الامير حريبيش
22-Mar-2008, 12:13 AM
سياسة المملكة الحجازيه الخارجية (1916-1925)
موقف الهاشميين من معاهدة سايكس بيكو:
سعت الحليفتان (بريطانيا وفرنسا) اثر اتفاقية سايكس ـ بيكو (مايس 1916) الى تسوية التناقض القائم بينها وبين ما جاءت به وعود مكماهون، ذلك التناقض الذي كان يقوم بشكل رئيسي على المصالح الفرنسية في سورية. وتمهيدا لذلك حاولت بريطانيا تكييف اذهان الاوساط العربية الى مافيه اقرار المصالح الفرنسية في سورية، والترويج بأهمية التفاوض المباشر بين فرنسا والملك حسين. ومن هنا اقتضى الامر سفر ممثلين عن الجانبين البريطاني والفرنسي للتشاور مع الحسين بهذا الصدد. ومثل السير مارك سايكس الجانب الاول، فيما مثل الجانب الثاني المسيو بيكو ، على ان يسعيا
قبل لقاء الحسين، الى الاتصال بسكان المنقطة وتقريب نظرهم بشأن الاتفاقية .
ومن هنا جاء وصول سايكس وبيكو الى القاهرة في نيسان 1917، مصحوبا بنشاط دعائي عن مهمتهما. اذ كشف بيكو بوضوح ـ في كلمته في الجالية السورية ـ عن مصالح بلاده في سورية (ان الأوان قد حل بما يتعلق بسورية ولبنان وان جميع الحلفاء قد انتخبوا فرنسا وصية على لبنان، وسيتسع مدى الحكم في البلاد الذي كانت لفرنسا فيها امتياز اكثر من السابق) وكان من الطبيعي ان يستاء السوريون من هذه التصريحات ـ رغم وجود من يؤيدها ـ وان يعربوا عن احتجاجهم عليها . اما بالنسبة للحسين ـ وبعد استفسار الفاروقي عن موقفه ـ فقد طلبت التأكد من المندوب السامي البريطاني في القاهرة عن مدلول هذه الخطبة . في الوقت الذي استفسر فيه من الاخير عن هدف بعثة سايكس بيكو . ولم يقتصر الامر على بيكو بل وسايكس ايضا. اذ ذهب هو الاخر الى القاء الضوء على الخطوط العامة للمصالح الفرنسية في سورية، وبأنها تحظى بموافقة حكومته، وانه بتوضيح هذا انما ينفذ اوامر حكومته وتعلمياتها. واكد ـ في حديثه هذا للفاروقي ـ على اهمية اتحاد الحلفاء وازاحة ما يعيق ذلك فيما تظاهر بيكو للفاروقي لدى اجتماعه به، بعطف حكومته على العرب وجدراتهم بالاستقلال اذا ما نظموا امورهم واوضح امكانية حل القضايا المتعلقة بمصالح بلاده في سورية عن طريق المفاوضات والاتفاقات دون ان يتطرق بالتفصيل الى هذه النقاط .
وعلى اية حال فقد ان لكلك من سايكس وبيكو ان يسافرا الى جدة ـ كما يفترض ـ للاجتماع بالحسين للمشاورة في الامور التي تقدم ذكرها، وابلغت وزارة خارجية بريطانيا ممثلها سايكس بحصر حديثه مع الحسين في نطاق التعليمات التالية .
طمأنة الحسين بشأن مقاصد فرنسا في داخلية سورية، بعد ان وافق بيكو على ترك الامر بيد سايكس.
ان يوضح للحسين عزم الحلفاء على دعم طموحات العرب، مع الاشارة الى صعوبة فرض سيادته على السكان الذين لا يرغبون فيها، لان اتساع هذه السيادة يتوقف على قبول سكان المناطق المعينة.
اما بالنسبة لبغداد ومنطقتها، فقد اوضحت المذكرة احتفاظ بريطانية بالسلطة العسكرية والسياسية فيها لما تقتضيه المصالح الستراتجية والتجارية والرغبة للنهوض بالمدينة وازدهار البلاد .
وقد ابلغ سايكس باحتمال القيام بزيارة ثانية بصحبة بيكو الى جدة اذا ما تكللت رحلته بالنجاح لطرح القضية السورية بتفاصيلها ـ كما ارتات ولإنجاح محادثات سايكس ان ينقل الاخير رسالة ودية مشجعة من الملك جورج* الى الملك حسين، وابلاغه بموافقة الحكومة البريطانية على زايدة اعانتها المالية الى (200) الف جنيه .
اكد الحسين عند اجتماعه بسايكس على الاستقال الذي وعد به، وخشيته من التهم في المستقبل حالة الاخلال بذلك. اذ من الطبيعي ان يتهمه مسلمو سورية بالخيانة اذا ما وافق على ضمها لفرنسا، بعد ان دفع اهاليها للثورة. لكن سايكس لم يرد بدوره بأكثر من تعليمات حكومته المدرجة اعلاه، واكد على اهمية التسوية العربية ـ الفرنسية، وهو امر شاطره به الحسين، وعده ضرورة للتطور العربي في سورية .
ترك سايكس جدة ولم يتمكن من كشف حقيقة معاهدة سايكس ـ بيكو امام الملك حسين ، ليعود ثانية برفقة المسيو بيكو في هدف بحث الامر تفصيلا، في الوقت الذي بعث فيه (ونجت) ـ المندوب السامي في القاهرة ـ تمهيدا للقاء ـ ببرقية يعرب فيها عن سروره لوجود ممثلين لاكبر دولتين في الحجاز، لترسيخ اسس الاستقلال العربي .
بدأ الطرفان اجتماعهما الاول في 19 مايس 1917 ، واعرب بيكو في بدايته عن امل حكومته (في المستقبل ان تساعد في الساحل السوري بعمل عسكري مثلما يساعد الانكليز العراق) وردا على ذلك، لم يذهب الحسين بأبعد مما ابداه سابقا لسايكس في عجزه عن تسليم المسلمين الى حكم مباشر لدولة غير مسلمة ، ومع اقراره بوجود مستشاري كلا الدولتين في سورية والعراق، فإنه يعارض تمتعهم بأي سلطة تنفيذية . بيد ان (الحسين) وفؤاد الخطيب الذي حضر الاجتماع ابديا موافقتهما في النهاية على وجود المستشارين المتمتعين بسلطة تنفيذية. وينتهي الاجتماع الاول دون نتيجة تذكر، انعكس مردودها على المسيو بيكو الذي خرج مستاءا لموقف الحسين، بينما كان استياء سايكس من بيكو نفسه لآرائه السلبية من الحسين والحركة العربية واوضح (عبث محاولة التوفيق بين فرنسا والشريف حالة عدم تغيير بيكو لموقفه) الذي لم يكن سليما كموقف الشريف .
وفي الاجتماع الثاني الذي عقد في اليوم التالي طرح الحسين وجهة نظره واجابته على كل من سايكس وبيكو، وطلب من فؤاد الخطيب قرائتها عليهما: (ان جلالة ملك الحجاز يسره ان يعلم ان الحكومة الفرنسية تستوصب المطامح القومية العربية وبما ان الملك يثق ببريطانيا العظمى فإنه سيقبل اذا ما اتبعت فرنسا تجاه المطامح العربية في سوريا المسلمة السياسية ذاتها التي تتبعها بريطانيا في بغداد) . واشار الى رفضه فكرة الاحزاب العربية العاملة في مصر في ارسال بعثة عربية الى اوروبا ودول العالم الاخرى لغرض اطلاع العالم على المطالب العربية ثقة منه بعضد بريطانيا وفرنسا للعرب ... وبين ايضا ان موقفه المتمثل في الاجابة الاخيرة، انما جاء لثقته الكاملة بحفاظ بريطانيا على وعودها واطمئنانه لاقوال سايكس الذي يمثلها مباشرة، فهو لا يعرف فرنسا الا عن طريقها .
والظاهر ان الحسين قد اخطأ في تقديراتها لعدم انتباهه بدقه للاهداف البريطانية في العراق، ولعل هذا ما يفسر تساؤلات الكولولنيل ولسن من سايكس عن مدى ادراك الحسين لحقيقة وضع بريطانيا في بغداد اولا؟ وامله في ازالة هذا الغموض (ذلك ان الشريف يعتقد ان بيده ورقة رابحة هي رسالة السيد مكماهون ولكن لافؤاد ولا فيصل ولا احد غيرهما من مستشاري الشريف يعرف محتوياتها) واعرب ولسن عن خشيته لطبيعة الفهم الذي خرج به الحسين ونتائج ذلك، وضرورة مصارحته بوضوح بما في ذلك النقاط الرئيسية لاتفاق بريطانيا بشأن العراق وقد عزز ولسن ما ذهب اليه بمذكرة الضابط البريطاني (نيو كمب) التي اكدت على دور سايكس في اقناع كل من فؤاد وفيصل على التصريح الذي خرج به الحسين فيما بعد، بعد ان اشار بترك الموضوع على عاتقه. وقد كان بإمكانه ـ كما اوضح ولسن ـ الكشف عن حقيقة وضع بلاده في العراق، فيما لو عرف حينها بدور سايكس في اقناع الحسين، لاهمية مثل هذه الخطوة، ففي الظاهر ( ان وافق الشريف على ان تخضع سوريا لسيطرة فرنسا، وهو امر اعتقد ـ نيو كمب ـ انه لم يقصده ابدا) ، وقد اكد كل من فيصل وفؤاد للكولونيل ولسن في 22 مايس، ان ما انتهى إليه الحسين في تصريحه الاخير بشأن سوريا انما جاء بإلحاح من سايكس لاقرار ذلك بإسم بريطانيا، ومع ذلك فالحسين يملك رسالة مكماهون التي تنص على استقلال العراق باستثناء البصرة التي ستخضع لبريطانيا مؤقتا مقابل اجر مالي تدفعه الاخيرة . وقد ارفق ولسن ملاحظاته هذه التي بعثها الى الجنراك كلايتون المتقدمة، ونزول الحسين لضغط سايكس لاقرار فرنسا في سوريا بما لبريطانيا في العراق، اعتقادا منه باستقلال بغداد، واستنادا الى مذكرة الخطيب، ان الحسين كان قد اوضح لبيكو مسؤوليته عن سوريا واهلها الذين بايعوه بالزعامة، اما ما تحاوله فرنسا في ضم المسيحيين الى جانبها، فإنما تهدف بذلك الى خلق نوع من التعصب الاعمى، فلا اهمية لمن يكون لبنان بقدر اهمية تقرير مصيره بيد ابنائه... ورفض ما أوضحه سايكس في كون السلطة التنفيذية الممنوحة للمستشارين الاوروبيين سبيلا لحل المشكلة لكن الحسين ـ كما اوضح فؤاد الخطيب ـ عدل عن رأية في اليوم التالي ووافق بعد جدل ثلاثة ساعات لا لشيء الا لانه ( يثق بما يقوله المندوب السامي البريطاني... اعتقادا منه ان بغداد ستكون له تماما...) .
ولعل في الرسالة التي بعثها الحسين الى المندوب السامي في القاهرة، منعا للتأويلات التي قد تثار حول محادثات جدة، ما يلقي الضوء على اللقاء الاخير وما تم التوصل اليه، حيث جاء في قوله (لا بد ان حضرته "يقصد سايكس" صرح لفخامتك ان ملخص قراري الصريح الغني عن التأويل والتفسير بانه اذا لم تكن حدود البلاد العربية على الوجه المقرر سابقا مع بريطانيا العظمى فإن اخلاصي ونصحي لها ولبلادي وقوميتي يوجبني على الانسحاب بصورة قطعية) .
ولم يكتف الحسين بذلك وانما اوفد فؤاد الخطيب الى القاهرة لشرح موقفه هذا من محادثات جدة، مما دفع بمسؤولي القاهرة الى ابلاغ سايكس بثبوت عدم استيعاب الحسين لما طرحه سايكس ورفيقه، وهو يفهم ان العراق وسوريا من نصيبه بلا شروط ، واشار كلايتون، في رسالة اخرى الى سايكس ـ ومن خلال انطباعات الخطيب عن المحادثات ـ الى الحسين (لم يفهم ابدا الوضع كما عرض اليه بشأن سوريا والعراق في اجتماعكم المشترك، او على الاقل فهو يصمم ان لا يفهم الوضع وان يخرج من المقابلة بتفسيره هو ـ الا انني اظن ان الاحداث ستكون اقوى منه وانه في نهاية الامر سيضطر اما ان يقبل الامور كما هي او ان يسقط) ، ولعل في هذا التصوير ما يفسر تجاهل المسؤولين الانكليز امر المذكرة التوضيحية التي اقترح كلايتون ارسالها الى الحسين لاطلاعه على حقيقة الفهم الذي خرج به سايكس وبيكو عن محادثات جدة .
وفي التقرير الذي رفعه لورنس الى حكومته في 30/7/1917 عن اجتماعه بالحسين في 29 من نفس الشهر، ما يلقي ضوئا اكثر على حقيقة موقف الحسين من المحادثات الاخيرة، فقد عبر الحسين ـ كما ذهب لورنس ـ عن رفضه القاطع إلحاق بيروت ولبنان بفرنسا (وانها اقطار عربية ولكني لن استولي عليها ولن اسمح لاي جهة اخرى بالاستيلاء عليها ـ لقد استحقت الاستقلال ومن واجبي العمل على تحقيق الاستقلال لها) واضاف لورنس ان الحسين رفض الدخول في بحث تفصيلي حول الحدود، وحجته ان الحرب لم تنته بعد، ومن هنا فهو يحتفظ بحريته الكاملة عندما يحين الوقت لذلك ( اذا راينا ذلك ملائما فإننا سنلاحق الاتراك حتى استانبول وارضروم ـ فلماذا نتحدث عن بيروت وحلب وحايل؟ ).
كان الحسين على غاية من السرور اعتقادا منه بأنه اوقع بيكو في المصيدة، بعد اتفاق جدة، اذ عد الوجود الفرنسي في سوريا احتلالا وقتيا ولأسباب استراتيجية وسياسية ، ومن المحتمل انه سيتقاضى منحة سنوية بمثابة تعويض واعتراف (لقد كنت مستعدا ـ كما ذهب الحسين ـ دون ان يطلب الي ذلك ان احافظ مصالحهم في خطوط سكك الحديد الموجودة حاليا، وان اساعد معاهدهم التعليمية، ولكن الحجاز وسورية مثل راحة اليد واصابعها وليس باستطاعتي ان ارضى بقطع أي اصبع او جزء من الاصبع لأن ذلك سيتركني كسيحا) واضاف الحسين في تعليقه عن محادثات جدة، بانها كان قصيرة ولا تحمل الطابع الرسمي، فضلا عن افتقارها للوثائق المكتوبة، وما حصل من تبدل في الوضع انما هو تخلي فرنسا عن فكرة احتلالها الدائم او فرض سيادتها على سورية " ولكننا لم نضع هذا ضمن معاهدة رسمية، لان الحرب لم تنته بعد. انني لم افعل سوى انني قرات قبولي صيغة: (مثل بريطانيا في العراق) التي اقترحها علي بيكو. وذلك لان السيد مارك سايكس اكد لي ان هذه العبارة ستضع خاتمة للبحث ).
وقد اكد الحسين هذه الحقيقة عند اجتماعه بالمعتمد البريطاني في جدة في 22/11/1918، في منحه لفرنسا ما لبريطانيا في العراق. مع بقاء سورية بمدنها المختلفة حمص، حماه، طرابلس، الاسكندرونة ضمن حدود الدولة العربية المتفق عليها. وهذا ما رد به على المعتمد (ولسن) ـ الذي اعتبر هذه المدن ضمن منطقة النفوذ الفرنسي ـ وهو امر اضاف الحسين ـ كان من الاجدر ان يبلغ به في حينه لتحديد موقفه منه.
ولعله بالامكان اضافة برقية (ونجت) الى وزارة خارجية بريطانيا في سنة 1918 دليلا آخر لتعزيز ما ذهبنا اليه. حيث جاء فيها (تذكرون ان اتفاق سايكس ـ بيكو لم يبلغ ابداً بصورة رسمية الى الحسين ).
وفي السنوات التي تلت الحرب ظل الحسين يؤكد بإصرار على ان احدا لم يأت على ذكر اتفاقية سايكس ـ بيكو، خلال اجتماع جدة، الا بعد ستة اشهر حينما فضحها الشيوعيون في عام 1917 . واكد ذلك في افتتاحية احد اعداد جريدة القبلة في مقال تحت عنوان (القضية العربية في دورها الجديد) وانه لو فهم من سايكس وبيكو بوجود ترتيبات تتنافى مع الاهداف العربية لتخلى عن تحالفه مع بريطانيا، ووافق على عقد صلح منفرد مع الاتراك، الذين وافقوا على استقلال العرب التام وتحقيق كافة مطاليبهم بضمان المانيا. وذهبت الجريدة الى القول (لو ان المراد التربع على منصبات المؤترمات والتبجيح على كراسيها، لامضى جلالة مولانا المنقذ معاهدة فرسايل وماهو في معنى ذلك... ).
ان ما تقدم يكاد يوحي بإدراك الحسين لنوايا الحليفتين في المنطقة ، ولكن ضمن فهم وتصور خاطئين ن عززهما افتقاره الى الخبرة السياسية اولا وثقته العميات ببريطانيا ثانيا. ثم الاهداف الاستعمارية ـ وهي الاهم ـ التي عزمت كل من بريطانيا وفرنسا تنفيذها في المشرق العربي منذ عام 1915. وسنلتقي خطوات البحث القادمة ضوءا على حقيقة موقف الحسين من معاهدة سايكس ـ بيكو .
