تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سياسة الحجاز تجاه الاقطار العربية الواقعة تحت الانتداب وبعض الاقاليم المجاوره


الامير حريبيش
25-Mar-2008, 11:40 AM
سياسة الحجاز تجاه الاقطار العربية الواقعة تحت الانتداب وبعض الاقاليم المجاوره :
1ـ سورية:
(أ*) موقف الحجاز من الاحتلال الفرنسي لسورية عام 1920: لم تنته المفاوضات بين الامير فيصل والحلفاء في مؤتمر الصلح الى حل مرض بشأن سورية، واصرت فرنسا على فرض سيادتها على البلاد. وكانت آخر الجهود المبذولة للتفاهم محادثات فيصل مع كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي (تشرين اول 1919-كانون الثاني 1920) والتي انتهت باتفاق مبدأي يقضي باستقلال شكلي لسورية والاعتراف بانفصال لبنان سياسيا عنها على ان يقوم مؤتمر الصلح بتعيين الحدود . لكن الامير فيصل اعتذر عن توقيع الاتفاق لرفض السوريين له، ووعد بعرض المشروع عليهم واقناعهم بقبوله . غير انه فشل في ذلك لاصرارهم، فضلا عن وقوف والده الى جانبهم. اذ بعث الاخير برسالة الى فيصل عمد الى نشرها في جريدة الاهرام جاء فيها" انه لا يقر ادنى مادة ياتي بها الامير فيصل مندوبه في مؤتمر الصلح يكون من مقتضاها الاخلال بشيء من حقوق البلاد العربية واستقلالها التام المطلق، على فرض وقوع ذلك من الامير" . ومن جهة اخرى ـ لم يكتف السوريون باعتراضهم السابق، وراحوا لاستكمال ذلك وقرروا عبر المؤتمر السوري الذي عقدوه في 6 آذار 1920 باستقلال سوريا بحدودها الطبيعية، وتنصيب فيصل ملكا دستوريا على البلاد في 8 من الشهر نفسه. وقد حظى هذا القرار بتأييد الحسين طبعا كما جاء ذلك في برقيته التي بعث بها الى المؤتمر الاخير . الى جانب تأييده لقرار المؤتمر العراقي ، الذي رشح فيه الامير عبد الله ملكا على العراق .
وعلى اية حال فإن الخطوات الاخيرة ومعارضة الحسين للخطط الفرنسية في احتلال سورية، لم تكن تمنع من تنفيذ ما اتفق عليه في معاهدة سايكس بيكو. فقد عمد قطبا المعاهدة الرئيسان بريطانيا وفرنسا بالتحرك لتنفيذها، واخذت القوات الفرنسية تحت قيادة الجنرال (غورو) بالتحرك لاحتلال سورية. ولفشل الملك فيصل في إقناع الجنرال بالعدول عن إنذاره الذي وجهه الى الحكومة السورية في 14 تموز 1920. ولتجنب الصدام العسكري مع القوات الفرنسية، اعلن عن استجابته لشروط (غورو) والتي ضمنها إنذاره المذكور في 17 تموز، الامر الذي أثار معارضة الاوساط الشعبية وسخطها . اما بالنسبة لموقف الملك حسين فقد اجاب فيصل بعد اتصال الاخير به بصدد الانذار ـ انه لم ولا يجد ما يقوله (الا إنقاذك لرغائب الشعب بصورة قطعية لما في مخالفته من الجريمة الكبرى واني تابع لقراراته كيفما أراد وشريكه في كلتا الحالتين كما تلزمني به الجنسية والقومية، ونحن لم نزل متخذين ما في الوسع من التشبثات منتظرين منك جواب الاخير بما يراد . كما اتصل الحسين من جهة اخرى بممثلي كل من بريطانية وفرنسا وايطاليا في جدة واعرب عن رفضه لإنذار غورو، واكد على وحدة الحجاز وسورية والعراق وفلسطين، بغض النظر ان تتبع او يتبع الحجاز لبعضها، وذهب مهددا بالالتحاق في صفوف السوريين او ارسال احد انجاله ، في الوقت الذي ناشد فيه (لويد جورج) بالتدخل . ومهما يكن فقد دخلت القوات الفرنسية دمشق ورفع الحسين ـ احتجاجا استنكر فيه الاعمال الفرنسية وذهب في 28 تموز الى ابعد من ذلك وسحب مندوب الحجاز في مؤتمر الصلح في باريس ، واعقبته وزارة خارجيته باحتجاج رسمي آخر الى عدد من الدول الاوربية تستنكر فيه العدوان الفرنسي والادعاء الذي يعتبر اعمال فرنسا تنفيذا لمقررات مؤتمر السلم، الذي لم ينصف حقوق العرب كحلفاء منتصرين كما يقتضيه أي تحالف. مذكرا ان الجيوش العربية كانت اول من دخل دمشق عام 1918 .
وبعد مضي شهر على سقوط النظام الهاشمي في دمشق، وقعت في حوران في سورية انتفاضة قادها شيوخ المنطقة ضد السلطات الفرنسية ، كان للحسين نصيب معين فيها. اذ اضطر قادة هذه الانتفاضة ـ فضلا عن وقوف اهالي شرقي الاردن جانبهم واستجابة الى طلب العون من الملك حسين وإيفاد من يؤهله لتزعم الحركة واستجابة لذلك بعث الحسين في 15/ايلول 1920 ببرقية الى الجنرال (اللنبي) أشار فيها الى ما جاء في رسائل زعماء القبائل السورية، ووصفها بانها"تنذر بالكوارث والاخطار"، ولخشيته من هذه النتائج فإنه يحيط (اللنبي) علما بذلك داعيا لاتخاذ ما يلزم من جهة ثانية بعث الحسين بنجله الامير عبد الله مع قوات معينة باتجاه شرقي الاردن، لعله كان يهدف من ورائها ـ كما ذهب الزركلي ـ " ليكون عبد الله وكيل اخيه في ما حول سورية من الاراضي التي لم يحتلها الفرنسيون" ، خصوصا وان هناك من والوه وطلبوا عونه وإرسال من ينوب نجله فيصل ، وكأن لاحداث حوران واستغاثة أهلها اثرها في حركة عبد الله الاخيرة، اذ يشير بعض الذين كانوا يحيطون بالملك حسين ، ان الاخير اخذ بنصيحة اصحابه بشأن إرسال احد انجاله لهذا الغرض، واختار عبد الله في النهاية لتولي ذلك ، خصوصا وان الاخير كان ناقما على الانكليز لحيلولتهم دون استئثاره بعرش العراق، الذي رشح اليه من قبل العراقيين في آذار الماضي كما تقدم .
ومن الجائز ايضا ان يكون لتصورات الحسين عن البرقيات التي تسلمها من اهالي حوران ومعان أثرها في اتخاذ مثل هذه البادرة، كأن تكون قد اوحت له بأن البلاد في ثورة لاتحتاج غير القيادة . وعلى اية حال فقد غادر الامير عبد الله اواخر ايلول 1920 ومعه من القوات ما يترواح من 500 – 1000 مقاتل، وانتهى في عمان فيما بعد راضيا بالمنصب الذي اختاره له الانكليز لحكم شرق الاردن، في الوقت الذي سبقه فيه فيصل للتربع على عرش العراق، الامر الذي كان له اثره كما يبدو في الارباك الذي طغى على موقف الهاشميين من القضية السورية، ومراوحتها بين المطالبة بالحقوق والتروي في حصولها . فمع شكره للتعاطف ـ الذي نقله فيصل وهو في طريقه لتسنم عرش العراق ـ ورغم الاضطراب الذي اصاب علاقته مع بريطانيا، فإن الحسين يرضخ الى (تأجيل امر سورية الى مدة معلومة ملتمسا الشرف البريطاني ان لا يتكلف بما يشق او يكلف مسلكه السياسي لئلا نقع ثانية في مضاعفة طمس تاريخنا والحكم العمومي علينا بالدنائة ..." ويعرب عن هذا الموقف ذاته في برقية اخرى الى رئيس وزراء بريطانية في 10 مايس 1921 . وكان فيصل قبيل تركه الحجاز الى العراق قد شاطر موقف والده المذكور في رسالة كان وجهها الى الميجر مارشال ( Marshall ) في 3 مايس عبر فها عن شكر والده للتغير الذي طرأ على الموقف البريطاني . مع احتفاظه (الحسين) بموقفه السابق من القضية السورية وحقوق العرب فيها وما يترتب عليه من إلفات نظر بريطانيا بشأنها (كي لا تبقى فيما بعد متروكة في زوايا الاهمال" .
موقف الحجاز من احداث سورية عام 1922: كان ـ لاحداث العنف والصدامات التي وقعت في سورية سنة 1922 وبعض الصيحات التي ارسلتها بعض الاوساط السياسية هناك نوع من الاستجابة في الحجاز رغم سلبيتها، على المستويين الرسمي والشعبي، فتشير بعض الصحف الى المظاهرات التي نظمها الاهالي في مختلف المدن الحجازية والاستنكار الذي اعربوا عنه للاحداث المؤسفة التي سببتها السلطات الفرنسية في سوريا. وقد شاطر الحسين هذه المشاعر في كلمة القاها بين المحتشدين في شوارع مكة واعلن عن استعداده للانخراط في صفوف المقاتلين دفاعا عن سورية، اذا ما استمر" رجال الاستعمار على غويتهم واذا لم تجبر الوسائل السلمية" .
واعقبه نائب رئيس وزرائه بكلمة تضمنت الاستنكار ذاته، توالت بعدها خطب الاحتجاج اللاحقة. وقد نشرت جريدة القبلة وصف هذه المظاهرات في مكة وجدة فضلا عن برقيات الاحتجاج التي رفعها الاهالي للملك وحكومته على السواء .
وكان الحسين ونائب رئيس وزرائه قد تلقيا عددا من برقيات الاحتجاج التي بعثت بها الاوساط السياسية السورية، وهي تهيب بالملك واتباعه للاضطلاع بدورهم في هذه الاحداث للحصول على استقلال البلاد . فلم يبخل الحسين بإضافة برقية اخرى ـ الى برقيات الاحتجاج القديمة، فهو يناشد رئيس الجمهورية الفرنسية ويطالب بالوعود او يتشبث بالثقة التي تمادى في تقديرها ببريطانيا ، كما جاء في برقيته الى ملك بريطانيا التي شرح فيها اوضاع سورية الاخيرة، ومطالبته بالوعود المقطوعة، وبرقيات اخرى بنفس المضمون الى رئيس وزراء بريطانيا، واخرى لنظيره الفرنسي واخرى لعصبة الامم .
وانتقد في رسالته الى المعتمد البريطاني في جدة تناقض السياسة البريطانية بين ادعاءاتها واعمالها. اذ لم تكن السياسة التركية ـ كما ادعى وزير خارجية بريطانيا سببا في إثارة شكوك العرب بسياسة الحلفاء، بعد ان اكدوها في سورية وفلسطين واعاب الحسين على المعتمد تصريحه بموقف الحلفاء الثابت جانب الشعوب المضطهدة (مع ما تفعله الحكومة الفرنسية لسكان دمشق وهو شيء معروف للعالم كما انه شيء لا يمكن للقلم وصفه، اين هو هذا الموقف الثابت...) .
وكانت (القبلة) قد تناولت احداث سورية الاخيرة، وسلطت هجومها، سواء ضد الوصاية الفرنسية على سورية ، ام ضد سياسة البطش التي اتبعتها في هذه البلاد ، وقالت في احدى مقالاتها عن هذه الاحداث بانها وصمة عار في تاريخ مدنية القرن العشرين .
2ـ العراق:
(أ) علاقة الحجاز بالحركة في العراق
كانت لثورة العرب في الحجاز بعض الصدى في إثارة الشعور القومي خلال الحرب ولعل ذلك راجع الى سياسة السلطات البريطانية سنة 1916 التي عمدت الى نشر اخبارها بين القبائل محاولة لتشجيعهم للقيام بوجه العثمانيين، غير انهم لم ينشروا الا النزر اليسير فيما بعد، وبالذات بعد احتلال بغداد، وسيرا مع السياسة التي انتهجتها حكومة الهند، ذهب مفوظفوها الى اقامة علاقات ودية مع العرب لترسيخ اقدامهم، وليس في خلق الشعور العربي القومي الذي قد يصطدم بسياسة بريطانيا .
والحقيقة ان الحسين لم يكن واثقا من سياسة السلطات البريطانية في بغداد، لاعتقاده بسعيها الى ازالة نفوذه او تقليصه في العراق، وهو تبرير ابدى المعتمد البريطاني في جدة ترجيحه إياه، في احدى رسائله الى السير (ونجت) في تموز 1918 .
ومع ذلك فإن قسما من الافراد في العراق كانوا على اتصال بالقوة الفعالة المساهمة في احداث سورية والحجاز، وذلك عن طريق الجرائد المصرية التي كانت تتسرب الى البلاد، والرسائل التي كانت تتصل عبر البادية . اذ كان الكثير من الضباط والجنود الذين ساهموا في الثورة عراقيين، الامر الذي ساعد على انتشارها بشكل لا بأس به ولعل هذا ما يفسر بعض الاشارات التي أوردتها التقارير البريطانية عن وجود نوع من الدعاية الشريفية في بعض مناطق البلاد، رغم عدم فاعليتها كما ورد.
وكان للتيار الشريفي كما يبدو مؤيدوه من الضباط العراقيين الذين كانوا يشكلون أغلب قوات الامير فيصل، أثناء تقدمه نحو الشام. وقد انتظم هؤلاء في جمعية (العهد العراقي) . في عام 1918،التي كان من جملة أهدافها ـ كما ذهبت المس بيل ـ استقلال العراق وتحريره من أية سيطرة أجنبية وربطه بسورية مستقلة في ظل أسرة الملك حسين في الحجاز .
ولعل الاتصالات التي اجراها قادة ثورة العشرين بالملك حسين ما يمكن ان يلقي ضوءا اكثر حول علاقة الطرفين. فقد عمد هؤلاء خلال الثورة، وبعد تصلب السلطات البريطانية ورفضها التفاهم معهم الى الاتصال بالحسين واطلاعه على الاوضاع الدائرة في العراق، والاهداف التي كانت تضمرها بريطانيا للبلاد، في محاولة منهم لعرض القضية العراقية في الخارج، بما في ذلك هدفهم في الاستقلال. وبعث قادة الثورة ممثلهم السيد محمد رضا الشبيبي الى الحسين، وزودوه ببعض المضابط والوثائق التي تضمنت سير القضية العراقية وتواقيع القوى المناهضة للاحتلال من قادة وطنيين الى رؤساء عشائر او رجال دين... الى جانب مطالبتهم الحسين للتدخل بما يحمل الانكليز للتفاهم وحل القضية حلا يتلاءم ومواقف الشعب العراقي المتمثلة بتاسيس دولة عربية مستقلة يرأسها امير عربي من العائلة الهاشمية. ويذكر الشبيبي (ان الملك حسين استعظم ذلك وتسلم هذه الاوراق بحذر واحتياط وكأنما يراقبه الانكليز...) اكد له بعدها انه كتب الى ممثله في مؤتمر الصلح عن حقيقة الاوضاع في العراق ومطالب سكانه الوطنية، اضافة الى المضابط المرسلة اليه من السكان انفسهم في الوقت الذي طمان فيه، قادة الثورة على مطالب العراقيين بإعتبارها مطاليبه . ولما ضيقت السلطات البريطانية خناقها على رؤساء الثورة لم يجد قسم منهم بدا من اللجوء الى الملك حسين . وقد سهل لهم الاخير مهمة القدوم الى الحجاز، بعد ان قام امير حايل ـ وبناء على طلب الحسين ـ بإيصالهم الى المدينة حيث نزلوا فيها ـ في 6 نيسان 1921 ـ ضيوفا على الامير علي، الذي اقترح عليهم السفر الى الممكلة للاجتماع بوالده وبأخيه الامير فيصل ـ الذي وصل الحجاز ومعه موافقة بريطانيا على تسنمه عرش العراق ـ وفي مكة طلب الحسين من الزعماء العراقيين مبايعة نجله فيصل ملكا على العراق، بدلا من أخيه عبد الله الذي كان قد رشح من قبل الضباط العراقيين لهذا المنصب . فلم يمانع الزعماء ذلك وبايعوا فيصلا على عرش العراق وقد اصطحب الاخير عند سفره للعراق خمسة من الزعماء اللاجئين، بينما تخلف البقية لأداء فريضة الحج .
بقي ان نشير اخيرا الى ماذهب اليه احد المسؤولين الانكليز .، بأن قسما من النقود التي ساهمت في دعم ثورة العشرين كانت تجهز من قبل الملك حسين مما كان يحتفظ به من الاموال المتبقية من المساعدات المالية البريطانية منذ فترة الحرب
(أ) موقف الحجاز من مشكلة الموصل : تفيد بعض المصادر شيئا عن دور الحسين في قضية الموصل خلال المفاوضات الجارية في (لوزان) بين بريطانية ـ نيابة عن العراق ـ والكماليين فيذكر ان الحسين تقدم بمذكرة رسمية الى مؤتمر لوزان في حوالي شباط 1923، احتج فيها على مزاعم الاتراك في الموصل، اذ ان الولاية ـ كما ذهب ـ ولكونها جزءا لايتجزأ من العراق، قضية لا تستدعي الاثبات، وعد مزاعم الكماليين فيها باطلة ولا اساس لها من الصحة، واعرب اخيرا عن تثمينه لجهود وزارة الخارجية البريطانية بهذا الشأن، واضاف الى هذه الجهود الى جانب جهوده وتأكيدات الحلفاء الاخرى للعرب سوف لن تسمح بإلحاق الضرر بمصالح العرب السياسية والاقتصادية .
غير ان التقارب الذي بدت علائمه بين الحجاز والكماليين في مؤتمر لوزان كما تقدم، دفع بالحسين الى شبه مناورة سياسة يبدو انه هدف من وراءها استثارة بريطانيا، واستعادة مكانته لديها، خصوصا وان علاقته بها كانت تمر بفترة خمول وجفوة، ومن هنا جاء إبلاغه لحكومة أنقرة بالموقف الحيادي الذي ستتخذه سياسته الخارجية في المستقبل او بكلمة اخرى صرف نظره عن علاقاته ببريطانيا.
ومن الطبعي ان تستفسر بريطانيا عن الموقف الاخير كما جاء ذلك في رسالة السير هنري دوبس الى الملك فيصل، وعما اذا كان هذا الموقف خطوة للتخلي عن موقف التعاون مع بريطانيا، او ترك قضية الموصل بيد الحكومة البريطانية . ولعل ما يزيد استفسار المسؤولين الانكليز وجاهة، شكوكهم التي اظهروها عن وجود نوع من الاتصال بين الحسين والكماليين وانه اخذ" يمضغ الطعم الذي لوح به عصمت باشا" . يعزر ذلك إجراؤه بسحب نجله (الامير زيد) عن الموصل وطلبه العودة الى الحجاز . الذي فسرته الحكومة البريطانية بانه تأكيد للتأويل الاول المدرج أعلاه (التخلي عن التعاون مع بريطانيا). ونبهت الى كونه خطأ عظيما، نصحوا الحسين بتجنبه او بعكسه تضطر بريطانيا الى اعادة النظر في علاقاتها مع العرب .
وجدير بالذكر ان الحسين ـ سيرا مع خطواته الاخيرة ـ عمد الى سحب نجله الامير زيد من الموصل الذي اوفد لتولي مهمة توحيد موقف السكان وتعاونهم ضد أي هجوم تركي على الموصل، وكان زيد قد اتخذ منها مركزا لنشاطه هذا، بما في ذلك تكوين جيش غير نظامي من العشائر العربية للغرض المذكور اعلاه، وامست لجهوده كما قيمها المسؤولون الانكليز الى جانب جهودهم طبعا في المفاوضات مع تركيا في لوزان ـ اثرها الفعال في صالح مصير الممكلة بأجمعها ، ولعل اهمية وجود زيد امرا سلبيا في اثره، اذ كان من الممكن ان يتوصل الى تفاهم مقنع مع الاطراف المختلفة في الولاية، واضافت انه، اعطى انطباعا عن قدرته في القيام باعمال ناجحة في ولاية الموصل .
وعلى اية حال وازاء موقف الحسين الاخير اعربت الحكومة البريطانية عن رغبتها في ان يكون التأويل الثاني (ترك مسؤولية مصير الموصل بيد بريطانيا) هو التأويل الصحيح وان تعتصم الحكومة العراقية بالصبر، لان احدى مواد المعاهدة المقترح عقدها في لوزان مع الاتراك تنص بإحالة القضية الى عصبة الامم، او مضاعفات جديدة اذا مارفض الاتراك ذلك وبكلمة اخرى الاصطدام مع تركيا كحل للمشكلة. ومع ما اراده الانكليز من تهويل الامر لفيصل بهذه الصورة بأنهم ابعدوا احتمال نشوب القتال على المدى البعيد. فضلا عن الجهود الناجحة التي يبذلها اللورد كورزن بشأن الموصل في مفاوضاته مع الاتراك تلك المفاوضات التي تقتضي ان تكون بريطانيا صاحبة الحكم لصعوبتها وملابساتها .
ان مواقف الحسين الاخيرة مع اهميتها النسبية التي حوسبت عليها من قبل بريطانيا، لا يمكن ان تكون اكثر من كونها تعبيرا عن يأسه بالثقة التي اودعها بالانكليز وتركهم له يتخبط في مشاكله في الداخل، او امام الرأي العام العربي او الاسلامي" فالروح بلغت الحلقوم ـ كما جاء في رده على الاستفسارات البريطانية بشان موقفه الاخير ـ بوقوع مصالح الجميع تحت الخطر المشهود فإذا كانت بريطانيا بعظمتها لايهمها ما في هذا من التأثير فهذا محق وسحق للعرب ومخالف للشعور والحيثيات المنتظرة في بريطانيا وآمال العرب في عظمتها" .
اما عن قضية الموصل جوهر الحديث فقد اوضح الحسين في مذكراته تجرد الكماليين عن اية مطامع في البلاد العربية، كما ابلغ مندوبه في لوزان من قبل الاتراك، واعترافهم باستقلالهم ومن هنا فهو يقترح على المسؤولين الانكليز اسناده في استغلال هذه الفرصة ومواجهة الاتراك بسحب تهديداتهم عن الموصل على ضوء تصريحاتهم الاخيرة. وبذلك يمكن كسب القضية دون تحميل بريطانية عناء ذلك .
والملاحظ من إجابة الحسين انه (الاخير) كان يرغب في بحث قضية الموصل مع الاتراك بنفسه، بصفته مسؤولا رسميا على العرب، ولعل ما حفزه على ذلك ادعاء الكماليين في اعتبارهم له صاحب القضية والذي يتحمل مسؤوليتها كما أبلغوه بذلك على حد قوله، ليبلغه الى العرب. وانه لا مبرر لان تحشر بريطانيا نفسها في القضية يضاف الى ذلك ان الحسين كان لابد ان انتبه لاهمية ولاية الموصل من حيث ثروتها هذه الفترة، سواءا كانت له معرفة بذلك قديما . او انه ابلغ بها عن طريق ناجي الاصيل ممثله في مؤتمر لوزان والذي لابد له وان ادرك ذلك خلال وجوده في المؤتمر واحتكاكه بالاوساط السياسية التي حضرته، ان لم يكن قد أبلغ بذلك من قبل اعضاء الوفد التركي الذي كانوا يسعون لاستدراج الحسين جانبهم واستغلال صوته في كسب قضية الموصل لهم، ولعل في القلق الذي اتضح من الاستفسار البريطاني سالف الذكر بشأن العلاقات الحجازية التركية ما يعزز هذا القول.
وعلى اية حال فإن الحسين لم يكن منتبها الى ما وراء هذه الادعاءات التي أبداها الكماليون، واهدافهم في الموصل، وسعيهم لاحباط النوايا البريطانية فيها. وراح معتبرا اعتراف الاتراك الاخير" انقلاب عظيم في سياستهم مع كل مفاوضاتنا لهم حتى هذه الساعة بالاقوال والاعمال وبذلك حملوني وإياكم (والكلام موجه للانكليز)، بهذه التبليغات، المسؤولية امام العالم عموما والاسلام خصوصا..." واضاف ان الضرورة تقتضي معالجة قضية الموصل بنفسه خصوصا بعد الاخبار المتواترة عن عزم بريطانيا في الانسحاب الى البصرة كما هو متفق معه، على حد اعتقاده. وما يقتضيه ذلك من تحمل المسؤولية بنفسه درءا للمخاطر المترتبة على الحشود التركية قرب الموصل ومنعا لضربة اخرى قد توجه اليه من جديد كما تم في سوريا
اما عن سحبه لنجله الامير زيد من الموصل، فقد برره الحسين برغبته ان لا يتعرض نجله للشتم والسب الذي تكيله بعض الصحف والاوساط العربية" بسبب سيرنا في امور نكون مسؤولين عن فشلها مع انه لا يقبل لنا رأي فيها. هذه هي الحقيقة وانتظر جواب حكومة جلالة الملك قبل فوات الاوان لانه كما قلنا سابقا بلغت الروح الحلقوم" .
وقد ظل الحسين كما يبدو مواكبا لقضية الموصل حتى بعد احالتها الى عصبة الامم في آب 1924. اذ طالب الملك في مذكرة رسمية بعث بها الى سكرتارية عصبة الامم، بأحقية العرب بالموصل لكونها جزءا لا يتجزأ من البلاد العربية، وعدم امكانية فصلها عن هذه البلاد، كما اوضح عدم اعتراف حكومة الحجاز بأي قرار يصدره مجلس العصبة ما لم يكن منسجما مع هذه المبادئ .
