يَظَلُّ مِنْ خَوفِهِ ، المَـلاَّحُ مُعتَصِمـاً
بالخَيزُرانَـة ، بَعْـدَ الأيـنِ والنَّجَـدِ
يَومـاً ، بأجـوَدَ مِنـهُ سَيْـبَ نافِلَـةٍ
وَلاَ يَحُولُ عَطـاءُ اليَـومِ دُونَ غَـدِ
هَذَا الثَّنَاءُ ، فَإِنْ تَسمَـعْ بِـهِ حَسَنـاً
فَلَمْ أُعرِّضْ ، أَبَيتَ اللَّعنَ ، بالصَّفَـدِ
هَـا إنَّ ذِي عِـذرَةٌ إلاَّ تَكُـنْ نَفَعَـتْ
فَـإِنَّ صَاحِبَهـا مُـشَـارِكُ النَّـكَـدِ
شرح المعلقة
اعتبر التبريزي قصيدة النابغة الدالية الاعتذارية من القصائد العشر وهي المعلّقات المذهبات. ومطلع هذه القصيدة:
يا دار ميَّة بالعلياء فالسَّنَدِ- أقْوَتْ وطال عليها سالِفُ الأبد
ومن أهم جوانب هذه القصيدة: ذكر الديار الدارسة، الانتقال إلى وصف الناقة وتشبيهها في قوّتها ونشاطها بالثور الوحشي، وصف الصراع بين الثور والكلاب، التخلص من وصف الناقة إلى مدح النعمان، الاعتذار والاجتهاد في تبرئة نفسه مما اتهم به.
وفي شعر النابغة بعامة، وفي غسّانياته كما في اعتذارياته، ومنها قصيدته الدالية التي أنزلها التبريزي منزلة المعلّقات.. في جميع ذلك تتجلّى صورة واحدة لشاعرية متكاملة ذات خصائص بيّنة واضحة المعالم من أهمها البعد عن التكلف ودقة التعبير وحسن الديباجة ورونقها والعناية بالكنايات والاستدارات التشبيهية فضلاً عن الاستهلالات الجيدة وحسن التخلص إلى الأغراض الأساسية كالمدح والاعتذار.
ويبدو أن النابغة لم يطب له المقام طويلاً بين غساسنة الشام، أو أنه هيّجه حنينُه إلى العراق. وكان الزمن أسرع إلى برْء النابغة من خوفه وألمه من النعمان، وإلى إذابة أحقاد النعمان على النابغة، مما زرعه في نفسه الحسَّاد والوشاة. ولذلك يعود النابغة إلى قصور الحيرة، تسبقه اعتذاريات رائعة للملك، كان من أفضلها القصيدة الدّاليّة. ولقد فتحت هذه القصيدة باب الحيرة وقلب ملكها أمام الشاعر الطريد مرة أخرى، وعاد الصّفاء إلى علاقتهما.
والقصيدة تتردّد ما بين الوقوف على الأطلال عبر نغم جديد حزين، إلى وصف ناقته وتشبيهها بالثّور، ومناظر من الصّيد والقنص، والعراك ما بين الثور والكلاب، إلى أن بلغ موضوعه الأساسي، فيقدّم نفسه مرة أخرى للملك، مُبْرءاً ومبرراً من أخطائه، معتذراً عن الجفوة السابقة، لاجئاً أخيراً إلى نوع من المديح المغلّف بالحب والصداقة، وتكرار طلب التصافي والإخلاص ما بين ندّيْن.
ويمتزج النفس القصصي بالسيّالة الشعريّة، حتى يبدو ثمة انسجام داخلي، في بنية القصيدة. وفي لوحة وقوفه أمام الأطلال عرض لخلاصة قصة حب، كان ذروتها ذلك البيت الشّهير.
أمست خلاءاً وأمسى أهلُها احتملُوا- أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ.
وقد تضمن كذلك إشارة إلى أسطورة لبد، التي توحي بجبروت الزمان واندراس الذكريات، ومضيّ الأحبة، تحت كرّ أيامه. وينتقل الشاعر إلى وصف منظر صيد، بعد أن يشبه ناقته بالثور، ثم كيف همت الكلاب بالصيد. ويستخدم الشاعر صوراً واقعية بارعة في وصف التَّضاد والصراع، وألوان الهجوم والطعن. ويرصد لكرم الملك وشجاعته بصور مضخَّمة، مفَخَّمة، اللّفظ والإيحاء والتشابيه. حتى يصل إلى قصة أخرى، هي قصة زرقاء اليمامة، وكأنه في تشبيه صواب الرؤية عند الملك بزرقاء اليمامة، يطلب منه أن يحكم في موضوعه بنفس النظرة والروية