الهاشميون وبداية القضية الفلسطينية:
ـ موقف الحسين من وعد بلفور:
(أ) استفسار الوطنيين عن موقف الحسين:
اثار وعد بلفور (2 تشرين الثاني 1917) موجة من السخط والاحتجاج لدى الاوساط العربي، مما دفع بالسلطات البريطانية الى اتخاذ مختلف الاجراءات لتهدئة الموقف، وازالة المخاوف التي نجمت عن هذا الوعد . اما بالنسبة لموقف الحسين فلم تصدر عنه اية اشارة حينها، بيد ان المسؤولين الانكليز كانوا يتوقعون انه سيكون (اكثر صعوبة من عرب القاهرة، الذين هم اكثر صقلا وثقافة) . لكن هؤلاء ـ ومعظمهم من السوريين المقيمين في مصر ـ لم يكتفوا بالموقف المعارض للوعد المذكور، وانما عمدوا الى الاتصال بالحسين عن طريق الفاروقي ممثله في القاهرة، للاعلان عن موقفهم الاخير . وقد ارسل هذا فعلا نسخه من وعد بلفور ثم تلاه بإرسال احتجاج السوريين الامر الذي كان سببا في عزله ـ كما يبدو ـ من قبل الانكليز لتجاوبه مع زملائه العرب . وعلى حد قول وليم يال ( William Yall ) المواطن الامريكي المقيم في القاهرة، ان الفاروقي افهم السوريين باقتناع سيده بالبرنامج البريطاني المتعلق بمستقبل فلسطين، وكذلك الحال بالنسبة لاحتلال فرنسا لسورية . وذهب (يال) الى ان السطات البريطانية كما استوضح نفسه. كانت تعتقد ان الحسين رجلاً معقول، ولا تتوقع منه مشاكل بشان مستقبل فلسطين خلافا لما اوردناه قبل حين وأيا كان الاعتقادات بموقف الحسين، فإن الوطنيين السوريين عزموا على الاجتماع المباشر بالهاشميين للكشف عن موقفهم، فبعثوا بحقي العظم ممثلا عنهم لهذا الغرض، بيد ان اجتماع الاخير بالحسين وبنجله فيصل ـ كما يبدو ـ لم يكن موفقا. ولم يبد فيصل حينها ـ كما ذهب يال ـ معارضته لما يسمى حق اليهود في وطن قومي في فلسطين، رغم عدم ارتياحه لتصريح بلفور. بينما اخفق العظم في دفع الامير للتأثير في والده للاحتجاج ضد وعد بلفور مما دفع بالعظم للارتياب بسياسة الاشراف ازاء فلسطين . ويبرر (يال) في تقريره موقف الحسين المتناقض بين متطلبات السياسة البريطانية ودواعي الاستقلال العربي المنشود عدم اعتراضه على السياسة البريطانية بسبب الوضع القلق الذي تحيطه، اذ كان جل إعتماد ثورته على المعونة البريطانية الشهرية، التي بدونها تهدد مكانته وهيبته بين امراء الجزيرة الذين كانوا علىعداء معه، فضلا عن نفوذه بين الوطنيين السوريين .
وعلى ما يظهر تقرير (يال) ان ثقة الوطنين السوريين بالحسين اخذت تضعف اثر موافقة الاخيرة، فعزموا على عقد اجتماع في القاهرة يعترضون فيه على زعامة الحسين للدولة العربية، الا اذا اعلن استنكاره للمشاريع الصهيونية ومن ثم تقديم احتجاجه لدول الحلفاء .
ومع احتمال صحة هذه الاخبار، فإنها تكاد تبدو حقائق لمواقف آنية سرعان ما اتخذت شكلا آخر تقريبا بعد فترة من الزمن كما سيتضح.
(ب) اجتماع الحسين ـ هوغارث:
تجاوبا مع الاستياء الذي عم الاوساط العربية بسبب وعد بلفور ولقلقه من الاهداف المترتبة عليه في فلسطين وما قد يعنيه من قيام الدولة اليهودية ، طلب الحسين من الحكومة البريطانية تفسيرا واضحا لوعد بلفور ومداه .
واستجابة لذلك ولتخفيف حدة السخط الذي عم السكان العرب . وابعادا للشكوك التي سادتهم بعد فضح معاهدة سايكس بيكو ، واخيرا لمعالجة التوتر القائم بين الحسين وعبد العزيز ابن سعود ، بادرت وزارة خارجية بريطانيا الى إيفاد الدكتور هوغارث ( Dr. Hogarth ) الى الحسين، لتسوية هذه المشاكل، وايجاد خطة سياسية ثابتة لمعالجتها، وحملته مذكرة شفهية تضمنت وجهة نظرها بالاوضاع الاخيرة ، جاء فيها ثلاث نقاط يمكن ايرادها كالآتي:
اكدت الحكومة البريطانية في النقطة الاولى على عزمها في اتاحة الفرصة الكاملة امام العرب لاستعادة كيانهم كباقي الامم، وذلك لن يتم الا باتحادهم الذي سيتولونه بأنفسهم، مع استعداد بريطاينا وحلفائها في اسناد ما يحقق ذلك .
تأكيد الحكومة البريطانية على رفضها خضوع شعب لشعب آخر في المنطقة، ونظراً لأهمية فلسطين الدينية وبحكم مراكزها الدينية التي تمثل الاديان السماوية، فإن الامر يقتضي اقامة نظام خاص بهذه المراكز، اما فيما يخص مسجد عمر فأمره خاص بالمسلمين ولا يخضع لاية سلطة غير اسلامية ، وكأن مسجد عمر هو القضية الرئيسية في فلسطين ؟
اما النقطة الاخيرة والمهمة في هذه المذكرة فتتعلق بعودة اليهود الى فلسطين، حيث ابدت بريطانيا عطفها وعزمها على ازالة ما يعيق هذا المشروع (على ان يتفق ذلك مع حرية الاهالي الموجودين من الوجهتين الاقتصادية والسياسية) دون ان تغفل المذكرة الاشارة الى اهمية التعاون العربي الصهيوني للقضية العربي، ذلك انها ستكتسب وعد وعطف كل الدول التي لليهود فيها نفوذ سياسي، الامر الذي لا يبرر تجاهل مثل هذه الاهمية .
اجتمع هوغارث بالحسين، وابلغه المذكرة شفهيا ، لكن الاخير لم يغفل تدوينها لديه، ولعل في استخدام انطونيوس لبعض نصوصها في كتبه يقظة العرب، قبل نشر هذه الوثائق ما يدعم ذلك .
اعرب الحسين عن ارتياحه للنقطة الاولى باعتبارها الاساس الذي قام عليه تحالف الطرفين، واظهر استعداده ـ وللمقتضيات الحربية ـ للاعتراف ببعض التعديلات الثانوية في اتفاقيته مع الحلفاء، على ان يبلغوه بصراحة عن هذه التعديلات والضرورة التي تقتضيها .
ولما اعاد هوغارث لاذهان الحسين التحفظات المنصوصة في اتفاقه مع بريطانيا والذي يكفل فيه المصالح الفرنسية، ابدى الحسين شكه في وجود اتفاق حقيقي ودائم في المصالح بين فرنسا وبريطانيا، فاكتفى هوغارث بالاشارة الى اتفاق وجهات نظر الدولتين بشأن القضايا العربية، واخذهما بالمبادئ الاميركية بقوة حول تقرير الشعوب لمصيرها، وبأن فرنسا لاتهدف سوى حماية ومساعد الحكومة المستقلة في سوريا ، لتترك كلمة الحماية للمستقبل وتأويلها وفق المصالح المنشوردة.
اما بالنسبة للنقطة التالية في المذكرة، فالذي يظهر من الاجتماع ان الحسين لم يعط جوابا محددا بشأنها، فهو في الوقت الذي يبدي فيه تعاطفه لفكرة الاشراف الدولي على فلسطين واستقرار اليهود فيها ، وقبوله بالتدابير المناسبة لتأمين الاماكن المقدسة واشراف الطوائف المعنية عليها ، يعتبر ذلك " مسألة يعاد النظر فيها بعد عقد الصلح " رغم تأكيد هوغارث في اعتبارها تدابير نهائية .
والظاهر ان الحسين كان يأخذ الامور بحسن نية. ويرى في منغصات حلفائه، قضايا آنية تحتمها ظروف الحرب وهذا ما اوضحوه له مسبقا. ومن هنا كان يرى في نهاية الحرب نهاية مشاكله معهم، وذلك ما اكده لهوغارث من ان هناك (حسابات سيسويها بعد الحرب وانه الى ان يجيء أوان ذلك لا يلح في شيء) الامر الذي يفسر يقين هوغارث (في انه ـ الحسين ـ فيما بينه وبين نفسه لا ينزل في شيء من مطالبة الاصلية للعرب او لنفسه مع الزمن)، رغم عدم قناعته في ان تكون للحسين (خطة مرسومة او انه يعرف طريقه الى غايته) .
واخير فإن الاقتراح الذي ابداه هوغارث في استثناء الاشارة الى عبارة الادارة السياسية من البيان الذي اقترح صياغته في ضوء النقطة الثانية من الرسالة وموقف الحسين المذكور من هذه النقطة، ما يمكن اضافته من اجل توضيح الصورة التي كان عليها موقف الحسين من قضية الاشراف الدولية والنظام الخاص في فلسطين .
اما بالنسبة القسم الثالث من المذكرة والمتعلق بإقامة اليهود، فلم ير الحسين في ذلك الامر اكثر من كونه موضوعا يتعلق بطائفة من اسسهل الذمة ومشكلة سكناهم بين المسلمين وانطلاقا من هذه الفكرة، فإنه سيبذل جهده لتحقيق هذه الرغبة ، ما دامت الغاية من ذلك تهيئة الملجأ لليهود المضطهدين، وما دامت مسألة التنازل عن مطلب السيادة للعرب، لم يكن موضوع بحث ابدا . وذهب الى انه (لن يقبل قيام دولة يهودية مستقلة في فلسطين)، دون ان يكون في وسع هوغارث الافصاح بأن ذلك ما كانت تفكر فيه بريطانيا ، علما ان ذلك لم يمنع الحسين من ابداء قناعته ـ وعندما يحين الوقت ـ للنظر في تزويد الحكومة السورية بما في ذلك فلسطين بالخبراء والفنيين والاداريين .
ومع ذلك فلم يكن موقف الحسين من الموضوع مشجعا بالنسبة لوجهة النظر البريطانية الا انه ـ كما ذهب كلايتون في هذا الصدد ـ ومع عناده ومحاولته تحريف كل شيء غير محدد الى صالحه، فما زال من الضرورة ابقاؤه على المسرح . هذا ولعل موقف الحسين الحقيقي من القضية الفلسطينية يتضح في مقاله الذي نشرته جريدة القبلة. وقد جاء فيه:
(لقد كان من اعجب الامور قبل هذا العهد الاخير ان يزهد ابن فلسطين في بلاده ويتحول منها راكبا كل بحر الى كل قطر لا يمسكه في تربته الاصلية تسليل آبائه واجداده فوق اديمها الف عام او اكثر. هذا بينما نرى اجانب اسرائيليين ينسلون اليها من روسيا والمانيا والنمسا واسبانيا وامريكا حتى ارتقى عددهم خمسة وثلاثين عاما من اربعة عشر الف نسمة الى خمسة واربعين الف...) . وقد عللت الجريدة وجود هذه الظاهرة الى نقص الامكانيات والوسائل الكافية لهم في العهود السابقة، بينما توفرت لليهود المهاجرين بفضل تعاونهم... ومن هنا تهيب القبلة بالفلسطينيين الى العودة الى اراضيهم لافادة اخوانهم... بعد انتفاء ما يعيق ذلك، للاستفادة من مؤهلاتهم العلمية التي استزاد بمثلها نزيلهم اليهودي، فضلا عن الخبرات التي جاءت بها الجاليات الوافدة من اميركا واوروبا .
وتجدر الاشارة الى ان الحسين كان قد طالب (ونجت) في شباط 1918، بتنفيد الاشاعات التي اثيرت ضده بين بعض سكان فلسطين، بإتهامهم إياه في اخضاع فلسطين للسيطرة الصهيونية، اذ ان مثل هذا الاتهام على حد " لايمكن ازالته الا بالانتحار " .
كما اعرب الحسين عن امتعاضه لـ(ونجت) للاجراء الذي اتخذته الحكومة البريطانية في وضع فلسطين تحت الاشراف العسكري البريطاني التابع لقيادة الجنرال اللنبي ( Allenby ) ، (فالشكل والكيفية التي تقررت لادارة فلسطين وما حولها... سيكون حكما قاضيا على حكم مخلصكم بالانتحار...) .
ـ موقف القادة الحجازيين من عروض العثمانيين للتفاهم:
لقد مرت محاولات التفاهم بين القادة الحجازيين والعثمانيين بثلاثة ادوار هامة لم تسفر عن نتائج ايجابية. تمثل الدور الاول بجهود جمال باشا، وتمثل الدوران الثاني والثالث بمفاوضات جمال باشا الصغير مع المسؤولين الحجازيين.
مساعي جمال باشا: فضحت ثورة اكتوبر جملة من الاتفاقيات السرية في 8 تشرين الثاني 1917، كان من بينها اتفاقية سايكس ـ بيكو، المتعلقة بالمشرق العربي، فلم تمض ايام حتى كانت تفاصيلها بيد الحكومةالعثمانية، التي سارعت لاستغلالها في اقناع الحسين لسحب قواته من خطوط القتال.
وقد جاءت عروض العثمانيين الاولى للصلح على يد جمال باشا في اواخر تشرين الثاني 1917، اذ بعث بثلاث رسائل الى القادة الحجازيين اثنتين منها الى كل من الامير فيصل ـ وكان حينها في العقبة ـ والقائد جعفر العسكري، وذلك بتاريخ 26 تشرين الثاني فيما كانت الثالثة للامير عبد الله في 5 كانون الاول 1917 .
اوضح جمال في رسالته لفيصل، ان الهدف من اشتراك الدولة في الحرب انما كان لانقاذ العالم الاسلامي من الوضع الذليل الذي يعانيه، بينما الحقت الثورة في الحجاز، الضرر بالدولة ووحدتها، واشار الى صعوبة اقرارها الان بعد تشكف حقيقة الحلفاء واطماعهم في العراق والشام، وما التقدم البريطاني الذي وصل... فلسطين، الا دليل لذلك. وقد اراد جمال ابقاء الباب مفتوحا لتسوية الامور ودعى فيصل الى الاجتماع لهذا الغرض وختم رسالته بعدها بالواجب الديني الذي دفعه لهذه الخطوة .
وقد ارفقت هذه الرسالة بورقة صغيرة تضمنت النقاط التي يمكن في ضوءها اجراء المفاوضات، جاء فيها اقرار الحكم الذاتي الكامل للولايات العربية، والاعتراف بالاماني القومية وعند الاتفاق فإن تصديقها لا يضمن من قبل السلطان فحسب، وانما بضمان مماثل من الحكومة الالمانية .
ولم تعد رسالتا جمال الاخريتان، لكل من جعفر وعبد الله، في مضامينهما عن الدعوة التي ودجهها لفيصل وتسوية الامر قبل فوات الاوان .
ولم يكتف جمال بذلك، بل راح، من اجل تحقيق مشروع الصلح، الى اشاعة خبر الاتفاقية السرية بين الناس. اذ دعا ببيروت ـ في 4 كانون اول 1917 ـ الى مأدبة جمع فيها اعيان ووجوه سوريا، وكرر عليها ما تقدم واشار الى غرض الصلح الذي قدمه للحسين، بعد ان راجع الاضرار التي خلقت بالدولة والعرب على السواء، والخديعة التي وقع بها الحسين جراء تصديقه وعود الحلفاء الكاذبة التي لوحوا بها لاجل مصالحهم. وراح يلوم الحسين لكونه السبب في وصول قوات الحلفاء الى ابواب القدس دون ان يغفل (جمال) تجديد نصائحه السابقة، والعدول عن الخطأ . ثم امر الباشا بطبع الحقائق الاخيرة في صحف بيروت ودمشق، واصدر عددا خاصا بهذا الخصوص في جريدة (الشرق) التي كانت تمولها السلطات العثمانية ، وهربت نسخ من هذه الصحيفةالى مكة عبر المدينة التي لما تزل تحت السيادة العثمانية. وعلى حد قول المعاصرين ان امل الاتراك في نجاح الصلح كاد ان يبلغ ذروته ، وامسى سببا لكثير من المتاعب التي واجهها الحلفاء في المنطقة هذه الآونة .
اتصل الحسين حال تسلمه رسائل جمال باشا ـ بالسير (ونجت)، يستفسر عن الاتفاقيات السرية التي اشاعها جمال وجهله بهذه الاخبار التي لاتخفى عن بريطانيا في الوقت الذي اقترح فيه بالرد على جمال باستحالة الصلح دون موافقة الحلفاء، واستعداده للسعي في عقد صلح منفرد بين الدولة العثمانية والحلفاء حالة رغبتها بذلك، على ان تخلي بعض المواقع المعينة. وذهب الحسين الى تخويل ونجت في ابلاغ فيصل ما يراه صائبا لتحديد موقفه ، علما انه اكد على نجله فيصل بمواصلة تقدمه واستلام تعليماته من (ونجت) او القائد العام الجنرال (اللنبي) حالة عدم استلامه اية اوامر من قبله اعقبها برسالتين اخريتين، اكد فيهما لـ (فيصل) رفضه القاطع لمشروع الصلح مع العثمانيين .
اعرب المسؤولون الانكليز عن ارتياحهم للموقف الاخير، واستجابة لطلب الحسين، ابلغ (ونجت) الامير فيصل بالتشاور مع الكولونيل لورنس بشأن عروض الصلح ، في الوقت الذي ابلغ فيه اللورد بلفور (وزير الخارجية) بهذه التطورات مع احدى رسائل جمال باشا التي كان قد بعث بها الى فيصل، دون ان يتجاهل ونجت استئناف تلفيقاته السابقة في الاشادة بمكانة الحسين ودروه في الحركة العربية، ورغبة الحلفاء في دعم العرب وتقدمهم .
لكن الحسين لم يقتنع بالتعابير الودية ـ كما يبدو ـ وواجه (ونجت) بتحديد الموقف البريطاني من الاشاعات التي اخذت تلصق به بعد شيوع خبر فضح الاتفاقيات السرية ، وما قادت اليه من التذمر والبلبلة بين صفوف قواته المقاتلة . الامر الذي دفع بالسلطات البريطانية ـ ولقلقها من الاستياء الذي اخذ يدب بين هذه القوات ـ الى محاولة صرف النظر عما اثاره كشف الاتفاقية من الشكوك، وبالشكل الذي لا يخل بمصالحها، كأن تكثر من تصريحاتها التعميمية من جهة، وتأكيدها على الحسين في تصعيد العمليات العسكرية وحث انجاله على ذلك من جهة اخرى باعتباره الجواب الفصل على مشروع الاتراك وحلفائهم الالمان الذين لم يألوا جهدا في بث الاشاعات بين قوات البدو والقريبة منهم . ولعل في رسالة السير ونجت الى حكومته في 22/1/1918 دليل واضح على مدى القلق الذي انتاب المسؤولين الانكليز، وبالذات ابرزهم في المنطقة. فقد اشار الاخير الى فاعلية الحقائق التي نشرتها الصحف الروسية في نفوس العرب، ومن ان القلق يبدو واضحا في الحجاز لاحتمال وجود نشاطات دعائية مناوئة في سورية، ومن هنا جاء تأكيده على ضرورة تجنب التصريحت التعميمية واتخاذ موقف واضح من التطورات الاخيرة. وابدى المقترحات التالية التي يرغب في ابلاغها للحسين:
ان حكومة جلالته ما تزال مصممة على تحقيق استقلال العرب والوفاء بالوعد الذي قطع عن طريقه (الملك حسين) للعرب في بداية ثورة الحجاز.