3ـ الحجاز وشرقي الاردن:
العقبة ومعان:
لم يكن هناك ما يثير الانتباه في العلاقات الحجازية الاردنية منذ تأسيس الامارة عام 1921 سوى قضية واحدة ظهرت الى الوجود في عام 1924، وتلك هي مشكلة القضائين الحجازيين، العقبة، ومعان. اللتين كانتا تابعتين للحجاز خلال العهد العثماني واصبحا قضائين تابعين للممكلة الحجازية بعد تأسيسها عام 1916 كما تقدم، وكانتا على ما يبدو لا ترتبطان ارتباطا مباشرا بالمركز حتى ايلول 1922، حين قررت الحكومة الحجازية ربط هاتين القائمقاميتين بكامل شؤونها الادارية بالعاصمة .
الا ان بريطانيا ولاهمية المنطقة الستراتيجية التي تتمتع بها، عمدت الى محاولة سلخ هذه المنطقة من حدود الحجاز وإلحاقها بإمارة شرق الاردن إسميا وتحت سيطرتها فعليا بحكم كونها الدولة المنتدبة على الامارة، وذلك عن طريق الاستعانة بالامير عبد الله الذي رشحته لإمارة شرقي الاردن في 1921، وقد فاتح الاخير والده اثناء زيارته عمان اوائل 1924 بهذا الشأن ووافق والده على ان يكون التنازل شخصيا وان يحكمها نيابة عن والده مع بقاء تبعيتها للحجاز وتم ترتيب ذلك في 18 آذار 1924 .
وقد قرر ان تكون معان مركزا للولاية ـ ولاية معان ـ التي الحقت بها إداريا العقبة وتوابعها، تبوك ووادي موسى والشويك، وعهد بإدارتها الى القائد غالب باشا الشعلان من الاردن مع صلاحيات تامة في إدارة شؤونها المختلفة .
لقد ظلت العقبة ومعان تابعة للحجاز طيلة بقاء الحسين في حكم الحجاز ولم تتخل الحكومة الحجازية مع ما أدخل على المنطقة من التعديلات الادارية ـ عن استمرارها في ربط المنطقة ككل مباشرة بالعاصمة مكة وكانت الحكومة قد ردت رسميا على ما تناقلته الاخبار عن إلحاق هاتين المدينتين بشرق الاردن واكدت تبعيتهما للمركز مباشرة" وتعيين غالب باشا لا تاثير له قطعيا على ذلك الاساس، وما هو الا موظف من موظفي الحكومة الهاشمية تابع للمركز بصورة رسمية" الا ان الحكومة البريطانية استأنفت مساعيها في إلحاق هذه المنطقة وسعت الى استغلال الوضع العصيب الذي كان يعانيه الملك علي اثناء الهجوم الوهابي الاخير ـ اثر انسحابه الى جدة بعد سقوط مكة، حتى اذا انتهت الحرب بين نجد والحجاز يفقد المنتصر حق المطالبة بها، لذا يجري المسؤولون الانكليز المباحثات بهذا الشأن مع علي رضا الركابي رئيس الوزراء الاردني، ويؤكد الاخيرـ كما يتضح من برقية هربت صموئيل الى وزير المستعمرات في 18 تشرين الاول 1924 موافقته على ضم المنطقة المعنية بما في ذلك تبوك، مع التأكيد على اهمية العقبة لشرقي الاردن مستقبلا اذا ما اريد ان يكون لها ميناء على الخليج، اما بالنسبة للأمير عبد الله فكان يتردد في التفاوض مع اخيه الملك على خوفا من انتقاده بأنه يسعى الى ضم ارض عربية مستقلة لكي توضع تحت الانتداب البريطاني .
ولم يكتف الانكليز بحث المسؤولين العرب في الاردن بصدد العقبة ومعان، وانما اصدروا التعليمات الى المعتمد البريطاني في جدة للضغط على الملك علي الى اقصى حد ممكن بينما اوضحوا ضمن مناوراتهم في برقية ثانية للمعتمد بتاريخ 20 من نفس الشهر، استعدادها ضد أي هجوم على المنطقة اذا لم تسبقه استفزازات، ودعوتها الى النتسيق مع الملك علي من اجل اعادة المنطقة في الحال الى شرقي الاردن ومساعداتها لتفاهم الاخوين بهذا الشأن، في الوقت الذي تتعهد باتخاذ الاجراءات الرادعة ضد أي هجوم نجدي ضد شرقي الاردن لكونه تحت وصايتها، بيد ان هذه الالتزامات يمكن تنفيذها والقضية في قيد البحث .
بررت الحكومة البريطانية ـ وتمهيدا لالحاق المنطقة بنفوذها ـ محاولاتها الاخيرة بحجة الدفاع عن المنطقة ضد الهجمات الوهابية المتوقعة، وانها ابلغت ابن سعود باعتبار المنطقة تابعة لشرقي الاردن مع ما يقتضيها ذلك من تحمل مسؤولية الدفاع عنها بحكم انتدابها على شرقي الاردن، هذا في وقت تتخذ فيه ـ وباستشارة الامير عبد الله ـ التدابير المستعجلة لتوطيد السلطة الاردنية في منطقتي العقبة ومعان بصورة محكمة ، بينما يوشك الاخوان عبد الله وعلي على عقد اتفاقية بينهما بشأن المنطقة تم التوقيع عليها في جدة يوم 5 حزيران 1925 .
كان الملك علي يدرك بأن الدعوة لضم العقبة ومعان، كانت بريطانية وليست اردنية، وعرض شكواه لاخيه الملك لنوايا الانكليز في فصل قضائين حجازيين لم يفترقا عن الحجاز يوما واحدا على حد تعبيره واوضح، اذ كان الحياد ما طلبه اللورد كتشنر من والده خلال الحرب للحفاظ على حدود الحجاز، فإن الاخير لم يلتزم بذلك وانما قاتل الى جانب الحلفاء ضد العثمانيين، فضلا عما قدمه العرب من الضحايا في سبيل احتلال هاتين المدينتين بالذات، ولهذه الاعتبارات فإنه يرى في فصله عن بلاده اجحافا بحقوق الحجاز القديمة، وخطرا عاجلا يهدد سلامة المدينة المنورة، وهو يطالب فيصل بالتوسط لدى الانكليز لاعادة النظر في هذه القضية الخطيرة .
اكد دوبس المندوب السامي البريطاني في بغداد ـ ردا على رسالة الملك علي التي رفعها له الملك فيصل ـ اكد حجة حكومته السابقة ان المدينتين عاجزتان عن صد الهجمات الوهابية دون حماية بريطانية لها، وهي مسؤولية ستتحملها ضمن مسؤوليتها في الدفاع عن حدود الاردن رغم الموقف الحيادي الذي تلتزم به من النزاع النجدي وابدى عدم ترجيحه لطرح هذه القضية في مثل هذه الظروف، كما نصح بأن تكون اتصالات الملك علي بالحكومة البريطانية عن طريق المعتمد البريطاني في جدة لقربه منه، وإطلاعه عن كثب بتطور الاوضاع في الحجاز .
والحقيقة ان الملك فيصل لم يبخل في التنوية الى حقيقة الموقف البريطاني الذي وصفه دوبس بالحيادي فمع إقرار ما ادعته بريطانية في الدفاع عن العقبة ومعان الا انه اشار لدوبس الى بعض الاعتبارات التي (يمكن ان تكون في الظروف الراهنة اكثر جدارة باهتمام حكومة جلالة الملك ولا سيما اذا كان لها علاقة كبرى لتطبيق الخطة الحيادية التي اعلنتها إزاء الطرفين الحجاز ونجد) ففضلا عن كون فصل المنطقة عن الحجاز امرا يناقض التزامات بريطانيا السابق في الحفاظ على حدود الحجاز ـ مع كون المنطقة المعينة حجازية بلا خوف ـ فإنه سيقود الى إحراج موقف مدينة جدة وقطع المواصلات مع المدينة المنورة اهم المدن في نظر الحكومة الحجازية" فإذا كانت بطلبها الجديد هذا وبتضييقها على العقبة قد اوهنت من حيث لا تريد مركز الحكومة في جدة وقدمت بالوساطة مساعدة ثمينة لسلطات نجد" وهو يريد بذلك توجيه تهمة عدم الحياد التي وعدت بريطانيا انتهاجه، لكنه لا يقوى المجاهرة كليا ومع عدم اعتراف فيصل بفصل القضائين الحجازيين فقد اعرب عن امله في أن لا يكون هناك" ما يدعو الظن بأن حكومة جلالة الملك ترغب في مناصرة فريق دون الآخر" .
ثانيا ـ العلاقات الحجازية ـ المصرية:
كانت مصر في فترة بحثنا هذا تحت الحماية البريطانية التي اعلنت بصورة رسمية منذ كانون الاول 1914 بعد ان كانت تلك البلاد تحت الاحتلال الانكليزي سنة 1882. ومع ذلك فلم تتميز العلاقات الحجازية المصرية بشيء هام سوى بعض السلبيات التي برزت بين البلدين في اواخر عمر الممكلة الحجازية. وقد تمثلت بما يأتي:
1ـ قضايا الحج وملابساته: وخلاصة الخلافات التي دارت بهذا الشأن فمردها رفض الحكومة الحجازية خلال موسم حج سنة 1923 ، طلب الحكومة المصرية في اقلمة مستشفيين طبيين مستقلين في كل من جدة ومكة لحين انتهاء الموسم خلافا للمعتاد وحجتها في ذلك، خشية ان يقود ذلك الى فتح باب للتدخل الاجنبي في الحجاز، بعد ان تبادر الدول الاخرى بنفس الطلب المصري، الامر الذي يتضارب مع استقلال الممكلة وسيادتها .
عمدت الحكومة المصرية ولإقامة هذين المستشفيين الى الاتصال بوزير خارجية الحجاز قبيل وصول المحمل المصري . الذي كانت ترافقه البعثة الطبية كالمعتاد، وطلبت الموافقة على رغبتها، غير ان الحكومة الحجازية لم توافق الا ان تكون البعثة الطبية برفقة المحمل اينما حل، دون ان تكون لها صفة مستقلة . وبينما كانت الحكومة الاخيرة تبدي معارضتها، وصل امير الحج المصري برفقة المحمل الى جدة وابلغ قائمقامها برجوع المحمل الى مصر حالة اصرار الحكومة الحجازية على موقفها، وذلك تنفيذا لأوامر حكومته . ولرغبة الحجاز في تسوية الامر، حاول نائب رئيس وزراء الحسين وبإيعاز الاخير الاجتماع بامير الحج في جدة، ولدى الاجتماع اوضح الشيخ سراج (نائب رئيس الوزراء)، لأمير الحج المصري موافقته على دخول البعثة الطبية بما في معيتها من الاطباء والموظفين وغير ذلك من المواد التي تحتاجها بغض النظر عن اعدادهم، او حجم المواد التي بمعيتهم، على ان ترافق البعثة الطبية المحمل اينما حل. غير ان أمير الحج كانت لديه اوامر بإقامة مستشفيين في كل من جدة ومكة، مع صلاحيته في اصدار الاوامر للموظفين الحجازيين عند الحاجة. فلم يسمع الشيخ (سراج) سوى ان يكرر اجابته السابقة دون ان ينتهي الاجتماع الى حل يرضي الطرفين وانتهى الامر برجوع المحمل الى مصر .
وكانت الحكومة المصرية قد عمدت خلال هذه المفاوضات في تموز 1923، الى بحث الخلاف مع كبار علماء الدين في مصر، في الوقت الذي هددت فيه بقطع علاقاتها مع حكومة الحجاز، اذا ما استمرت على موقفها المعارض . ولما اخفقت محاولات التفاهم مع الحجاز، اصدرت في 16 من نفس الشهر فتوى من شيخ الجامع الازهر ومفتي الديار المصري مفادها استنكار الموقف الحجازي لتنافيه مع التعاليم الدينية، وطالبت الحجاج المصريين بالرجوع الى بلادهم لاحتمال تعرضهم للاخطار التي تجعل من اداء الفريضة على المسلم غير واجبة بسببها واضافت الفتوى، تنصل الحكومة المصرية من مسؤوليتها عن الحجاج الذين استأنفوا سيرهم الى مكة دون المحمل الذي امرت بإرجاعه . وستقع تبعة ذلك على الملك حسين .
وقد ردت الحكومة الحجازية على بلاغ الحكومة المصرية ببلاغ رسمي مماثل عن طريق وكالتها في مصر، أبدت فيها اسفها لما وقع من خلال وعدم صحة الاجراء المصري في إرجاع المحمل وكسوته لسبب بسيط واشارت الى عنايتها بالحجاج المصريين الذين اتموا مراسيم الحج، واستعرضت الحجج السابقة في رفضها المطاليب المصرية وحسن نواياها التي عكسها نائب رئيس الوزراء لدى اجتماعه بأمير الحج، في حين جاءت الحكومة المصرية (ذهب البلاغ الهاشمي) في برقياتها هذا العام بصيغة تختلف عن السابق كتعبير" قررت الحكومة المصرية خلافا للمتبع"و" ضروري تنفيذ تعليمات الحكومة المصرية بكل دقة وعناية" ، الامر الذي لا يتناسب مع ما بين البلدين مع العلاقات الودية . كما كذب البلاغ الهاشمي اتهام مصر الحكومة الحجازية بانها كانت وراء الاشاعة التي انتشرت بين اهالي الحجاز والتي مفادها ان الهدف الحقيقي المستضفيات المصرية انما هو لتسميم المياه وينابيعها ، ومع تأكيد قائمقام جدة لهذه الاشاعة ـ ذهب البلاغ ـ الا ان الحكومة كذبت ذلك بشدة، وأشار الى سماح الحكومة الحجازية بنزول الاطباء المصريين معداتهم الى البحر رغم عدم البت في امرهم مع الحكومة المصرية اذ كان من حق الحجاز معارضته ذلك لحين التفاهم مع امير الحج الذي جاء بعدهم .
وجدير بالذكر ان هذا الخلاف خضع لتعليقات الصحف المصرية، التي لم تأل جهدا في انتقاد الملك حسين وحكومته، بل راحت بعدها كجريدة اللطائف المصورة بنشر بعض الصور الكاريكاتيرية والسخرة عن الحسين، مما فسح المجال امام جريدة القبلة لاستغلال ذلك كمادة صحفية لرد وانتقاد هذه الصحف والدفاع عن وجهة نظر حكومتها ، والاستشهاد ببعض انتقادات او استنكار بعض الصحف . والاوساط العربية لموقف الصحافة وتعريضها بالملك حسين ومكانته ولم يقتصر انتقادها للصحف المصرية فحسب، وانما وجهت ذلك للحكومة المصرية ذاتها التي لم تعمد الى تطبيق القوانين المتعلقة بالصحافة بحق هذه الصحف، والتي تؤكد على عقوبة الصحف واصحابها حالة تعريضها بأحد الملوك او الرؤوساء . بقي ان نحاول التعرف على مدى مسؤولية الطرفين عن هذا الخلاف وفيما اذا كانت هناك بعض التأثيرات الخارجية في خلق مثل هذه التوترات وفي مثل هذا الوقت بالذات فالحكومة المصرية وان ابلغت الحجاز بمطاليبها بشأن البعثة الطبية، الا انها لم تقدم على ذلك الا عند حلول موسم الحج في وقت ضيق لامجال للتفاوض فيه بغض النظر عن صيغة الامر التي انتهجتها مع الحجاز، واسلوب التهديد الذي جاء به امير الحج في إرجاعه المحمل بما يحمل من الكسوة والارزاق، يضاف الى ذلك ان الاطباء المصريين الذين سمحت الحكومة الحجازية بنزولهم الى جدة، شرعوا في ممارسة نشاطهم قبل التفاهم مع حكومتهم او مع امير الحج بشأن الصلاحيات التي يمكنهم التمتع بها،الامر الذي اضطر السلطات الحجازية ـ ولرفض الاطباء الكف عن ممارسة عملهم ـ الى إيقافهم وحجز كافة المعدات واللوازم الطبية التي جاؤوا بها في مركز كمرك جدة ، لحين وصول امير الحج والتفاهم معه هذا فضلا عن اجراءات الموظفين المصريين في إرجاع بعض الحجاج المصريين الى بلادهم بعد فشل المفاوضات، دون الاخذ بنظر الاهمية الاعتبارات الدينية، علاوة على عدم رجاحة عملهم في إرجاع المحمل والكسوة لكونها من اوقاف مخصوصة وليست من مالية الحكومة المصرية، وعين الامر بالنسبة لقطعها مخصصات اهالي الحجاز في أوقاف الحرمين، وارجاعها الحبوب المعتاد توزيعها على سكان الحجاز .
بيد ان ذلك لا يمنع من القول، ان العناية الصحية في الحجاز كانت بسيطة، بساطة اجهزتها الصحية مما قد يبرر تأكيد المصريين على الاهتمام بصحة الحجاج المصريين وارسالهم الاطباء الى الحجاز وإقامة مستشفيات وقتية لتولي هذه المهمة .
الا ان اصرار الجانب المصري كان مغاليا به، اذ كان بالامكان مماشاة رأي الحجاز وانتقال البعثة الصحية مع المحمل الى مكة خصوصا وان الحاجة الماسة للعناية الصحية هي في مكة وليست في جدة بحكم مراسيم الحج التي يؤديها الحجاج في مكة، وبذلك يمكن البعثة ان تنجز مهمتها التي جاءت من اجلها .
اما بالنسبة للحجة التي تمكست بها الحكومة الحجازية في رفضها للمطاليب المصرية فهي كما تقدم مساس هذه المطاليب باستقلال الحجاز وسيادته وخشية ان يقود إقرارها الى فتح باب للتدخل الاجنبي خاصة وان مصر تحت الحماية البريطانية . ويضطرها فيما بعد للرضوخ الى مطاليب اخرى اقتداءا بالترخيص الذي تبغيه الحكومة المصرية . وقد اوضح الحسين في مقابلة معه بشأن هذا الخلاف، ان الامر ليس بتلك السهولة التي يمكن تصورها (ان انجلترا تريد استعبادنا ولكن ليس لها في الحجاز وساطة من المسلمين البريطانيين الذي يتدخلون في شؤون الحجاز بأصابع السياسة البريطانية، وهي خطوة خطرة تريد انجلترا أن تخطوها ولكني لا امكنها منها وانا على قيد الحياة، هل تظن انني اكره ان يجيئ الحجاز ملايين الاطباء المسلمين مهما كان جنسهم، سواء خدموا الحجاز ام لم يخدموه؟ كلا انني اكره بل ارفض الاطباء السياسيين الذي يرسلهم اولئك المسعتمرون) . وقد يكون بالامكان تكذيب حجة الحجاز، لو لم يكن الحسين قد نفذ ما قاله مسبقا سنة 1921، حينما رفض طلبا مماثلا للبعثة الطبية التي سعت حكومة الهند إدخالها للاسهام في العناية الصحية ـ للبلاد، لاعتبارها تدخلا في شؤون الحجاز، الامر الذي اوشك ان يؤدي بقطع العلاقات مع بريطانيا ومع ذلك فإن مشكلة الحج تبدو مبالغا فيها، ويمكن اعتبارها ضمن المواقف السلبية التي تعمد الحسين انتهاجها مع بريطانيا كرد فعل لسياستها السلبية التي انتهجتها بعد انتهاء الحرب العالمية . اما بالنسبة لحشر هذه المبررات بالموقف الذي اتخذ من البعثة الطبية المصرية، فمع صحتها فإن هناك سببا آخر يبدو اكثر اهمية، ذلك هو إجراء الحكومة المصرية (وزارة الاوقاف) هذا الموسم في قطعها للإعانات والتبرعات الموقوفة لاهل الحجاز من قبل الاهالي المصريين، بعد ان كانت جارية منذ السابق. وهذا ما يفسر تأكيد الحجاز على هذه الناحية في رده على الحكومة المصرية بشأن الخلاف القائم بينهما، ودعوة وزارة الاوقاف المصرية لصرفها .
وقطع الاعانات المصرية امر يستدعي الانتباه في مثل هذه الفترة بالذات أي بعد اربعة اعوام تقريبا من انقطاع الاعانات البريطانية عن الحجاز، وفي وقت كانت فيه العلاقات مع بريطانيا في توتر وجفاء ، الامر الذي يبدو وكأن لبريطانيا يدا في الاجراء المصري الاخير، خصوصا وان مصر كانت تحت الحماية البريطانية هذه الفترة والحقيقة ان الحكومة الحجازية لم تبخل في إلقاء الضوء على هذه النقاط، فقد استشهدت جريدة (القبلة) بإحدى مقالات جريدة البلاغ المصرية بشأن الخلاف مع مصر ـ دفاعا عن وجهة نظرها، عرضت فيه رفض الحسين التوقيع على معاهدة فرساي، وقطع بريطانيا لاعاناتها المالية، بعد اصراره على الموقف الاخير، ولم يكتفوا بذلك بل طالبوه بإرجاع المخصصات الشهرية التي تسلمها قبيل اعلان رفضه المعاهدة المذكورة، هذا فضلا عن الاستفزازات التي اتبعتها عن طريق ابن سعود في نفس الوقت الذي تبدي فيه استعدادها لروع الأخير في محاولة لتطويق الحسين بمنه المحافظة عليه . ومضت الجريدة وأشارت الى البعثة الطبية التي بعثتها حكومة الهند كخطوة اخرى في السياسة السلبية مع الحسين، حتى تتطرق الجريدة لقضية الخلاف مع مصر، حيث تلعب بريطانيا في مصر نفس الدور الذي قامت به حكومة الهند كخطوة اخرى في السياسة السلبية مع الحسين، حيث تلعب بريطانيا في مصر نفس الدور الذي قامت به حكومة الهند. اذ كان لها دورها في التوترات التي حصلت بين مصر والحجاز عام 1922 (قبل الخلاف الذي نحن في صدده) بشأن المحاجر الصحية ، ولكنها ولفشل هذه المحاولة عمدت الى حث الحكومة المصرية بطرح مطاليبها الاخيرة بشأن البعثة الطبية، خلافا لما هو معتاد وتساءلت الجريدة ـ بما يفهم منه الاتهام عن سبب انقطاع سلك التلغراف الذي يربط الحجاز بمصر خلال فترة بدء المفاوضات والذي لم يسبق له ان عطل منذ امد بعيد .
وكانت جريدة القبلة قد نشرت مقالة اخرى ردت فيها على اتهام جريدة الاهرام، للحجاز بخضوعه للحماية البريطانية، اتهمت فيها الحكومة المصرية بهذه الحماية، وبأن الانكيز سخروا رجالها لاشعال هذه الفتنة لايهام المسلمين ان هناك حماية حقيقية على الحجاز .
وعلى اية حال ظلت العلاقات على حالها حتى اقتراب موعد الحج لعام 1924، حيث بدأت بالانفراج ولعل في مساس الخلاف بالرأي العام لمسلمي مصر والحجاز، باعتبار الحج فريضة دينية لا يمكن اعاقتها، فضلا عن الاهمية المترتبة على الاعانات المصرية وفوائدها للحجاز، اثره الواضح في الجنوح الى انهاء الخلاف ولو وقتيا وهذا ما يفسر أسبقية الحجاز في جنوحه لمبادرات التفاهم هذا العام. فقد أشيع عن عزم الحسين لايفاد احد انجاله الى مصر لهذا الغرض ومع ان ذلك لم يتم، فإن وزارة خارجية الحجاز ابلغت بدورها نظيرتها المصرية في نيسان 1924. عن عزم الحكومة الحجازية لتسوية الخلاف . وذهبت الاخبار الى ان الحكومة المصرية ابدت موافقتها ايضا وان ليس في نيتها منع الاعلانات المخصصة للحجاز، بعد اكتفائها بالايضاحات التي بسطها مندوب الحجاز في مصر للحكوم المصرية بشأن حقيقة الخلاف . والذي يبدو ان الحسين كان قد ابدى بعض الاستجابة واعطى بعض الضمانات بشان معاملة مرافقي المحمل من عسكريين واطباء . واوعز لممثله في مصر السيد عبد الملك الخطيب باستئناف المباحثات مع الجانب المصري بشأن خلاف الصيف الماضي. وقد اجتمع الخطيب بوزير مالية مصر السيد محمد توفيق نسيم باشا في حزيران، وتم التفاهم حينها على انهاء الخلاف والاتفاق على السماح للاطباء المصريين بممارسة عملهم وتعيين قاعات خاصة في مستشفيات الحجاز للحجاج المصريين وفي الاجتماع الثاني الذي تم بين الجانبين في 25 حزيران . بلغ نسيم باشا الخطيب بأوامر الملك فؤاد في ارسال المحمل المصري هذا العام. اما الحبوب وسائر الارزاق التي ترسلها مصر، فقد فوضت الحكومة الحجازية تقديرها الى الحكومة المصرية وادراكها. وقد اصدرت الحكومة المصرية بلاغا رسميا بشأن التفاهم الاخير، اوضحت فيه الانتهاء الخلاف مع الحجاز، واستئناف الحكومة إرسال المحمل كالمعتاد، وان لديها التأكيدات عن الحفاوة والتكريم اللتين سيقابل بهما المحمل ومرافقيه في الاراضي الحجازية .
غير ان هذه التسوية لم تكن بكافية كليا لانها تؤثر علاقات الجنبين وخلافاتهما سواء كانت خلافات جديدة حصلت هذا الموسم، ام خلاف العام الماضي أي عام 1923. اما بالنسبة للاولى فكان مصدرها تردي الاوضاع العامة في الحجاز حيث صدرت بعض الانطباعات وبعد انتهاء موسم الحج عن سوء الحالة في الحجاز وقلة العناية بالحجاج المصريين وشكوى الاخيرين من معاملة العشائر لهم فضلا عن غلاء سعر الماء الذي عمدت الحكومة الحجازية الى رفع قيمته الى الدرجة التي دفعت بأمير الحج ان يقترح على حكومته بقطع الهدايا السنوية من الحبوب والنقود عن الحجاز توقيت الحج . ورفع تقريرا بشأن هذه الاوضاع، أبت الحكومة المصرية نشره لحين انتهاء اتصالاتها بالحجاز وتسوية ما استجد من خلاف لتذيع بعدها بلاغا رسميا بهذا الشأن . وقد رد ممثل الحجاز في مصر مكذبا الاخبار الاخيرة، وبرر ارتفاع اسعار المياه في موسم الحج الى انقطاع المياه في عين زبيدة مدة خمسة ايام لصعوبة اصلاحها بسرعة، الامر الذي زاد من سعر المياه الى ثلاث ريالات او ثلاثين غرشا صاغا للصحيفة الواحدة . بينما ارجعت جريدة القبلة ندره المياه الى حرارة الجو وكثرة الوافدين من الحجاج الامر الذي زاد من طلبه فارتفاع سعره ...
اما الخلاف الاخر فهو عين الخلاف الذي حصل في عام 1923 تقريبا. ويبدو انه كان السبب في إثارة الانطباعات التي تقدم ذكرها عن اوضاع الحجاز. فقد كرر امير الحج مطالبة السابقة في تهيأة مكان خاص للبعثة الطبية في كل من جدة ومكة، ومع استجابة المسؤولين الحجازيين لذلك الا ان امير الحج لم يوافق على المكان الذي خصص في جدة لبعده عن المدينة وقدمه، خشية اعاقة عمل البعثة الطبية، ومع ذلك فقد تم ارجاء البحث في الموضوع لحين وصول القافلة المصرية الى مكة، وخلال بحث الامر بين الحسين وامير الحج اعترض الملك على طلب الامير لما يعنيه ذلك من فتح الباب لكل الدول الاجنبية بطلب بعثات لها في موسم الحج.
واوضح ان ما اتفق عليه مع الحكومة المصرية هو ذهاب البعثة الطبية مع المحمل اينما حل. الا انه لم يمتنع من ابداء موافقته في تهيأة الامكنة الخاصة لها في كل من مستشفى مكة وجدة نظرا لحلول البعثة في الحجاز. وردا على الاتفاق الذي اشار اليه امير الحج بين مصر والحجاز بسط الحسين اوراق الاتفاق مع حكومة مصر تأكيدا لما ذهب اليه . وأعرب عن موافقته لقيام البعثة الطبية بما فيها من الموظفين بعملها، وتعيين الحكومة المصرية من تشاء من الاطباء والصيادلة والموظفين والخدم والمواد الطبية وستتولى حكومة الحجاز دفع هذه النفقات شريطة ان يكون اعضاء البعثة موظفين لديه . ومع ذلك فإن الاقتراح الاخير كما يبدو كان للسنوات المقبلة، اذ ختم الحسين اجتماعه بأوامره لتخصيص اماكن معينة للبعثة الطبية المصرية لهذا الموسم .
ومما زاد حدة التوتر بين مصر والحجاز قيام السلطات المصرية بنقش اسم ملك مصر على احدى زوايا الكسوة المنوي وضعها على الكعبة الامر الذي اعترض عليه الملك حسين ودفع بسلطاته الى رفع القسم الذي ذكر عليه اسم الملك فؤاد وإبداله بآيات قرآنية بحجة مخالفة الاجراء المصري للتعاليم الدينية . وقد عدت السطات عملها هذا تعظيما للبيت وبرهانا على حسن نيتها حينما لم تبدل اسم الملك فؤاد باسم آخر بآيات قرآنية فضلا عن إبقائها للإسم المذكور على ستار مقام إبراهيم والمنبر الشريف لعدم تضاربه مع الشرع الاسلامي . غير ان الحكومة الحجازية ـ على حد قول جريدة السياسة المصرية ـ مثلت لاحتجاج امير الحج المصري واعيد وضع الكسوة الى ما كانت عليه في السابق بعد الاتفاق بين الطرفين .
ومما يذكر ان امير الحج عمد الى القيام ببعض الاعمال التي اثارت المسؤولين الحجازيين. فقد اوضحت بعض التقارير الورادة الى القنصلية البريطانية في جدة قيامه برصف حرسه العسكري امام مسجد الكعبة وانشادهم النشيد القومي المصري، والقيام ببعض الاعمال التي يفهم منها استخفافهم بالحجازيين، كتصوير هزيمتهم امام جيوش محمد علي قبل قرن من الزمان . او عدم اتباعه تعاليم الحج كوقوفه في عرفة بملابس غير الاحرام . او جلوسه على الكرسي المخصص للملك حسين لدى اجتماعه به بدلا من اتخاذه المقعد الخاص به .
وعلى اية حال فإن كلا من الجانبين المصري والحجازي لم يذهبا كالسابق في موقفها، ولم تجنح الحكومة المصرية الى تعكير جو العلاقات من جديد، بعد ان اكتفت بالتقرير الذي رفعه ممثل الحسين في القاهرة بصدد هذه المشاكل، واعربت عن نيتها في حل المشكلة بالتفاهم بعد ان عزت مؤاخذاتها لامير الحج ... الذي أبت نشر تقريره الذي رفعه عن اوضاع الحجاز كما اشرنا، في الوقت الذي اتسم فيه موقف الحجاز بالاعتدال والابتعاد عما يثير الخلافات . ومهما يكن، سواء تم حل مشاكل البلدين ام لم يتم، فقد كان الحسين على موعد مع حل آخر فرضته القوات الوهابية في هجومها الاخير على الحجاز.
2ـ الموقف المصري من خلافة الحسين: وهذه هي النقطة الثانية، او الاخيرة التي يمكن اضافتها للسلبيات التي ألمت بعلاقة البلدين في السنوات الاخيرة من عمر الممكلة. اذ رفضت مصر الاعتراف بخلافة الحسين التي ادعاها في عمان في آذار 1924 ودعت الى عقد مؤتمر اسلامي في القاهرة لتقرير مصيرها باتفاق المسلمين . ولا شك ان تكون هذه القضية عاملا مساعدا في تعزيز الخلافات السابقة وتعميقها بين البلدين.
ثالثاـ علاقة الحجاز بالحكام العرب في شبه الجزيرة العربية:
1ـ الحجاز وامارة حايل:
(أ) موقف ابن الرشيد من ثورة الحسين:
لم تكن هناك علاقة واضحة او مهمة بين الحجاز وامارة حايل قبل قيام الممكلة الحجازية، اذ كان جل ما يشغل ابن الرشيد هو عداؤه الموروث لابن سعود. واذ كان هناك نوع من الاحتكاك بين حايل والحجاز في هذه الفترة فهو بسيط كما يبدو، تمثل في إعاقة القوات الحجازية التي كان يقودها الامير عبد الله، قوات ابن الرشيد في مهاجمة الاراضي النجدية، اثناء تورط حاكمها (عبد العزيز بن سعود) في قتاله مع قبائل (العجمان) في الاحساء، ودفعها الى التراجع عن هدفها .
اما عن موقف ابن الرشيد من قيام الحسين ضد الدولة العثمانية، فقد كان الاول عثماني الولاء منذ البداية، ولم يكن ولاؤه هذا يستند على القناعة بالتبعية والطاعة للدولة بقدر ما كان وليد الضغائن المتوارثة بينه وبين ابن سعود، والسعي لاضعافه ومايقتضي ذلك من الاستعانة بالدولة واسنادها . والواقع لم ترد سوى اشارات قليلة من الدور الذي لعبه ابن الرشيد في دعم القوات العثمانية ضد قوات الحسين، وحتى هذا الدور كان في طور المشروع ولم يتم تنفيذه، فقد كان متفقا ان تتولى قوات ابن الرشيد حماية خطوط السكة الحديدية، وإعاقة العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات الحسين غير انها ـ وبرغم الاموال التي كانت تنفق عليها ـ لم تنفذ ذلك، سوى هجوم بسيط شنته ضد منطقة (مداين صالح) الحجازية، شمال المدينة المنورة . خلافا لما توقعته الدولة عن استعدادات ابن الرشيد لهذه المهمة، اذ لم يحضر الا بألف مقاتل، بعد ان كان قد وعدها بأربعين الف، مما عزز مواقع القوات الحجازية، وحفزها لمواصلة هجماتها ضد خطوط السكة الحديدية، بعد ان كانت تتراجع توهما بضخامة قوات ابن الرشيد .
ومع وقوف امير حايل الى جانب الدولة فإنه لم يحظ بمكانة مؤثرة بين الضباط العثمانيين الذين انتقدوه ـ وبالذات قائد المدينة (فخري باشا) ـ بالسعي للحصول على المال فقط حيث لم تتعد حملته الاخيرة في هدفها هذا الغرض . ولعل ذلك ما دفع فخري باشا لوضع يده على المساعدات التي عنونتها الدولة لابن الرشيد عند وصولها وذلك بعد تغيير عنوان الجهة المقصودة بالاعانة، الأمر الذي دفع ابن الرشيد الى ترك جبهة القتال، بعد ان فقد الاذن الصاغية، وعدم استلامه للمساعدات الموعود بها .
(أ) التقارب بين الحجاز وامارة حايل:
ظلت العلاقات بين الحسين وامارة حايل خاملة دون ان يكون هناك ما يلفت الانتباه اغلب فترة الحرب، لكن العداء المشترك الذي يكنه الجانبان لسلطات نجد كان له اثره في تغير ما كان يسود العلاقات من البرود، وتحولت الى نوع من التفاهم. اذ تشير بعض الاشارات الوثائقية الى مبادرات تحالفية بين الجانبين في الايام الاخيرة من الحرب العالمية الاولى، بدأها ابن الرشيد في رسالة وجهها الى الامير عبد الله بهذا الخصوص. وردا عليه طلب الحسين خضوعه لسيادته، وقطع علاقاته مع الاتراك، كدليل على حسن نيته، الا ان ابن الرشيد كان يرغب ـ كما يبدو ـ ان تكون سيادة الحسين اسمية، ومن هنا جاءت احدى شروطه لقبول دعوة الحسين، متمثلة بالمطالبة بمنطقة تيماء ومناطق اخرى كان الجيش الحجازي قد احتلها سابقا. وهذا ما رفضه الحسين، وخير ابن الرشيد بين القبول، او رفض خضوع غير مشروط قبل اية مناقشات اخرى. وقيل ان ابن الرشيد وافق حينها على هذه الصيغة، وهذا ما اوضحه الحسين نفسه في احدى لقاءاته بالمعتمد البريطاني في جدة .
ومع ان عداء الحاكمين الاخيرين لابن سعود امر لا غبار عليه، فإن الدقة تقتضي القول ان العداء الحجازي النجدي لم يكن بتلك القوة كما هو عليه بعد معركة تربة سنة 1919، الامر الذي قد يفسر إيجابيات الحسين بهذا الصدد في نصيحته لابن الرشيد بتجنب أي عمل عدواني ضد ابن سعود لما تتطلبه ضرورة وحدة العرب وخدمة مصالحهم. وقد أشار المعتمد البريطاني بهذا الخصوص ان (الظروف الحالية توفر للملك حسين فرصة مدهشة من اجل دفع هدف وحدة العرب الى امام) .
واذا كان الخلاف الحجازي النجدي اقل حدة عما هو عليه بعد معركة تربة، فإن النزاع التاريخي بين ابن الرشيد وابن سعود ظل محتفظا بقوته، وبقي حاكم حايل يتربص عدوه النجدي لينتقم لدم ابيه الذي قتل بيد اتباع عبد العزيز ابن سعود واذا ما ربطنا هذا العداء بالبرود الذي اخذ يلوح على علاقة حايل بالاتراك هذه الآونة كما تقدم، نكاد نشخص سبب توجه ابن الرشيد الى محالفة الحسين. وكما اشرنا فإن الحسين لم يغير موقفه المعتدل وبما يتناسب وحجم خلافاته مع نجد، واتخذ موقف الناصح من ابن الرشيد ـ الذي طلب المساعدة لمهاجمة عبد العزيز ابن السعود ـ ولم يكترث كليا بالتهم التي كان يكيلها امير حايل ضد ابن سعود ـ كعزم الاخير لمهاجمة الامير عبد الله، او اتصالاته بفخري باشا الحاكم العثماني للمدينة، وعزمه لحصار المدينة قريبا ـ واقتدى، على حد قوله، بنصيحة نجله الامير علي في تكذيب هذه التهم، فضلا عن علمه (الحسين) باتصالات حديثة العهد بين ابن الرشيد وعبد العزيز ابن سعود، ولعدم ثقته بالاخير، وللتثبت من صدق الاول طلب الحسين منه ارسال وفد رسمي يؤكد من خلاله على خضوعه النسبي له أي للحسين. وقد استجاب ابن الرشيد لذلك وارسل من يمثله لهذا الغرض .
بيد ان مثل هذه المبادرات لم تؤت ثمارها، ولعل للجهات البريطانية دورها في ذلك اذ أن من الصعب على الحسين مخالفة ابن الرشيد ضد عبد العزيز ابن سعود بحكم التحالف القائم بين الاخير وبريطانيا، فضلا عن أهميته المؤثرة في الجزيرة لدى بريطانيا كما ان الحسين لم يكن بتلك الحاجة القصوى لمحالفة ابن الرشيد ضد نجد، اللهم ماعدا رغبته في ضمه تحت سيادته التي كان يطمح تعميمها على حكام الجزيرة.
غير ان تردي العلاقات الحجازية ـ النجدية إثر معركة تربة وهزيمة الحسين فيها، غيرت في المعادلة السابقة، ودفعت بالحسين هذه المرة لتبني خطوة التعاون مع ابن الرشيد، فيلاحظ من خلال الإشارات القليلة شروع الحسين بتحريض (سعود الرشيد) حاكم حايل لقتال غريمه النجدي، وتعهده بإمداده بكافة الإعانات والذخائر والأسلحة.
ولم يرفض ابن الرشيد بدوره هذا العرض، واعلن عن عزمه لقتال عبد العزيز، ابن سعود بما في ذلك استعداده لذلك. لكنه تراجع عن نيته، بعد معارضة اتباعه لهذه الخطوة ونصحهم إياه بالتروي وعدم الإيغال في ما عزم عليه .
إضافة الى الاخبار التي وردته عن استمالة عبد العزيز ابن سعود للعديد من عشائر شمر التابعة لحايل الى جانبه فارسل امير حايل لعبد العزيز ابن سعود يعتذر، ويقترح عقد الصلح بينهما ، في الوقت الذي تعذر فيه من الحسين بحجة انشغاله ببعض الفتن التي نشبت في بعض المناطق من إمارته .
لقد فقدت إمارة حايل الكثير من هيبتها، عقب انتهاء الحرب، وجلاء العثمانيين ـ حلفاء الإمارة الرئيسيين ـ عن الجزيرة، واصبحت عرضة لأخطار توحيد المصطلحات، الذي كان يرغب في استئصالها وضمها الى بلاده، فتم له ذلك، وحرك قواته باتجاه حايل في اواخر 1920، حيث أطبقت عليها حصارا شديدا، اضطر (محمد بن طلال) حاكم الامارة حينها الى الاستغاثة بالحسين وعونه لدفع القوات الوهابية عن حايل، محذرا إياه من التماهل، لانهم محاصروه مستقبلا، اذا ما احتلوا حايل، لكن الحسين تغافل نداءه كما يبدو، ولم يجبه على طلبه، لتدخل القوات الوهابية حايل في اوائل تشرين الثاني 1921 .
استنكر الحسين احتلال حايل واعرب عن غضبه بقدر مخاوفه لذلك، ولم يكن بوسعه سوى المطالبة بانسحاب القوات الوهابية عن حايل، وفرض الوهابية على نجد دون غيرها من البلاد . وذهب في صيف 1922 الى الاتصال بابن سعود يطالبه بالتخلي عن امارة حايل لاصحابها، بما في ذلك مناطق اخرى كان قد احتلها منذ السابق ، علما ان طلبه هذا كان ضمن الشروط التي اشترطها (الحسين) للاشتراك في مؤتمر الكويت اواخر سنة 1923 . وفي مقالة نشرتها القبلة عن جريدة المقطم المصرية، تشير لاغراض الدعاية كما نعتقد ـ الى وجود نوع من الاتصالات بين زعماء شمر والملك حسين، ومطالبتهم إياه بإرسال احد امرائهم من آل الرشيد المقيمين لديه، لقيادتهم ضد ابن سعود .
2ـ العلاقات السياسية بين الحجاز واليمن:
تميزت العلاقات بين الحسين والإمام يحيى بن محمد بن حميد الدين الزيدي (1904ـ 1948) بطابع إيجابي فترة ما قبل تأسيس المملكة الحجازية، ونلحظ ذلك في موقف الحسين من الصراع الدائر بين الامام يحيى والاتراك سنة 1911. فقد نصح الآخرين بالتفاهم مع الإمام بالشكل الذي يرضي الطرفين ويحول دون صدامها مجددا . ودخل في مراسلات مع سلطان لحج السيد احمد والإمام يحيى لهذا الغرض. فاستحث الاول في رسالة له في آذار 1911، للتوسع بين الامام والدولة العثمانية ، في نفس الوقت الذي حذر فيه من ضخامة القوات المتوجهة الى اليمن وتصميمها على اعادة النظام، واشار الى عزم الدولة للاهتمام بامر الاصلاحات في اليمن، بعد ان اكد على السيد احمد محاولة اقناع الامام بعدم التمادي في عدائه للدولة . ولم يكتف الحسين بذلك واتصل بالامام نفسه محاولا اقناعه واعاد ما ضمنه رسالته السابقة مهيبا إياه لانهاء النزاع صلحا لما فيه صلاح المسلمين ووحدتهم . وقد تلقى الحسين رد السلطان احمد الذي أبدى فيه استعداده للتوسط بين الامام والعثمانيين، وشاطر الحسين في تأييده للدولة ولم يبخل الاخير برسالة جوابية ضمنها دعوته السابقة . وعلى أية حال، ومع اتفاق طرفي النزاع بمعاهدة (دعان) سنة 1911 ، فإنه لا يمكن ان نتجاهل كليا اثر الدعوة التي تقدم بها الحسين، خصوصا وانها كانت مثلا يحمل التهديد الى جانب اللين والحيلة كما تقدم .
هذا ولم تستهو الامام يحيى ثورة الحسين وفضل التمسك باتفاقية دعان مع الدولة العثمانية، ولم يعر الامام انتباهه للمحاولات التي بذلها المعتمد البريطاني لايقاف الضغوط التي تتعرض لها القوات البريطانية المحاصرة في عدن من قبل القوات العثمانية هناك . وهذا ما اشاد به السلطان العثماني في خطابه الذي ألقاه في منتصف تشرين الاول 1916، امام مجلس المبعوثان .
محاولة الاتحاد بين الحجاز واليمن: ولعل اهم ما يميز العلاقات بين الحجاز واليمن محاولة التحالف بين القطرين بناء على اقتراح الحسين سنة 1922. والذي يبدو ان الخطوة الاخيرة التي تقدم بها الحسين للامام يحيى، لاتكاد تخلو باعتقادنا من تصوارات اخرى تبدو اكثر اهمية ووجودا، كأن تكون محاولة للتنفيس عن العزلة والضيق الذي اخذ يعانيه الحسين، جراء تجاهل بريطانيا له خصوصا وان هذه الخطوة تأتى في وقت كان فيه الخطر النجدي ماثلا أمامه، واخذ يحيطه من الشرق والجنوب، فلا غرابة ان يكون التوجه الأخير رد فعل للتحالف النجدي ـ الادريسي، ومحاولة لكسر الطوق الجديد الذي انتهى منه ابن سعود بدخوله عسير ولا غرابة ايضا ان يجنح الحسين لمثل هذه الخطوة في وقت اخذت حكومته تتجه يوما فآخر نحو الإفلاس لانقطاع الإعانات المالية في الحجاز، وكأن يسهم ضمن هذا التحالف في دعم الاقتصاد المتدهور ، ولعل ذلك ما يبدو من خلال بعض الاشارات الواردة في بنود مشروع الوحدة.
عمد الحسين في اوائل سنة 1922 الى إيفاد ممثله الى صنعاء لطرح فكرة الاتحاد الثنائي مع اليمن ، ومع عدم وجود ما يشير الى ما دار في مفاوضات الجانبين حينها، الا انها دفعت بهما الى التشاور في الامر، حيث بعث الامام يحيى بدوره وفدا صاحب الوفد الحجازي عند عودته للحجاز، ردا على زيارة الوفد الاخير واستقبل الوفد اليماني الذي وصل الحجاز في شباط 1922، باهتمام وتقدير . وكما يبدو من صمت المصادر ان الزيارة اقتصر هدفها على تبادل مشاعر الود واستحسان مشروع التحالف الثنائي بيد ان تفاهما لابد وان حصل بين الجانبين لاستكمال المباحثات والوصول الى صيغة اتفاقية مقبولة بين الجانبين ، ومن هنا جاء إيفاد الحسين لمبعوثيه (الريحاني) و (قسطنطين يني) الى اليمن للسير في هذه الخطوات .
اجتمع الريحاني ويني بالامام يحيى وافصحا عن هدف زيارتهما، بعد ان سلماه كتابا خاصا من الحسين بهذه الخصوص، اكد بعدها الريحاني اهمية فكرة اتحاد البلدين وضرورتها حتى لتسوية مشكلة (الحديدة) . وحينما رد الامام بوقوف الادريسي عائقا في هذا السبيل، طمأنه الريحاني باضطرار الادريسي للانضمام الى الاتحاد المذكور،" اذ لا يقف الضعيف عدوا بين قوتين". وذهب ان الانكليز سوف لن يعينوا الاخير، عند تقديرهم لقوة التحالف اليماني الحجازي وسيضطرون الى تغيير سياستهم والسعي الى عقد اتفاق تجاري مع اليمن وعسير والحجاز .
انتهى الطرفان الى وضع صيغة مشروع اتفاقية وذلك في اوائل حزيران 1922. تضمنت احدى عشر مادة" ونلخصها على الوجه التالي:
1ـ تأكيد الجانبين على وحدة البلاد العربية من حيث روابطها الدينية والقومية واللغة، والسعي لجمع كلمتها الدينية وتوحيد سياستها ضد أي تدخل اجنبي يخل بوحدة واستقلال البلاد العربية.
2ـ إعتراف الجانبين بملكية وامام احدهما للآخر.
3ـ يتمتع كل حاكم بالأشراف على سياسة بلده الداخلية منها والخارجية كالسابق، على ان لايحق لاحدهما عقد اتفاقية او معاهدة مع أي دولة أجنبية تتعلق بما تحت ادارة الحاكم الآخر، او يتدخل في شؤونه دون المشاورة، كما ليس لاحدهما نقص اتفاق للآخر، سبق هذه الاتفاقية فضلا عن كون الاتفاق ذاته غير نافذ في القطر الآخر، اضافة الى ان هذه الاتفاقية لا تنقض أي اتفاق قديم بين الامام والحكومة العثمانية او بين الحسين والحكومات الاخرى.
4ـ يقف كلا الحاكمين عونا للآخر، حالة قيام عدوان خارجي او داخلي، ويتوقف ذلك على طلب احد الطرفين عند الضرورة.
5ـ يقدم احد الحاكمين ما يتمكن تقديمه من المساعدة التي يطلبها الحاكم الآخر حالة ظهور عدو مشترك للطرفين على ان يتحمل صاحب الطلب تأمين لوازم واحتياجات القوة المساعدة.
6ـ التاكيد على تأمين الاتصالات ووسائلها بين اليمن والحجاز، واتخاذ مايلزم لتسوية العائق الذي يقف في طريق هذه الاتصالات، والمتمثل بالادريسي، سواء بالطرق السياسية او عن طريق القوة.
7ـ الاتفاق على تداول النقود الفضية غير المغشوشة التي تضرب في الحجاز، في كلا المملكتين بقيمتها المعينة، بعد الاعلان عن كيفية تداولها وكمية النقود والصفة المميزة للسكة.
8 ـ يعين مندوب واحد عن كل جانب في عاصمتي المملكتين تسهيلا للتشاور والمفاوضات بين الطرفين.
9ـ العمل على تأسيس مصنع للسلحة، لسد احتياج البلدين، والمباشرة في تنفيذ ذلك بعد التوقيع على المعاهدة.
10ـ تخصيص مبالغ معينة يتفق عليها سنويا لتنفيذ ما جاء في المادة التاسعة وكذلك ما تقتضيه الانشاءات العمومية المهمة، واقترح ان تحتفظ كل دولة من جانبها بما يقرر عليها من المبالغ لحين وقت اللزوم، والتفاهم بينهما لتأمين ما يمكن تنفيذه من المشاريع المختلفة كمد السكك الحديدية او الاسلاك البرقية.
11ـ واتفق ان يكون امد المعاهدة عشرين عاما، يمكن تعديل او تبديل او طي بعض موادها وفق ما تقتضيه مصلحة الطرفين، وكل تعديل يقره الطرفان له حكم المعاهدة ويمكن تجديد مدة المعاهدة كما هي او تبديل ما يتفق عليه عند انتهاء مدتها المقررة .
نقل يني هذه النقاط مع رسالة الإمام الى الملك حسين، ورسالة اخرى من الريحاني الى الملك، اوضح فيها اهتمام الامام بالمشروع رغم محدودية خطواته، مهيبا بالحسين للموافقة على المشروع بما يعوزه من الامور، لصعوبة اتمام مثل هذه المشاريع مرة واحدة .