ان حكومة جلالته لن توافق على احتلال اجنبي او اوروبي دائم لفلسطين، سورية العراق (باستثناء البصرة)، بعد الحرب.
واضاف ونجت: ان هذه المسألة عاجلة اذا ما أريد ايقاف دعاية العدو عند حدها، واذا ما اريد منع العرب من الانحياز الى جانب العدو. وختم قوله بضرورة اتخاذ فرنسا تصريحا مماثلا .
وعلى اية حال فإن الحسين من الجهة الثانية استأنف استفساره السابق، واعرب عن حراجه موقفه بين المسلمين والعرب جراء الحقائق التي كشفتها الوثائق السرية والتي قد تضطره الى الانسحاب أو الانتحار، حالة عدم اتخاذ الاجراءات، التي تحول دون جعله مادة للاقاويل والتكهنات... فاضطر ونجت حينها الى احالة الامر الى وزارة الخارجية البريطانية لتوضيح موقفها، الا ان الوزارة ومع سنوح هذه الفرصة لمصارحة الحسين بالحقيقة تجاهلت الامر واستمرت على تسترها السابق، كما يتضح ذلك من خلال المذكرة التي وجهها اللورد بلفور الى ونجت في 4 شباط، الذي ابلغها بدوره الى الحسين في 8 شباط. فقد اشادت المذكرة بموقف الحسين من العروض التركية، باعتباره نموذجا لصدق العلاقة القائمة بين الطرفين، وذهبت المذكرة الى تكذيب الاشاعات والاتهامات التي تثيرها تركيا ضد الحلفاء في هدف بث الخلافة بينهم وبين العرب... واضافت المذكرة (ان حكومة جلالته مع الدول المحالفة لها ما تزال تلتزم بموقف الدفاع عن قضية تحرير الامم المظلومة وهي مصممة على الوقوف الى جانب الشعوب العربية في جهادها الرامي الى قيام عالم عربي يسوده القانون والشرع بدل الظلم العثماني...).
(ان حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى تكرر عهودها السالفة التي قطعتها لجلالتكم بخصوص تحرير الشعوب العربية. ان سياسة التحرير هي السياسة التي سارت عليها حكومة جلالته والتي تقصد ان تستمر عليها بتصميم لا يتزعزع، وذلك بان تحفظ العرب الذين تم تحريرهم من خطورة عودة الاحتلال، وبأن تساعد العرب الذين لا يزالون تحت نير الظالمين كي ينالوا حريتهم) .
وقد اعقب ونجت هذه المذكرة ببرقية منه، حاول فيها تبديد مخاوف الحسين، وضرورة الركون لوعود الحلفاء الذين جردهم من المطامع في المنطقة بما فيها سورية، لكنه لم يحدد بشكل واضح المستقبل الذي ينتظرها وانما اكد على ضرورة المشاورات الودية بهذا الشأن لما يضمن مصالح الاطراف المعنية، دون اهمال الحقوق المعقولة للاقليات الاخرى .
2ـ مساعي جمال الصغير: ومرت هذه المساعي بدورين رئيسيين كان الاول في شباط 1918، وذلك حينما فاتح جمال الصغير فيصلا بالتفاهم. اذ اوفد الصغير رسولا الى الامير فيصل يدعوه مجددا لعقد الصلح، فلم يعارض الاخير شريطة انسحاب القوات العثمانية عن المدينة المنورة ومعان وجميع محطات سكة الحديد حتى عمان، ليحاول بعدها اقناع والده بمفاوضات الصلح. غير ان الحسين اصر على رفضه لمشروع الصلح وتمادى في ثقته ببريطانيا فأكد لفيصل وفاء الحلفاء بوعودهم، ثم بعث بدعوة جمال الصغير وموقفه منها الى السير ونجت .
اما الدور الثاني لمحاولة الصغير فكان في 5 حزيران 1918، اذ قدم ثانية الى فيصل الدعوة للتفاهم. وقد اجاب الاخير بالقبول مقابل الشروط التالية:
1ـ نقل جميع القوات العسكرية المرابطة على خط سكة الحديد بين المدينة ـ عمان الى عمان .
2ـ التحاق جميع الضباط العرب الموجودين في الاناضول والروميللي بالجيش العربي.
3ـ يوضع الجيش العربي تحت امرة قائده حالة اشتراكه بجانب الدولة العثمانية ضد العدو.
4ـ تحصل سوريا على استقلالها الذاتي.
5ـ تمتنع القوات العثمانية من الاستحواذ على اية كمية من المواد التموينية الموجودة في سورية في الوقت الحاضر، لتبقى تحت تصرف الجيش العربي .
ويبدو ان هناك ثمة نقاط تحيط بموقف فيصل الايجابي من عروض الصلح، الامر الذي يقتضي توضيحها لفهم مايليها من نقاط. اذ تشير بعض الوثائق الى ابلاغ الحسين لـ (ونجت) في 7 حزيران بعرض الصلح الاخير أي في نفس اليوم الذي ابلغ فيه نجله برفض هذه العروض، بينما يعرض فيصل بعد ثلاثة ايام شروطه على جمال الصغير وهو وقت كاف لوصول اوامر والده . وبكلمة اخرى ان فيصل دخل مفاوضات الصلح رغم وصول اوامر والده برفضها، ولعل هناك ما يبرر موقف فيصل، فلا غرابة في ان يكون للتذمر الذي ساد القوات العربية ازاء حقيقة اهداف الحلفاء اثره في اضطرار فيصل لاتخاذ الموقف الاخير , وهو الذي عهدناه مترددا في قبول الثورة لريبته بنوايا الحلفاء، الامر الذي قد يعزز طبيعة الاستجابة التي ابداها، بعد نفور اتباعه واستصعابهم القتال. وقد اعرب فيصل عن رأيه الشخصي بتحول السياسة البريطانية في هذه الفترة، وبكونها اخذت (تبعث على الياس) ولعل الامر يبدو اكثر قناعة، حينما يكون الامير على علم بمفاوضات الصلح الجارية بين الدولةالعثمانية وبريطانيا، بعد ان وصلته اخبارها ولم يمض اسبوع على بدئها ، اذ رأت الحكومة البريطانية، وبعد اتضاح السياسة الجديدة لثورة اكتوبر، امكانية تسوية مشاكلها مع الدولة العثمانية ، وتم بحث الامر بين وفدي كلا الجانبين العثماني برئاسة طلعت باشا، والبريطاني برئاسة السير اوبري هربرت ( Aubrey Herbert ) وكان ذلك في حدود كانون الاول 1917 . والظاهر ان مثل هذه المساعي سبق ان تم التشاور بشأنها في منتصف سنة 1917 وكان السفير الاميركي في الاستانة (مورجانتو) هو الوسيط في هذا السبيل، غير ان هذه المساعي باءت بالفشل وقد قيل أن للصهيونية بدأ في ذلك، لما في هذه التسوية من خطورة على مشاريعها في فلسطين، حتى ان وايزمن سارع الى الاجتماع بمورجانتو في جبل طارق وهو في طريقه الى لندن لاتمام مشروع الصلح، وتمكن من اقناعه للعدول عن مسعاه .
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه هذه الاتصالات،واصل الحسين شكواه من الاشاعات التي اخذت تشكك بصدق الحلفاء، واتهامهم بالالتفاف على الوعود التي قطعوها . فلم يبخل (ونجت) بدوره في تزكية موقف الحلفاء، وسعيهم لاتحاد العرب وتخليصهم من الحكم العثماني، واستشهد (ونجت) بتصريح هوغارث لدى زيارته جدة كما تقدم اكد فيه تصميم الحلفاء لاتاحة الفرصة في بعث العرب... والسعي لوحدتهم... غير ان هذا الاتحاد ـ كما ذهب ونجت ـ سيكون ارسخ قدما اذا تولاه العرب بأنفسهم وبقناعتهم... .
ومع ذلك فإن المسؤولين الانكليز من جهة ثانية كانوا على حذر من محاولات جمال الصغير الاخيرة، وسعوا مجددا لاحباطها، ولم يكتفوا هذه المرة بالبرقيات الودية المعتادة مع الحسين ، وانم شرعوا ـ وبالذات ونجت ـ الى اقناع الحكومة بتكذيب وجود نص مكتوب لاتفاقية سايكس ـ بيكو، باعتبارها محور المشكلة. وابرق ونجت الى وزارة الخارجية في 16 حزيران يطلب موافقتها لمذكرته المقترحة بهذا الخصوص الى الملك حسين، والتي رفعها فيما بعد الى الحسين قد جاء فيها: (ان البولشفيك لم يجدوا في وزارة الخارجية في بتروغراد معاهدة معقودة، بل محاورات ومحادثات موقتة بين انجلترا وفرنسا وروسيا في اوائل الحرب لمنع المصاعب. وان جمال باشا اما من الجهل او الخبث غير في مقصدها الاساسي. واهمل شروطها القاضية بضرورة وضع الاهالي وحماية مصالحهم. وقد تجاهل ما وقع بعد ذلك من ان قيام الحركة العربية ونجاحها الباهر وانسحاب روسيا قد اوجد حالة اخرى تختلف عما كانت عليه بالكلية منذ امد مضى .
بيد ان التصريحات الاخيرة لم توقف الاتصالات الجارية بين فيصل وجمال الصغير، وقد طلب الامير من الاخير الاسراع في الاجابة على مقترحاته المتقدمة نظرا لقرب موعد الهجوم البريطاني العام . فأسرع الصغير وبعث بدوره بالامير محمد سعيد الجزائري ممثلاً له في التفاوض مع فيصل . وفي منطقة وهيدة غرب مدينة معان، اجتمع الاميران ليلة 12 آب 1918 وسلم الجزائري فيصل رسالة جمال الصغير التي دعا فيها الى انحاء الفتنة وايقاف القتال بين المسلمين ، واستعداد الدولة لقبول جميع المطاليب التي يتقدم بها العرب . الا ان الامير لم يكن قانعا ـ كما يبدو ـ بالرسالة الاخيرة والتي سبق وان تسلم مثلها من قبل، ولم يجد فيها ما يعجل في اتمام الصلح، واعتبر هذه الرسائل سببا في ضياع الوقت، في الوقت الذي امسى فيه الوضع العسكري غاية من الخطورة . ومع ذلك فقط طرح فيصل مطالبه المتمثلة بحرية واستقلال العرب ضمن اتحاد لا مركزي مع الدولة العثمانية، واذا ما أبدت الدولة استعدادها لذلك، فالعرب على استعداد للموافقة على الصلح . ويضيف البعض طلب فيصل بانسحاب القوات العثمانية عن البلاد العربية، لاعلان استقلالها . رفع جمال الصغيرمطالب فيصل الى الاستانة فوافق عليها السلطان، واصدر ارادته السنية في اقرار مطالب الجانب العربي، غير ان كلا من انور وطلعت باشا اهملا الامر ، ولم يبلغا القوات العثمانية في سورية بالامر بعد الهزيمة النهائية التي احاقت بهذه القوات وخروجها من فلسطين مندحرة .
والظاهر ان كلا من انور وطلعت باشا كانا رافضين لهذه المشاريع منذ البداية وذهبت عبثا جهود الجنرال الالماني (ساندرس) لاقناعهما بالموافقة على المشروع . لتفشل آخر محاولة للصلح بين الهاشميين والدولة العثمانية خلال فترة الحرب.
ومع فشل محاولات الصلح مع العثمانيين فإن الحسين، وبعد تسلمه لحقيقة الاشاعات التي اثيرت مؤخرا، اندفع لمصارحة حليفته بتصوراته عن مستقبل المنطقة على ضوء ما يربطه بها من التزامات وعهود، منعا للغموض او التأويل الذي قد يثار حولها في المستقبل. ومن هنا جاءت رسالته المطولة. مرفقة ببنود الاتفاق الذي عقده مع مكماهون . اما عن رسالته لنوجت فقد جرد نفسه فيها من المطامع الشخصية، بقدرما يسعى اليه من تأمين مصالح المسلمين عامة والعرب خاصة. اما تلبية الدعوة البريطانية في دخول الحرب، فإنه كان يهدف من ورائها الى:
1ـ " حفظ الكيان الاسلامي بالنظر لما حل وسيحل بتركيا ".
2ـ صيانة العظمة البريطانية، من الاستهداف الى ما سترمي عكس مقاصدها.
3ـ " سلامتي من الاتهام بالتواطؤ معها ضد الاساس المقصود بالنهضة ". واضاف ان الاجتماعات التي كان قد عقددها مع ستورس ومارك سايكس وهوغارث في السنوات الماضية لم تكن لتشير الى ما سيحل بالمقررات التي اتفق عليها مع بريطانيا (غير ان ما في طبيعة مشروعنا وتتماته الحياتية من الرقة وما يتصادف من بعض حالات، يستدعي سياقها زيادة تعيين الامور وتاكيد الحقيقة عند الحدود فقط... عما لو فهمت الغلط في مقرراتنا المذكورة اساسا اوجدت ما يوجب تعديلها الامر الذي لا اقول انه يمس كيان العالم الاسلامي ولكن اظن. وبعض الظن اثم انه لايخلو من شيء من ذلك، هذا على فكري الخصوصي فمتى اضفنا عليه تظاهر عجزي بعدم حصول ما كان يؤمل من النتائج يتحتم علي الانسحاب من الامر والتنازل عند لاعتقادي الشخصي ان تعديل مقرراتنا المذكورة بصرف النظر عما في اخلاله بالغايات المقصودة الاساسية وعرضتنا لحذر موادنا الثلاث آنفة البيان وطمس صحيفة تاريخي، فهو يزيل ويسقطني من ثقة واعتماد بلادي واقوامي الاقربين حينما يظهر لهم عكس تلك المقررات التي اعلنتها لهم. واكون قد خدعت نفسي وغششتكم...) .
وذهب الحسين يعبر عن خطورة الوضع الناجم عن تزعزع ثقة الناس بوعود الحلفاء وعدم اقتناعهم بالحجج او تصديقها (وعليه فإن كان لابد من التعديل ـ ويقصد تعديل مواد الاتفاق ـ فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب... اما عطف الامر وتعليقه بمؤتمر الصلح فالجواب عليه من الآن بأن لا علاقة لنا به ولا مناسبة بينا واياه حتى ننتظر منه سلبا او إيجابا)، اذ لا اهمية لقراراته عنده، ما لم تقرها حليفته بريطانية .
الحجاز ومؤتمر الصلح:
دعي الحجاز الى مؤتمر الصلح،الذي انعقد في باريس سنة 1919، بصفته دولة حليفة ساهمت في المجهود الحربي. وكانت الدعوة موجهة من بريطانيا الى الحسين. حيث تم ترشيح ابنه فيصل لحضور المؤتمر. وقد ابرق الاول للثاني يأمره بالسفر الى باريس لحضور المؤتمر .
لقد كان موقف الوفد الحجازي حرجا للغاية سواء بالنسبة له، او للحلفاء اذ لم تكن هناك فكرة واضحة لدى فيصل عن مفهوم الحلفاء لمركز والده. فقد اراده هؤلاء ان يكون ممثلا عن مملكة الحجاز بينما اراد فيصل ان يكون ممثلا عن مملكة الحجاز والبلاد العربية. وهنا ارتطم الوفد الحجازي بواقع السياسات الدولية خاصة بالنسبة لكل من انكلترا وفرنسا ومطامعهما في البلاد العربية، ناهيك عن المشكلة الفلسطينية والانتداب على البلاد العربية. وهذا ما تمثل في نشاطات فيصل في باريس . ولا نريد هنا ان نخوض في موضوع المتاهات الدبلوماسية التي اضاع فيها الوفد الحجازي نفسه خاصة في موضوع الاماني القومية العربية وموقف الحلفاء منها، ذلك لانها قد اشبعت بحثا من قبل غيرنا ، هذا الى جانب كونها خارج نطاق موضوع الممكلة الحجازية حسبما نرى. لذا فقط انصب البحث على سياسة الملك حسين الخارجية بقدر ما يتعلق بالمصلحة الحجازية.
اما انعكاس هذه السياسة لمملكة الحجاز في سنواتها الخمس الاخيرة ( 1920-1925) فتمثل بما يأتي:
اولا ـ العلاقات الحجازية البريطانية.
ثانيا ـ التقارب الحجازي السوفيتي.
ثالثا ـ محاولات التفاهم مع الكماليين.
اولا ـ العلاقات الحجازية ـ البريطانية:
1ـ تدهور العلاقات الحجازية ـ البريطانية: لم تجد مساعي فيصل في مؤتمر الصلح في إبعاد فرنسا عن اهدافها في السيطرة على سورية، في الوقت الذي بدأت فيه بريطانيا بتنفيذ التزامها حيال حليفتها بشأن سورية وامرت بسحب جيوشها عن الاخيرة تمهيدا لدخول القوات الفرنسية بما صاحب ذلك من تحاشي المسؤولين الانكليز البحث في هذا الموضوع مع الملك حسين، كما يتضح من موقف الجنرال اللنبي لدى زيارته الحسين في جدة في كانون الثاني 1920، حينما تجنب البحث حول مصير سورية، والالتفاف الى الخلافات الحجازية النجدية، وقيل ان الحسين واجد (اللنبي) بالانفعال حد البكاء لتهاون بريطانيا في وعودها معه . وقد ابدى الاخير نفس الموقف للامير عبد الله عند زيارته القاهرة (26 نيسان ـ 11 مايس 1920)، واضاف عدم اعتارف حكومته بأحقية الملك في التعبير باسم العرب الذين لم ينتخبوه ناطقا باسمهم، فضلا عن انتقال هذا الموضوع من حكومته الى مجلس السلم الاعلى .
وتوجت هذه المغالطات في تراجع بريطانيا عن التزاماتها في مؤتمر سان ريمو (25 نيسان 1920) بإقرارها مبدأ الانتداب على اقطار المشرق العربي وبما ينسجم مع مصالح حليفتها فرنسا، وقد اكدت ذلك في مذكراتها الجوابية للملك حسين في 15 حزيران 1920 ، التي احالت فيها مسؤولية الانتدابات الى مجلس السلم الذي رأى بدوره ضرورة مساعدة اقطار المشرق العربي من قبل فرنسا وبريطانيا، مع الاعتراف باستقلال الحجاز واعتباره عضوا في مجلس عصبة الامم. وجوابا على استفسار الحسين عن الدعوة التي كان قد وجهها مؤتمر سان ريمو الى نجله فيصل، اوضحت المذكرة عدم مسؤولية الحكومة البريطانية عن هذه الدعوة باعتبارها موجهة من قبل مؤتمر السلم. ويبدو ان الحسين كان قد انتقد الجهات البريطانية عن نكثها بالوعود، مما يفسر دفاع وزارة الخارجية البريطانية عن سمعة الحكومة وعن احترامها للعهود الموجودة بين الطرفين .