وقد بعث الامام من جهة اخرى بمبعوثه السيد (محمد زيارة) الى مكة في أيلول 1923، للوقوف على رأي الحسين ـ كما يبدو من المعاهدة المذكورة ـ وتباحث بشأنها مع الحسين الذي راح يغلض القسم للمبعوث بحسن نيته واستعداده وعائلته للتضحية في سبيل اتحاد العرب . انتهى بعدها اقتراحه للنقاط التي يعتقد بأهميتها للاتفاق وتضمنت:
1ـ قيام اتحاد عسكري بين البلدين يقضي بتعاونهما.
2ـ إناطة السياسة الخارجية للاتحاد بوزارة الخارجية في الحجاز.
3ـ عقد اتفاق كمركي وبريدي بين البلدين.
4ـ تخصيص مبالغ يتفق عليها الطرفان سنويا للانشاءات التي تهم بين البلدين.
5ـ تعيين أئمة صنعاء بإرادة تصدر من الحسين رئيس الدولة العربية .
والذي يبدو ـ كما ذهب سعيد ان الحسين اراد ان تكون رئاسة الاتحاد بيده، بينما يدير اليمانيين شؤونهم الداخلية بأنفسهم، على ان يخضع اليمن اسميا للرئيس الأعلى.
لم يوافق الطرفان في الاتفاق على صيغة معينة للتحالف، لتمسكهما كل بوجهة نظره . اذ ان مقارنة الاقتراحين المقدمين، يوضح اوجه الخلاف الاساسية التي عرقلت هذه المساعي، كالسياسة الخارجية والملكية التي اراد الحسين التمتع بها في الاتحاد، يضاف الى ذلك ان الانكليز وبحكم مصالحهم في البحر الاحمر لا يسمحون بمثل هذه المشاريع دون توجيههم واشرافهم لها ، كما لم يكتب الحظ في استمرارها، إثر مداهمة الوهابيين الاخيرة للحجاز عام 1924 .
3ـ العلاقات الحجازية العسيرية:
كان الحسين ينظر الى السيد محمد بن علي الادريسي بداية ظهوره نظرة تجاهل واستخفاف وان امره سينتهي سريعا . ولما كان للحسين بعض النفوذ الاسمي على بعض قبائل المنطقة فمن الطبيعي ان يبدي عدم ارتياحه وريبته من الادريسي بعد ان تزايدت اهميته وسمعته، وما التف حوله من القبائل التي تأثرت بشخصيته القوية. فأخذ الشريف حينها يظهر مخاوفه من الامارة الادريسية الجديدة وما قد تشكله من خطر على حدوده الجنوبية فاستغل الدعوة التي وجهتها الدولة العثمانية له للاسهام مع قواتها ضد الادريسي الذي زاد من بسط سيطرة على مناطق عسير ولم تبق له سوى (أبها) عاصمة عسير حيث كانت تحاصرها قواته واعد (الحسين) حملة عسكرية قادها بنفسه في ربيع 1911، تمكن، وبعد المقاومة الشديدة التي اظهرتها القوات الادريسية من فك حصار أبها واخضاعها للسيادة العثمانية . ولم يكتف الحسين بذلك وانما استجاب من جديد لدعوة الدولة لمقاتلة الادريسي، بعد ان استعاد الاخير نشاطه من جديد في عسير ـ ووجه نجله الامر فيصل بحملة ثانية لاسناد القوات العثمانية ، غير ان الحملة فشلت في تحقيق مساعيها وعاد فيصل خائبا بينما ظل الادريسي واقفا في وجه الدولة ومتخذا من الجبال مقرا ومخبأ له .
وقد حاول الحسين ان يلعب دور الوسيط بين الحكومة العثمانية والادريسي، الا ان الدولة لم تكترث بهذا الاقتراح. واخذت تشك في نواياه من وراء ذلك، خصوصا وانها كانت قد وعدته بتنصيب احد ابنائه اميرا على عسير، اذا ما تم له القضاء على حركة الادريسي .
اما بالنسبة لموقف الادريسي من ثورة الحسين في عام 1916 فكان عليه ان يكون متجاوبا بحكم العداء المشترك للدولة العثمانية. وقد استجاب لدعوة الحسين في الوقوف الى جانبه بوجه الدولة، وبعث برسالة جوابية على رسالة كان الحسين قد بعثها، اوضح فيها استعداده لذلك، وضرورة تجاوز المشاكل القديمة التي كانت الدولة سببا في خلقها بين الطرفين . غير ان العلاقة بين الطرفين ظلت خاملة حتى عام 1920، حينما برزت مطامع كل من الحسين وعبد العزيز بين سعود في قسم من عسير ـ التي كان يحكمها حينئذ آل عايض حلفاء الحسين، وما قادت اليه هذه الاطماع من التوترات بين هذه الاطراف على ان الفترة حتى عام 1925 لم تكد تخلو من بعض المبادرات الشخصية التي طرحت لتفاهم الطرفين او تحالفهما كما سيتضح لدينا في النقطة القادمة.
ـ مشروع الاتحاد بين الحجاز وعسير: أبدى الحسين تجاوبه مع بعض المساعي التي قدمت لتسوية خلافاته مع الادريسي، رغم عدم الارتياح الذي كان يكنه للاخير . والواقع ان الادريسي لم يعارض الاقتراح الذي كان قد طرحه الريحاني في اليمن ، وعبر عن احترامه وإجلاله للملك حسين، وعن رغبته في ان يبادله الحسين ذلك. كما اكد عن عزمه الاكيد في تسوية ما بين الحسين وعبد العزيز بن سعود من نزاع، اذا ما تم له الاتفاق مع الاول فقادت هذه الاستجابة الريحاني، الاتفاق مع الادريسي على صيغة معاهدة صلح وتحالف مع الحجاز يمكن إجمال بنودها على النحو الآتي:
جاء في المادة الاولى ما جاء في المادة الاولى من المعاهدة بين الحجاز واليمن ، وكذلك الحال بالنسبة للمادة الثانية وتكاد الثالثة ايضا، سوى ما أضيف لها من التأكيد على تحديد الحدود بما يرضي الطرفين، مع الدعوة الى الحصول على التزام ثابت من جانب الحسين بشأن هذه الحدود، على ان لا يعترض الاخير على قضية لواء عسير والمطالبة بجلاء عبد العزيز بن سعود عنه . في الوقت الذي اقترح فيه إمكانية إرضاء الحسين بجزء لا يحول بينه وبين الادريسي في الجوار مع ما يقتضيه ذلك من السعي الى تسوية الخلافات القائمة بين الحسين وعبد العزيز بن سعود لوضع حدود مقنعة بين الاطراف الثلاثة.
اما المادة الرابعة فهي مجمل المادتين الرابعة والخامسة من معاهدة الامام. وهذه المادة الدفاعية (أي الرابعة) بطبيعة الحال نقض لمادة الهجوم التي جاء بها المادة السادسة من معاهدة الامام، والغرض منها منع الاصطدام بين حكام غرب شبه الجزيرة العربية.
امام المادة الخامسة، فتقر تنصيب قاضيين او قاض واحد من كلا الطرفين للفصل في قضايا النزاع التي تقع بين رعاياهما.
وتأتي المادة السادسة، بالاتفاق على العمل الذي يمكن بواسطته حفظ البلدين من أي تدخل اجنبي والتشاور بين الطرفين واخذ رأيه في القضايا الهامة المتعلقة بالعقود والمعاهدة.
وتذهب المادة السابعة الى تبادل المنافع التجارية بين الطرفين وتسهيل الامور المتعلقة بالصادرات والورادات بينهما.
تليها المادة الثامنة وهي المادة العاشرة من معاهدة الامام، والتاسعة هي الثامنة من المعاهدة المذكورة، وكذلك نفس الحال بانسبة للمادة العاشرة (الاخيرة) من معاهدة الادريسي، التي هي عين المادة الاخير من معاهدة الامام .
لم تنته هذه المساعي الى نتيجة، وهي بحكم ارتباطها بالمشروع السابق المتعلق فإن اسباب تعثرها تكاد تكون واحدة ايضا، فضلا عن وفاة احد أقطاب التحالف، السيد محمد الادريسي حاكم صابيا في نيسان سنة 1923 .
4ـ العلاقات الحجازية ـ النجدية:
علاقة الحجاز بنجد عند قيام ثورة عام 1916: لم تكن العلاقات السلبية بين اهل الحجاز والوهابيين بالامر الجديد، اذ تمتد جذور السلبيات الى اواخر القرن الثامن عشر، حيث بدأ الوهابيون ينشرون دعوتهم سلما وعنوة، وقاست الدولة العثمانية منهم الامرين في عقدي دولتي السعودية الاولى والثانية وحتى قبيل الحرب العالمية الاولى، وقد وقع على عاتق الحسين بن علي مناجزة هؤلاء في العقد الاول من القرن العشرين في عهد شريفيته، ثم كانت على يدهم تدمير مملكته الحجازية سنة 1925.
والعلاقات بين الشريف وامير نجد (عبد العزيز بن سعود) لم تكن تدعو ايضا الى الاطمئنان منذ البداية، وصاحبتها الشكوك وضعف الثقة، تطورت بفضل طموح كلا الطرفين الى توترات فمواجهات عسكرية حتى الاخير. اما المواقع التي كانت تجري عليها احداث هذا النوع فكانت الحدود المشتركة بينهما، والتي اتخذت وسيلة لترجمة واقع نزعاتهما، وكان اول احتكاك عسكري تم بين الطرفين عام 1910، عندما حاول الحسين عهد شرافته بسط سيطرته على قبائل عتيبة القاطنة في الحدود المشتركة مع نجد. ومع ذلك فإن هذه الخطوة لم تتمخض عن صدام عسكري، وانما تمكن الطرفان من تسويتها صلحا ، الا ان الريبة ظلت تغطي على جو العلاقات رغم ما لاح فيها من المشاعر الودية الوقتية في حينه .
وعندما قام الحسين بوجه الدولة العثمانية، لم يبد عبد العزيز ابن سعود موقفا واضحا، وتلقى النبأ بتحفظ زائد غير انه لم يخف قلقه من مطامع الشريف حسين التي قد تصطدم بمصالحه وخشيته ان تكون هذه الاوضاع عاملا مساعدا لقوة الحسين وإمكانياته اما الحكومة البريطانية التي تبنت دعم الاخير حملت برسي كوكس مسؤولية دور المعزي لصديقه النجدي في محنته ، غير ان تأكيدات كوكس لم تخفف من غضب عبد العزيز بن سعود، واعرب عن امتعاضه في رسالة بعثها للأول في 20 تموز 1916، استفسر فيها عما اذا كان الحسين قد حصل على تعهد بريطاني بالموافقة على سيادته على العرب، وخشيته من مردودات ذلك على نجد ارض آباؤه واجداده واقترح تقليص المساعدات المرسلة للحسين في هدف اطالة امد الحرب مع الاتراك بما في ذلك تحقيق الاهداف العسكرية التي تبغيها بريطانيا ، هذا في الوقت الذي لم يحجم فيه عبد العزيز ابن سعود من إبداء احترامه وتقديره للحسين في رسائله للاخير بينما راح الحسين ـ ومراعاة للظرف الذي كان يحيطه ـ محاولا احلال الهدوء في نفس ابن سعود واخذ يبعث بالاموال منذ شهر آب 1916 ويرفقها برسائل ودية ، في هدف صرف اهتمامه للقتال ضد القوات العثمانية، بيد ان عبد العزيز ابن سعود، ولريبته بأمر الاموال التي اخذت تتوالى عليه، حاول التأكد من حقيقة الامر، بعد تشاوره مع وجهاء نجد وسادتها وبعث في آب 1916 برسالة للحسين اكد فيها وقوفه الى جانبه في القتال واستعداده لارسال اخيه للاسهام في ذلك، غير انه يود ـ وتجنبا للمشاكل ـ تحديد الحدود بين الجانبين الامر الذي اغاض الحسين كما يتضح من خلال رده على عبد العزيز بن سعود واتهمامه له بالجنون او الثمالة ، وطالبه بنزع الشكوك عن نفسه وبأنهم" شركاء في كل شيء الا ما حرمه الله" . لم تكن الامور الاخيرة بطبيعة الحال خافية على الحكومة البريطانية، فسعت ولمصلحتها معالجة الموقف الجديد بين الحاكمين، وقد ابلغ كوكس ـ كبير ممثلي حكومة الهند في الخليج العربي ـ عبد العزيز ابن سعود في 8 أيلول 1916 بأنه" ما من تفاهم يجري بيننا وبين الشريف في الوقت الحاضر والمستقبل سيؤثر على تمسكنا بنصوص المادتين الاولى والثانية من معاهدة العقير" وكان كوكس قد تسلم تأكيدات الحكومة البريطانية بشأن سياستها الحاضرة واوعزت بتوضيح الصورة المقنعة لهذه السياسة امام العرب" وأنه لما كانت سياسة تشجيع العرب على إنشاء دولة عربية او اتحاد كونفدرالي بين الدول العربية، سياسة حية لم تمت وجب تجنب أي شيء من شأنه ان يؤدي الى نبذ هذه السياسة" .
على اية حال فإن امتعاض عبد العزيز ابن سعود من اهانة الحسين الأخيرة ، وبغض النظر عما كانت تعنيه من الاصرار النابع عن القوة، فضلا عن الشكوك والضغائن القديمة، ما يبرر على ما يبدو الاتصلات التي تمت بين سلطان نجد والاتراك خلال الشهور الاولى من الثورة في هدف عرقلة الحسين واحباط جهوده، فقد اتصل عبد العزيز ابن سعود بالشريف على حيدر ـ الذي اختارته الدولة شريف بدلا من الحسين بعد وصوله المدينة في تموز 1916 وأبدى استعداده لدعمه والتعاون لضرب الشريف حسين وجاء في رسالته التي بعث بها الى حيدر في حوالي آب" ان عائلة الحسين لم تقدم بثورتها هذه سوى الفساد والضرر... انه يطمع في الاستقلال بأي طريقة كانت ولهذا انغمس بكل انواع الخداع والحيل ضاربا سكان الجزيرة بعضهم ببعض خدمة لمآربه الخاصة فقط... واليوم انا مستعد للقيام بما ترغب به، على اننا بحاجة لكميات كافية من الامدادت الحربية... ان وضع الحسين ضعيف ويمكن دحره بسهولة اذا ماوصلت الامدادات والمعونات الكافية. انها اللحظة المناسبة لمباغتته" .
وذهب عبد العزيز بن سعود الى الاتصال بفخري باشا قائد المدينة واعرب عن استعداده لمساعدته ضد الشريف لكن فخري باشا لم يستغل هذه الفرصة اعتقادا منه بحفاظ المدينة بمقاومتها واعتذر لابن سعود عن ذلك . والذي يبدو انه حاول استدارك هفوته ووجه الدعوة الى عبد العزيز ابن سعود في 17 ايلول 1916 يقصد التعاون ضد الشريف واعداد الظرف المناسب لذلك ، فلم يكن للسلطان موقف ثابت مع الحسين ويزداد استياء كلما ارتفع شأن الاخير واستجابت بريطانية لرغباته. والحقيقة ـ ولولا اعتراض بريطانيا ـ لما تقاعس من مهاجمة نده الحجازي دون الالتفات الى أي اعتبار آخر. ولعل الحسين كان يدرك اهمية ابن سعود وولائه، اذا ما قامت الدولة العربية في المستقبل وهذا ما دفعه للتفكير باهتمام بالعلاقات القوية بين عبد العزيز بن سعود وموظفي حكومة الهند في العراق وامكانية ضغطها بهدف ضمان ولاء الاخير وقد بذل المسؤولون هناك بعض الجهود في هذا السبيل .
لقد ظل ابن سعود مرتابا ـ خاصة بعد تسلمه رسالة الحسين المؤرخة في أيلول 1916 ـ من نوايا الشريف وخشيته ان يكون في هذه الرسالة ما يفهم منه التبعية للحجاز بعد ان اخذ حاكمه يلوح بفرض كلمته على العرب . لم يتوان الحاكم النجدي من مفاتحة جيرانه الانكليز مجدد بما يدور في ذهنه وبعث بنسخة من رسالة الحسين سالفة الذكر، الى كوكس طالبا منه الاجتماع والتشاور حول ما يهم الطرفين وردا على ذلك ما يبدو نشرت وزارة الخارجية البريطانية مذكرة بصدد هذه التوترات جاءت فيه" ان صيغة المادة الاولى من المعاهدة المعقودة مع عبد العزيز بن سعود تلزمنا فعلا بالتحكيم بشأن الخلافات الاقليمية البارزة بين عبد العزيز بن سعود والحسين وان تحكيمنا في نهاية الامر سيتخذ فرض عقوبة فعالة" ، وراحت الحكومة من جهة اخرى وابلغت الحسين في 3 تشرين الثاني 1916 بالمعاهدة المعقودة بينهما وبين عبد العزيز بن سعود .
لقد كان كوكس ـ وهو من موظفي حكومة الهند ـ يدرك التناقض الموجود في السياسة البريطانية , واصطدام الوعود التي تغدقها للحسين بوعودها لابن سعود عاجلا او آجلا، وسيتهم الاخير او كلاهما بريطانيا بنقض الوعود، غير انه (كوكس) كان مضطرا ولمقتضيات الحرب، ان يتبع سياسة آنية يتجاوز فيها الحقائق من اجل الاهم فقد كان اسوء ما تتصوره بريطانيا هذه الآونة هو احتمال تحول ابن سعود جانب العثمانيين واعاقة الحملة البريطانية في العراق. واحتماله ايضا مهاجمة الحسين وتثبيط مساعي لورنس وجهوده في الحملة المتجهة نحو سوريا. ومن هنا ـ ومنعا لهذه الاحتمالات وللمكانة التي يحظى بها عند عبد العزيز ابن سعود ـ حاول كوكس طمأنة الاخير والتقليل من شأن تصوراته حول حجم المساعدات البريطانية للشريف ووعده بتسوية الامور سلميا بين الجانبين . وتأكيده على المعاهدة المعقودة بينه وبين بريطانيا بما في ذلك استقلال نجد واعتراف الحسين بذلك، الامر الذي لن يعارضه الحسين لعدم موافقة بريطانيا له .
(ب) موقف ابن سعود من إعلان الحسين الملكية على العرب:
ما كاد عبد العزيز ابن سعود يغض النظر عن الحسين، حتى فاجأه الاخير بإعلان الملك على العرب في 2 تشرين الثاني1916 ، فاستاء للنباء واحتج كالعادة لدى حلفائه في العراق، الذين كانوا والحكومة البريطانية عموما غير قانعين بهذه الخطوة وعلى اية حال فإنها (بريطانيا) تمكنت من إبطال مفعول اللقب الذي تقلده الحسين كما تقدم وقد اقتنع عبد العزيز ابن سعود بموقف الحكومة البريطانية الاخير، حتى كان اول المدافعين عن الحسين والثورة التي تزعمها ضد الدولة العثمانية وسياستها المغلوطة، في خطاب ألقاه في الكويت في 20 تشرين الثاني 1916 ، فيما اعرب الحسين عن ارتياحه لهذا التبدل .
وجدير بالذكر ان اجتماعا قد تم بين عبد العزيز ابن سعود وكوكس قبل قدومهما لمؤتمر الكويت بناء على إلحاح الاول، للتشاور ببعض الامور ظاهرها مقاومة آل الرشيد، اما واقعها فهو محاولة استجلاء الموقف البريطاني من الحسين وبالذات بعد إعلانه الملكية . وقد اكد كوكس من جديد في هذا الاجتماع على استقلال نجد الكامل، شريطه تحاشي الخلافات مع الحسين، اذ ان بريطانيا ستعد اي اعتداء ضد الاخير بمثابة اعتداء عليها ، وقد أسفر الاجتماع عن تخصيص مساعدة مالية لابن سعود قدرها خمسة آلاف جنيه شهريا اضافة الى المساعدات العسكرية التي تضمنت 6 رشاشات و3 آلاف بندقية مع مقدار كاف من الذخيرة ، وخولت حكومة الهند معتمدها في الكويت تنفيذ ذلك لما فيه من حفظ لسلامة المواصلات البريطانية في الخليج العربي ولم يكن بوسع عبد العزيز بن سعود رفض التأكيدات الجديدة، واخذ بنصائح كوكس، بعد ان تعهد الاخير بضمان عدم تدخل الحسين في شؤون نجد او التحدث باسم العرب باعتباره ملكا عليهم، والتزام بريطانيا الحياد اذا ما ادخل الحسين بهذين الشرطين .
ويبدو ان الحسين كان غافلا لاكثر ما يدور في القسم الشرقي من الجزيرة، وابدى استغرابه لوجود خلاف ما مع عبد العزيز بن سعود، خاصة وان الاخير لما يزل يستلم منه حتى الآن خمسة دفعات من النقود كان بعضها بناء على طلبه. وهذا ما اوضحه المعتمد البريطاني في جدة (الكولونيل ولسن) في رسالته للسير (ونجت) في 30 تشرين الثاني 1916 والتي اشار فيها ايضا الى حقيقة اللقب الذي اتخذه الحسين، وفي كونه لا يتعدى رغبة الاخير في اتخاذ لقب سام يساعده في الادعاء بالخلافة فيما بعد، دون ان يعني هذا اللقب سلطة فعلية على الحكام العرب .
لقد بذل مسؤولو حكومة الهند في الخليج العربي هذه الفترة جهودهم لاسكات ابن سعود وإبعاده عن الحسين، في الوقت الذي لم يكن فيه موظفو مدرسة القاهرة رغم إدراكهم ذلك على اطلاع تام بهذه الجهود او الضغوط التي انتهجها نظرائهم في الخليج .
كان السبب الرئيسي لهذه الخلافات او أي خلاف آخر بين حكام الجزيرة يعود في حقيقته الى الانقسام الواقع في السياسة البريطانية نفسها او بكلمة اخرى الخلاف القائم بين حكومة الهند والمكتب العربي في القاهرة والذي كان ينعكس بشكل فعال على حلفاء كلا الطرفين وقد لعبت هذه السياسة كما سيتبين على مدى نقاط البحث التالية دورها الكبير في شؤون المنطقة، وبالذات العلاقات الحجازية النجدية.
والظاهر ان الحسين كان في طليعة حكام الجزيرة الذين تحسسوا هذا التضارب بعد اكتشافه لمعاهدتي كل من الادريسي وعبد العزيز بن سعود مع بريطانيا، رغم تناقضهما مع المعاهدة الرئيسية التي عقدها مع مكماهون كممثل للعرب حينها. ولم يكن بوسع (ونجت) في إجابته على استفسار الحسين بصدد هذه النقطة سوى الدفاع عن سمعة حكومته والتزامها بوعودها، وبأنها كانت قد أبلغته بهذه المعاهدات، والتي لايعتقد بتضاربها مع نص المعاهدة المبرمة معه أي (الحسين) او اخلالهما بمصالح العرب وسير القضية العربية
ج: تدهور العلاقات بين الجانبين:
1ـ محاولات بريطانية لحل النزاع:
لقد ظل ابن سعود ـ رغم امتثاله لإرشادات (كوكس) ـ ينظر بعين القلق والاستياء لقوة الحسين المتزايدة بسبب توالي الإمدادات البريطانية، في الوقت الذي لم تتعد مخصصاته الشهرية (5000) جنيه وأبدى خشيته من أن توجه هذه القوة ضده يوما ما، وارتاب فيما إذا كان قد خدع من قبل بريطانيا أو اقتيد لمهادنة خصمه لحين تكامل قوته، ليسهل عليه اكتساحه عن نجد، فأخذ حلفائه وهدد بإزاحة الحسين حال انقطاع إعانتهم له، وأعرب عن ثقته بان الحجازيين سينظرون له بمثابة محرر لهم.
ومع ما كان للتضارب المنوه عنه في السياسة البريطانية من الأثر في هذا النزاع، فإن الحكومة البريطانية، ولارتياحها للنتائج التي حققتها قوات الحسين، لم يكن أمامها سوى إغفال هذا التضارب والتأكيد على التسوية بين الحاكمين ولو وقتيا تمشيا مع مصالحها. والظاهر ان المكتب العربي في القاهرة كان مستعدا لتنسيق سياته مع موظفي حكومة الهند في بغداد وضمان علاقة ودية بين الحجاز ونجد والحيلولة دون تحول غيرة ابن سعود الى اعمال عدوانية ضد الحجاز، قد تلحق الضرر بالاوضاع العسكرية الجارية حينذاك فبعث المكتب العربي بالسير رونالد ستورس (Ronald Storrs) الى بغداد للتشاور مع السير برسي كوكس واجتمع بالاخير وبالمس بيل (Bell) في مايس 1917 ، اقترح عليها حينها الاجتماع بابن سعود، غير ان ستورس لم يتمكن من مواصلة سفره الى الرياض، وهو في طريقه اليها لمرضه . رغم ان الاجتماع المؤمل لم يكن يمنع الاخير من طرح وجهة نظر المكتب العربي والتكلم بصوت واحد عن جانبين ذوي مصالح متضاربة وعلى اية حال فإن البادرة الاخيرة ـ رغم إخفاقها فسحت المجال للأخذ بفكرة الاتصال بابن سعود، رغم انقطاع ذلك منذ وفاة الوكيل السياسي البريطاني في الكويت الكابتن شكسبير (W.H.C. Shakespear) وانسحاب اكثر البعثات البريطانية التي كانت هناك .
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه هذه المساعي، كان عبد العزيز بن سعود يعمل على مد نفوذه في منطقة الحدود عن طريق نشر الوهابية بين قبائل تلك المناطق. فأمست واحة الحزمة شبه وهابية، فيما انتمى اليها الكثير من قبيلة عتيبة، الى الحد الذي دفعها الى الافصاح عن مقاومتها لسيادة الحسين في ربوعها مما اثار الحسين ودفعه لإبلاغ المندوب السامي في القاهرة عن اعمال عبد العزيز بن سعود الاخيرة وضرورة الحد من نشاط اتباعه واستجابة لذلك اقترحت الحكومة البريطانية إيفاد بعثتين عن كل من بغداد والقاهرة، للرياض والاجتماع بابن مسعود، وتمخض ذلك عن إيفاد المسؤولون الانكليز في بغداد في نهاية تشرين الاول 1917، الضابط المعروف (فلبي) رئيسا للبعثة . بينما ترأس ستورس الوفد الذي اقرت مهمته القاهرة كما سيتبين.
كان على بعثة فلبي اضافة الى مهمتها المشار اليها ان تدفع بابن سعود باتجاه حايل واميرها الذي مايزال يروج الدعاية العثمانية ويقف بجانبها ، في محاولة لاضعافه ومنعه من إعاقة تقدم العمليات العسكرية باتجاه الشمال ، والتثبت فيما اذا قد يجبر العاهل النجدي للوقوف في جانب العثمانيين، والتعرف على ما يحتاجه من الاسلحة حالة موافقته لاهداف بريطانيا ومهاجمة عدوه الوراثي ابن الرشيد خاصة وان الاتراك قد ضاعفوا من أمداداتهم العسكرية والمادية للاخير وامسى مصدرا للاضطراب والقلق .
حاول (فلبي) لدى اجتماعه بابن سعود في نهاية تشرين الثاني 1917 التأكيد على تجنب النزاع مع الملك حسين لاسيما وان الاخير مازال يثير دعاويه بالملكية على العرب، في الوقت الذي كانت تحتم فيه الظروف تقدير اهمية حملة الامير فيصل وضرورتها لدعم قوات الجنرال اللنبي في فلسطين، وعلى كل حال فإن فلبي تمكن من إقناع صديقه النجدي في الامتناع عن أي اعتداء ضد الحجاز، شريطة كبح بريطانيا لجماح الحسين ومنعه من أي تجاوز ضد نجد وان تؤكد له من جديد احترامها لاستقلال سلطنة نجد ضمن ما جاءت به معاهدة العقير سالفة الذكر .
من جهة ثانية لم يوفق (ستورس) ممثل القاهرة في المجيء كما اتفق لمعارضة الحسين ، بحجة المخاطر التي تحف بالطريق المؤدي الى نجد، واضطراب الوضع القائم في الحدود دون الافصاح عن عدم رغبته في إجراء مفاوضات بين بريطانيا وسلطان نجد ، لاعتقاده بعدم خدمتها لمصالحه، وترجيحها لكفة عبد العزيز سعود عليه، اذ ان أي اتفاق بنظرة بين الانكليز وعبد العزيز بن سعود اجحاف باتفاقه وإياهم، واذا ما تم الاتفاق فهو يرغب ان يكون عن طريقه (اتركوا لي ابن سعود ـ انا اعالجه ـ اقول لكم لخيركم وخير العرب) . والحقيقة ان ما تذرع به الحسين بشأن سفر ستورس، انما كان حجة واهية. اذ أن ـ ستورس ابلغ الامير عبد الله في 16 كانون الاول 1917 عن عدم حاجته في سفره لنجد الى حرس او مؤونة، نظرا لسفره جوا اختصارا للوقت ، وعلى كل حال فقد كان على بعثة بغداد ان تتولى معالجة الامور بنفسها دون مساعدة القاهرة الامر الذي حال دون التنسيق بين سياسة الطرفين، بيد ان فلبي ـ كأحد موظفي حكومة الهند ـ ومناوئة منه للحسين ـ كان قد تعمد خلال انتظاره لستورس، بالسفر الى الحجاز للاجتماع بالملك، بعد ان اقنع كلا من كوكس و عبد العزيز بن سعود بذلك ، ووصل جدة في 29 كانون الاول 1917 فلم تتجاهل القاهرة وجود فلبي في جدة، والاجتماع به، بعد ان تعذر ذلك في الرياض، فبعثت بالدكتور هوغارث في 6 كانون الثاني 1918 للتشاور معه، الى جانب مهمات اخرى . وقد حضر الحسين بنفسه في اليوم التالي ليبدأ اسبوعا من المباحثات .
بسط الحسين في هذا اللقاء ما تعهد به عبد العزيز بن سعود في صلح عام 1910 وعدم تنفيذ الاخير لما جاء فيه، وانما راح يمارس نشاطه بين قبائل عتيبة لاستمالتهم وتوجيههم ضد الحجاز، مستغلا الظروف الاقتصادية الصعبة التي تضطرهم الى المتاجرة مع نجد ليبث بينهم التعاليم الوهابية . واتهم الحسين خصمه بتواطئه مع العثمانيين مستندا على الرسائل المتبادلة بين ابن سعود وقائد المدينة فخري باشا واستمر متهما عبد العزيز بن سعود بتحريض القبائل القاطنة في الحدود على اثارة الاضطرابات، واعداد عشائر الخرمة النجدية ضد الحجاز. وقد حاول فلبي تنفيذ ما ذهب اليه، الحسين، فرد على تهمة تواطؤ ابن سعود مع فخري باشا، بإخراجه رسالتين تبودلتا بين الاخيرين، كان قد تسلمها فلبي من ابن سعود عند مجيئه للحجاز، تؤكدان ـ كما ذهب فلبي ـ على رفض ابن سعود لطلب فخري باشا وهذا ما يفسر لدى فلبي امتناع الحسين عن تسلمهما او قراءتهما ، أما بالنسبة لاتهام ابن سعود بتحريض القبائل فأشار الى استغاثة اهالي الخرمة بابن سعود ـ خلال وجوده في الرياض ـ وطمأنه السلطان لهم بحماية بريطانية ودفاعها عنهم، على ان يقاوموا أي هجوم حجازي ضدهم، وهو على استعداد لنجدتهم عند الشدة .
ولم يقتصر تجاوب الموقف مع ابن سعود على صديقه (فلبي) فحسب، وضم الدكتور هوغارث (Dr. Hogarth) ايضا ولو بصيغة النصح والاعتدال. فقد ابدى عدم تسليمه بما الصقه الحسين بابن سعود من التهم والاخطاء. وهو او (حكومته) يتوقع احترام الملك للمعاهدة الموجودة بين بريطانية وعبد العزيز بن سعود، إضافة الى حقوقه الاقليمية والعشائرية ومعاملته بصورة صحيحة، وعليه (ان لا ينظر ان تأييدنا له كإجراء معادي لابن سعود، او تلبية مطلبه للسيادة على نجد. والاكثر من هذا فإننا اذا فكرنا بتسليح عبد العزيز بن سعود وشجعناه لمهاجمة حايل فإننا نعتبر مثل هذا العمل متفق تماما مع هدف العرب ومع اتفاقيتنا مع الملك) .
لكن الحسين لم يكن يثق بصدق نوايا عبد العزيز بن سعود تجاهه او تجاه بري
طانيا ولم يأبه بآراء هوغارث او فلبي واعتبرها خاطئة. اذ كان على خوف من عبد العزيز بن سعود وخطورة حركته الدينية على الحجاز ولم يرجع خوفه لقوة الوهابيين او ثبوت تفوقها على اتباعه من البدو فحسب، وانما يرجع ايضا الى ابتعاد عناصر قواته العسكرية وانشغالها في قتال القوات العثمانية التي كان يقودها فيصل في الشمال، وعبد الله في حصار المدينة . اما النقطة الاخرى التي كانت تحول دون تفاهم الحسين وكل من هوغارث وفلبي بشأن العلاقات مع نجد، فهي عدم تفاهم الحسين وكل من هوغارث وفلبي بشأن العلاقات مع نجد، فهي عدم اعتراف عبد العزيز بن سعود بملكية الحسين على العرب اذ كان الحسين يطمح لنيل هذا اللقب لامجرد (ملك الحجاز) ذلك اللقب الصغير الذي وصفه بأنه (شبح بلا معنى). وقد اشار فلبي الى هذه الناحية في احدى رسائله الى (كوكس) بقوله (ان ما يريده الحسين حقا هو توقيع عبد العزيز بن سعود وموافقته على ملكيته بدلا من أي عمل مستقل له (عبد العزيز بن سعود) كحليف لنا ، فيما اضاف هوغارث انطباعاته بهذا الصدد بقوله ان الحسين لم يكن متأكدا كليا من ضمان وضعه الحاضر سواء مستقبل منطقته او قابليته في السيطرة على الموقف العربي في انحاء مختلفة، فهو (ولد ليحكم ولكن ليس له ان يحكم اكثر مما تراه عيناه، واذا كان له ان يصبح ملكا على العرب فإن هذا الشعب يجب ان يكون عبارة عن اتحاد دول ذات سيادة مع حكم ذاتي محلي كامل وتام الى درجة سيادته الشبحية ستبقى رمزا بسيطا للوحدة فقط) .
وعلى اية حال فإن الحسين ـ رغم ما أبداه بشأن نزاعه مع عبد العزيز ابن سعود ـ لايرغب في إثارة النزاع معه، لابحجة استمرار الحرب العالمية على حد تعبيره، بل لانه ـ بنظر هوغارث ـ اضعف ما ان يفعل ما يرغب. فولاؤه لبريطانيا ولاء عاطفي وليس شخصيا وهو بذلك لايرغب بإثارة ما يضر مصالحها، الا انه سيراقب أي حركة عدوانية لعبد عبد العزيز بن سعود ضد جيرانه العرب، ليحصل على الدليل الذي يستند اليه في إثبات عدم تأييد عبد العزيز بن سعود لوحدة العرب، وعدم اخلاصه لبريطانيا .
وعلى كل حال ونظرا للسلبيات التي تقدم ذكرها، بات استمرار هذا اللقاء غير مجد وقد يقود الى نتائج سيئة، الامر الذي دفع بك من (هوغارث) و( فلبي) بطلب الاذن في العودة، غير ان الحسين وتعبيرا عن تضايقه من (فلبي) لم يسمح له بالعودة عن طريق الحجاز ، رغم نصيحة هوغارث، مخافة ان يعد عبد العزيز ابن سعود ذلك عملا عدائيا موجها ضده. فكان على فلبي مصاحبة هوغارث الى القاهرة والعودة بعدها الى نجد عن طريق الخليج العربي .
ان اعتبار مطالب الحسين في الاجتماع الاخير سببا لفشله، لايبدو وافيا دون ربطه بالنزاع المنوه عنه بين مدرسة الهند والقاهرة، ولعل السطور التي اجاد بها فلبي في هذا الصدد خلال اجتماعه بهوغارث ما يلقي الضوء على هذه الزاوية، باعتبارهما ممثلين كلا الشقين المتناحرين للسياسة البريطانية في الشرق الاوسط، فقد اثنى (فلبي) طبعا على عبد العزيز بن سعود والنتائج التي حققها في تطويره لقوات الوهابيين وسط الجزيرة. وخلافا لما توقع، لم تحظ توضيحاته باهتمام هوغارث وبدى عليه الاستياء لانه كان ينظر الى مستقبل العرب من خلال الاشراف، فمع تأكيده لما ذهب اليه فلبي ـ عما حققه عبد العزيز بن سعود من النتائج في ضبط قبائله المشاكسة وتنظيمها ـ فإن الاخير بنظره لايعدو اكثر من كونه شيخا بدويا كبيرا يتمتع بمكانة بارزة، ولايترك وراءه أثرا واضحا في التاريخ، او عملا منظما ودائما، وبوفاته ـ والرجال الذين يماثلونه ـ لايخلف سوى ردة عنيفة من الفوضى التي اعتادت عليها الجزيرة العربية. بينما يختلف الامر بالنسبة للاشراف بما يمتلكونه من المكانة الدينية والسياسية، الامر الذي سيمكنهم في إقامة شيء ثابت ودائم في البلاد العربية يعينها في احتلال مكانتها من العالم الحديث. ومن هنا يؤكد هوغارث التزام حكومته بقضية الاشراف وعدم استعدادها لتحطيم ما أقامته، تنفيذا لمطاليب عبد العزيز ابن سعود وادعاءاته . وقد رد فلبي مدافعا عن صديقه النجدي مجردا إياه من أية مطامع، عدا الحفاظ على استقلال بلاده، ورفضه ـ فضلا عن تجنبه عداء الحسين ـ مهاجمة ابن الرشيد رغم المحاولات التي يبذلها المسؤولون في العراق في هدف صرفه عن الحجاز، واكد فلبي قناعة صاحبه بما عنده، وامكانية تحديد الحدود بين الجانبين عند انتهاء الحرب، لكنه اكد لهوغارث رفض عبد العزيز ابن سعود المطلق لسيادة الحسين عليه.
وعبث المحاولات في هذا الشأن. اما بصدد المستقبل الذي تطرق له هوغارث، فأوضح فلبي عدم جدوى البحث في امور قيد الافتراضات، وبين ان عبد العزيز بن سعود في السابع والثلاثين من عمره، وبالامكان التوقع ببقائه عشرين سنة اخرى، حيث تمسي الجزيرة التي سيتركها بعد هذا العمر غير ما هي عليه الآن. ولن يجد خلفه صعوبة كبيرة في قيادة البلاد وان كان لا يتمتع بشخصية عبد العزيز بن سعود. وذهب فلبي مشيدا بأعمال السلطان في إنشائه المستقرات الجماعية للبدو الرحل وتعويدهم على الحياة الزراعية والعسكرية معا، مع الاحتفاظ بالطابع الديني، الامر الذي وفر جيشا موحدا على استعداد لاسكات اي فتنة قبلية .
2ـ نشوب القتال على الحدود والموقف البريطاني منه:
ـ معارك خرمة: ازدادت توترات الوضع على الحدود المشتركة لنجد والحجاز بسبب المشاكل التي اندلعت في كل من واحتي تربة والخرمة، حيث اخذت تدريجيا شكلا خطيرا، تحمل الحسين قسطه الاكبر. وترجع المشاكل الاخيرة التي فجرت الموقف الى تنامي التعاليم الوهابية عند الحدود المشتركة بين الحجاز ونجد، واعتناقها من قبل بعض سكان المنطقة، يأتي في بدايتهم الشريف (خالد بن لؤي) امير واحة خرمة ، اذ اعتنق هذا الوهابية ولم يتخل عنها رغم اعتقاله من قبل الحسين عدة شهور، فما كاد يصل الواحة بعد اطلاق سراحه، حتى شرع في تصعيد نشاطه للوهابية، وكتب الى الحسين يعلمه باستقلاله وتكفيره للمكيين، وعزمه على طلب الحماية من نجد. ومنذ هذا الوقت شرع في حشد اتباعه من قبائل عتيبة، وتعزيز مواقعه في المنطقة وسرعان ما امست الخرمة مركزا للدعوة الوهابية واخذ دعاتها من اتباع عبد العزيز بن سعود بنشرها بين القبائل المجاورة تارة بالترحيب واخرى بالترهيب. الامر الذي دفع بالحسين في مايس 1918 الى تنبيه ابن سعود ومعاتبته، والدعوة لترك قبائل عتيبة وشأنها مع تعهده بتجنب ما يضر بمصالح نجد . ولم يكتف الملك حسين بذلك وعمد الى التثبت من صحة التحركات وبعث بطلب خالدا بالقدوم الى مكة، فاعتذر الاخير متذرعا بأسباب تقتضي بقاءه، وعمد الى ارجاع القاضي الذي بعثه الحسين لتقصي الحقائق، بعد ان اضافه عدة ايام ، بحجة تدخل في شؤون خارج اختصاصه، كما اوضح ذلك في رسالته التي حملها القاضي المذكور الى (عبد الله سراج) نائب رئيس الوزراء ، غير ان الحسين وبعد تيقنه من اوضاع الخرمة عن طريق الاخبار التي نقلها القاضي، بعث مؤكدا على خالد بالمجيء. فلم يجب الاخير هذه الدعوى، واخرى، ثم اعلن استقلاله ، بما قام به من الاجراءات في اعتقاله لعمال الحسين الذين جاؤوا لجمع اموال الزكاة من سكان الواحة، في الوقت الذي تم له اخراج العناصر المعادية فيها بمساعدة القوات الوهابية وردا على ذلك عزل الحسين خالدا من منصبه، مستعيضا عنه بانب عمه بيد ان الامير الجديد تعذرك عمال اوكل اليه، لان خالدا لم يبق له نفوذا او وجاهة في المنطقة فاضطر حينها الحسين لاستخدام القوة، وابلغ المعتمد البريطاني في جدة في 13 مايس 1918 بالاعتداءات الوهابية ومطالبتهم سكان المنطقة بدفع الزكاة، لتكون الحكومة البريطانية على بينة من الامر ، بعد ان اعرب عن عزمه لاحتلال المنطقة ورغبته في تأييد بريطانيا لهذه الخطوة .
نفذ الحسين ما عزم عليه وشرع بإرسال حملاته في اوائل حزيران 1918، غير ان هذه الحملات التي بلغت ثلاثا، باءت جميعها بالفشل وذاقت الهزيمة على يد خالد بن لؤي ، الامر الذي كان له اثره في نظرة عشائر المنطقة التي راحت والتفت حول الاخير طمعا في الكسب والغنيمة ، اما موقف عبد العزيز بن سعود من هذه الحملات، فمع رغبته لقتال الحسين الا ان التزاماته تجاه بريطانيا كانت تحول دون ذلك ، خصوصا وان (فلبي) كان يراقب حركاته ويحذره من النتائج السيئة المترتبة على ذلك في الوقت الذي كان يحثه فيه لمهاجمة ابن الرشيد، حتى يذكر أن (فلبي) اقترح عليه الاسهام في الهجوم على دمشق حيث يمكن عن طريقها مهاجمة امير حايل ايضا ...
لقد كانت مصلحة الامبراطورية فوق كل التناقضات السياسية بين مسؤوليها، وليس هناك ما يمنع حكومة الهند للحد من نزعة ابن سعود القتالية ، خدمة للاهداف العسكرية المتمثلة في استمرار تقدم القوات العربية التي كان يشرف الهاشميون على قيادتها بجانب قوات الحلفاء نحو الشام. لذلك كان لزاما على (فلبي) ورغم ممالئته لابن سعود، ان يهدئ من روع الاخير ويصرف نظره عن الحجاز الى حايل، فكان ذلك بلا شك افضل ما يمكن عمله، في الوقت الذي يتم فيه دفع الحسين لاخذ المدينة ، غير ان هذا التفاهم الوقتي الذي ارتضته حكومة الهند مع موظفي القاهرة لا يعني انتفاء خلافاتهما بالطبع، خاصة وبعد متابعة الحكومة البريطانية للتطورات العسكرية التي حققها مسؤولوا القاهرة في كل من سورية وفلسطين، فدخول (اللنبي) القدس في (9 كانون الاول 1917) . وما حظى به دور المقاتلين العرب والعائلة الهاشمية في هذا الانتصار ـ زاد من اهميته الكولونيل (لورنس) من المكتب العربي المعروف بمساندته (للأشراف ـ الى الحد الذي اوشكت فيه الحكومة البريطانية على الاستغناء من خدمات عبد العزيز بن سعود وقطع الاعانات عنه، لولا مساعي آرنولد ولسن الحاكم السياسي في العراق ، بهذا الشأن. وكانت الحكومة البريطانية قد ابلغت (كوكس) لدى زيارته لندن في آذار 1918 هذا الموقف، وانتفاء الحاجة لمهاجمة ابن الرشيد بعد التطورات العسكرية سالفة الذكر والحقيقة ان كوكس لم يبخل في دفاعه عن عبد العزيز بن سعود وتمكن من اقناع حكومة لندن بالتريث لحين عودة فلبي الى الرياض ، والتقارير التي سيتقدم بها .
وواصل كوكس موقفه هذا في الاجتماع الذي عقده مع مسؤولي القاهرة وهو في طريقه الى لندن ، حينما اوضح استحالة قيام وحدة عربية تحت سيادة الحسين لعدم اعتراف عبد العزيز بن سعود بسلطته الدنيوية فضلا عما يكنه له من الريبة والحسد، برغم اعترافه بمكانته الدينية ومضى (كوكس) وأشار الى استقامة حليفه والتزامه بتعهداته، وتجنبه التجاوز على الحجاز طيلة استمرار فترة الحرب. بيد انه ـ ولارتيابه بنوايا الحسين ـ كان مضطرا لاحتراس والعمل حفاظا على مواقعه، ولعل هذا ما دفعه لدعم حركة الوهابيين واستغلال قوتهم لصالحه، لما تميزوا به من الروح القتالية منذ السابق. وبرر كوكس ايضا استغلال عبد العزيز بن سعود لنفوذه القوي بين قبائل عتيبة للوقوف بوجه فعاليات الحسين المماثلة في منطقة الحدود .
وعند الحديث عن ابن الرشيد اشار الكولونيل (ولسن) الى عزم الامير عبد الله لمهاجمة ابن الرشيد، حال ازاحة الاتراك من الحجاز، غير ان كوكس ـ وردا على استفسار ولسن بهذا الصدد ـ اعرب عن ثقته بمعارضة عبد العزيز بن سعود لذلك بقوة، واستمراره على عدائه الموروث مع ابن الرشيد، حتى في حالة تفاهم الحسين والاخير .
وعند مناقشة النقطة الثالثة المتعلقة بـ " سياسة المستقبل في الجزيرة العربية"، اوضح كوكس وجهة نظر حكومته بصدد ذلك فكرر تأكيده على فشل المساعي الرامية لفرض سلطة الحسين الدنيوية على عبد العزيز بن سعود او امام اليمن او الادريسي في المستقبل، لرفضهم ذلك. كما ان مستقبل الحسين الذي يعتمد على نجاحات قواته في الشمال، لا يعني موافقة العراقيين او السوريين لتدخل الحسين في شؤونهم . وعندما يصح بالتأكيد على دور الحكومة البريطانية لحفظ السلام بين حكام الجزيرة عن طريق اتمام المعاهدات بينهم ، أبدى أعضاء المكتب العربي معارضتهم لآراء كوكس بما فيها اقتراحه المتعلق بإحلال التوازن بين الحجاز ونجد، والقاضي بإبقاء إمارة حايل بينهما، لعدم ترجيحهم تورط بريطانيا في نزاعات وسط الجزيرة، فضلا عن الخطة الجديدة ـ والمناقضة لسياسة حكومة الهند ـ القاضية بتمركز المساعدات البريطانية في الحجاز، وعند جناح القائد اللنبي، وعدم التأكيد على ابن سعود، ولكن مع إبقاء اللعبة عن طريق " الاعانات القليلة " التي تصله بواسطة فلبي .
لقد كان نزاع نجد والحجاز سببا مهما في تعزيز خلافات القاهرة وبغداد وصعوبة تنسيق سياستيهما، وبالعكس. فبينما كان مسؤولوا القاهرة يقرون ضمنيا إرجاع الحسين للخرمة وتأديب خالد بن لؤي، دعا نظراؤهم في بغداد برفع الايدي عن الخرمة بحجة العداء الذي سيسببه استحواذ الحسين على الخرمة لدى الوهابيين سواء للشريف او لبريطانيا نفسها ، واستمرار الطرفين على حالهما، حتى ان وزير الهند اقترح في 5 تموز 1918 بنقل مسؤولية السياسة العربية الى وزارته لكنه عورض من قبل وزارة الخارجية، باعتباره عملا مضرا بالتزاماتها الأخيرة للقضية العربية، بسبب عدائها للشريف والعرب على السواء وغفلتها عما يقدمه موقفها هذا من خدمة للاتراك. وراحت وزارة الخارجية واعلنت بصراحة ان نزاع الحجاز ونجد يعود في أساسه الى نزاع مسؤولي وزارة الهند مع مسؤوليها . ولانعكاس هذا التضارب على طرفي النزاع، كان من حق ابن سعود ان يستصعب كما صعب على غيره فهم السياسة البريطانية، فقد كتب في 25 تموز " لقد اصبحت الحكومة البريطانية وكأنها حكومتان الاولى حكومة مصر والتي تسير بكلمات الشريف وتؤمن به وتنفذ مطامعه، سواء كان على خطأ او على صواب، وحكومة العراق التي كانت تستقبل اعداءه بذراعين مفتوحين وتمنعنا من معاقبتهم" واعرب السلطان لفلبي عن امتعاضه وقلقه للتعاطف المتزايد الذي اخذ يبديه ساسة لندن للحسين كما تقدم تواً. والذي يبدو أن (فلبي) قد حمل بعض ملامحه حينما امر بتقديم القليل من المال والسلاح لابن سعود، الذين (الاخير) استنتج بدوره من ذلك، احكام الحسين لعمله جيدا . فطالب تحديد الموقف البرطاني من خصومه، وحماية حدوده منهم اذا ما أريد مهاجمة ابن الرشيد ، وطالب ايضا بزيادة اعاناته من المال والسلاح، ليصبح في تسلحه بمستوى الاتراك او حتى امير حايل، ولكي لا يكره على شراء الاسلحة من اتباع الحسين الذين كان يبيعوها في الصحراء. وقد حاول فلبي الذي كان يتحالف مع هذه النقاط سرا إراضاءه، ووعده بأنه سيطرح مشاكله أمام السطات البريطانية في القاهرة عند سفره اليها .