ومع الارتياح الذي ابداه الحسين لما اوردته المذكرة الاخيرة عن احترامها بريطانيا للوعود، ذهب الى توضيح النقاط التي يحتفظ بها بشأن علاقته بالاخيرة، وموقفه من مؤتمر الصلح وقراراته. قد جاء فيها:
ان علاقته ببريطانيا وليست مع مؤتمر الصلح.
حراجة موقفه بعد قرار المؤتمر بفرض الانتداب على البلاد العربية وتقسيمها، واستفساره عما ينقذه من هذا المأزق.
لفت انتباه المسؤولين الى رسائل مكماهون، وامله في التزام بريطانيا بكلمتها.
المطالبة باستقلال العراق وسورية والجزيرة العربية وفلسطين باي وسيلة كانت، واعدا باستمرار العرب على حماية مصالحها في المنطقة.
واوضح اخيرا الوضع الاقتصادي المتردي الذي يعانيه الحجاز لطبيعته وامكاناته الفقيرة والتي توجب وحدته بالاقطار العربية الاخرى .
جدد الحسين شكواه وحراجة موقفه ازاء التطورات الاخيرة... والنتائج المخيبة التي تلقاها العرب والاتراك على السواء،جراء ثقته بالوعود البريطانية. وراح يلوح بفكرة التنازل عن العرش، لعجزه عن الانتحار. في الوقت الذي اعرب فيه عن عجزه ـ دون الدعم البريطاني ـ في مواجهة الاضطراب الداخلي حالة تجاوز الحكام المجاورين على بلاده. وطالب ايضا باستئناف الاعانة الشهرية، واكد خطورة تجاهل الحكومة لهذين الطلبين على وضعه الحلي. وتنصله من مسؤولية التنائج المترتبة على سقوطه في الوقت الحاضر. كما اعاد الحسين مطالبته بريطانيا بتنفيذ وعودها في العراق، بعد ان كان اتفاقها يقتصر على احتلال البصرة. وكذلك الحال بالنسبة لالتزاماتها بشأن سورية وفلسطين، واهمية استجابتها على علاقة الطرفين بما ستوفره من ولاء العرب الثابت، وعكسه، حالة اجهاضها لحقوقهم. ومع ذلك فلم يخف الحسين تعبيره عن ارتباكه، وطلبه النصيحة البريطانية .
وجدير بالاشارة ان الحسين كان قد رفض التوقيع على معاهدة فرساي (28 حزيران 1919)، وتوج هذا الموقف بالنسبة لمعاهدة سيفر 10 آب 1920 لاقرارهما مبدأ الانتداب على اقطار المشرق العربي ، وبما تضمنه من دعم لسياسة انشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين . ويلاحظ من الوثائق البريطانية اهتمام المسؤولين الانكليز بتغيير موقف الحسين الاخير، فهما منهم في تاثير موقف الوفد الحجازي في باريس، على الجهات الاسلامية، وكسبها لجانبه، بعد انفراده في رفض التوقيع على معاهدة الصلح. ومن هنا جاءت ـ كما يبدو ـ تأكيدات اللورد كررزن ( Curzon) الى القاهرة على حمل الحسين لتغيير موقفه وذلك باتباع الوسائل اللازمة، والتشبث بغروره الفارغ، وابلاغه بأهمية اسهامه في اعادة السلام للعالم. وإبلاغه ايضا باستقلال الحجاز الذي تضمنته المعاهدة، واعتراف تركيا بذلك . ويضيف كررزن الى تأكيداته، ضمان بريطانيا لهذا الاستقلال والعمل على دعمه، وعزمها ـ بعد اتمامه ـ على فتح المفاوضات بشأن الحدود الحجازية النجدية. ثم يختم كررزن منذرا (ان رفض الحجاز توقيع معاهدة السلام سيعرض وضعه للخطر،وان حكومة صاحب الجلالة راغبة في تصحيح ذلك, لهذا فإنها تدعو الملك حسين بجدية الى إرسال ممثله لتوقيع المعاهدة بالسرعة الممكنة . بيد ان الحسين طالب بوفاء بريطانيا بوعودها، شرطا للتوقيع على المعاهدة. ولم يستجب لمساعي الجهات البريطانية، او محاولات نجله عبد الله في هذا السبيل . فانتهجت سبيلا آخر لاستدراجه وذلك عن طريق رشوته بالمال. فأوعز كررزن الى المسؤولين في القاهرة بتخصيص (30) الف جنيه لهذا الغرض، على ان تمنح هذه المبالغ وفق شروط، يتسلم الحسين الدفعة الاولى منها وقدرها (10 آلاف) جنيه شريطة تعهده بصرفها داخل الحجاز ، اما العشرة الثانية فتدفع مقابل تعهده بتوقيع معاهدة الصلح في حين تسلم الثالثة عند توقيعها فعلا .
ومن الطبيعي ان يلتزم المسؤولون الانكليز في القاهرة او (جدة) بحسن التصرف. اذ لم يكن مرغوبا ـ كما جاء في تعليمات كررزن ـ بمواجهة الحسين بهذه العروض وكانها رشوة لشراء توقيعه. واستوجب على الميجور (باتن) ( Batten ) القنصل البريطاني في جدة الاتصال بالحسين بهذا الخصوص كما لو كان الامر بدافع شخصي، والتنويه الى استعداد الحكومة لاستئناف المدفوعات المالية، اذا ما تعاون معها في احلال السلام في الشرق الاوسط، عن طريق توقيعه على معاهدة الصلح لكن الحسين رفض هذا العرض رغم الضائقة المالية التي كان يعانيها بعد انقطاع الاعانات البريطانية في نيسان 1920 ، حتى كان يضطر الى استحصال الاموال من الديون الاجبارية التي تفرض على معظم التجار، دون تسديدها لهم .
لقد اصبح واضحا ان (موقف الشريف حسين تجاه حكومة صاحب الجلالة احدى العوائق التي يجب دراستها... وان القرارات التي اعلنت بعد مؤتمر سان ريمو ـ كما يتضح من الوثائق البريطانية ـ رغم كونها غير مفاجئة كليا للملك حسين فإنها كانت خيبة امل عميقة له، ودفعته الى التعبير بصراحة عن عدم ثقته بالنوايا الطبية لحكومة صاحب الجلالة التي اضمرتها منذ محادثات السلم في باريس) . ومع ذلك فقد كان بإمكان حكومتهم ـ كما ذهب المسؤولون الانكليز ـ من ترضية الحسين فيما لو اوقفت فرنسا عملية احتلالها لسوريا . فوقوع هذه الاحداث، او بكلمة اخرى مصادقة بريطانيا عليها اعاق وسيعيق استمرار العلاقات مع الحسين ويجعلها مستحيلة .
لقد انعكست مواقف الحسين الاخيرة من بريطانيا على بعض تصرفاته تجاهها، كأن يرفض السماح للقنصل البريطاني الميجر (مارشال) في مزاولة وظيفته الادارية، او تنصله من ضمان سلامة حجاج نجد، ومعاملته الجافة للضابط السياسي المرابط في مكة ، واهماله براحة الحجاج الهنود، ثم رفضه ارسال مستشفى ميداني هندي كان قد طلبه سابقا لمعالجة الحجاج الهنود، وطرده او رفضه معالجة الهنود في المستشفى الهندي بدلا من المستشفى الحجازي الذي لم يكن يتمتع بالمزايا الصحية .
ومع بساطة هذه التصرفات في طبيعتها الا انها بمجموعها كانت تشكل مؤشرا لتراجع الحسين عن مواقفه الودية من بريطانيا ومحاولة اعتراض رغباتها ـ ورغم ما تعنيه هذه السياسة من رغبته في الاحتفاظ بسيادته باعتبارها عنصرا مهما في تقرير مواقفه ـ فإن السبب الرئيسي لهذا الموقف انما يعود للموقف البريطاني الصامت من الاحتلال الفرنسي لسوريا، ثم قطعها للاعانات المالية فضلا عن امتناع (لويد جورج ـ Lloyd George ) رئيس وزراء بريطانيا من الاجتماع بالامير فيصل خلال وجوده في اوروبا، بعد اخراجه من دمشق . " ولذلك فمن غير المستغرب ان يستمع الحسين الى وعود مصطفى كمال وان يحاول مساعدة رجال القبائل في الشمال للعمل ضد الفرنسيين، وبهذا الخصوص فهو يشير في تصريحاته الاخيرة بأنه قد ثار ضد جمعية الاتحاد والترقي وليس الحكومة التركية .
وضمن ما اخذ يبديه الحسين من المواقف السلبية، تهديده بالاستقالة عدة مرات هذه الآونة، الى الحد الذي دفع بالجهات البريطانية، الحذر من المشاكل التي قد تنجم عن ذلك لاحتمال اصراره على هذه الخطوة، والتفكير في من سيحل محله، بعد ان بات مؤكدا استمرار الاوضاع غير المرضية في الداخل، والتي ستتفاقم بمجيء الامير علي خلفا لوالده لضعف قابلياته وافتقاره لتجربة والده، وصعوبة ترشيح فيصل او عبد الله رغم رجاحتهما وتصويت الاهالي لاحدهما . كان الحسين ـ من وجهة نظر المسؤولين الانكليز ـ يهدف من سياسته المتعمدة الى دفع بريطانيا في معارضته، لكسب الرأي العام الاسلامي بما فيه الحجاز، وتعريض بريطانيا للانتقاد، لتدخلهما في شؤون الحجاز الداخلية، حتى اذا تمكن من ضمان مصادقة بريطانيا على تنازله، فإنه سيثبت بلا شك حقيقة استقلال الحجاز الشكلية .
وعلى اية حال فإن جهودا من الطرفين قد بذلت لتسوية خلافاتهما ومعالجة ما اخذ يسود العلاقات من البرود.
2ـ محاولات لتسوية الخلافات:
حاول الامير فيصل بعد خروجه من دمشق السفر الى سويسرا لمعالجة القضية السورية في عصبة الامم. وقد تلقى وهو في بور سعيد تعليمات والده للعمل بموجبها جاء فيها:
1ـ عدم الذهاب الى فرنسا.
2ـ ان يقتصر مباحثاته مع الحكومة البريطانية فقط.
3ـ اقتصار المباحثات على رسائل مكماهون دون سواها .
اضطر فيصل للبقاء في ايطاليا لاعتذار بريطانيا لاستقباله في الوقت الحاضر، وانشغال لويد جورج ببعض المباحثات في سويسرا وقبل دعوته الى لندن رفع فيصل في 11 ايلول مذكرة الى الحكومة البريطانية راجع فيها تطور العلاقات العربية البريطانية بعد الحرب بما في ذلك القضية السورية والاحتلال الفرنسي لسوريا، وعلاقة والده ببريطانيا منذ بدء الاتصالات بين الجانبين عام 1915 حتى ذلك الحين واعرب عن رغبته في الحضور الى لندن ممثلا عن والده بعد تفويض الملك حسين له بذلك. وقد حمل الجنرال حداد معتمده في لندن هذه المذكرة الى الحكومة البريطانية .
اتصل حداد باشا بوزارة خارجية بريطانيا، واجتمع بعدها بكل من (كلايتون ولورنس) واعلمهما بالمذكرة الاخيرة، وناشدهما بالموافقة على قدوم الامير فيصل لما يحمله من الامور التي تهم الحكومة البريطانية. فبينما امله الاول بدعوة فيصل ريثما تتشاور الحكومة بهذا الشأن، اقترح لورنس بان ترفق ـ معاهدة سايكس بيكو ومراسلات الحسين ـ مكماهون ـ مع مذكرة الامير فيصل الى الحكومة البريطانية .
والجدير بالاشارة ان الحكومة البريطانية قد اختلقت امام حداد باشا ـ خلال لقاءاته الاخيرة بعض الاكاذيب فيما يخص مراسلات مكماهون. اذ ادعت وزارة الخارجية بوجود نوع من التحريف في رسالتي مكماهون المؤرختين في 24و25 تشرين الاول 1915، الامر الذي اضطر حداد للاستفسار من فيصل وهو في ايطاليا عما اذا كان مكماهون قد وقع على الاصل الانجليزي او الترجمة العربية وفيما اذا كانت رسائل مكماهون تترجم في الوكالة البريطانية في القاهرة او مكة، كما طلب نسختين باللغة العربية لهاتين الرسالتين، اذ لم تكن لديه سوى النسخة الانكليزية . وقد دحض فيصل هذه الادعاءات وعدها امرا مضحكا، واوضح ان الرسائل من والى والده كانت باللغة العربية، ولا يتحمل الجانب العربي اية مسؤولية، ونصح بالاعتماد على النسخ العربية لمواد المراسلات الموجودة التي استخدمها الوفد الحجازي في باريس، دون الاخذ بنسخ وزارة الخارجية البريطانية، والتي يحتفظ بترجمتها لديه .
ظل فيصل في ايطاليا منتظرا موافقة الحكومة البريطانية على قدومه الى لندن، في الوقت الذي اخذ يؤكد فيه على حداد باشا الحصول على هذه الموافقة، بعد إلحاح والده المتزايد بهذا الشأن . ومع ان الاخير قد اجرى اتصالاته مع (لويد جورج) بتمثيل فيصل له في لندن ، فإن الحكومة البريطانية ـ كما يبدو ـ ابدت ترددها في مناقشة مايثير ازعاجها، ولعلها لم تكن انتهت بعد من اعداد الخطط الجديدة لسياستها في المشرق العربي، فبررت ذلك بحجة عدم الاتفاق مع الحسين حول تعيين الوفد المرسل من قبله. بيد انها وافقت بعد ذلك على قدوم فيصل، وقررت إبلاغ والده بالامر . بعد مطالبة الاخير بذلك، فغادر فيصل ايطاليا في تشرين الثاني 1920.ليرأس الوفد الحجازي في لندن .
لم تكن الحكومة البريطانية في استقبالها للامير فيصل، تعني الاهتمام بمطاليب الحسين عموما، وهي في الوقت الذي وضعت فيه الاعتبارات لترشيح فيصل ملكا على العراق في هذه الفترة ـ والذي بررت فيه موافقتها على لقائه ـ كانت ترغب من جهة ثانية في تجنب اية خطوة من شانها منح الحسين تعهدا ما، ومن هنا امسى واضحا ومنذ بدء لقاءات الامير فيصل في لندن، انها تفتقر الى الهدف الذي جاء من اجله. فقد وجدت بريطانيا في مجيء فيصل فرصة لغرض قيودها وتحفظاتها على الحسين وانجاله، كان الهدف الرئيسي منها إقناع الاخير بالتوقيع على معاهدتي فرساي و سيفر، رغم ما كان يبديه فيصل من الرغبة في إثارة قضية وعود بريطانية لوالده .
عقد فيصل اجتماعه الاول مع السير جون تيللي ( J. Tilley) في 22/12/1920 اوضح فيه الاخير ـ ردا على استفسار فيصل ـ هدف حكومته الرامي الى تثبيت علاقتها مع الحجاز في اتفاقية بين الطرفين تحل محل الاتفاقيات السابقة. بينما طالب فيصل الوفاء بالوعود المقطوعة لوالده وتقدير موقفه بين المسلمين. ولتيقن (تيللي) من نية حكومته في ترشيح فيصل لعرش العراق، أجاب عن عزم حكومته على تنفيذ هذه الوعود ونيتها في تأسيس حكومة عربية في العراق. ومع ان الامير قد كرر دعوته الى تأسيس دولة عربية في ضوء مراسلات والده ومكماهون، فإنه اعرب عن تفضيله بأن لا يقف موقف المتمسك بنص العبارة الاخيرة، لكنه يطالب بالمحافظة على الروح العامة للتعهدات البريطانية .
واستأنف فيصل حديثه عن مراسلات حسين ـ مكماهون مجددا في اجتماعه الثاني الذي عقده مع المستر لندسي ( R.C. Lindsay ) نائب اللورد كررزن. حيث واجه الادعاء السابق القائل بوجود نوع من سوء الترجمة في المراسلات المذكورة وما ترتب عليه من غموض بعض التحفظات، (ويقصد بها المتعلقة بسورية وفلسطين) وردا على ادعاء (لندسي) اوضح فيصل ان التحفظات التي اتفق عليها مكماهون اقرت تأجيل البحث في مستقبل مناطق كليكيا والساحل السوري الواقع غرب مدن حمص حماه، حلب، دمشق (أي لبنان)، الى ما بعد الحرب، اما المدن الاربع وفلسطين، وحتى المناطق المؤجل بحثها فهي ضمن الوعود المقطوعة لوالده وهذا ما يفهمه العرب ايضا .
اما بشأن الانتداب فقد اوضح فيصل رغبته في مناقشته في ضوء الوعود البريطانية وليس بوصفه وثيقة في عصبة الامم. وردا على ذلك ذهب (لندسي) الى الربط بين نظام الانتداب والمساعدات البريطانية التي يطلبها والده، فالانتداب بنظره هو مجرد تحديد للخطوط التي تمنح بموجبها مثل هذه المساعدات، وان موافقة عصبة الام على ذلك مسألة جوهرية لبريطانية. كي يكون بإمكانها منح هذه المساعدات بيد ان الحسين كما اضاف لندسي لم يطلب مساعدة بريطانية فحسب، وانما اشترط عدم تدخل أي قوة اخرى في شؤون مستقبل البلاد العربية، الامر الذي يضطر بريطانية الى الحصول على موافقة الحلفاء بشان مركزها الخاص في هذه البلاد وذلك يتم فقط بحصولها على موافقتهم على مواد الاتنداب . وقد عقب فيصل على حديث لندسي برغبه والده في ان يستشار بخصوص شروط الانتداب، لا بصفته عضوا في العصبة، ولكن بصفته المتكلم بأسم العرب والذي دخلت معه بريطانيا في اتفاق ـ بيد ان هذا التصور ـ كما ذهب لندسي ـ لا يمكن قبوله دون اقرار العرب انفسهم بهذه الزعامة، فلبريطانيا معاهدات مع الحكام العرب كانت قد عقدتها خلال الحرب، ولايمكن تعديلها الا بموافقتهم، فأعاد فيصل الى ذهن نظيره وعود بريطانيا لوالده بتشكيل المملكة العربية، ومع ذلك فهو في الوقت الذي لا يطالب بتعديل معاهدات بريطانيا مع الحكام المذكورين، فإنه يبدي ملاحظته عن تزعزع مركز بريطانيا في المنطقة حالة صدور تحفظات اخرى بشان المناطق الواقعة تحت الانتداب .