وعلى أية حال فإن الاندحارات الاخيرة التي كانت قد تلقتها القوات الحجازية في الخرمة وما قد تقوده من صدامات عسكرية اقوى واشمل، ولحرص بريطانيا في توجيه حلفائها باتجاه العدو ، دفعت بالاخيرة في تموز 1918، الى إسداء النصيحة للحاكمين بتجنب خلافاتهما، وعرضت وساطتها لمساعدة الجانبين لحل الامور عن طريق المفاوضات. وأرفق ( بلفور) وزير خارجية بريطانيا مع رسالته التي تضمنت هذه الدعوة تعليماته الى السير ونجت للتأكيد على الحسين بضرورة ضبط النفس والحكمة السياسية، نظرا لما في صدامه مع ابن سعود من ضرر على مصالحه والقضية العربية، ودعوته للاعتماد على المساعي البريطانية في إحلال السلام بين الطرفين . لكن الملك حسين لم يرقه هذا الموقف لاعتقاده بجهل بريطانيا في الاوضاع،وميلها لابن سعود اذ ان التجاهل حيال حركة خالد بن لؤي يقود الى استفحالها وانضمام الكثير من القبائل الى جانبه وتظاهر برغبته في التنازل عن العرش، لعجزه في تجاهل نصيحة بريطانيا التي تقضي بترك خالد دون عقاب ، إلا انه مضى في موقفه وتجاهل النصائح الاخيرة ووجه تحذيراته في 9 شوال 1336هـ حوالي 20 تموز 1918 الى اهالي الخرمة من التواطؤ مع الامير خالد، لتبعية المنطقة بما فيها الأخير لسيادته . وتمادى الحسين في موقفه وأخذ يهاجم ابن سعود واتهامه بإمداد الثائرين بما حصل عليه من المنهوبات التي سلبها من قبائل آل رشيد كما هاجم الحسين شخصيا عبد العزيز بن سعود في منشور له في جريدة القبلة، تعرض فيه للوهابية كمعتقد هدام للدين الاسلامي وأكد رده الحاسم على التحرشات الاخيرة التي جرت عند الحدود .
وفي الوقت الذي استمر فيه الحسين على موقفه الأخير، كانت الأحداث في الجانب الآخر من الجزيرة تتجه هي الأخرى نحو الأسوأ، فقد اتصل خالد واتباعه بابن سعود في منتصف آب

الامير حريبيش
25-Mar-2008, 11:51 AM
1918، وناشدوه أنجادهم، لاحتمال قدوم حملة عسكرية حجازية اخرى وشددوا في طلبهم من جديد للدفاع عن الوهابية، وأهابوا به بالقدوم بنفسه ، بدلا من الاهتمام في قتال ابن الرشيد وقد تداول أشراف نجد بالامر. ويبدو أنهم انتقدوا عبد العزيز ابن سعود لتقاعسه في إنجاد مستغيثه بسبب انقياده لحلفائه الانكليز وإهماله مصلحة بلاده والاسلام، واحتج البعض على بقاء البعثة البريطانية في نجد، وأبدوا مقاطعتهم لاعضائها، فيما اكد (الدويش) أحد كبار قادة عبد العزيز بن سعود عن ذلك ، فانصاع الأخير ووعد أتباعه بتلبية دعوة خالد أتباعه اذا ما تكررت الهجمات الحجازية ، في الوقت الذي رفع (فلبي) بدوره هذه التطورات الى حكومته ومن أن أي هجوم آخر من قبل الحجاز من شأنه ان يخلق المشاكل في الجزيرة العربية .
دعت الحكومة البريطانية من جديد الى تهدأة الموقف، وبعث السير ونجت في 5 تشرين الثاني 1918 بكتاب رسمي الى الحسين ضمنه هذه الدعوة. وذكر الحسين بالمعاهدة المعقودة بين ابن سعود وبريطانيا وما تضمنه للأخير من الحقوق داخل حدود بلاده. وأشار الى تحذير حكومته لابن سعود من القيام بأي عمل خارج هذه الحدود، ورفضها لمطاليبه في زيادة الذخائر والمعدات الحربية فضلا عن طلبها بموقف الحركات العدائية ضد ابن الرشيد التي كان قد شرع القيام بها بناء على الاوامر البريطانية. الامر الذي يقتضي من الحسين تقدير الموقف البريطاني والوقوف عند حد معلوم من قضية الخرمة، وغيره من القضايا القبلية التي يمكن حلها عن طريق التأني، لذلك فهو (ونجت) يستعصب تصديق موفق الحسين في رغبته لقطع العلاقات الودية مع عبد العزيز ابن سعود، ورد مبعوث الأخير ردا قاسيا، ورفضه لاستسلام رسالته أو قراءتها وكرر (ونجت) دعوته لحل الأمر سلميا، وبأسلوب شابه التنبيه، اذ ان عبد العزيز بن سعود ـ كما ذهب ونجت ـ "وان كان اقل درجة من جلالتكم واضعف موارد فإنه لا ينكر أنه ذو تأثير واهمية في السياسة العربية .
بيد ان انتهاء الحرب العالمية الاولى وتوقيع الهدنة في 11 تشرين الثاني 1918 كان يقتضي بطبيعة الحال ان تعيد بريطانيا النظر بسياستها مع حلفائها من الحكام العرب فليس من المعقول ان تنظر الى خطورة النزاع الحجازي النجدي كالسابق بحكم مصالحها في المنطقة رغم ان ذلك لا يعني تخليها كليا عن الحسين اذ ما زال يعتبر الناطق الرسمي باسم العرب، ولم يمض على انتهاء الحرب عدة شهور، وما زال المستقبل بحاجة اليه ـ ولعل ذلك ما يفسر خمول أو غموض الموقف الذي أخذت تبديه حيال النزاع المذكور، واحتجاج الحسين واتهامه لها بمحاباة عبد العزيز ابن سعود فمع إقرار السير (ونجت) للقتال بين الحاكمين، الا انه رأى ـ وفي ضوء متطلبات السياسية البريطانية ـ تأجيلها قدر الامكان وإبقاء قوات الطرفين عند (الخرمة) دون صدامها لثقة بريطانيا بضع مقاومة الأشراف للوهابيين، الأمر الذي قد يدفعها الى الوقوف جانبهم نظراً لكون الحسين مازال حاميا للأماكن المقدسة وهو أمر من شأنه ان يحوز على قناعة الهند .
وسيرا مع هذا الموقف المتذبذب يضع (كرزن) توقعاته بين ان تكون الحرب حلا لخلافات الحجاز ونجد، أو إمكانية تسويتها سلميا عند عدم صدامها . وأبلغت الحكومة البريطانية معتمدها في جدة الكولونيل (ولسن) بأنها قررت "على ضوء التطورات الأخيرة وخاصة استسلام المدينة ان لا تتدخل بعد اليوم في النزاع الحالي بين الملك حسين وعبد العزيز بن سعود، رغم إدراكها ما يترتب على هذا الموقف من النتائج ومع ذلك فإن بريطانيا وكما نوهنا قبل قليل لم تكن ترغب في الاندفاع كليا في مواقفها هذه مع الحسين لوجود القضايا العالقة بين الطرفين ، لذلك تحاول وزارة الخارجية درسة المشكلة، بعد وصول الانباء عن احتدام النزاع، ودعت (فلبي) في منتصف آذار 1919 لحضور المؤتمر الذي عقدته الوزارة لبحث القضايا المتعلقة بالشرق الاوسط ، ومن جملتها مشكلة الخرمة ـ التي شدد الحسين طلبه في حسم قضيتها لصالحه، وهدد بمهاجمة المنطقة حالة رفض طلبه ـ فقد اوضح اللورد (كرزن) وزير الخارجية لدى افتتاحه المؤتمر عزم حكومته لتسوية النزاع بين الطرفين لإصرار الحسين ـ وهو محق ـ على هذه التسوية، واوضح ان المشكلة هي مشكلة سياسية لا مشكلة القضية نفسها. كما افصح عن وجهة نظر وزارته السياسية في المنطقة بقوله ان السياسة البريطانية في جميع القضايا العربية سياسة حسينية الامر الذي يبرر ضرورة الاقتناع بانتصار الحسين حالة صدامه مع عبد العزيز بن سعود، اذا ما حسمت مشكلة الخرمة لصالحه، والا فإن العواقب ستكون خطيرة وقد حظي كرزن بتأييد كافة الجنرالات والاميرالية الحاضرين، حينما طلب رأيهم بوجهة نظره، لاعتقادهم ان شرذمة من الوهابيين الحفاة عاجزين عن الوقوف امام القوات الهاشمية المدربة والمجهزة بأسلحة بريطانية، فكان هذاع راي الوزارة ـ والمكتب العربي المرتبط بها طبعا ، الا ان هناك من يعترض هذا الاعتقاد متمثلا بحكومة الهند التي كان ينوب عنها في المؤتمر (فلبي). فقد انتقد هذا الخبراء والضباط العسكريين الحضور لافتقارهم للمعلومات الكافية عن قدرات الوهابيين وحذر من تطور الامر الى صدام ـ وهذا ما سيتم حتما، اذا ما تمادت السياسة البريطانية في موقفها السلبي من عبد العزيز بن سعود ـ اذ ان الوهابيين سيكتسحون القوات الحجازية دون اية صعوبة. ومع احتمال اهتمام كرزن بران فلبي الا انه اوضح ان البت في مثل هذه الامور لا يأتي الا عن طريق اكثرية الاصوات. ولما كان فلبي لا يمثل الا الاقلية، فإن الحكومة ستمضي في سياستها الحالية . لذا اقر المؤتمر تخويل الحسين رسميا باحتلاله منطقة النزاع، بما في ذلك إبلاغ عبد العزيز بن سعود بهذه الصلاحية، وانذاره بقطع الحكومة لاعاناتها المالية عنه، اذا ما أبدى اية مقاومة، واكد مرزن باصدار الاوامر الفورية بهذا الشأن .
وقبل ان ينهي كورزن المؤتمر، ارتأى الاستفسار من المستر فلبي عن موقف ابن سعود عند تسلمه هذه الاوامر، فأجاب فلبي ـ الذي كان متأكدا كما يبدو ـ ان السلطان سيحشد قواته حال سماعه بهذه الاوامر دفاعا عن الخرمة التي كان قد وعد اهلها بذلك، سواء قطعت عنه الاعانات أو لا، منوها الى النتائج التي سينتهي اليها هذا الصدام والتي اشار اليها في بداية الاجتماع، غير ان هذه المحاذير لم تغير ما أقره المؤتمر وانفض على ما اتفق عليه من تسوية .
معركة تربة وهزيمة القوات الحجازية: باشر الحسين وبعد الاقرار البريطاني الاخير بإعداد حملة جديدة ـ بقيادة صهره ووزير داخليته حينذاك عبد الله بن محمد يرافقه الشريف شاكر بن زيد ـ ضمنها العديد من قوات القبائل. ولم يكتف الحسين بذلك بل وجه نجله الامير عبد الله بقواته من الطائف ـ بعد فتحه المدينة في كانون الثاني 1919ـ للالتحاق بالحملة الاولى التي امر بتوقفها لهذا الغرض، وللاجتماع به ايضا قبل الدخول في معركة فاصلة . وفي الاجتماع الذي عقده الحسين بكل من نجله وصهره ومشايخ قواته في منطقة عشيرة ، تم اقرار الخطة التي رسمها الحسين والقائمة على اخضاع القبائل الخارجة وبسط سيادته على ربوعها .
لم يكن عبد العزيز بن سعود بغافل عن التطورات الاخيرة، وسارع الى ابلاغ السلطات البريطانية في البحرين التي انذرت بدورها الحكومة البريطانية بخطورة الموقف على الحدود، الامر الذي دفع بالاخيرة ـ ورغم اقرار مبدأ تبعية الخرمة للحسين ـ الى تلافي الموقف واتصلت بمعتمدها في جدة ليبلغ الحسين رسالة حكومته التي ضمنتها النصح بالتريث عما عزم عليه والاقتراح بانسحابه الى الطائف حيث يوافيه عبد العزيز بن سعود للتفاهم على ما ينهي الخلاف. غير ان الحسين لم يرتح لهذا الموقف وصمم على القتال، ورد " حسين روحي " سكرتير المعتمد البريطاني ـ الذي سلمه كتاب الحكومة خلال وجوده في عشيرة ـ، ردا صارما وعلى مسمع من الحاضرين " اذهب وقل لهم انه لاحق لهم بالتدخل في شؤوننا الداخلية فنحن احرار نفعل ما نريد " . كما لم يتمكن الامير عبد الله ـ الذي لم يكن راغبا في القتال ـ من اقناع والده في العدول عن الحرب او تأخير موعدها على الاقل. وتجاهل الحسين التحذيرات البريطانية عن قوة الوهابيين وتعصبهم، والاندحارات السابقة التي حملوها قواته ، بل اعتد بما حصل عليه مؤخرا من الاسلحة بعد فتح المدينة، وهدد نجله عبد الله بالتنازل عن الحكم حال مما نعته تنفيذ اوامره .
وجدير بالذكر ان الامير عبد الله كان قد راسل عبد العزيز بن سعود بعد فتحه المدينة وابلغه بسقوطها. وإنصراف الدولة الى مشاكلها الداخلية وتأديب مثيري الفوضى قاصدا بذلك خالد واتباعه ولم يبخل ابن سعود بدوره بالتهنئة لاحتلال المدينة مهيبا اياه للتوسط في تسوية الخلاف مع والده . وقد استجاب عبد الله الذي كان يقر ذلك ضمنيا، ووعده بذلك في رسالته الجوابية في آذار 1919 وطلب منه ايفاد من يمثله لبحث القضايا المتعلقة بينهما، بعد ان ابلغه برحيله الى مكة بيد ان الامير عبد الله وتحت ضغط والده في عشيرة كما تبين كان مضطرا للتوجه نحو الحدود حتى انتهى عند منطقة (البديع) بالقرب من الحدود متخذا منها مركزا لحركة قواته التي بدات من هناك باستمالة القبائل او تأديبها ، فما تحركت القوات النجدية بقيادة (سلطان بن بجاد) باتجاه الحدود وانضمت لقوات (خالد بن لؤي) وتمركزت في منطقة تبعد 20 ميلا عن واحة تربة. تسمى بـ (القرنين) استعدادا للقتال، في حين تحرك عبد العزيز بن سعود من الرياض الى تربة لدعم اتباعه. واتخذ منطقة (اللصة) القريبة من تربة ايضا مركزا له وظل على اتصال دائم بخالد بن لؤي . اما بالنسبة للامير عبد الله فقد ترك منطقة البديع بناء على اوامر والده المشددة، وتقدم نحو تربة وتمكن من احتلالها ، وبدأ من هناك بإرسال رسله الى شيوخ القبائل يدعوهم للانضمام تحت سيادة والده محذرا ومهددا إياهم عاقبة المقاومة ، وباحتلال منطقة تربة لم يبق لابن سعود ما يخفيه وتبادل مع عبد الله رسائل شابها التهديد والتحذير متهما اياه بالكذب خلافا لما ادعاه في رسالته السابقة عن عزمه في العودة الى مكة. واكد عبد العزيز بن سعود الدفاع عن اتباعه، دون ان يتجاهل إنهاء الامر صلحا على ان ينسحب عبد الله الى العشيرة ليتسنى له ارسال احد انجاله او اخوته للتفاوض بهذا الشأن، ولم يسع عبد الله سوى الاجابة بنفس اللهجة معتبرا ما قام به من احتلال بعض المناطق انما لتأديب قبائل تابعة للحجاز، ولا دخل لابن سعود بأمرها... وكرر ما أشار اليه ابن سعود في الدعوى الى الصلح شريطه انسحاب عبد العزيز بن سعود الى نجد، دون ان يلحق باتباع الاخير أي ضرر .
لم تكن هذه المراسلات بالامر المجدي وامسى السيف السلاح الوحيد لحل النزاع، وقد جاء على يد خالد بن لؤي الذي باغت معسكر عبد الله في تربة في ليلة 25، 26 مايس 1919 وتمكن بمن معه من القوات الوهابية من تشتيت القوة الحجازية وتدمير معظمها، وباعتراف المصادر الهاشمية نفسها ، ولم يتمكن عبد الله من النجاة الا بصعوبة، ممتطيا فرسه باتجاه الطائف ، اما عبد العزيز بن سعود فقد تلقى هذا الخبر وهو في طريقه الى موقع الحركة .
ـ موقف الحكومة البريطانية من احداث تربة: جزع الحسين للنبأ وبعث بخمسمائة جندي نظامي تحت قيادة محمود القيسوني وزير الحربية الى الطائف لحمايتها بعد ان اصبحت ابواب الحجاز مفتوحة امام الوهابيين واضطر الى الاتصال بالمعتمد البريطاني في جدة بواسطة نائب رئيس وزرائه عبد الله سراج. وقد استجاب المعتمد لدعوة سراج في التوسط، ووعد بإبلاغ حكومته واطلاعه على جوابها، كما طلب من سراح بإعداد مساحة من الارض بجوار جدة تحسبا لهبوط الطائرات التي قد تبعثها بريطانيا، بينما دعاه للاجتماع به في جدة . وفي الاجتماع الذي تم بينهما اقترح الكولنيل ولسن الاتفاق على عقد مؤتمر يجمع بين ابن سعود والحسين لتصفية خلافاتهما، غير ان الحسين طالب الاتفاق على جدول اعمال المؤتمر مقدما والقضايا التي سيتناولها ورفض اقتراح ولسن بتأجيل ذلك الى انعقاد المؤتمر، الامر الذي افشل المشروع بالتالي من جهة اخرى أبرق الكولنيل ولسن لحكومته ـ كما وعد ـ عن التطورات الاخيرة ووصف الرعب الذي عم الحجاز، وتقاطر الناس الى الساحل من ضمنهم (000/11) من الرعايا الهنود وحذر من استمرار الوهابيين في تقدمهم نحو الطائف، فضلا عن احتمال تفشي الامراض بين اللاجئين المزدحمين في جدة نظرا لشحة المياه وافتقار المدينة للعناية الصحية، وطالب باتخاذ الاجراءات الكفيلة حفظا للسمعة البريطانية . وبسماع كررزن لهذه الانباء عقد اجتماعا عاجلا دعا فيه كبار المسؤولين العسكريين ومن بينهم (فلبي) نفسه الذي كان في لندن حينها. وطالبهم ـ بعد ان اشار للحرب الاخيرة وخيبة الحسين فيها، وبرقية الكولونيل ولسن من جدة ـ بإبداء رأيهم في الموضوع، وفيما اذا كان بوسع ممثلي وزارتي البحرية والحربية من تقديم عونهما اسهاما في انهاء الوضع في وسط الجزيرة، لكن الاخيرين اعتذرا لطلب اللورد كررزن، فقد ابدى الاميرال الاقدم عجز الاميرالية عن تقديم أي خدمات بناء على التعليمات التي لديه وذلك لقلة البواخر المتوفرة حاليا الى الحد الذي لا يمكن فيه اعداد باخرة واحدة وأبدى كبار القادة العسكريين في وزارة الحربية اعتذارهم ايضا وعدم استعدادهم للقيام بعمل يذكر، وعزم الوزارة في تجنب ما يورطها في شؤون الجزيرة . اما بالنسبة للمستر فلبي فقد حاول طمأنة اللورد كررزن لاعتقاده بعدم مواصلة الوهابيين تقدمهم، فاستاء اللورد، لثقته بالأخبار التي بعثها الكولونيل ولسن باعتباره أكثر الناس علما بالوضع. بيد ان المعتمد (ولسن) ـ أجاب فلبي ـ لا يعرف الا بما يخبره به الملك حسين، كما لا يمكن الاعتماد على أقوال النازحين الذين لم يروا ـ برأيه ـ أحدا من الوهابيين، واكد فلبي ثقته من جديد بتوقف الوهابيين عن تقدمهم بعد انتصارهم الأخير، وان لابن سعود سيطرته على رجاله وهو أعبد من ان يخطئ مع بريطانيا بمهاجمة الحجاز. لكن (كرزن) ظل مصرا على اعتقاده السابق ولم يقتنع بما ذهب إليه فلبي وأعرب عن قلقه في احتمال وصول الوهابيين ابواب مكة او جدة، في ضوء المعلومات التي كانت تصله. وهنا يفصح فلبي عن غايته بصراحة لإيقاف التقدم الوهابي، وذلك بقلب القرار الذي اتخذ في المؤتمر السابق، ان الموافقة عل سيطرة عبد العزيز بن سعود لا على الخرمة فحسب بل تربة أيضا والتي سوف لن يتنازل عنها بعد ان تمكن من السيطرة عليها. وتحمل فلبي ـ ولمعرفة بأهداف ابن سعود ـ مسؤولية وقف الهجوم الوهابي على الحجاز، فيما اذا استجيب لهذه المطالب. ولم يمانع كررزن هذه المرة كما يبدو، ووافق على اقتراح فلبي وذهابه لمعالجة الوضع . إلا ان الموافقة كانت مبدأية على ما يظهر حيث اتضح بعدها ان وزارة الخارجية ـ وعند وصول فلبي للقاهرة ـ أصدرت أوامرها للجنرال (اللنبي) المندوب السامي في القاهرة لإرسال ست طائرات الى جدة لاستخدامها وقت الحاجة ، في حين أصدرت أوامرها الى الكولونيل ارنولد ولسن في بغداد بقطع المنحات المالية الشهرية عن عبد العزيز بن سعود . فيما أصدرت أوامرها في نفس الوقت بإنذار عبد العزيز بن سعود وبالتوقف عن الحرب وقد أبلغ المعتمد البريطاني في جدة (الكولونيل ولسن) هذا الانذار الى عبد الله سراج بعد يومين من اجتماعهما سالف الذكر، وهو على هيئة رسالة موجهة من الحكومة البريطانية إلى ابن سعود جاء فيه:
" ترجوكم حكومة جلالة الملك ان تعودوا الى نجد عند وصول هذا الكتاب الى يدكم وتتركوا تربة والخرمة منطقة حرة وغير مملوكة لأحد حتى عقد الصلح وتحديد الحدود، واذا لم تعودوا فإن حكومة بريطانيا تعد كل اتفاق بينكم وبينها ملغى وتتخذ ما يلزم من التدابير ضد حركاتكم العدائية، وتأسف كل الأسف لما حصل بين أصدقائها وكانت ترجو ألا يقع" .
فتخلص الهاشميون من الاندحار الكامل، إذ يبدو ان عبد العزيز بن سعود كان يعد العدة لمهاجمة الطائف التي لم يبق بينها وبين الخرمة سوى مسافة قليلة، وهذا ما دفع الحسين الى تحصينها عقب الهزيمة مباشرة وسلم قيادتها لأحد قادته العسكريين ولعل هذا ما يقلل من اهمية ادعاء(فلبي) الذي اكد فيه على عدم عقب عبد العزيز بن سعود للقوات الحجازية، ومن أنه امر قواده باتخاذ موقف دفاعي .
لقد كان من الممكن بعد الاجراءات البريطانية الأخيرة ان تتلاشى أهمية الاسراع في المهمة التي اوكلت للمستر فلبي في المؤتمر الأخير . إلا ان وزارة الخارجية عادت وأمرته من جديد في السفر الى الرياض عن طريق جدة، أملا في إيجاد تسوية ما بين الطرفين. بيد ان الحسين أفشل مهمة (فلبي)، ورفض سفره عبر الأراضي الحجازية رفضا رغم مرور ثلاثة أيام على التفاوض بهذا الشأن، فاضطر حينها الى ترك الأمر والسفر الى لندن .
ظل الحسين يعاني مرارة الهزيمة وانعكس ذلك في شكوان التي أخذ يبثها للمسؤولين الإنكليز، خصوصا وإن عبد العزيز بن سعود استمر على دعمه وتأليبه لقبائل عتيبة، كما يظهر من بعض الرسائل التي كان يبعثها السلطان لهذه القبائل ، وذهب الحسين مستنكرا التجاوزات الأخيرة بما في ذلك استحواذه على تربة والذي يعد برهانا على هذه التجاوزات. وراح وأعلن عن رغبته في التنازل عن العرش كحل يرتأيه لهذه المشاكل، بعد ان ادعى استعداده للتنازل عن البلاد لسلطان نجد طالما ان ما يهدف اليه هو ضم مناطق إضافية من الحجاز الى بلاده .
كان بإمكان بريطانيا إيقاف مثل هذه العمليات الحربية بسهولة قبل قيامها، لكنها لم تتخذ أي إجراء رادع عبد العزيز بن سعود وما أتخذته لا يعدو اكثر من كونه بعض المساعي الدبلوماسية وضمن الحدود التي تسمح بها أهداف السياسة البريطانية. وموقفها الأخير من النزاع إنما كان ضمن الأهداف البعيدة التي نوهنا عنها سلفا. فقد انتهت الحرب وتوجه العرب ـ ان لم نقل الحسين ـ بأنظارهم الى الحلفاء للوفاء بالتزاماتهم لتحقيق الدولة العربية. ولما كان الحسين الناطق الرسمي على الأقل باسم العرب، والذي من خلاله تم الاتفاق على هذه الوعود، فإن من المنطقي جدا أن تسدد بريطانيا ضربتها الموجعة لحليفها الهاشمي الذي اخذ يثير إزعاجها فيما يردده من الوعود المنتظرة عند نهاية الحرب. وحسبه أن الضربة التي تلقاها كانت كافية للحد من غروره بعد ان واجه شبح الزوال حتى من الحجاز، أثناء الهجوم الوهابي الأخير. وهذا مايفسرنزوله عن الإرادة البريطانية وطلب مساعدتها، الأمر الذي كانت تؤكد عليه الأخيرة ضمن سياستها التقليدية في ربط حلفائها الصغار وجردهم من فلكها بحكم الحاجة ووضعهم أمام واقع الاعتماد الكلي على قوتها، وهي أمور تزداد وضوحاً بسير البحث.