ولم يكتف (لندسي) باجتهاداته الرامية لاضعاف الوعود المقطوعة وتاويل الحقائق لصالح حكومته، واشار الى ان مكماهون لم يستخدم عبارة (الممكلة العربية) الا في جوابه على رسالة الحسين التي وافق فيها على احترام الاتفاقيات المعقودة بين بريطانيا وشيوخ العراق بل وبقية شيوخ العرب. واضاف ان وعد مكماهون الاصلي هو الاعتراف ومساعدة (استقلال العرب) ولا اعتراض لديها على ذلك اذا ما تمكن الحسين من الاتفاق مع الحكام العرب وضمهم الى الممكلة العربية، وعمل على وضع دستورها الموحد، الا انها على يقين من انعدام ملامح مثل هذا الهدف في المستقبل، اذ ان بعض هؤلاء الحكام كانوا في صراع حقيقي مع الحسين .
وكرر لندسي ما اعاده اسلافه (تللي) و (كورزن) في اعتباره عدم تصديق الحسين لمعاهدة فرساي، اساسا للمشكلة وعائقا في سبيل تفاهم الجانبين .
وقد اجتمع فيصل بالمستر لندسي مجددا في 31 آذار 1921- بدعوة من الاخير وبأوامر من (كورزن)، كان الهدف منها لفت نظر الامير قبيل مغادرته انكلترا، الى رغبة بريطانية في تجنب أي خطوة من شأنها إثارة المشاكل بينها وبين فرنسا، وخطوة اصطدامها مع حليفتها فرنسا . وقد ابدى فيصل قناعته بموقف بريطانيا من القضية السورية منذ السابق، كما اشار الى تعهده الذي قطعه لـ(كليمنصو) رئيس وزراء فرنسا في العام الماضي، للتفاهم بشأن سوريا، شريطة حصول العرب على الحكم الذاتي غير ان من اعقبوا كليمنصو لم يسعوا لتحقيق ذلك. ومع تاكيده على عدم تنازله عن اهداف امته مقابل مركز . يدر عليه موردا جيدا، فإنه استجاب لرغبة (لندسي) في بذل مساعيه لايقاف هجمات اتباعه ضد الفرنسيين في المناطق البريطانية، ومنع ما من شأنه خلق المشاكل بين الدولتين. وقد اعرب (لندسي) في امله في ثقة الحسين ببريطانية لما في ذلك مصلحة الجانبين ... وعلى اية حال ومع عدم تلبية بريطانيا لمطاليب الامير فيصل. فقد استقر رأيها كما اشرنا الى تنصيب الاخير ملكاعلى العراق، خصوصا وان ثورة العشرين في العراق والاضرار التي الحقتها بالسياسة البريطانية هناك، ما يبرر اهمية هذه الخطوة فأبلغت فيصل بذلك مبدئيا، لحين اقراره في مؤتمر القاهرة الذي عزمت على عقده في القاهرة في آذار سنة 1921. وقد تم ما اتفق عليه، واعلن في حينه فيصل ملكا على عرش العراق .
المعاهدة الحجازية ـ البريطانية:لقد حاولت الحكومة البريطانية فرض سيادتها على الحجاز عن طريق معاهدة، مرتين كانت الاولى سنة 1921، اما الثانية فكانت في سنة 1923، ولم يكتب لها النجاح في المحاولتين.
(أ) المحاولة الاولى:
كانت هذه كما نوهنا في سنة 1921، اذ حاولت الحكومة البريطانية بعد انقضاض مؤتمر القاهرة في تموز 1921 تحديد علاقاتها مع الحكومة الهاشمية ضمن السياسة التي اختطها المؤتمر الاخير في الشرق الاوسط من خلال معاهدة مع الحسين من شأنها اقناعه بالموافقة على سياستها في المنطقة بما فيها الاهداف الصهيونية في فلسطين . وقد تم اعداد مسودة المعاهدة المقترحة من قبل لجان ارتباط دوائر الشرق الاوسط التي عقدت في وزارة المستعمرات في 20 مايس الى جانب مسودة تصريح يقر فيه الحسين السياسة الانتدابية في المنطقة ، فيما حث كررزن الكولونيل لورنس لبذل مساعيه في اقناع الحسين والاتصال بتشرشل (وزير المستعمرات) حصولا على التعلميات خلال مفاوضاته مع الحسين .
وفي الوقت الذي غادر فيه لورنس لندن الى الحجاز في 9 تموز 1921، ارتأى المسؤولون الانكليز مفاتحة الحكومة الفرنسية بشأن مهمة لورنس واهدافها من المعاهدة المقترحة، حيث اوضحت المذكرة البريطانية ـ وكما اقر في البرلمان، ومنعا للخصومات بين حكام الجزيرة ـ عزم بريطانية في منحهم بعض الاعانات المالية، ولضمان فاعلية هذه السياسة اشركت الحسين فيها ( ولكن قبل منحه معونة فعلا فإن حكومة صاحب الجلالة ترغب في تأمين قبول الملك حسين موضوع إعلان (القيام) بشكل من اشكال التصريح العلني يعترف بموجبه بمبدأ الانتداب، وبخاصة وضع انتداب بريطانيا على فلسطين وما بين النهرين وفرنسا على سوريا، وان يوقع على اتفاقية مع حكومة صاحب الجلالة، ان هذه الاتفاقية وضعت بالدرجة الرئيسية لتسهيل التسوية السلمية للحدود وغيرها من النزاعات التي تؤثر على الحجاز. وتأمين مصالح الرعايا البريطانيين وبخاصة المسلمين الهنود، وتحقيق بعض التحسينات في المجالات الصحية والحج. واضافت المذكرة (ان الاتفاقية ستصاغ بعناية لتجنب أي مظهر للتدخل في المركز المستقل لممكلة الحجاز، ولن تمنح موادها أي مركز اقتصادي او سياسي متميز لحكومة صاحب الجلالة) واعربت المذكرة عن ثقتها بترحيب الحكومة الفرنسية بنجاح مثل هذه المفاوضات خدمة للمصالح المشتركة .
لم يكن الحسين واضحا مع لورنس لدى اجتماعهما في جدة بل كان متذبذبا في موقفه من المعاهدة وهذا ما تمادى به طيلة فترة المفاوضات، ووصفه لورنس بانه على جانب من الغرور والغباء رغم اخلاصه للمصالح البريطانية. والسبب كما يرجعه الاخير، يعود الى حاشية الملك التي تضم بعض المعادين لبريطانية . وقد عبر لورنس عن صعوبة المفاوضات مع الحسين واستمرار ذلك في المستقبل، بعد ان بلغت حدا من الشجار والغضب، وبالرغم من ذلك فقد استمر (لورنس) بالضغط على الملك لقبول المعاهدة مبدئيا في الحال ، الامر الذي دفع بالاخير لمصارحته في رفضه (بشكل مطلق أي فكرة حول عقد معاهدة،ولكنه توقع اعترافا بملوكيته على ما بين النهرين وفلسطين وترجيحه على جميع حكام الجزيرة الذين يجب حصرهم ضمن حدود ولاياتهم لما قبل الحرب، والتنازل عن عسير والحديدة). دون ان يستلين لمساعي لورنس، حتى ان نجله الامير زيد تطوع للاجتماع بلورنس وعرض عليه معاهدة تستند الى مسودة المعاهدة البريطانية للنظر فيها ، الا ان لورنس لم تثنه صلابه الحسين فهو بنظره ضعيف ومن الممكن استدراجه للمطاليب البريطانية رغم عدم جدوى المنطق معه، لما كان يراه في نفسه من الحكمة والكفاءة، فضلا عن نفاق حاشيته، كما كان من الصعوبة التشدد معه خشية غيظة وانزوائه في مكة . وقد اكد الحسين موقفه من جديد منكرا وجود أي فكرة لديه عن توقيع اتفاقية،وذلك في اجتماع آخر مع لورنس، عاد بعدها وبعد جو من التذمرـ وطرح مسودة معاهدة بديلة وصفها لورنس.... بالثرثرة، رغم قناعته بمواصلة المفاوضات وبأن (الحاجة الاساسية ـ بنظره ـ ليست في ضمان توقيعه قدر ما هي ان تنهي قناعته بأننا معتمدين عليه لضمان مكانتنا في الشرق وبأننا سندفع أي ثمن ونمضغ أي اغاظة للابقاء على صداقته) واعرب لورنس عن اعتقاده في تجاوب الحسين في المرة القادمة . وقد صح توقعه ولكن بحدود، اذ ابدى الحسين ـ بعد استئناف المفاوضات ـ موافقته على معظم مواد المعاهدة، الا انه عاد بطلبه في حذف المادتين 3.1 المتعلقة بحدود الحجاز مع تعديل بسيط في المادة 14 المتعلقة بتنسيق قضايا المحاكمات بين الجانبين، في حين رفض المادة 15 الخاصة بقضية الانتداب ، واقترح بدلها الاعتراف بالرعاية البريطانية او النصح او المعونة او اي كلمة سوى الانتداب. كما اقترح تمديد فترة ثابتة للمعاهدة كأن تكون (3 سنوات) قبل تجديدها بما في ذلك اقراره لأفضلية مصالح الرعايا البريطانيين في جميع الامتيازات الممنوحة في الحجاز. وازاء التقدم الذي طرأ على موقف الحسين، تكرم لورنس للاخير في نهاية الاجتماع بقرض قدره (80الف ) روبية للعوز المالي الذي كان يعانيه، في الوقت الذي واصل مفاوضاته مع الامير زيد الذي ناب عن والده في المفاوضات للتوصل الى ما يمكن تسويته بشان المواد العالقة رغم ترجيحه ـ كما اشار لحكومته ـ في الاحتفاظ بما لديه من نفوذ لدى الملك لمناقشة التصديق على معاهدة فرساي .
وقد تشاور ( لورنس ) مع وزير خارجيته (كورزن ) بشأن سير المفاوضات، وابدى الاخير ارتياحه لتقدمها نحو الافضل ومع اقراره بصرف الاعانة، الا انه ذكرلورنس بـ (20) الف جنيه كانت قد اقرضتها وزارة المستعمرات كدفعات للامير فيصل. اما بشان، مواد المعاهدة فقد وافق على حذف المادتين (3.1) لتعويض المادة (4) عنهما، كما اشار عليه ببعض الاقتراحات بشان المادة (14) والصيغة التي يمكن الاتفاق عليها بخصوص الامور القضائية اما بالنسبة للمادة (15) كنقطة بارزة في المباحثات فقد اقترح لها كررزن الصيغة التالية:
(ان صاحب الجلالة الملك حسين يقر هنا المركز الخاص لصاحب الجلالة البريطاني فيما يتعلق ببلاد ما بين النهرين وفلسطين وبما يتوافق مع ميثاق عصبة الامم وتعهد بأنه في مثل هذه الامور التي تتعلق بهذه البلدان والتي تدخل ضمن نفوذه فسيبذل كل ما بوسعه لمساعدة صاحب الجلالة البريطاني ) وسيبقى او يلغي (كورزن) الفقرة الثانية من المادة (15) الحالية حسب رغبة الحسين . واضاف (كورزن) مادة جديدة للمعاهدة تنص على اعتبار المعاهدة في حيز التطبيق من تاريخ توقيعها، وستبقى نافذة مدة سبع سنوات وعند عدم ابلاغ أي من الطرفين الطرف الآخر قبل ستة اشهر من انتهاء فترة السبع سنوات، بنيته لانهاء المعاهدة، فستبقى نافذة ستة اشهر بعد ابلاغ أي من الطرفين الطرف الآخر بإنهائها. .
غير ان الاقتراح الاخير بشان المادة (15) لم يحظ بقناعة لورنس واشار الى غموض عبارة (المركز الخاص بموجب ميثاق عصبة الامم) اذ يمكن تفسير المادة (15) طبقا للميثاق الا انه لا يمكن اسنادها عليه، ومن هنا فهو يقترح مسح الاشارة الى العصبة او استبدال عبارة (النصح والمساعدة) من الميثاق دون ذكر المصدر. فيما اعتذر لورنس عن الحصول على تصريح في اقرار الوجود الفرنسي في سوريا في الظرف الحالي للعلاقة المتردية بين الطرفين فضلا عن ترجيحه اهمية ضمان الحصول على المعاهدة الموقعة قبل ادخال الاقتراح الاخير . ومع موافقة (كورزن) على اقتراحات الكولونيل (لورنس) فقد حثه في الحصول على تصديق الحسين على معاهدة فرساي حالة رفضه لاقرار الوضع الفرنسي في سوريا كي يمكن تقديمها كاعتراف بمبدأ الانتداب الفرنسي في سوريا، على ان يبقى التوقيع على المعاهدة مهمته الاساسية حتى وان رفض الحسين النقاط المدرجة اعلاه .
لكن مشاورات (كورزن) ـ لورنس لم تضع في الحسبان تذبذب الحسين في مواقفه واحتمال إلغائها، خصوصاً وانه اخذ يشك في النوايا البريطانية ، لذا فهو يطرح على لورنس بعد عودته من عدن في 6 ايلول، مطالب جديدة:
(أ) عودة كافة دول الجزيرة الى حدود ما قبل الحرب عدا مملكته.
(ب) تسليم كافة المناطق التي ستنجم عن ذلك اليه.
(ج) حقه في تعيين القضاة والمفتيين في الجزيرة والعراق وفلسطين.
(د) الاعتراف بسيادته على كافة الحكام العرب اينما كانوا .
(هـ) اما القضية السورية فاشار الى امكانية بحثها مع فرنسا على حدة .
ارجو محاولة منه لتنفيذ هذه المطاليب، بالاستقالة والانتحار لكن لورنس ونكاية بالملك اجابه بإمكانية استئنافها مع خلفه، فيما اتخذ الامير علي موقف متشددا من والده وشكل لجنة منه ومن اخيه زيد والجنرال حداد وفؤاد الخطيب للتفاوض مع لورنس، الامر الذي كان باعثا لاستحسان الاخير وارتياحه لاستغلال الفرصة، في الوقت الذي اخذ فيه الحسين يفقد الكثير من وقته امام ضغط عائلته للتراجع عن عناده، ولعل ذلك ما يفسر تفاؤل لورنس، وتوقعه الحصول على المعاهدة خلال يومين اوثلاثة .
وفي الاجتماع الذي تم بين علي ولورنس في 7 ايلول تناول الجانبان مجمل اوضاع الشرق العربي، كان في بدايتها العلاقات مع نجد، حيث اكد الامير علي تبعية بعض المناطق الكائنة في الحدود كرانية والخرمة وتربة وبيشة للحكومة الحجازية وردا على نظيره وافق لورنس على عرض الموضوع على وزارتي الخارجية والمستعمرات وارسال هذه الحجج الى عبد العزيز بن سعود للتحقق من وجهة نظره، ووعد بإلحاق هذه المناطق بالحجاز، حالة تسليم عبد العزيز بن سعود بها، وخلاف ذلك فإن الحكومة البريطانية ستبلغ رد الاخير للحسين لإبداء رأيه اما بالنسبة لعلاقة الحجاز باليمن فقد وافق الايمر علي على تحديد حدود القطرين اذا ما نفذت طلبات الحجاز بشأن الحدود مع نجد وبالنسبة لعسير فقد اوضح لورنس من جانبه عغدم اعتراف حكومته بأي سيادة في عسير وعدم ارتباطها مع الادريسي بهذا الصدد الا في مادة واحدة ضمن معاهدتها معه، اقرته فيها بسيادته على الارض التي اتسولى عليها من الاتراك اثناء الحرب، وهذا ما سيوفر للحكومة الهاشمية مد نفوذها جنوبا بالطرق السلمية كما اعرب عن ذلك الامير علي، ولم يول الاخير اهتمامه بعدن والمناطق الواقعة عبر البحر العربي حتى اعلى الخلج العربي نظرا لارتباطها بمعاهدات رسمية مع بريطانيا تضمن فيها استقلالها . وبشأن العلاقات الودية بين الحجاز وحايل كما يبنها علي هذه الآونة، أشار عليه لورنس بضرورة إبالغ الحكومة الحجازية باقي الدول، اذا ما كان من اعتراف او اتافق رسمي بين الجانبين .
وعند الحديث عن قضية فلسطين برر لورنس تأجيل بحثها لحين ضهور نتيجة المباحثات التي يجريها الوفد الفلسطيني مع الحكومة البريطانية والتي شتكون نجاح مفاوضاته مبررا لالقاء مسؤولية القضية عن كاهل الحسين. ومع موافقته لذلك اضاف علي، استئناف والده الدفاع عنها حالة فشل مفاوضات الوفد المذكور، استجابة لطلب سكان البلاد منه المساعدة، فمبدأ والدهـ كما ذهب ـ تأييد رغبة الاهالي بصرف النظر عن الاشخاص .
وفيما يتعلق بالوحدة العربية تتظاهر لورنس بترحيبه وترحيب حكومته بمثل هذه الخطوة على ان تعتمد في اساسها على رغائب السكان .
امام بشأن مواد المعاهدة فقد ادخل الامير عليها بعض التعديلات البسيطة . فضلا عن موافقته التي ابداها للتصديق على معاهدة فرساي ، ومع هذه الخطوات فإن الاجتماع الاخير لم يسفر الى ما فيه توقيع المعاهدة، ومن هنا يأتي اقتراح لورنس بالضغط على الحسين باللجوء الى طبيعته الحسنة وذلك بإيقاف المعونة وحصار مينائه او ترجيح ابن سعود عليه
ومع ان الحسين قد صادق على معاهدة (فرساي) الا انه ابطلها بشرطه الذي ارفق مع المعاهدة والذي ازعج المسؤولين الانكليز، ذلك هو (احترام استقلال العرب المعروفين) دون علم الجانب البريطاني . مما اغاض اللورد كررزن الذي نصح لورنس بتجاهل هذا الشرط بحجة جهل الحسين بالقضايا القانونية. اذ ان الحكومة الفرنسية التي تحاول الحصول على مصادقة الحسين كأعتراف بمركزها في سوريا سوف ترفض بالتأكيد أي تعديلات بسسب تحفظاته، واوصى بالسعي لاقناع الحسين بسحب شرطه اذا سنح الوقت .