ولم تكتف بريطانيا بهذا الحد وإنما واصلت سياستها في مجال آخر، فمن الواضح أن الحسين، مع علم بريطانيا، سيعمد ـ ولمنع تكرر مثل هذه الهزيمة ـ إلى تقوية قدراته العسكرية، وما يترتب على ذلك من الاستعدادات والتجنيد. الأمر الذي يبرر حيطتها (بريطانيا) أو خشيتها من خروج الحسين عن الدائرة التي رسمتها له، ومن هنا جاءت إجراءاتها بتخفيض المساعدات الشهرية منذ هذه الفترة .
ونعيد هنا ما أشرنا إليه سلفا عما كان يحتويه شعار مصلحة الامبراطورية من التناقضات القائمة في السياسة البريطانية عند الضرورة، والذي في ضوئه يمكن تبرير التفاهم الضمني المؤقت ـ اذا جاز التعبير ـ الذي بدأ بين شقي بغداد ـ القاهرة اثناء النزاع الأخير. هذا اذا تجاهلنا شبه التنازلات التي أبدتها الأخيرة (التابعة في سياستها الى وزارة الخارجية)، كما تبين لنا من قناعة كررزن أحيانا بتسوية حربية بين نجد والحجاز، أو الموافقة على توسط فلبي، ثم تجاهلها لحقيقة هامة كشف عنها فلبي شخصياً، والمتعلقة بالمنحة المالية المقررة لابن سعود، فقد تجاهل أرنولد ولسن (A. Wilson) الحاكم السياسي في بغداد وأحد موظفي حكومة الهند، العقوبة التي فرضتها الحكومة البريطانية على عبد العزيز بن سعود بقطعها لمنحه المالية، ولم ينفذ الأوامر الصادرة اليه وإنما راح " ووضع التبليغ جيبه ونسي كل شيء عنها" . وقد صارح فلبي وزارة الهند بهذه الحقيقة ـ في الاجتماع الذي عقد برئاسة وزيرها (أدوين مونتاكو)
(A. Montago) ـ وتحدى ـ ما أدلى به أحد كبار موظفي الخزينة من أن المنحة المالية المخصصة لابن سعود كانت قد قطعت منذ مايس 1919ـ، وأكد استمرارها رغم صدور الأوامر بذلك. وزيادة في التأكيد، وإجابة على استفسار اللجنة المالية، وجه فلبي اللجنة للإستفسار من الأمير فيصل ابن عبد العزيز بن سعود الذي كان يزور لندن هذه الفترة. ومع ذلك فإن الحكومة البريطانية لم تتخذ أي إجراء مضاد لابن سعود وقررت "بحكمه وتعقل ان لا توقظ الكلاب النائمة وأن تستمر على الدفع لضمان سلامة الحسين..." .
إن الحكومة البريطانية حين وقفت موقف المتفرج من الحرب الأخيرة فإنها ـ كما أكدنا سابقا ـ كانت تعارض مبدأياً التخلي نهائياً عن الحسين وبمثل هذه السرعة، اذ بالإضافة الى الاسباب المتقدمة فإن تخليها عنه في محنته قد يفقد من سمعتها ويلحق الضرر بأي مكسب يمكنها الحصول عليه ، كما كان على بريطانيا أن تدرك أن الجوم المتأزم وهياج الوهابية ـ الذي أخذ يمتد فيما بعد الى سورية وفلسطين والعراق، فضلا عن صفتها الهرطقية لدى بعض الاوساط الإسلامية ـ قد يسبب خطر انتعاش فكرة الجامعة الاسلامية، والتي من الصعوبة خنقها في أقطار الهلال الخصيب . على ان ذلك لا يمنع من القول ان السياسة البريطانية أخذت تستنفذ حاجاتها من الحسين يوما بعد آخر، وشرعت تفكر في إهماله . ورغم أنها لم تباشر ذلك فعلياًَ إلا ان اصواتا بريطانية، وبالذات حكومة الهند، اخذت تطالب بترجيح كفة عبد العزيز بن سعود وعدم معاداته بسبب الحسين، والدعوة لتنحيته عن الحكم لما يوفره من تسوية للموقف، وحسم لقضايا المشرق العربي بما يخدم المصالح البريطانية ، ومهما يكن فإن بريطانيا وعندما لا تجد في الحسين ما يستوجب الاهتمام المباشر، فإنها ترى من الضروري على الأقل الاهتمام بأمر الاعضاء الآخرين المنتسبين لبيته، خاصة وإن المصالح البريطانية تقضي أن لا تبقى أمور العرب تحت سيطرة بيت واحد فمع هذه التحولات، أصبح بقاء الحسين قلقا يحتفظ بوجوده على الحماية البريطانية المشكوك فيها، كحليف بات غير مجد إلا لفترة قصيرة لتسليط مرشحها الجديد ابن سعود "الذي سينقض بدوره على التفاحة في اللحظة المناسبة عندما يبدأ ساقها بالذبول" .
(د) تطور العلاقات الحجازية ـ النجدية حتى انعقاد مؤتمر الكويت 923:
1ـ فشل المبادرة البريطانية لتسوية النزاع: أبدت بريطانية منذ 1918 بعض مساعيها لتسوية نزاع الحسين وعبد العزيز بن سعود، واتصل الجنرال (ونجت) المندوب السامي في القاهرة، بالحسين في 5 تشرين الثاني 1918 وأظهر له حرص حكومته على إحلال الأمن في الجزيرة، ومعارضتها عبد العزيز بن سعود في الأمور التي من شأنها إلحاق الضرر بمصلحة الحجاز، وسخطها لأي عمل قد يقوم به خارج بلاده: التزاما بالمعاهدة التي تربطه مع بريطانيا، والتي تضمن من حقوقه داخل بلاده. هذا بالإضافة الى رفضها مطاليبه من السلاح والذخيرة. لكن الحسين لم يأخذ بهذه النصائح، ورفض دعوة الحكومة البريطانية لتبادل الرسائل الودية مع عبد العزيز بن سعود، كما رفض رسالة من الاخيرة بهذا الشأن ، إضافة الى رده الرسل الذين بعثهم إليه، الأمر الذي يستغربه (اللنبي)، وأعرب للحسين عن أمله ـ وبشيء من التنبيه ـ في تجنب ما يسيء الفهم بين الجانبين، إذ ان عبد العزيز بن سعود "وان كان أقل درجة من جلالتكم وأضعف موارد، لا ينكر أنه ذو تأثير وأهمية في السياسة العربية" .
غير أن تلك المساعي لم تجد نفعا في اجتماع الحاكمين بسبب تصلبهما، وهذا ما أبداه عبد العزيز بن سعود شخصيا حينها، لدى زيارته الاحساء في شباط 1920، حينما أعرب عن استحالة مثل هذا اللقاء سواء في الحجاز أو في أي مكان آخر، رغم علمه بالجهود المبذولة بهذا الشأن. فيما شكا في الوقت نفسه، قلة الإعانات المالية، وما سببته له من ضيق اقتصادي. وامتعاضه من التعاطف البريطاني مع مطالب الحسين في سورية ، طالب المسؤولين الإنكليز بعدها بما يلي:
1ـ ضمان بريطانيا بقاء الوضع الراهن في الحدود مع الحجاز.
2ـ ضمان بريطانيا منع الحسين من أي عمل عدواني.
3ـ ضمان بريطانيا الحج بالنسبة لرعاياه وسلامتهم في الحجاز .
وفي الوقت الذي يطرح فيه ابن سعود مطاليبه هذه، كان الحسين هو الآخر يطالب القاهرة بردع عبد العزيز بن سعود عن تجاوزاته، وإجباره على الانسحاب عما لم يكن تحت ادراته قبل الحرب او خلالها مؤكدا اهمية ذلك بالنسبة لموسم الحج القريب لما يوفره من امن وراحة الحجاج الزائرين .
ومع تعنت طرفي النزاع، فقد تظاهرا بالرغبة للتفاهم وبدا وكأنهما على قناعة من ذلك. فقد اقترح عبد العزيز بن سعود في 23 مايس 1920 الاجتماع بالحسين في مكة، بينما اظهر الاخير موفقته بعد عدة شهور فأبدت السلطات البريطانية رضاها لذلك، واقترحت في اقتصار اللقاء على الحاكمين فقط، لبحث الامور وجها لوجه وحلها سلميا، دون الحاجة لاشراك موظف بريطاني بينهما .
لكن اللقاء المؤمل لم يتم، اذ عدل الحسين عن رأيه كما يبدو، تماشيا مع تطورات الموقف الذي رافق مشكلة حج النجديين ووجهة نظره منها كما سيتضح، الا ان ذلك لم يقف حائلا في سبيل استتباب الهدوء الذي عم منطقة الحدود بقية عام 1919و 1920 ـ بغض النظر عن بعض التحركات التأديبية التي قامت بها القوات النجدية ضد بعض القبائل الموجودة هناك حوالي منتصف حزيران 1920، وتبودلت الرسائل الودية بين الجانبين تعبيرا عن الاسف وحسن النويا .
2ـ مشكلة الحج: امست مشكلة الحج كما اشرنا لها توا عائقا دون تفاهم الطرفين والواقع ان هذه المشكلة لا تعدو من كونها امتدادا للعلاقات المتردية السابقة، وتكاد تبدو وكأنها النتيجة التي خرجت بها معركة (تربة) بالنسبة لعلاقة الطرفين، وسلوك من الحسين يضم في جوانبه نوعا من ردود الفعل لكبريائه التي تزعزعت في المعركة المذكورة، وعدم استجابة بريطانية و عبد العزيز بن سعود لمطاليبه في واحتي الخرمة وتربة الى جانب اسباب اخرى ـ يأتي ذكرها ـ حاول الحسين تحقيقها عن طريق موسم الحج والتحكم بأمره. ومن هنا جاءت بداية هذه المشاكل بعد معركة (تربة) مباشرة تقريبا وفي عام 1920 على وجه التحديد، لا كما ذهب (وهبة) في عدة عام 1921 بداية لهذه المشكلة . وهذا ما يتضح من خلال الوثائق المتوفرة لدينا.
وأساس المشكلة هي القيود التي عمد الحسين الى فرضها على الرعايا النجديين الوافدين للحج وما ترتب على ذلك من إعاقة لحجهم. والواقع ان الحسين لم يظهر بادئ الامر ـ وانسجاما مع موافقته المبدأية كما تقدم ـ اعتراضه على حج النجديين، وهذا ما حفز السلطات البريطانية لاتخاذ مايلزم، لحفظ الامن، فعمدت الى إيفاد من يمثلها من الضباط الهنود لمرافقة قافلة الحج النجدية والاستفسار من سلطان نجد عن عدد الحجاج الوافدين، والسعي لتقليلهم قدر الامكان بما في ذلك مرافقيهم من المسلمين، في الوقت الذي نصحوا فيه الحسين بمنع تمركز قواته في الطرق التي تسلكها قافلة الحج النجدية حفظا للأمن . الا ان السلطات البريطانية لم تضع في الحسبان تغيير لموقفه، وهذا ما اتخذه بالفعل خلافا لتعهده السابق، فيما حدد عبد العزيز بن سعود (18 تموز) كآخر موعد لتوجه رعاياه الى الحج. فسعت السلطات البريطانية حينها لتسوية الامر سلميا دون اللجوء الى القوة، واقترحت عرض القضية امام الحسين حالة اندلاع صعوبة ما .
كان الشرط الذي اشترطه الحسين بداية الامر لقبول الرعايا النجديين للحج هو مجيئهم غير مسلحين وعلى مستوى من الشعور بالمسؤولية، الا انه ـ وكما يظهر من التقرير المتأخر الذي رفعه الكولونيل (فيكري) المعتمد البريطاني في جدة في حزيران ـ كان قد ادخل في 28 مايس شرطا جديدا مفاده رفض الرعايا النجديين، ما لم يتم التوصل الى اتفاق نهائي مع عبد العزيز بن سعود. ومع عدم ارتياح الانكليز لهذا الموقف الا انهم ضغطوا على ابن سعود في تقليص عدد رجاله المسلحين الى اقصى حد ممكن، كما ذهبوا من جهة اخرى الى تذكير الحسين بوعده السابق في قبوله الحجاج النجديين وما تقتضيه الظروف لاستغلال مثل هذه الفرص لتكون بداية طيبة في علاقات الطرفين .
لقد كانت للحسين ـ الى جانب هدفه المنوه سلفا من وراء هذه الموقف ـ مبرراته التي تحمل معها نوعا من الصحة، فهو في تشديده على منع النجديين من حمل السلاح خلال دخولهم الحجاز، انما لخشيته من قيام حرب اهلية قد تنشب بين النجديين واهالي الحجاز، في وقت لم تكن فيه قواته النظامية على استعداد كامل لتحمل مسؤولية حفظ الامن في الداخل، بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور للدولة. اذ كان الحسين عاجزا عن تمويل هذه القوات رواتبها الشهرية، والتي لما تستلم حينها ـ قوات المدينة مثلا ـ رواتبها منذ ثلاثة اشهر، فما الذي يحفزها الى العمل الجاد ؟ . يضاف الى ذلك عجز الحسين ايضا ـ وهو الاهم ـ من مواصلة اتباعه من العشائر بالاعانات المالية المعتادة الامر الذي كان يحرضها بالتأكيد لاستغلال مثل هذه المناسبات المهمة. كمناسبة الحج لنهب ما يمكن نهبه من الحجاج. ومن هنا لم يكن التفات المسؤولين الانكليز الى ذلك أمرا ارتجاليا. فقد ابرق (كررزن) الى (اللنبي). يخوله بدفع مبلغ (000/30) جنيه استرليني الى الملك حسين كأقصى حد، تاركا له ما يرتأيه في ضمان صرف المبالغ من قبل الحسين في كسب طاعة القبائل البدوية، سواء بتسليمه قسم، وترك قسم آخر لحين اجتماعه بابن سعود، او أي طريقة اخرى. واذا ما تمكن الحسين من السيطرة على اتباعه واسكانهم بواسطة هذه الاعانات فإن على الحسين ـ كما ابلغ كررزن اللنبي ـ ان يقوم بنقل اقتراحه ـ القاضي بترك النجديين لأسلحتهم في الطائف ـ الى عبد العزيز بن سعود، سواء عن طريق المعتمد البريطاني، او برسالة خاصة من الملك حسين نفسه .
هذا وقد أبدت السلطات البريطانية من جهة اخرى استعدادها للتحكيم بين الحاكمين حالة خروج اجتماعهما المقترح ـ في جدة او عدن ـ بدون نتيجة مرضية، وإيفاد موظف بريطاني لهذا الغرض بعد انتهاء موسم الحج . الا ان الحسين رفض العروض البريطانية الاخيرة، كما رفض التعهد بالاجتماع مع عبد العزيز بن سعود، او ضمان وضع سلمي معه. اذ ان استجابته لهذه الدعوة مقابل (30) الف جنيه، تعني انه دون مركزه، فضلا عن كون هذه الاعانات جزءا فقط من المعونة التي كانت تدفع اليه في السابق بإستمرار. وذهب مطالبا بدفع المبلغ المذكور دون أية شروط مهددا بالتنازل عن العرش حالة رفض بريطانية لمطلبه هذا .
ولما كانت احتمالات قيام الفوضى اثناء موسم الحج امرا واردا للأسباب المذكورة اعلاه، فلم ير الانكليز مانعا من الاقتناع بضرورة ما كان قد اقترح حضوره في السابق من الجنود الهنود لحفظ الامن اثناء الحج. خصوصا وانهم لما يتفقوا حول تسليم المبالغ المذكورة للحسين لعدم تيقنهم من مدى فاعليتها على موقفه، وبعد الاخبار التي اوردتها التقارير البريطانية من مكة عن القوات والتجهيزات التي شرع بتوجيهها باتجاه سورية، وصعوبة تثبتهم من ان المبالغ سوف لن تستخدم في اغراض مشابهة . ودفعت الشكوك الاخيرة بالانكليز الى معالجة الوضع من وجهتين، حينما حالوا الموازنة بين اهتمامهم في تسوية حج النجديين وبين اهتمامهم بمصدر القلق الجديد المتمثل باحتمالات نشاط عسكري يوجهه الحسين ضد فرنسا في سورية، فارتأوا تسليم المبلغ كاملا الى الحسين بغض النظر عن اصراره على موقفه السابق من قضية الحج، على ان يشار له بأهميتها وانتظار بريطانيا لقبوله ممثلي عبد العزيز بن سعود، الى جانب رغبتها في استخدام هذه الاموال للاغراض المحلية وليس ضد فرنسا. ومع ان اقتراحا كان قد طرح بعدم تسليم المبلغ كليا لاشعار الحسين بتوقف اعاناته المالية وانخفاضها، الا ان المسؤولين ارتأوا صرفها كاملة، اذا ما استخدمت لاغراض غير سلبية .
ومن جهة أخرى لم يكن الوضع في الحدود يبشر بتحسن ما، كما يتضح من الاستياء الذي أبرق به عبد العزيز بن سعود إلى الميجر (دكسن) المعتمد السياسي في البحرين في كانون أول 1920، والتي أشار فيها الى التحركات التي أخذ يقوم بها الأمير علي في أطراف تربة رغم الهدنة الموجودة في الطرفين وهو في الوقت الذي يعرف فيه عن حراجة موقفه بين أهالي نجد يقتراح ثلاث صور لتحديد الحدود مع الحجاز" فإما تحديد الحدود كما في السابق والإدارة فيها بذاتها، أو اختيار اهلها لم سيمثلون من الطرفين وإن أمكن إطلاق بعضهم على بعض فلا يحملون المالم علي ولا يواجهوا من العتاب" .
وفي الوقت الذي ينبه في السلطان المسؤولين الإنكليز في البحرين عن وضع الحدود غير المستقر، كان فيصل خلال وجوده في لندن، يعمل ساعيا في حل الخلاف سلميا فإنه أعرب للورد (كورزن) ـ خلال اجتماعه به في كانون الثاني 1921ـ عن قلقه وقلق والده لاحتمال مهاجمة الوهابيين مكة. واستفسر عن موقف الحكومة البريطانية من ذلك بحكم مسؤوليتها في حماية الحجاز كما وعدت . وطبيعيأن يستخدم (كورزن) هذه الدعوة ورقة رابحة من الحسين لإجباره في التوقيع على معاهدة فرساي ـ فبإمكانه ـ كما اوضح (كورزن) ـ الاستنجاد بعصبة الأمم التي سينتمي لها رسميا اذا ما صادق على المعاهدة. ومع موافقة فيصل للإقتراح الأخير وعزمه على استشارة والده بهذا الشأن، إلا انه كان على غاية من القلق الى الحد الذي كان يخشى فيه مباغتة الوهابيين والده قبل التشاور معه بالأمر. ورغم ارتياحه لما سمعه من (كورزن) عن إحراز القوات الحجازية نصرا على القوات الوهابية وتضائل خطورتهم، فقد ظل يؤكد على اهمية الردع البريطاني لهذه الاعتداءات التي ستكرر مستقبلا . الا أن (كورزن) أبدى تململه لذلك، وذهب الى تجريد حكومته من المسؤولية، بعد إخفاق جميع المحاولات التي بذلتها لتسوية النزاع، وحتى إذا كانت لديها الرغبة في إرسال قواتها لحماية الحجاز، فغنه عاجز عن اتخاذ مثل هذا الاجراء إضافة الى عجز حكومته في تزويد الحسين بالأسلحة، لخطورة ذلك في تعميق النزاع فضلا عن كونها خليفة كلا الحاكمين، ورغبتها في تسوية نزاعهما سلميا .
إلا أن (كورزن) ومع ما أبداه من الملاحظات، لم يمتنع عن محاولة تهدأة فيصل وتبديد مخاوفة وبأنه" اوضح لابن سعود بأن مثل هذا الهجوم يعتبر عملا عدوانيا، ولا أعتقد أن ابن سعود سيفعل ذلك، لأن التهديد يقطع المعونة، قد يؤثر على تعديل موقفه" .ورغم عدم تيقن (كورزن) بمدى قناعة فيصل بهذه الوعود، فإنه تقدم (لكورزن) بمبادرة يعتقد الأخير بأهميتها بالنسبة للنزاع الحجازي ـ النجدي، تلك هي توسط الامير فيصل بين طرفي النزاع، وعزمه في عقد مؤتمر يتولى حسم المشاكل القائمة بينهما .
لقد أبدى الحسين ارتياحه للإهتمام النسبي الذي نقله فيصل . إلا انه وحتى نجله لم يعزفا على إبلاغ مخاوفهما وقلقهما من الغزو الوهابي المرتقب ، إلى جانب المطالب بالضغط على سلطان نجد بالانسحاب عن الأراضي التي احتلها، والبقاء على ما كان عليه في العهد العثماني، وهي حلول طالب الحسين بتنفيذها بشكل عاجل لضمان أمن وسلامة موسم احج القريب .
ومن الطبيعي أن تأتي مواقف الحسين اللاحقة من قضية الحج أو غيرها ضمن الإطار العام للنزاع كما توضح، اذ استمر على معارضته لحج الرعايا النجديين، في الوقت الذي واصلت فيه السلطات البريطانية مساعيها لاقناعه. فقد حث كوكس حكومته لدفع الحسين الى ما يسوي هذه المشكلة، بما في ذلك تعهده. من قدومهم بمعزل عن سلاحهم لعجز ابن سعود في منعهم عن ذلك. فيما دعا كوكس الامير فيصل الى الإسهام في تسوية هذه المشكلة . بيد أن الأخير وتلبية لما أنيط به، لم يختلف في موقفه عن والده كليا، حيث اشترط ـ ولضمان موافقة الوالد ـ قدوم النجديين بمعزل عن أسلحتهم، شريطة تحمل بريطانيا مسؤولية ما يقع من جانبهم. ومع رغبته لحل النزاع القائم، أعرب فيصل عن شكوكه من نوايا سلطان نجد في إدخال الآلاف من رعاياه الى الحجاز تحت إسم الحجاج، بعد الهجمات التي أخذت تشنها قواته على ضواحي الطائف، خصوصا وإن الحجاز يفتقر وبسبب الضائقة المالية الى القوات الكافية لدرء المخاطر، وجدد موقف والده السابق في صعوبة الموافقة على مجيء حجاج نجد دون عقد صلح نهائي بين السلطان ووالده، وهدد بالخطر المترتب على مجيئهم (الوهابيين) على ارواح الحجاج. وختم قوله مخيرا بإرجاعهم إلى ديارهم، إو إحضار قوة كافية الى الحجاز لتلافي الأمر والمحافظة على سلامة الزوار .
واعتذر فيصل مجددا على لسان والده للأسباب المدرجة اعلاه وطالب بإلحاح إسعافه بأربع طائرات وخمس سيارات مدرعة مع مقدار كاف من المال كقرض يحسب على المبالغ التي ستدفعها بريطانيا للحسين فيما بعد. وأكد أهمية الإسراع في تلبية ذلك سلامة الحجاج . عاد فيصل وبعد اتصاله بوالده وكرر مناورات ومعاذير الوالد نفسهما في برقيته التي بعثها الى الحكومة البريطانية عن طريق الجنرال حداد ممثل الحجاز في لندن في 16 مايس 1921. فوالده يوافق على مجيء النجديين الى مكة وبشروط لا تضايق عبد العزيز بن سعود، لكنه ولافتقار الحجاز الى قوات أمنية كافية لحفظ النظام، يؤكد ـ وهذا ما كان يسعى اليه ـ على اسعافه بثمانين الف جنيه كقرض ضمن حساب مخصصاته التي كان يعتقد استئناف الحكومة بصرفها له، الى جانب الطائرات والمدرعات التي كان قد طلبها ليتمكن من بناء التشكيلات السريعة التي يمكن بها حفظ الامن وسلامة الحجاج. واعاد تهديداته المعهودة في الانسحاب الى جدة، خوفا من تحمل المسؤولية. وقد شاطره نجله الملك فيصل " فالخطر جدا عظيم بسبب فقدان القوة اذ علمتم ان واردات الحكومة 20 الف جنيه سنويا، تقدرون صراحة الموقف، فالحكومة التركية كانت تحافظ الحج بفرقة عسكرية كاملة % " .
وقد ابلغ الحسين الحكومة البريطانية بأن لا مجال للتماطل او التردد بعد تجدد الهجمات الوهابية التي اخذت تشن على ضواحي الطائف وما رافقها من السلب والنهب والقتل " ، والتي كان يقودها خالد بن لؤي واتباعه الذين كانوا من خاصة ابن سعود... فلم تمانع بريطانيا من الاجابة على طلبه ووجه اللورد كررزن انذاره الى عبد العزيز بن سعود بشأن التحركات الاخيرة لاتباعه في ضواحي الطائف، ونبهه بوقوف بريطانيا ضده . بينما ابلغت الاخيرة مسؤوليتها في العراق بالضغط على السلطان ومنعه من القيام بحركة اخرى .
وجريا مع تطور هذه النزاع اكد الحسين على موقفه مجددا من حج النجديين للعام الجديد 1922، وراح كل من الامير زيد والملك حسين للاتصال بالملك فيصل بهذا الخصوص. فقد اوضح زيد خطورة الوضع هذا الموسم كالعادة، بعد عزم النجديين بالحج مسلحين، وذهب مبالغا في تصوير هذه الخطورة... واحتمال نشوب القتال داخل الحرم، اذا ما تم دخولهم الحجاز . بينما استفز الحسين نجله فيصل بعزمه الانسحاب مع حكومته الى جدة حالة تقدم الرعايا النجديين الى بلاده ، وطالب فيصل بإبلاغ مواطنيه بهذه الاوضاع وتعبيرا عن تصوراته للنزاع الدائر، وتلبية لدعوة عائلته، اتصل فيصل بالسير (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في بغداد، واعرب له عن قلقه للخطر الوهابي المحدق بعائلته، فضلا عن علاقة ذلك بمصالح العراقيين ايضا " فإنني نظرا لتعلقي الديني بمقدساتي وقبور اجدادي واعراض عائلتي، أرى ان البقاء هنا تحت أي عنوان لا يكون مقابلا للعار والخزي اللذين سيلحقاني عند وقوع الخطر، لذلك اطلب من فخامتكم ان تبلغوني بظرف سبعة ايام اما بمنع الوهابيين هذه السنة والا بعد ان أعطي بياني لرعاياي العراقيين وأبين لهم سبب فراقي، اتنازل عن عرش حكومتهم واذهب بأي طريقة كانت لكي اكون مع افراد عائلتي الذين ارى بعيني الآن دماءَهم التي سترهق واعراضهم التي ستهتك .