والظاهر ان الحكومة البريطانية ولانزعاجها من عدم وضوح الحسين. فضلا عن مشاغلها الاخرى في المنطقة، اخذت تقلل من اهمية المفاوضات، ورجحت تفرغ لورنس للتشاور مع هربرت صموئيل بشان مستقبل السياسة في شرق الاردن، وانابت المعتمد البريطاني في جدة لمواصلة المفاوضات ، في الوقت الذي لم يعزف فيه الحسين عن مماطلته السابقة اذ وعد مجددا بتوقيعه على كل جملة في المعاهدة، لكنه حين تقدم ايه نجله الامير علي لتوقيعها صرخ بوجهه والقاها عليه، ارسل بعدها بثماني مواد متناقضة اضافة الى شروط مرفوضة بالاجمال. وقد قاد تماديه هذا الى تأليب انجاله ضده فاتهمه علي بالجنون وشرع مع زيد في العمل على اقالته (ان عليا وزيدا ـ كما ذهب لورنس ـ يتصرفان بطريقة مدهشة وقد يغيران الاشياء في الاسابيع القليلة ) . فكان الابناء في قناعة من موقفهم المتجاوب مع الاهداف البريطانية، وبذلك فإن استقالة الحسين كانت تعني التوقيع على المعاهدة من قبل خلفه، وهذا ما رغب لورنس في تحقيقه بوساطة المعتمد البريطاني (مارشال) الذي خلفه في المفاوضات، دون أن يتغافل ـ وهو في طريقه الى عمان ـ عن معاقبة الحسين واجراح وضعه المالي حين عمد الى استرجاع مبلغ الـ ( 80000) روبية * التي اقرضها للحسين كما تقدم ، خصوصا وان الاخير كان بأمس الحاجة للمال بعد ان اخذت خزينته تعاني من العجز اكثر من السابق، حيث ازدادت مدفوعاته على وارداته بمبلغ قدره ( 70000) باوند*. مما دفعه لادخال ضرائب جديدة لمواجهة العجز المتوقع في السنة المقبلة . ومن الطبيعي ان يمعن المسؤولون الانكليز في تعاملهم مع الحسين على هذا الضوء قد صارح مارشال الامير علي ان حكومته لن تتخذ أي خطوة بشان منح الاعانات المالية ما لم يوقع والده المعاهدة ولم يتردد على بدوره للكشف عن الضائقة المالية التي يعانيها والده واضطراره للتوقعيع على المعاهدة، ولعل هذا ما يفسر استفسار مارشال من حكومته بتخويله وعد الحسين بمعونة خمسة اشهر حالة توقيعه على المعاهدة .
ولا بد من الاشارة الى ان المناورات التي اتبعت مع الحسين لم تقتصر على المسؤولين الانكليز وانما شملت عائلة الحسين نفسه، فقد مر بنا موقف كل من الاميرين على وزيد، كما ابدى الامير عبد الله في رسالة لوالده موقفا متشددا لحثه على توقيع المعاهدة ، ولعبت زوجة الحسين دورا مماثلا ، فيما كان الرأي العام في جدة كما ذهب مارشال، مناهضا له ، فاضطرب موقف الملك ولم تسعفه تهديداته بالاستقالة حيث كانت تجاب بما يفاقم غضبه. فمع اسف المعتمد البريطاني لعزم الحسين في الاستقالة الا انه امر خاص بالحسين وشعبه ولا دخل لبريطانيا فيه .
وفي ضوء المساعي الرامية لاقناع الحسين عمدت الحكومة البريطانية الى اساليب اخرى لتحقيق غايتها. حينما سعت الى ترتيب زيارة متبادلة بين امير ولاية ويلز ولي العهد البريطاني والملك حسين شريطة توقيع الاخير على المعاهدة خلال اجراء الترتيبات لهذه الزيارة، غير ان المبادرات باءت بالفشل رغم تفاؤل الاطراف المعنية بها، اذ واجه الحسين المعتمد البريطاني ـ وبعد المباحثات التي تمت بين الاخير وحداد باشا نيابة عن الملك ـ بنسخة خاصة به من المعاهدة البريطانية المقترحة حذف منها المادتين 2و5* ـ المتعلقتان بحدود الحجاز بكل من نجد وعسير ـ فضلا عن تعديلاته الاخرى لبعض المواد. فتفشل المساعي مرة اخرى، وتنتفي معها فكرة الزيارة المقترحة لأمير ويلز .
كان الحسين يحاول الحصول على اكبر مقدار من النجاح في مفاوضاته، الا انه ـ وبحكم موقفه القلق ـ يفتقر الى القدرة على مواجهة التهديدات البريطانية بإيقاف المفاوضات، ومن هنا فهو يعرب لنجله عبد الله عن عزمه في ارسال المعاهدة الى عمان لتوقيعها ، آملا في تسوية خلافاته عن طريق نجله الامير، فيما راح ـ وحفاظا على استمرارية المفاوضات واعاد لعبته من جديد مع مارشال بتوقيعه المعاهدة دون اعتراض، الا انه يعرض نسخته السابقة التي سبق ان رفضها مارشال ، في نفس الوقت الذي يعرب فيه الى (لويد جورج) عن غبطته لزيارة امير ويلز للحجاز واستعداده ـ وعلى شرف الامير المذكور ـ التوقيع على المعاهدة وارسالها للمعتمد البريطاني تاركا مناقشة مطالبة لحسن نية ( لويد جورج ) ومشاعره، الا انه يعيد تأكيده على حذف المادتين 2و5 ويعرب عن عدم ارتياحه لتردد مارشال في قبولها الامر الذي يوحي له ـ كما ذهب الحسين ـ بوجود بعض النوايا الخفية تجاهه من قبل الجهات البريطانية، مما لا يدع لديه ضرورة مواصلة المفاوضات ومع ذلك فهو لاينوي عرقلة السياسة البريطانية، فما زال المخلص، وله الثقة من انجاز ما عليه من التزامات .
لقد نبه مارشال الملك حسين عن نتائج موقفه، كإلغاء فكرة الزيارة المتبادلة بينه وبين امير ويلز، والاهم من ذلك حرمانه من أي اعانة، رغم ان الاجراء الاخير يتوقف على التقرير الذي سيرفعه لورنس لحكومته ، واستكثر المسؤولون الانكليز ـ كما يبدو عن طريق عبد الله ـ رسالة الحسين الاخيرة للويد جورج بشأن اقتراحه القاضي بإلغاء المادتين 2و5 وطلب الاعتذار عنها. كما طلب عبد الله في رسالته هذه تخويله السلطة الكاملة لاستئناف كافة المفاوضات المقبلة، وهذا ما يريح الجهات البريطانية لاعتقادها بضمان عبد الله لاتمام المعاهدة . وقد استجاب الحسين لهذا الطلب خصوصا وانه ابدى مثل هذه الرغبة مسبقا كما تقدم، فاعتذر للحكومة البريطانية عن رسالته السابقة للويد جورج، ورغبته في فتح المفاوضات بواسطة عبد الله . وخول الاخير ـ بناء على طلب الحكومة البريطانية ـ بإجراء المفاوضات الا انه اشترط التمسك بقراراته (بقصد رسائله مع مكماهون) ، وبعث برفقة هذا التخويل نسخته من المعاهدة، تضمنت ملاحظاته السابقة التي حذف فيها المادتان 2و5 اللتان تتضمنها المسودة البريطانية، ثم اصراره في إلغاء الامتيازات البريطانية في البلاط الهاشمي، وتقليص حدود الادريسي وابن سعود الى ما كانا عليه قبل الحرب، وتحديد المراكز المتميزة للرعايا البريطانيين في الحجاز، بالاضافة الى صلاحيته في منح جوازات السفر لأفراد مختلف البلاد العربية .
سعى الجانبان عبد الله ـ لورنس، الى تذليل ما يعيق إقرار المعاهدة واجريا عليها بعض التعديلات، حيث تم الاتفاق على صيغة جديدة للمادتين 2و5 محور الخلاف الحالي وكانت كالاتي (ان صاحب الجلالة الملك حسين يتعهد ببذل كل ما في وسعه لتشجيع استمرار السلام والعلاقات الودية بينه وبين جيرانه المرتبطين بمعاهدات مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية وسيحرم في منطقته وكل المناطق التي له نفوذ عليها، كل ما يضر مصالح هذه الدول ماديا ومعنويا او مصالح حكامها.
ان الحكومة البريطانية السامية تتعهد ببذل جهودها الطيبة عندما يكون ذلك مرغوبا في تشجيع ومساعدة حل أي نزاع قد يثار حول أي نقطة بين صاحب الجلالة الحسين واي واحد من جيرانه من المرتبطين بمعاهدات مع الحكومة البريطانية) .
اما التعديل الثاني فيتمثل باقتراح لورنس في شطر المادة (4) الى قسمين ينتهي القسم الاول عند الفقرة الاولى من المادة، فيما تكون الفقرة الثانية مادة جديدة تضاف اليها الفقرة التالية (ويتعهد لاقامة علاقات مع اولئك الحكام بالطريقة الودية التي سادتها قبل الثورة في الجزيرة واحترام كافة المواثيق السابقة والحدود التي اتفق عليها بينه وبينهم على شرط ان لا يكون في هذه المواثيق والحدود شيء مناقض لجوهر المعاهدات المشار اليها في المادة 4) .
وافقت وزارة الخارجية البريطانية على مقتراحات لورنس التي اتفق عليها مع عبد الله مع بعض التعديلات البسيطة . اما بالنسبة للامير عبد الله فمع اعترافه بعدم اهمية توقعيه دون مصادقة والده، فإنه اقسم بمصادقة والده على توقيعه هو (عبد الله)، لكن لورنس كان في شك من ذلك وقد صدق ظنه، فلم يكترث الحسين بالتعديلات واعتبارها امرا تافها ، بعد ان تسلمها منهما بنصيها العربي والانكليزي إثر عليها في 9 كانون الاول 1921 ومع ذلك فإن الحسين لم يكن بتلك القوة في اتخاذ مثل هذه الخطوة وطلب من الحكومة البريطانية تأجيل قرارها النهائي بشان المعاهدات والموافقة على قدوم نجله عبد الله الى لندن بما سينقله من وجهات نظر جديدة ضمنها الرسالة المقرر حملها معه . واكد طلبه هذا في رسالة وجهها لرئيس وزراء بريطانيا بتاريخ 28 كانون الاول 1921 ، واعقبها بعد يومين برسالة مطولة الى الجهة ذاتها، اشتكى فيها ـ بعد تأكيده على قدوم عبد الله الى لندن ـ من تجاهل الحكومة البريطانية له في قطعها للاعانات المالية وتحويلها لابن سعود، وتساهلها مع تجاوزاته ضد الحجاز، واتهم لورنس في محاولته توسيع حدود نجد على حساب الاراضي الحجازية رغم كونها اساس الخلافات، وذهب الحسين في الكشف عن ضيقه الاقتصادي، عندما اخذ يطالب بإعادة بعض الواردات المالية الى جيبه والمتمثلة في امانات الحجرة النبوية في المدينة التي استولى عليها الاتراك، واعادة املاك سكة حديد الحجاز التي استولى عليها الفرنسيون بعد احتلالهم الشام، ثم اموال الاوقاف على مصر والاستانة وبلاد الشام والعراق. ولم ينس الحسين توجيه انظاره الى املاك الادريس، خصوصا وان الاخير اعلن عن موافقته في تعيين الحسين للقضاة في وحدات بلاده الادارية (وكل هذا يثبت يا جناب الوزير الافخم اني اصبحت ربان سفينة كلفوه بسيرها بعد سلبه آلاتها الفنية). وناشد الحسين حلفاءه معالجة القضايا المشتركة في ضوء مراسلاته مع مكماهون، مؤكدا تجرده عن المطامع الشخصية .
لكن زيارة عبد الله التي اقترحها الحسين على الحكومة البريطانية في رسائله الاخيرة، دون التصديق على المعاهدة ـ كما اعتقد المسؤولون الانكليز ـ سيشجع الحسين في ضمان تعديلها، لذا جاءت اجابة وزارة الخارجية، على اقتراح الحسين جدية برفضها لأي تعديل في المعاهدة، واذا كانت لدى الحسين نقاط للتشاور فيها بالامكان اجراؤها بعد زيارة عبد الله المقترحة .
وردا على ذلك هدد الحسين بالاستقالة حالة عدم استلامه أي اجابة كانت حتى نهاية الشهر الحالي (كانون الثاني 1922)، بشأن زيارة نجله الى لندن , واعقب ذلك برسالة مطولة في 30/1/1922 للمعتمد ضمنها شكواه من الموقف البريطاني الاخير، اما بشأن المعاهدة فقد تعهد بموافقته عليها اذا ما الغيت المادتين 5.2. المتعلقتين بحدوده مع كل من الادريسي وابن سعود، وذلك بإرجاع حدودهما الى ما كانت عليه قبل الحرب، ويتعهد هو بالحفاظ على حقوقهما بحياته واملاكه.... واوضح انه سيضطر الى معالجة الامر بما تقتضيه حسياته، حالة عدم تسلمه اجابة الحكومة البريطانية، سواء بنعم او لا بشأن زيارة نجله المقترحة .
ولم يكتف الحسين برسائله المتعددة، وراح محاولا إبطال شرعية المادتين 4و5 من المعاهدة المقترحة * ذات العلاقة بقضية الحدود مع ابن سعود والادريسي، والتي امست ابرز المسببات وراء رفض الحسين للمعاهدة. اذ نفى وجود أي اتفاق قائم ـ كما جاء في هذه المواد ـ بينه وبين الحاكمين المذكورين بشأن الحدود وهذا ما يحتم اسقاط المادة ذات العلاقة ـ واضاف الحسين الى ذلك، انتقاده للحكومة البريطانية بعقدها المعاهدات مع الحكام العرب ، دون ابلاغه بصورة رسمية او شخصية، الامر الذي يتنافى ـ بقوله ـ مع الشهادة والشرف البريطاني فهل هناك ـ تساءل الحسين ـ ما يبرر توقعيه على مواد تستند الى اساس غير موجود ؟ وهل في ذلك ما يغضب بريطانيا ويدفعها لرفض زيارة نجله عبد الله ؟.
وينتهي الحسين الى حقيقة تكاد تكون مهمة في إلقاء الضوء اكثر من السابق عن السبب الذي يكمن وراء رفضه التصديق على المعاهدة ـ كما سنوضحه ـ وذلك بقوله: (والحالة ان باقي مواد المعاهدة اذا استثنينا المواد المتعلقة بالحضرة السعودية والادريسية جارية ومعتبرة بمادتها ومعناها في الماضي والحال والاستقبال دون عهد او شرط يتعين هذا بمراجعة المواد المطلوب المحافظة عليها في المعاهدة وهذا من طبيعة حقوقنا وما تلزمنا به واجبان الوفاء). وهو بذلك لايسعى لعرقلة مساعي السياسة البريطانية كما لايحمل أي غرض كان تجاه الحاكمين المذكورين . واعقب الرسالة السابقة بشأن الحكام العرب، والنتائج السيئة المترتبة على عقد الحكومة البريطانية لاتفاقياتها مع الحكام المجاورين، وهو لايهدف من نصيحته الى اطماع شخصية، وانما حفظا على هيبة بريطانيا. ولم يخف الحسين عن جورج امتعاضه من مواقف حكومته الاخيرة، وبأنها اخذت تلعب دور فرنسا في تخليها عن التزاماتها وهذا ما اتضح لديه من خلال رفضها لزيارة نجله عبد الله .
ان دلائل معاناة الحسين من جفوة المواقف البريطانية، سبق لها ان ظهرت منذ بداية شباط 1922 واخذت تنعكس على مواقفه في جريدته الرسمية (القبلة)، حينما شرعت في نشر بعض المراسلات الرسمية والسرية منها الجارية بينه وبين القنصلية البريطانية، وتعليقها اللاذع الذي رمت به بريطانيا بالعمل على عرقلة وحدة الجزيرة العربية، وتشجيعها لابن سعود في تحقيق هدفها هذا وتعبيرا عن هذه المعاناة ووضعه الصعب الناتج عن الاوضاع الاقتصادية المتردية ـ كما تلمسها المسؤولون الانكليز هناك ـ استأنف الحسين تهديداته السابقة بالاستقالة بل وحدد 27 شباط 1922 كآخر موععد لذلك. ولعل في احتفاظ الحسين ـ اعتقادا منه ـ بأهميته لدى بريطانيا وصعوبة استغنائها عنه، ما كان يدفعه ايضا لهذه الخطوة، والوقع ان الجهات البريطانية لم تبخل في إقرار هذا التصور طالما لايعدو اكثر من كونه ارضاء طموحات الحسين، ولكن دون ان يصحب ذلك أي إسعاف مادي من قبلهم ، وامعانا في اذلاله لشروطها. وسيان لديها ـ في هذه الفترة ـ من يوقع على المعاهدة، سواءا أكان الحسين، ام خلفه، بل أبدوا ارتياحهم لعزم الحسين على الاستقالة ولم يتردد بعضهم في تسهيل مهمة رحيله عن الحجاز اذا ما اراد ذلك بعد استقالته من الحكم . وصارحت الحكومة الحسين بما خيب آماله. فمع اعترافها بولائه وعلاقته الودية طوال سنوات حكمه واسفها لعزمه الاستقالة، فإنها ترى ذلك قضية على الحسين معالجتها مع شعبه ، فيما ابلغت (بريطانيا) معتمدها في جدة سريا برغبتها في تولي الامير علي الحكم، وضرورة التأكيد على مشاعرها الودية له في حالة تسلمه عرش المملكة .
لكن الموقف الاخير لم يكن يمنع الحكومة البريطانية من الاحتفاظ بسياستها. المبدئية في تحقيق اقصى ما يمكن تحقيقه من خلال الحسين او غيره كما اشرنا شريطة اقتدائه بنصائحها وتجاهل خصوماته الجانبية مع الحكام المجاورين، تحقيقا للاهداف المشتركة على حد ادعائها الذي دعمته بمشاعر الود التي تكنه للعرب. وما المعاهدة المقترحة ـ بنظرها ـ الا تأكيد على ذلك رغم رفض الحسين لها بحجة استنادها الى اسس غير موجود. ومع ذلك فإن التصريح الاخير لم يغفل تأكيد تجاهل الحكومة البريطانية ـ نكاية بالحسين ـ لقضية الاستقالة باعتبارها قضية داخلية إمعانا في كسر عناده.
ظلت الخلافات بشأن المعاهدة عالقة بين الطرفين، وكما اشرنا كان للعلاقات مع ابن سعود اثرها في ذلك، فأخذ الحسين يعرب بما ينم عن فقدانه الثقة بنوايا بريطانية وسعيها الايقاع به تحت رحمة ابن سعود ، كما يتضح من خلال الانتقاد الذي وجهه وزير خارجية الحجاز حول التضارب الموجود بين المعاهدة المعقودة مع ابن سعود والمعاهدة المقترحة مع الحسين , وقد اعرب المعتمد البريطاني عن اسفه للتصورات الاخيرة (فإذا كان جلالته "الحسين" يعتقد بان بريطانيا تنصب فخا له لتسليمه لابن سعود ـ لاسمح الاله بذلك ـ الامر الذي يفهم في كونها سببا في عدم المصادقة على المعاهدة. فإن كلتا المعاهدتين قد صيغت من قبل شعبين مختلفين في بلدين منفصلين. وانا ارجو تطمين جلالته بأن اختلاف صيغتهما لايعني وجود نوايا شريرة ضده) الا ان الحسين احتفظ بموقفه المنتقد لوجود المعاهدات القائمة بين بريطانيا والحكام المجاورين، كما استمر في تاكيده على تعديل مواد المعاهدة السالفة الذكر المتعلقة بقضية الحدود مع نجد وعسير، ومجردا نفسه من الاطماع الشخصية، بان اعلن استعداده لترك البلاد والتنازل لابن سعود. لكنه اندفع بعدها ـ ولإحساسه بإفلاس نداءاته ـ بمناشدة المعتمد البريطاني في بذل مساعيه في تسوية الامور متعهدا بحفظ كافة حقوق ابن سعود ...
انتهت مباحثات معاهدة 1921 بالفشل، واذا كنا قد بسطنا الاسباب التي حالت دون توقيع الحسين على المعاهدة، فإن هذه الاسباب والتي عكست موقف الحسين تقودنا ـ وتثبتا من موقف الحسين ـ حيال قضية فلسطين كأساس في فشل المعاهدة كما ذهب البعض ـ الى التزام الدقة في ذلك. فمن خلال تتبعنا لوثائق وزارة الخارجية البريطانية وبالاحرى الملف ( 686/74) المكرس بكامله تقريبا للاتصالات المتعلقة بمعاهدة 1921، نجد ان الرأي الاخير يتضمن شيئا من التعميم في تشخيص مسببات فشل المعاهدة. واذا كانت هناك من صعوبة في تحديد هذه المسببات من خلال تتبع خطوات المفاوضات المتقدم ذكرها، فإن المذكرة البريطانية المؤرخة في 28 تشرين الاول 1921. ولكونها تقريرا عن مجمل نتائج مباحثات المعاهدة حتى التاريخ الاخير تغنينا عن ذلك التتبع، اما ما يعقب هذا التاريخ فالوثائق التي تليه فيها من الكفاية في الكشف عما نحن في صدده.
جاء في المذكرة (ان لورنس فشل في اقناع الحسين في اصدار أي تصريح فيما يخص الانتداب الفرنسي في سوريا بسبب الموقف الموحد للصحافة السورية ضده وضد ابنائه رغم ان الملك حسين قد وافق في احد المرات ان يدخل في مسودة المعاهدة اعترافا بالمركز الخاص لبريطانيا في فلسطين وما بين النهرين. وعلى اية حال فقد نجح لورنس بعد جهد كبير في اقناع الحسين بتوقيع معاهدة فرساي والتي تتضمن اعترافا ـ ولو بصورة غير مباشرة ـ بالانتداب الفرنسي والبريطاني في سوريا وفلسطين وما بين النهرين) ولسوء الحظ فقد تبين فيما بعد، دون علم الكولونيل لورنس، ان الملك حسين قد ارفق مصادقته على معاهدة فرساي بشرط يتعلق باستقلال العرب .
لكن المادة (15) من المعاهدة المتعلقة بالانتداب البريطاني على ـ العراق ـ فلسطين اضافة الى الانتداب الفرنسي اخذت تحتل دورا ثانويا بعد هذا التاريخ كمسببات لرفض الحسين التوقيع على المعاهدة، واخذت المواد (5.4.2) بشأن علاقة الحجاز بنجد وعسير تحتل الدور البارز في هذه المفاوضات وهذا ما تعرضنا له تفصيلا في الصفحات السابقة. بل ان الحسين كما تقدم تعهد بتوقيع المعاهدة بكامل موادها عدا المواد السالفة الذكر التي طالب بتعديلها لصالحه .
ومن هنا يبدو ان المادة (15) بما فيها الفلسطينية ـ تعقيبا على الرأى السابق ـ وان كان عائقا في طريق اتمام المعاهدة، فإن فاعليتها تكاد تبدو اقل من السابق، بعد تاريخ 28 تشرين الاول 1921سالف الذكر قياسا للمسببات الاخرى، علما ان الملف ( F.O. 686/74) الذي بحوزتنا والحاوي على ما يقارب الـ 450 ورقة يكاد يغطي فترة المباحثات واتصالاتها بأيامها تقريبا.
وعلى اية حال ـ وبغض النظر ـ عن الملاحظات الاخيرة فإن الحسين رفض المعاهدة كليا وقد اكدت القبلة هذا الموقف بقولها (ان الحسين بن علي لم يتوقف عن امضاء المعاهدة... فقط بل رفض قبلها فرساي ايضا لاسقاطها الحقوق المعترف بها لبلاده وابناء اقوامه وعداه، فبولائكم... ووفائكم يعز علينا بحثكم في تردده عن امضاء العهد المذكور وعهودكم المعلومة له ضربتم بها عروض الحيطان...) .
واتماما للظروف التي احاطت بالموقف الذي اتخذه الحسين من مشروع معاهدة 1921، فإن الحقيقة تقتضي الاشارة الى المعارضة الفلسطينية التي كان لها اثرها ايضا في موقف الحسين، بصرف النظر عن المقاومة التي اعلنوها في بلادهم في اعقاب وعد بلفور. فكانت لهم اتصالاتهم بالملك حسين ، واحتجاجاتهم التي كانوا يوجهوها للاخير او لغيره من الحكام الآخرين ، بصدد الوضع في فلسطين وهذا ما يمكن ملاحظته اكثر وضوحا عند الحديث عن مشروع معاهدة 1923 (المحاولة الثانية).
(ب) المحاولة الثانية:
وكانت هذه سنة 1923، حين دارت المباحثات فيها بين ناجي الاصيل واللورد كررزن وذلك على اثر محاولة الحلفاء التوصل الى تسوية مع الاتراك في اجتماعات مؤتمر (لوزان) التي بدات منذ تشرين الثاني 1922. فقد حاول الحسين استغلال هذه المناسبة واسماع صوته في المؤتمر، والتفاوض مع بريطانيا لما يمكن التوصل اليه، وأبلغ وزارة خارجيتها يطلب الاشتراك في المؤتمر . بيد ان تجاهل بريطانيا لطلبه دفعه للمشاركة دون ان توجه له دعوة رسمية، وانتدب الدكتور ناجي الاصيل ممثلا عنه في المؤتمر . فترك الاخير مكة حاملا معه معاهدة (عبد الله ـ لورنس) سابقة الذكر مع بعض التعديلات التي لم يكشف عنها في حينه .
سلم الاصيل ـ لدى وصوله لوزان في 14 كانون الاول 1922 ـ اللورد كررزن مذكرة من الملك حسين كرر فيها مطاليبه المعتادة في تنفيذ الوعود المقطوعة للعرب ، وعقد معه عدة اجتماعات تمخضت عن اتفاق مبدأي بين الطرفين بشأن مشروع معاهدة جديدة تنظم علاقة الدولتين . وقد وقعها كررزن في منتصف نيسان 1923 بالحروف الاولى، فعاد بها الاصيل الى الحجاز لاطلاع سيده عليها .
لقد ابدى المسؤولون الحجازيون ـ ومن بينهم الحسين ـ تفاؤلهم بالمعاهدة الجديدة ، واعلن الاخير بما اعتقده، بأستجابة بريطانيا للمطاليب العربية واستقلال العرب، وراح رئيس ديوانه واكد ذلك في بيان اذاعه بين حشود الحاضرين ممن جاءوا لتهنئة الملك بمناسبة عيد الفطر ... لكن هذا التفاؤل لم يكن سوى ضرب من التسرع والتقديرات المضطربة سرعان ما تلافاه الملك وحكومته، بسبب صرخات المعارضة التي اطلقها الفلسطينيون ضد المعاهدة الجديدة (المادة الثانية منها بالذات). اذ رفضت اللجنة التقليدية الفلسطينية في اجتماعها المنعقد في يافا في 19 حزيران 1923، ماجاء في المعاهدة الاخيرة بشأن فلسطين . وعبر المؤتمر العربي الفلسطيني في برقيته للملك حسين عن رفضه لها وطالبه بعدم ابرامها دون موافقة الامة . كما اكدت الاوساط الفلسطينية الاخرى هذا الموقف، واعربوا عن هدفهم في تاسيس حكومة عربية مستقلة في فلسطين . فاقتدى الحسين بالرأي الفلسطيني، واعلن عن موقفه بوضوح في الكلمة التي القاها بين وفود الحجاج خلال موسم الحج (تموز 1923). حيث اشار فيها الى تناقض المعاهدة المقترحة مع الوعود البريطانية المقطوعة للعرب. واكد على ادخاله التعديلات على موادها بما يضمن حقوق العرب بما في ذلك فلسطين التي اشترط استقلالها (استقلالا تاما مطلقا يخول الفلسطينيين إدارة بلادهم بانفسهم واختيارهم طريقة الحكم التي يريدونها وبذلك جعلت وعد بلفور ـ كما ذهب الحسين ـ في حكم انه لم يصدر وقضى عليه بالموت. وفوق ذلك فإنني طلبت في التعديل أنه بعد عقد المعاهدة يؤمر المندوب السامي في فلسطين ان يصرح مندوب من قبلي امام ممثلي فلسطين، باستقلال الاقطار الفلسطينية استقلالا تاما مطلقا ودخولها صراحة في الوحدة العربية طبقا للعهود البريطانية المقطوعة لي) . واكد في بلاغه رفض المعاهدة دون الاخذ بهذه التعديلات (ولن يذهب شبر من ارض فلسطين، بل سيحافظ عليه محافظته على بيت الله الحرام في مكة المكرمة). كما اعلن عن عزمه في السفر الى فلسطين واستشارة زعمائها عن نوع الحكم الذي يبتغون، واطلاعهم على الموقف البريطاني من التعديلات الاخيرة، سلبا كان ام ايجابا... وذهب في هذا السبيل وبعث بمندوبه (الشيخ عباس مالكي) الى القدس لشرح موقفه الاخير . وقد اشارت جريدة (صوت الشعب) الفلسطينية لمهمة الاخير وتأكيده لحرص سيده على استقلال فلسطين، وتثبيت مواقفه على ضوء آراء زعماؤها .
وصل الاصيل لندن في تموز 1923، وهو يحمل المعاهدة والتعديل الذي وضعه الحسين في المادة الثانية . فلم تبدو وزارة الخارجية البريطانية موافقتها لاقتراحات الاخير المتقدمة بشأن فلسطين وعبرت ـ في مذكرة بعثتها للاصيل ـ عن موقفها المساند لوعد بلفور ، والتزامها بميثاق عصبة الامم الذي كان يعني في مضمونه (الالتزام بتسهيل إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين...) واضافت المذكرة ان ما تفهمه الحكومة البريطانية هو ضمان هذا الشرط، وستوقف المباحثات في حالة عدم استعداد الحسين لقبوله . وقد بعثت الحكومة البريطانية بمذكرة الى الحسين ضمنتها هذا الموقف .
كان اصرار بريطانيا على تنفيذ وعد بلفور، عاملا رئيسيا في عرقلة سير المفاوضات ولم تجد نفعا الحلول الوسطية التي اقترحها الاصيل في تسوية الخلافات. فقد تقدم الاخير في اوائل تشرين الثاني 1923 بصيغة جديدة للمادة الثانية من المعاهدة اقترح فيها اعلان بريطانيا عن استعدادها لتاسيس حكومة تمثيلية وطنية في فلسطين تتمتع باكبر قسط ممكن من الاستقلال انسجاما مع الكتاب الابيض الصادر في حزيران 1922 ، شريطه اعتراف الحسين بالمركز الخاص لبريطانية في فلسطين. غير ان الاصيل ـ ومع اقتناع بريطانيا باقتراحه ـ لم يكن مخولا بذلك، ولم يبلغ باوامر من الحسين بهذا الصدد .
لم تنته مساعي الاصيل الى نتجية، وبدت اكثر تعقيدا من السابق ـ لا كما كانت تصوره بعض الصحف في اقتراب الطرفين من تسوية خلافاتهما ـ وهذا ما يمكن معرفته من خلال الموقف السلبي الذي اتخذته (القبلة) حيال الموقف البريطاني، سواء في معرض دفاعها عن سلامة موقف الحسين واصراره على ضمان الحق الفلسطيني او من خلال التهم التي اخذت توجهها ضد بريطانيا ومناوراتها مع الملك حسين في هدف إجباره على توقيعه على شروطها، غير ان الحسين ـ اضافت (القبلة ـ استمر على موقفه وحفاظه على سمعته، وهذا ما أكدته بوضوح الاوساط السياسية الفلسطينية في مؤتمراتها الاخيرة، رغم تشويه بريطانية لهذه الحقيقة. واوضح المقال ان الاخبار التي تشكك في هذا الموقف انما لتحقيق هدفين اولهما زعزعة علاقة الحجاز بالاقطار العربية ـ والدليل على ذلك ما ساد فلسطين من الاضطراب لولا تدارك حكومة الحجاز وتأكيداتها على موقفها الاخير من قضية فلسطين ـ وثانيهما إذلال الملك حسين وجره لتوقيع المعاهدة في وقت تكون قد تزعزعت فيه وحدة العرب ويستشهد المقال، تأكيدا لما ذهب اليه من نقاط، بالنبأ الذي نشرته وكالة (رويتر) في 3 آب 1923، والذي كان مفاده رفض الحكومة البريطانية لقسم من التعديلات التي اقترحها الحسين على المعاهدة وقبولها بالقسم الآخر، وابلاغها الحسين بذلك... .
ومما زاد في تعقيد المفاوضات، التبدل الذي طرأ على الوضع السياسي الداخلي في بريطانيا، فقد أبدت حكومة العمال ـ التي حلت بدل المحافظين ـ موقفا متصلبا تجاه المعاهدة، وعمدت في 10 كانون الاول 1923، الى ايقاف المفاوضات الجارية بشأنها، وكشفت عن موقفها بالنقطتين التاليتين ليختار الحسين احدهما كحل للخلاف هما:
الموافقة على وعد بلفور بعد تفسيره تفسيرا رسميا بان لا ينطوي على إنشاء حكومة يهودية في فلسطين وانما تكون موطنا عاما لليهود يلجأون اليه متى شاؤوا.
إخراج فلسطين نهائيا من المعاهدة والسكوت عنها، وانشاء الاتحاد العربي من العراق وشرق الاردن والحجاز . واضافت الحكومة البريطانية، ان الحسين سيجد كل ما تستطيع منحه اياه لانهاء الخلاف وإبرام المعاهدة، اذا وافق على احد الشرطين المتقدمين .
ولاريب ان بريطانيا في عرضها الاخير كانت على علم تام بأوضاع الحجاز الاقتصادية المتردية منذ سنة 1920 كما توضح في الفصل السابق، وكذلك الحال بالنسبة لقدراته العسكرية التي تدهورت بعد الضربة القاسية التي سددها له (ابن سعود) في معركة (تربة) 1919، بما رافقها من تصاعد اهمية الاخير لدى بريطانيا وترجيحها على غيره من الحكام. ومن هنا جاء طرحها للخيار التعجيزي، اعتقادا منها بأضطرار الحسين لإحدى صورتيه اللتين تتفقان جوهريا في ترك مصير فلسطين وديعة بيد بريطانية لتاسيس الوطن القومي لليهود .
وردا على الموقف البريطاني، حاول الحسين تدارك الموقف واجتمع بالمندوب السامي البريطاني في فلسطين السير (هوربرت صموئيل)، في عمان خلال زيارته لها في كانون الثاني 1924، لبحث المعاهدة مجددا ، واقترح حينها إسقاط المادة الثانية من المعاهدة كليا ليتسنى له توقيعها، لكن المستر جيمس هنري توماس ( J.H. Thomas ) وزير المستعمرات البريطاني، رفض الاقتراح الاخير لما فيه استمرار للاوضاع السابقة وتفسيره كهزيمة منكرة لوعد بلفور، وما يترتب على ذلك من تشجيع الفلسطينيين لاستئناف هياجهم الذي هدأ حاليا، هذا فضلا عما رآه (توماس) من وجوب إجراء هذه المفاوضات في جدة لا عمان . الا ان الحسين عاود طلبه في استئناف المفاوضات واتصل بكل من رئيس الوزراء البريطاني ووزير خارجيته بهذا الخصوص، وطلب إرسال مندوب بريطاني او حجازي لتولي ذلك ، فلم توافقه بريطانيا على طلبه، واعتبرت ممثلها في جدة الوسيط بينهما، كما اعترضت على وجود ممثل حجازي في لندن لحين إبرام المعاهدة . ومما زاد في سلبية موقفها الاخير، اعلان الحسين خلافته على المسلمين في عمان آذار سنة 1924 خشية اتهمامها مجاراة الحسين في خطوته الاخيرة، في حالة اتفاقها معه بشأن المعاهدة .
ولابد من الاشارة من جديد، الى الموقف الفلسطيني الذي ظل مواكبا لتطورات الموقف حيال المعاهدة، وقضية فلسطين التي كانت محور الخلاف. فقد استغل الزعماء الفلسطينيون فرصة زيارة الحسين لعمان للاجتماع به، وانتدبت اللجنة التنفيذية الفلسطينية وفدا لهذا الغرض، ضم بعض الشخصيات الفلسطينية امثال موسى كاظم الحسيني رئيسا للوفد، وامين التميمي وحافظ طوقان وشكري التاجي وعوني عبد الهادي. وقد ركز الاخيرون عن لقائهم بالحسين، على قرار المؤتمر الفلسطيني السادس الرافض لمشروع المعاهدة. فلم يبخل الحسين بتأييد موقفهم، وتعهده بعدم توقيع المعاهدة، او ما يتعلق منها بفلسطين، دون مشورتهم، على ن لا تخرج عن حدود التفهم والتأني . وقد نقل الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية انطباعه عن موقف الحسين، هذا بنفيه وجود معاهدة بين الاخير وبريطانيا، والتزامه بإبقاء فلسطين لأهلها ...