وتلبية لاوامر (كورزن) المتقدمة في الضغط على عبد العزيز بن سعود، وازاء تصريحات فيصل الاخيرة، عمد المسؤولون الانكليز في بغداد لايجاد ما يهدئ الموقف، وحاول كل من المس (بيل) والملك فيصل وضع اقتراح يوقف حج النجديين هذا العام، وعرضه على السير (برسي كوكس)، لكنهما لم يوفقا في ذلك، كما يظهر من حديث (بيل) نفسها لصعوبة المشكلة . ومع ذلك فقد اخذ كوكس على عاتقه اقناع عبد العزيز بن سعود، واتصل به في مايس 1922، معاتبا اياه على الاحداث الاخيرة التي سببها أتباعه، وتناقض ذلك مع وعوده التي قطعها في العام الماضي في منعه لاي نشاط معادي، واعرب عن ثقته في تفهم ابن سعود لمشاعر القلق التي سببتها الكراهية الموجودة بين بعض رجال قبائل كلا الطرفين في منطقة الحدود، وخطورة تطورها الىالحد الذي لا يمكن ادراك مداه بسهولة، وراح معربا عن رغبته في الحصول على تعهد ايجابي من صديقه النجدي، والملك حسين على السواء... ومع امكانية السماح للحجاج النجديين ـ اوضح كوكس ـ فإن ذلك لا يتم دون اتخاذ الاجراءت الوقائية من قبل الجانبين... واذا كان من الصعب على عبد العزيز بن سعود منع اتباعه من الحج هذا العام ـ وهذا ما يأمله كوكس ـ فإنه يناشده في الوقت ذاته بإرسال مع يعتمد عليه من ممثليه والقادرين على تحمل مسؤولية رعاياه الوافدين للحج، وما يقتضيهم من اظهار الطاعة لسلطانهم امام الحكومة البريطانية والعالم، واوضح كوكس ان تنفيذ عبد العزيز بن سعود لالتزاماته في ضبط أتباعه في الحج، سيقابل بالرضا التام من قبل المعنيين، وأكد على بذل الجهود لإجبار الحسين في تنفيذ تعهداته من جانبه ...
واستجابة لهذه المساعي، أظهر الحسين موافقته لقدوم النجديين، إلا أنه طلب من الميجر (مارشال) الوكيل البريطاني في جدة أن يعين له أسماء القرى الوافدة للحج، وتجديد عدد الوافدين منهم لهذا الغرض، دون أن يتخلى عن تشكيه "وإنه غير مسؤول عما يقع في الحج هذه السنة" . وقد أعرب عبد العزيز بن سعود عن ارتياحه لهذا الموقف ووعد كوكس بتقليل عدد الوافدين للحج من رعاياه، تنفيذا لنصائحه، وأكد ثقته بتجنب أتباعه ما يكدر صفو الحج وعزمه في تعيين أخيه سعد أو مسعد رئيسا للوفد النجدي ليتولى مسؤولية قيادتهم. ورداً على استفسار كوكس عن الصلح مع الحسين أكد ابن سعود رغبته لذلك، وأشار الى نيته في مراسلة الحسين بواسطة أمير الحج بل وخوّل كوكس في إبلاغ الحسين شكره، لموقفه الأخيرن ورغبته في تحسين العلاقات... إلا أنه طالب الوكلاء البريطانيين في مكة بمراقبة الحج منعاً لما قد يسيء الظن أو يثير الاضطراب . وعلى أية حال فقد حج النجديون تحت إمرة أحد كبار أتباع ابن سعود (مساعد بن سويلم) بعد أن حدد عدد الوافدين إلى الحج كما جاء في توصيات كوكس السالفة . وساد شيء من التوادد بين الطرفين تبادل خلاله الجانبان بعض الرسائل الودية .
وأظهر الحسين ترحيبه بممثل ابن سعود والحجاج النجديين الذين قارب عددهم إلى (1800) شخص، وخص بعضهم بضيافته الملوكية . فكانت زيارتهم على قول (مارشال) المعتمد البريطاني في جدة ـ موفقة وناجحة .
لقد كان موقفاً وقتياً ذلك الذي أبداه الحسين، وهذا ما عهدناه عن العلاقات منذ البداية. حيث تردت مجدداً، ولعل ما ألهب فتيلها هذه الاونة، التوسعات التي تمادى فيها عبد العزيز بن سعود في الجزيرة. إذ لم يكتف الحسين باحتلال إمارة حايل ، وعمد إلى احتلال إمارة (أبها) في عسير ، فضلاً عن الهجمات التي أخذت تشنها قواته ضد شرق الأردن ومعان والسكة الحديدية. فكان ذلك مثار استياء الحسين وسخطه، حيث عاود احتجاجاته لدى السلطات البريطانية، وتساءل مستنكرا عما إذا كانت التجاوزات الأخيرة، هي ما يكافأ به جراء التزاماته بالمشورة البريطانية الأخيرة بشأن الحج وحفاوته بوفود السلطان ورعاياه الحجاج؟ وراح في برقيته التي وجهها الى المعتمد البريطاني في جدة ـ يعرب عن ريبته بالدور البريطاني في هذا الشأن. إذ أن "ابن سعود هو أضعف وأدنى أو أصغر من ان يهاجم قرية الدخنة الواقعة في قرية القسيم. إلا ان هذا عمل مرتب من أجل أهداف ونوايا خاصة... وأنا لا أجد مبرراً لمثل هذه النتائج... أريد توضيح وضعي وان أتبين ما حصلت عليه من هذه المعاملات المدهشة التي تربك كل إنسان في العالم" .
والواقع أن ما نوه إليه الحسين في عباراته الأخيرة واحد من الحقائق الملموسة في السياسة البريطانية التي لا تقر إنهاء النزاع بين حلفائها لعقم هذه الخطوة في الستراتيجية البريطانية وتقديراتها البعيدة في المنطقة. وهي بإبقائها على الوضع القلق أكثر تحكماً ومرونة في تحقيق أهدافها لحين مجيء الفرصة المناسبة للإستغناء عن هذه اللعبة لأخرى، ولعل هذا ما يفسر استفسار الحكومة البريطانية من الحسين ـ في مثل هذا الوقت من توتر العلاقات ـ في خطاب سري عما إذا كان الأخير مستعداً لقبول بعض التعديلات في مشروع معاهدة 1921 التي كانت تنوي عقدها معه . والواقع ان الحسين لم يبخل تحليل ما أدركه من هذا اللغز في رده على الاستفسار البريطاني في 17 حزيران 1923 بقوله (قد تحقق ظنه الآن بأن الغيظ والغضب علينا من بريطانية العظمى بشأن المعاهدة هو من جهة المواد المتعلقة بعبد العزيز بن سعود، وهذه المسألة نقول عنها إلا شيئاً واحداً هو ان عظمتها ترجح عبد العزيز بن سعود علينا، فهل من يقول، إذا لم ترو أننا نكون معه على ما كان عليه الآباء والأجداد في المادة والمعنى خذوا البلاد كلها وسلموها إليه ولا تبقى عليه مؤاخذة أو معاتبة وهل من موجب بعد هذا مشاركة بريطانية له على ما يسفك من الدماء وما ينهب لإعانتها له بالمال والسلاح) . ولم تتحرج جريدة القبلة من الإشارة إلى هذه الحقيقة عند تعرضها لبعض الصحف العربية التي تمادت في تهويل النزاع الحجازي ـ النجدي، حيث اتهمت هذه الصحف بالتواطؤ، ومحاولة منها لخلق النزاعات والاقتتال في هدف النيل من القضية الفلسطينية وتأسيس الوطن القومي لليهود في فلسطين، بينما ينصرف العرب الى تناحراتهم الداخلية . هذا إذا علمنا ان الحسين لم يمتنع من اتهام بريطانيا هذه الفترة ـ من كونها سبباً في خلق الوطن القومي لليهود ، وكررت ذلك جريدته الرسمية في أعدادها المختلفة ...
وعلى اية حال فإن الحسين ـ في استئنافه لموقفه السابق من ابن سعود ـ لم يستغن عن اسلوبه القديم، والتمسك بقضية الحج من جديد في محاولة لتلبية مطاليبه فتارة يعتذر عن قبول النجديين خشية الإخلال بالأمن، وتارة يوافق على قبول عدد معين منهم، وأخرى يشترط مجيئهم عن طريق البحر كباقي الحجاج. وبالمقابل اتصل عبد العزيز ابن سعود بصديقه كوكس في 2 كانون أول 1923، ويعرب عن عجزه في تحديد رعاياه كالسابق، ويكرر موقفه هذا في 28 كانون الثاني 1923، فيما يرفض الحسين اقتراح السلطات البريطانية في عقد صلح مع عبد العزيز ابن سعود ما لم يتنازل عن المناطق التي احتلها من بلاده .
لقد كان طبيعيا ان تعبر السلطات البريطانية عن امتعاضها لعودة الحسين إلى مناوراته من جديد، وأوضحت دار الاعتماد البريطانية في جدة في مذكرتها إلى وزارة خارجية الحجاز في حزيران 1923، بصورة غير مباشرة موقف الملك حسين السلبي ـ خلال تعرضها لقضية الحج ـ في وقت ظلت فيه الحكومة البريطانية تضغط على عبد العزيز بن سعود لتحديد عدد رعاياه من الحجاج، وتساءلت المذكرة عن السنوات التي منع فيها أهالي نجد من أداء فريضة الحج حتى الآن، وذلك بسبب الطلب الشخصي للملك حسين، الذي كان يجابه المساعي البريطانية بالإصرار وعرقلة هذه المحاولات. وأضاف (جرفتي سميث) المعتمد في جدة في مذكرته هذه إلى ما يعنيه إرجاء تسوية هذه القضايا من عرقلة لتثبيت الأوضاع السياسية في البلاد العربية .
وعن محاولة تسوية هذا النزاع فإن لابد وان بحث فيصل مع أخيه الأمير عبد الله لدى زيارته الأردن عام 1923 هذه الأوضاع رغم تظاهره (فيصل) بتجرد هذه الزيارة من أية أهداف سياسية ـ رداً على استفسار المندوب السامي هنري دوبس ـ لكنه بيّن تدهور علاقة كل من والده وأخيه مع السلطان عبد العزيز بن سعود والخسائر التي تكبدتها عائلته من جراء الهجمات الوهابية على الأردن والحجاز، ودعا إلى تدخل بريطانيا في الأمر نظراً لعجز عبد العزيز بن سعود عن مخالفة الأوامر البريطانية، ومن هنا فإن أي تحسن في هذه العلاقات بعيد الاحتمالات دون بريطانيا . ولم يكن لهذه الدعوة أي استجابة، فيما استأنفت القوات الوهابية هجماتها وتجاوزت في تشرين الاول 1923 على الخط ما بين نقطة مداين صالح والمدينة المنورة (على بعد ثمانين ميلا من المدينة المنورة) وقامت بتخريب الخط المذكور ونهب موجودات المحطات المقامة حديثا لتأمين نقل الحجاج، فضلا عما ذهب جراء ذلك من الارواح والاموال. وقد ظل الوهابيون يرابطون في مواقعهم ويحاصرون الحدود الشمالية للمدينة . وقد ابلغ فيصل برقيا من عمان ومكة بهذه الاعتداءات فاحتج لدى السير هنري دوبس المندوب السامي في بغداد عن التجاوزات الاخيرة في وقت تبذل فيه المساعي للصلح واتهم بريطانيا بمحاباة عبد العزيز بن سعود، الذي لم يلتزم بتعهداته في تامين طرق الحج. وتساءل فيصل فيما اذا كانت بريطانيا تسمح بمثل هذه الاعمال، ام انها ما زالت تكن احترامها للاماكن المقدسة . وكرر فيصل عدم ارتياحه للتجاوزات الاخيرة خصوصا وان له رعايا يؤمون الحج سنويا، قد تعرض ارواحهم او مملكاتهم لهذه المخاطر. واتهم بريطانيا بصورة غير مباشرة، في قدرتها على ردع عبد العزيز بن سعود خصوصا وان لها من الرعايا المسلمين ما يقارب 100 مليون نسمة هم بحاجة الى تأمين سبل اتمام حجهم للأماكن المقدسة واضاف " انني على اعتقاد تام بأن ما يرتكبه السلطان من الاعمال لا ينطبق على رغبة حكومة جلالة الملك وما هو الا نتيجة ما يرى المشار اليه (ابن سعود من التساهل ولو انه رأى الشدة اللازمة لما تجاسر على هذه الاعمال). واستشهد بتراجعه عن العراق وشرقي الاردن بعد استخدام القوة معه، واوضح ان السلام لن يعود الى الجزيرة دون هذا السبيل. وطالب فيصل دوبس بإبلاغ حكومته للاسراع في ما يكفل ايقافه عند حده . ونبهه الى الحشود التي اعدها عبد العزيز بن سعود على حدود المدينة واغارتها على الحدود الشمالية والغربية منها. وتشبث بالحكومة البريطانية لردع هذه التحركات . وكرر مناشدته من جديد في 30 تشرين الاول، واوضح لدوبس الخسائر التي الحقها الوهابيون بسكة الحديد، حيث تمكنوا من تدمير (10كم) منها، فضلا عن تخريبهم لجميع المحطات الواقعة بين مداين صالح والعلا والبدايع، على ضوء ما جاءه في برقية اخرى من عمان وطالب الحكومة البريطانية الاعلان عن موقفها الصريح بأسرع وقت ممكن، وأعرب عن ثقته في عزم بريطانية على دفع الكارثة عن المدينة المقدسة. واشار فيصل الى ان ما يهدف اليه هو قطع بريطانيا لعلاقاتها معه وكذلك الحال بالنسبة لمواصلاته مع الاحصاء ومنع الكويت من اغاثته بالارزاق والذخائر, الامر الذي يكفل ردعه عن أي عدوان. وقد هدد فيصل باستفزازه المسلمين في العراق لاداء واجبهم الديني في هذه القضية، وهو يؤجل هذه الخطوة لحين تسلمه موقف الحكومة البريطانية وقرارها بهذا الشأن . كما وبعث رئيس الوزارة العراقية بمذكرة مماثلة للمندوب السامي البريطاني ضمنها قلق الحكومة والاهالي للاحداث القائمة على حدود الحجاز واثر ذلك على العلاقات البريطانية العراقية والنجدية البريطانية على السواء، وطالب بإبلاغ ذلك الى حكومته ولسلطان نجد معا، واتخاذ ما يكفل بإرجاع الوهابيين الى مواقعهم بعد ان ظلوا يحاصرون المدينة من الشمال . واعقب فيصل رئيس وزرائه بمذكرة اخرى الى دوبس بواسطة رئيس ديوانه (رستم حيدر)، ضمنها مضمون برقية اخيه الامير علي التي تسلمها في 7 تشرين الثاني 1923، عن هجوم الوهابيين الذي اشرنا اليه ، اضاف فيها صعوبة التفاهم مع عبد العزيز بن سعود دون تخلي الاخير عن الخط الحديدي . وعلى اية حال فإن الصيحات الاخيرة. قادت بالتالي الى ايداع معالجة النزاع الى مؤتمر اقترح عقده في الكويت للنظر في الوصول الى اتفاق معين بين الاطراف المتنازعة.
3ـ مشكلة آل عايض: وقبل الخوض في مؤتمر الكويت لا بد من الالتفات هنا الى وجه آخر للنزاع الحجازي النجدي، واكب النزاع الذي انتهينا منه توا.
ذلك هو النزاع حول امارة (آل عايض) في مدينة (أبها) في عسير . اذ كان هؤلاء ـ وبعد ان أمسوا سادة المنطقة بعد رحيل العثمانيين عنها ـ في تقارب مع الملك حسين . ولعل هذه التقارب اصبح اكثر اهمية بعد تدهور علاقات الحجاز ونجد في اعقاب معركة تربة، وتنافس الطرفين في دعم مواقعهما في شتى الجهات الامر الذي انعكس تأثيره على اوضاع عسير السياسية وربطها بهذا النزاع، خصوصا وان عسير كانت تخضع في إدارتها هذه الآونة لقوتين سياسيتين هما آل عايض في عسير السراة وعاصمتهم أبها، والادريسي سالف الذكر في عسير تهامة وعاصمته صابيا .
فقد سعى عبد العزيز بن سعود ـ ولدعم الفوائد التي جناها من معركة تربة ـ الى السيطرة على مرتفعات عسير والواحات المحيطة بها ، وهو تحرك يبدو صائبا ـ كما فسره (فلبي) ـ كرد فعل للتطورات المتمثلة بقيام الحكومة الهاشمية المحيطة به في العراق وشرق الاردن، فضلا عن عدوه الجاثم في حايل، ومن هنا جاءت حركاته باتجاه عسير ثم حايل والاردن والحجاز تباعا . ولعل في التجاوب الذي أبداه محمد بن علي الادريسي، ما حفز عبد العزيز بن سعود في التفاف صوب عسير. فالادريسي ولخشيته من نشاط الحسين ودعمه لآل عايض ضده ، فضلا عن مطامع جاره الامام يحيى في بلاده ، اندفع لمخالفة ابن سعود وانتهى معه باتفاقية تعاون في آب 1920 . استثمرها سلطان نجد بشكل فعلي في مايس 1921 حينما وجه قواته نحوا آل عايض وتمكن من دحرهم واسر سيدهم الحسن بن عايض ونقله الى الرياض .
ومن الطبيعي ان يستاء الحسين لهذا الحدث، فاتصل بالمعتمد البريطاني في جدة يطالبه بالضغط على عبد العزيز بن سعود والادريسي للعودة الى حدودهما التي كانا عليها قبل الحرب العالمية او خلالها . فيما راح نجله فيصل ـ خلال وجوده في الحجاز ـ واكد مخاوف والده وقلقه في رسالة بعثها للمعتمد البريطاني في اليوم التالي . ولم يقف الحسين عند هذا الحد، وراح يمد (حسن بن عايض) بالمال والسلاح ، بعد ان تمكن من الوقوف في وجه عبد العزيز بن سعود والسيطرة على المنطقة مجددا ، الا ان مقاومة ابن عايض لم تصمد طويلا وتمكنت القوات النجدية في دحره في حزيران 1922. وبسط سيطرتها ثانية على بلاده وطرده منها وتمكنت الاقتراب من ميناء القنفذة الحجازي في الحدود الجنوبية، وخيمت بالقرب منه .
كان للاحداث الاخيرة صداها المعتاد في نفس الحسين، وشرع من جديد في دعم ابن عايض، الذي جاءه لاجئاً، وبعث الى عسير بحملة من قواته النظامية والبدوية ، واصلت سيرها الى أبها وقامت بقصف حاميتها النجدية. وفي الوقت الذي ردت فيه الحامية بالمثل تمكن فيصل نجل عبد العزيز بن سعود وقائد القوات النجدية، من مشاغله القوات الحجازية واستدراجها الى كمين وضعه لهذا الغرض، استطاع بعدها كما يبدو من الحاق الهزيمة بقوات الحسين وتشتيتها .
الحقت إمارة (أبها) بسلطنة ابن سعود نهائيا ولم تفلح المحاولات المشتركة التي بذلها الحسين وابن عايض لاسترداد ما فقداه .
كان الحسين كما أوضحنا معارضا لاي نصر وهابي في عسير، منذ بداية تغلغلهم الى الداخل، وعبر ذلك في احتجاجاته، وعدها هدفا لقطع مواصلات الحجاج الوافدين من جنوب الجزيرة ، وراح مطالبا سلطان نجد بالانسحاب عن المناطق التي احتلها في عسير من آل عايض ، دون جدوى.
وكان من الطبيعي وبحكم عدائه لابن سعود، ان يحتضن الحسين الاوساط المناوئة للسلطان من مشايخ وزعماء القبائل التي كانت ترده للتشاور بصدد الاوضاع الداخلية في عسير .
4ـ فشل مؤتمر الكويت 1923-1924: كان المؤتمر الذي عقدته بريطانية في الكويت في تشرين الثاني 1923، يعد آخر محاولة لحل النزاع وانما كلا من العراق وشرق الاردن ايضا لمعالجة مشاكلهما مع عبد العزيز بن سعود.
فقد وجه الكولونيل نوكس (Co. Knox) ـ احد الموظفين الانكليز في الخليج ورئيس المؤتمر المؤمل ـ دعوته الى الملك حسين لايفاد من يمثله في المؤتمر، الا ان الحسين رفض الدعوة، وابتدأت الجلسة يغياب الممثل الحجازي ولعل مرد هذا الموقف يرجع الى احتلال عبد العزيز بن سعود لبعض اراضيه ، إضافة إلى وضوح الأمور ـ على حد اعتقاده التي سيبحها المؤتمر ، بينما وافق عبد العزيز ابن سعود الاشتراك في المؤتمر شريطة اقتصار الممثلين المشاركين على تمثيل مصالح بلادهم فقط . وهو يهدف ـ بلاشك ـ تشتيت الموقف الموحد المؤمل اتخاذه من قبل ممثلي الحكومات الهاشمية.
جدد المسؤولون الإنكليز دعوتهم إلى الحسين لحضور المؤتمر في دورته الثانية التي ابتدأت في 19 كانون الأول 1923. واجتمع كل من السير (هربرت صموئيل) المندوب السامي البريطاني في فلسطين، والسير كلبرت كلايتون السكرتير العام لحكومة فلسطين، بالملك حسين في عمان خلال زيارته لها في سنة 1924، وتمكنا من إقناعه ولكن بشروط يصعب تنفيذها. فقد وافق الحسين على إيفاد نجله الأمير زيد ممثلاً عنه في المؤتمر، شريطة إيفاد عبد العزيز بن سعود أحد أبنائه أيضاً ولم يكتف بذلك واشترط انسحاب جميع الحكام العرب في الجزيرة ـ ويريد بذلك عبد العزيز بن سعود بالدرجة الرئيسية ـ إلى ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم فكان على ابن سعود بيت القصيد ـ التنازل عن واحتي الخرمة وتربة وإمارة (حايل) لآل رشيد وإمارة (أبها) لآل عايض والجوف لشرقي الأردن، وهي مناطق كان قد احتلها منهم عنوة . بيد أن الانكليز ـ كما يبدو ـ لم ينقلوا هذه الشروط لابن سعود كاملة . واكتفوا بما يمكن نقله. إذ أبلغ (نوكس) عبد العزيز ابن سعود بموافقة الحسين الإشتراك في المؤتمر، وعزمه الى إيفاد ممثله في المؤتمر، بما في ذلك تعهده بمنع أتباعه من التجاوز على الأراضي النجدية، شريطة التزام السلطان بذلك ولما كان الحسين قد اختار نجله (زيد) ممثلاً عنه في المؤتمر، فإن الضرورة تستوجب ـ كما طلب المسؤولون الإنكليز من السلطان ـ ان يوفد أحد أبنائه أو أقربائه ممن هم في منزلة الأمير زيد، ويتمتع بثقة السلطان الكافية ، إلا ان عبد العزيز بن سعود رفض دعوة (نوكس) بحجة ثقته التامة بمندوبيه، ولا يجد ما يبرر إبدالهم بأحد أبنائه أو أقربائه ، فلم يسع حكومة الحجاز إلا ان تقابل هذا الموقف بالرفض أيضا ، ليكون ذلك آخر أمل في طريق تفاهم الطرفين.
وتجدر الإشارة هنا ان كلاً من الوفدين العراقي والأردني حاولا تسوية الأمر بين نجد والحجاز باقتراحهما انسحاب القوات النجدية عن المناطق الحجازية التي احتلتها وكذلك من جهات عسير، إلا ان الإقتراح قوبل بالرفض من الجانب النجدي، الذي تمسك برأيه بأن يعالج كل من العراق والأردن في المؤتمر مشاكلهما الحدودية مع نجد على انفراد ولا يحق لهما التدخل في النزاع النجدي الحجازي لعدم وجود من يمثل الحجاز في المؤتمر ، وبذلك جاءت مجهودات ذلك المؤتمر إلى نهاية فاشلة بصدد تسوية المشكلة بين الحجاز ونجد. وأصبح أمراً واضحاً تقريباً ان السيف سيكون البديل لتسوية الأمر مستقبلاً . وقد نوهت سلطة نجد إلى هذا البديل في ختام هذه المفاوضات، بأن لا مبرر لإلقاء اللوم على نجد "إذا اتخذت وسائل أخرى أضمن لحياتها واحفظ لمركزها" .

دوسي زهراني
25-Mar-2008, 01:21 PM
مبــدع دايمــــا يالاميــــر ..


الف شكـــر على الموضــــوع ..







































http://arb7.com/uploads/ee4830f26d.gif (http://arb7.com)


http://arb7.com/uploads/c5df8e7913.gif (http://arb7.com)


http://arb7.com/uploads/7035eb3230.jpg (http://arb7.com)




تحيـــات عـــاشــق الاهلــي الملكــي وجمهـــوره


نـــايــف الدوســي الزهــــراني

الامير حريبيش
26-Mar-2008, 01:49 PM
دوسي زهراني
حياك الله يابن شبابه