وواصل الفلسطينيون متابعتهم لمفاوضات الحسين بعد عودته لمكة في آذار 1924 واكدوا ذلك لدى عودة الاصيل اواخر حزيران 1924 الى الحجاز بالمعاهدة المعدلة في ضوء المقترحات البريطانية السابقة، حيث اعلنوا احتجاجهم ضدها، ورفع كاظم الحسيني احتجاجا رسميا الى الحسين بهذا الشان، فضلا عن الاحتجاجات التي رفعتها الاوساط السياسية في فلسطين الى الحكومة البريطانية وتنديدها بوعد بلفور . واجلت اللجنة التنفيذية الفلسطينية عقد مؤتمرها السابع بناء على طلب الهيئات السياسية لحين التثبت كليا من أبعاد المعاهدة بالنسبة لفلسطين . فكان لهذه المعارضة بلا شك اثرها في محاولات التفاهم البريطاني الحجازي، بما في ذلك موقف الحسين، ولعل هذا ما يفسر الرأي الذي يرجع تآلف موقف الحسين والفلسطينيين الى (التخويفات التي بدت من اعوانه في فلسطين) . فقد بعث الاخير بـ (ناجي الاصيل) مجددا الى لندن في آب 1924، مع تعديلات على المعاهدة اقترح فيها اقامة حكومة دستورية في فلسطين حفاظا على حقوق اهاليها، مقابل استعداده للاخذ بالمشورة البريطانية في القضايا الاخرى . بيد ان هذه المحاولة شاء لها ان تكون الاخيرة اذ جاء تقديمها بعد استيلاء النجديين على الطائف، وتنازل الحسين عن العرش في 3 تشرين الاول 1924 .
لم يقر الحسين المعاهدة كما تبين (وغير خاف ان علة العلل التي سببت عدم امضاء المعاهدة، انما هي المشكلة الفلسطينية)، وهذا ـ كما ذهب مراسل جريدة المقطم في فلسطين ـ ما يؤكد بطلان الاتهامات التي شككت بمواقف الحسين، وعدم صحتها .
والجدير بالالتفات ان هذا الموقف حظى بإهتمام الاوساط السياسية الفلسطينية وتقديرها، فقد نشرت اللجنة التنفيدية الفلسطينية بلاغا رسميا بهذا الصدد جاءت فيه (علمت اللجنة التنفيذية من استخباراتها الخاصة العديدة بأن المعاهدة العربية البريطانية التي عرضت على جلالته في الآونة الاخيرة بواسطة مندوبه الدكتور ناجي الاصيل كانت تناقض الميثاق الوطني وعليه فقد رجعت من حيث اتت كما رجعت اخواتها من قبلها بدون توقيع جلالته. لهذا فقد قررت اللجنة التنفيذية في جلستها شكرها لجلالة ملك العرب وخليفة المسملين لسهره على مصالح هذه الامة الاساسية ومراعاته لعواطفها وعلى الله حسن الثواب) .
وعلى اية حال فقد انتهى الحسين سياسيا كما اشرنا، ولتيقنها من إشراف الحجاز على الانهيار، استكملت بريطانيا خطواتها في التخلي عنهم، ورفضت بحث المعاهدة مع الاصيل، في ضوء تعديلات الحسين ، هذا فضلا عن الاحداث الدائرة في الحجاز والتي تبرر اتخاذ هذا الموقف ، لكل الاصيل ـ وتقدير منه لأهمية الدعم البريطاني في هذا الظرف ـ حاول اقناع الجانب البريطاني واوضح عدم مشاطرة الملك الجديد (علي) لموقف والده من المعاهدة، وستظل المعاهدة على ما اتفق عليه مبدئيا في حزيران سنة 1924 غير ان الحكومة البريطانية لم تغير موقفها، واصرت على رفضها لاستئناف المفاوضات مع حكومة الملك علي، واعتبرت نفسها في حل من الالتزامات لوالده، وكأنها وعود شخصية تزول بزوال الاشخاص .
تضمنت معاهدة 1923 في ماديتها الرابعة والخامسة تعهد بريطانيا في مساعدة الحجاز بتسوية نزاعاته مع حاكمي نجد وعسير سلميا . ومن هنا جاءت عروض الاصيل في هدف انهاء النزاع من قبلها ، وجاءت ايضا بعض التنازلات التي ابداها الملك علي بشان المعاهدة كما يبدو .
لم تعر بريطانيا اهتمامها لدعوات الحجاز، اذ لاجدوى من معاهدة مع دولة تلفظ انفاسها الاخيرة، خصوصا وان لها في الاحداث الدائرة في الحجاز، قسطا وافرا من التخطيط لضمان مستقبل سياستها في المنطقة ، فضلا عن رغبتها في تجنب المشاكل مع ابن سعود، بعد أن اثبت قوته ووطد عزمه الى ازاحة العائلة الهاشمية من الحجاز .
التقارب الحجازي السوفيتي:
كانت سياسة روسيا القيصرية قبل وبعد اندلاع الحرب العالمية على اتفاق مع سياسة الحلفاء الاستعمارية فيما يتعلق بالمنطقة العربية، حتى قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية سنة 1917 وما حملته من تغيير لاوضاع روسيا بما فيها سياستها الخارجية والتي تمثلت خطوتها الاولى بفضح المخططات الاستعمارية المرسومة في المعاهدات السرية ومن جملتها معاهدة سايكس ـ بيكو كما تبين سلفا.
ان ما نلمسه عن العلاقات بين الحجاز والاتحاد السوفيتي انها كانت تتسم بنوع من الجفوة والنفور تماشيا مع موقف بريطانيا الحليفة الرئيسية للحجاز. والذي يقرأ اعداد جريدة (القبلة)، يلاحظ بعض الاشارات التي توضح هذا الموقف. كان تلقي مسؤولية الاوضاع المتردية في روسيا على عاتق البلاشفة او كما ذهبت في احدى مقالات (دمارسوسكو) تصف الدمار الذي سببه الاخيرون لروسيا وتعرضها بالانتقاد لسياستهم في مضايقة التجار والاثرياء، وما جرته من النتائج السلبية للاوضاع الاقتصادية او استهجانها للصلح الذي عقده قادة الثورة مع المانيا وانسحابهم عن الحرب ، وانتقادها، وبشكل أدق استعصابها لسياستهم التي اولت دورا بارزا لطبقة العمال والفلاحين . وقد عززت نظرتها الاخيرة في مقالة اخرى جاءت تعليقا على دفاع احدى الجرائد المصرية (الافكار) عن حقوق العمال وقالت في هذا الصدد (ان هذه القضية يرجع فيها الحكم الى وجهين اولهما الديني ولانرى لزوما لبحث فيما يقوله ذلك القانون الشريف... الثاني ما تحكم به المدارك البشرية فنقول انه لا مشاحة اذا اثبتنا للعمال حقا بالشكل والطرز الذي يزعمون. ان ذلك الحق لا يخلو من احد امرين اما ان يكون له حد معلوم او هو عبارة عن كل ما احدث في العالم بلشفيكية او (خرشفيكية) اتخذ مبتدعوها اولئك العمال وسيلة لانتشارها غير ملتفتين لتأثيرها على العالم الكروي كما هو مشهود) .
وتذكر " القبلة " القارئ بموقفها هذا من النظام الجديد في روسيا في أعدادها المتقدمة والتي ادرجنا بعضها قبل قليل، ومناوأتها (للمذهب البولشفيكي) وبانها (كانت من جملة المقاومين لهذه الفكرة السيئة بالتاثير على نظام العالم وسعادة البشر) . ونجد الجريدة تقف الى جانب بعض الآراء التي ارتفعت في مصر ضد البلاشفة. كما جاء ذلك في دفاعها الواضح لمفتي مصر ـ الذي كان قد هاجم البلاشفة واتهمهم ببعض التهم ـ بما في ذلك تهجمها على منتقديه من الكتاب المصريين .
بيد ان المواقف الاخيرة وسياسة الحجاز الخارجية عموما كان لابد لها ان تتأثر بالتغيرات الجديدة التي طغت على السياسة الدولية ـ وبالذات السياسة البريطانية ـ في المنطق بعد انتهاء الحرب العالمية وما جرت على الحسين من نكسات مخيبة. لذا كان من الضرورة ان تعيد العائلة الهاشمية نظرها وتصوراتها لأبعاد هذه التصورات، فترى الامير فيصل ـ خلال إقامته في ايطاليا سنة 1920 بعد هزيمته في سوريا ـ يحث والده بالالتفات الى الاتحاد السوفييتي والاستفادة من دعوته الموجهة الى اقطار الشرق للتحرر والاستقلال .
ونجد "القبلة" ـ انعكاسا للتصدع الذي اصاب العلاقات مع بريطانيا ـ تشير الى اهمية المبادرات السوفييتية لتوطيد السلام في العالم من خلال انهاء الاستعمار ومنح الشعوب استقلالها، (وهذا ما حمل شعوب اوروبا ـ كما ذهبت "القبلة"ـ بتوجيه انظارها الى موسكو التي ترسل اليهم اشعة اراحتهم من الرضوخ الى القواعد التي تضغط على افكارهم وتجبرهم على تقديم ضحايا الانفس والاموال في سبيل تنفيذ برامج الحكومات الاستعمارية) . وذهبت في مقالة اخرى ـ بعنوان (العرب والموقف الحاضر) واستشهدت بتعزيز رأيها بأقوال احدى الصحف الغربية بقولها (ان مبادئ حرية الشعوب هي مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى، ولقد حاول الرئيس ولسن ان يحييها في مذكراته، واما السوفييت فإنهم احيوها الآن بتمامها) .
ولم يقف التحول البسيط الذي طرأ على سياسة الحجاز الخارجية عند هذا الحد وتطور الى لقاءات دبلوماسية مباشرة بين مسؤولي كل من الحجاز والاتحاد السوفييتي وهذا ما تم في مؤتمر (لوزان) في سويسرا سنة 1922 بين (ناجي الاصيل) ممثل الحجاز في المؤتمر، و(جيجيرين Chicherin) وزير الخارجية السوفييتي ، ورئيس وفده للمؤتمر، وذلك في كانون الاول 1922 . اما ما دار في هذا اللقاء فتناول نقطتين تتعلق الاولى برغبة الحسين في تزعم العرب جمعيا، ثم العمل على اقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. وبخصوص النقطة الاولى، اوضح جيجيرين رأيه قائلااننا نتعاطف جدا مع توحيد الشعب العربي، ولكننا لا نستطيع ان نتدخل في مسألة ما اذا كان هذا التوحيد مرغوبا فيه بشكل اتحاد تحت زعامة الحسين، او بشكل آخر ما. فذلك امر يعود للشعب العربي نفسه) وردا على تعقيب الاصيل ـ إصرار ملكه لرئاسة (الحكومة الهاشمية) العربية ـ ذهب رئيس الوفد السوفييتي للتاكد من وجهة نظر ممثلي الاقطار العربية الاخرى بهذا الخصوص، وكلف احد موظفيه (فورفسكي) لاتمام هذه المهمة .
اما بخصوص إقامة العلاقات الدبلوماسية، فلم يتمكن الطرفان من إتمامها في هذا اللقاء، غير ان جيجيرين وقبيل مغادرته لوزان في 3 شباط 1922. كلف (فوروفسكي) ايضا بمواصلة مفاوضاته بهذا الشأن الى جانب مهمته الاولى. الا ان اغتيال الاخير في 10 مايس 1923، حال دون اتمام المهمتين . ومع ذلك فلم تتوقف هذه المفاوضات واستؤنفت بين ممثلي البلدين في (روما) في نيسان 1924، حتى تكللت باتفاق الطرفين على التبادل الدبلوماسي، وتقرر ان يكون للإتحاد السوفييتي في الحجاز ممثلية وقنصلية عامة، وان يكون للحجاز بالمقابل بعثة رسمية في الاتحاد السوفييتي . كان (كريم عبد الغفور وفيج حكيموف) اول ممثل وقنصل سوفييتي عام لدى الحجاز . وقد قام هذا، بعد وصوله جدة بتسليم اوراق اعتماده للحسين في 9 آب 1924 ، موقعة من قبل رئيس الدولة السوفيتية (كالينين) وكان في مقدمة هذه الاوراق رسالة وجهها كالنين الى الحسين، خاطبه فيها بـ (الصديق العظيم والطيب). وعبر فيها عن سعادته لاقامة (علاقات صداقة وطيدة مستمرة) بين الاتحاد السوفيتي والحجاز. وتمنى في ختام رسالته (لجلالته والشعب العربي الصديق الازدهار والتقدم) . اما اول مبعوث دبلوماسي حجازي لدى الاتحاد السوفيتي فكان الامير (حبيب لطف الله) وقد وصل موسكو في بداية تشرين الاول 1924 واستقبل من قبل مسؤولي وزارة خارجية الاتحاد السوفييتي، وخصص له وللوفد الحجازي الاماكن المخصصة لاقامتهم . غير انه لم تسنح للحسين فرصة متابعة علاقاته الجديدة، بعد اضطراره للتنازل عن العرش في نفس الشهر الذي استقرت فيه سفارته في موسكو أي تشرين الاول 1924، إثر الهجوم الوهابي على الحجاز. وقد عبر الاتحاد السوفييتي عن موقفه تجاه حرب الحجاز سنة 1914، بامله في خروج الحجاز من هذه المخاطر سالما .
اما موقف الحجاز من التقارب السوفييتي فكان سلبيا كما يبدو في عهد ملكية الملك علي قصيرة الامد. وقد يمكن تفسير ذلك لاعتبارات اسلامية واخرى دبلوماسية ارضاءا لانكلترا آملا في الحصول على مساعدتها ضد الخطر الوهابي. والحقيقة ليست لدينا نصوص تفصيلية بصدد الموقف الاخير، عدا إشارة بسيطة اوردتها جريدة (المفيد) العراقية، هدفت منها الاشارة الى موقف الملك على المناوئ للشيوعية الذي ضمنه في تصريح له بهذا الخصوص.وقد جاء توضيح الجريدة الاخير بصيغة عبارة ادرجتها تحت صورة للملك علي .
محاولات حجازية للتفاهم مع الاتراك:
لاتعدو محاولات التقارب التي بذلها الحجاز مع الانظمة الجديدة التي جاءت بعد الحرب كما اشرنا سابقا ان تكون الا انعكاسا لتدهور علاقاته بالحليفة الرئيسية بريطانيا ورد فعل لسياستها التي خيبت آمال الحسين وتوقعاته، ومن هنا جاءت بعض مظاهر التعاطف والنوايا الطبية التي اظهرها الحسين لحركة الكماليين عند استفحالها أواخر 1920 ومن ان ثورته انما جاءت ضد الاتحاديين . ولم يقتصر الامر على المشاعر الاخيرة، وتجاوزها ـ بحكم مصالح الجانبين في سوريا ـ الى محاولة التعاون ضد العدو الفرنسي المشترك. والحقيقة ان هذه المحاولات لم تكن خافية عن انظار المسؤولين الانكليز ، الذين راحوا يحذرون من تحركات الامير فيصل، بعد ان تمكنوا من الوقوف على حقيقة زيارة الاخير الى مدينة حلب للاجتماع بمبعوثي مصطفى كمال ، حتى انهم، ولتهدئة الموقف، حاولوا إعادة الثقة لفيصل وإقناعه بحسن النوايا الفرنسية. ونصحت الحكومة بدورها مسؤوليها بطمانة فيصل وتبديد مخاوفه بشأن هذه النوايا، واستبعاد أي هجوم فرنسي قد يشن ضده. هذا في الوقت الذي استفسرت فيه من الحكومة الفرنسية عن ضمانات تقدمها بهذا الشأن .
وكان طبيعيا ان يصعد الامير فيصل من مساعيه للتفاهم مع الكماليين بعد اخراج الفرنسيين له من سوريا، فقد كلف الامير فيصل ـ خلال وجوده في إيطاليا ـ مرافقه (ساطع الحصري) بالسفر الى الاستانة للتباحث مع الكماليين بما يوصل الى إعادة النظر في العلاقات القائمة بين الطرفين. فاجتمع مبعوث فيصل ببعض ممثلي الكماليين في الاستانة، وطرح لهم موقف العرب الحاضر وما يحيط بهم من ظروف، بما في ذلك محاولته تصحيح التصورات الخاطئة في ذهنهم تجاه العرب. غير ان محادثات الحصري لم تكن وافية لتعذر استئنافها بسبب الاوضاع الحربية التي كانت تسود تركيا حينها ، ومع ذلك فلم يمتنع الحصري عن مواصلة مساعيه مع ممثلي الكماليين الموجودين في روما ن فترك الاستانة بعد تزوده ببعض المعلومات من قبل الاخيرين الموجودين فيها لضمان اتصاله برفاقهم في روما فضلا عن الاوراق والوثائق التي زوده بها فيصل عند عودته الى ايطاليا في طريقه لمواصلة المفاوضات. ولدى اجتماعه بهم واستفساره عن مواقفهم، ونزاعاتهم، ارتاى الاتصال بـ (فريد بك) وزير مالية الحكومة الكمالية بانقرة، وممن كانت له به معرفة جيدة، فبعث له في 29/10/1920 برسالة استفسر فيها عن موقف حكومته من الحكومة الحجازية، ومدى استعدادها لتمويل الحركة ضد فرنسا، وما يقتضي ذلك من الامور .
وقد ارفق الحصري هذه الرسالة باخرى الى (يونس نادي) صاحب جريدة (بني كون) أي اليوم الجديد. تعليقا على تهجمه ضد الملك حسين والقضية العربية، في محاولة من الحصري لإقناعه بطرح القضية بشكل موضوعي . ومما جاء في رسالته لاثبات وحدة مصالح العرب والاتراك، سماح القوات العربية في سورية بتزويد القوى التركية التي تعمل شمال حلب بالذخائر التي تحتاجها وحيلولتها (دون استفادة الفرنسيين من السكك الحديدية السورية في حركاتهم ضد القوى المذكورة.
حتى ان الجنرال (غورو) كان قد توهم بتاثير هذه الوقائع، باننا كنا متفقين معكم اتفاقا رسميا) .
وردا على ما جاءت به جريدة (يني كون) في اعتبارها لثورة الحسين ـ سببا في اندحار قوة المسلمين عموما بما فيهم العرب والاتراك ـ اثبت الحصري عدم صحة هذا الرأي اذ ان ظروف الحرب كانت قد ربطت مصير الدولة العثمانية ومقدرات البلاد الاسلامية بمصير المانيا، ولا يمكن ان يكون لحركة الحسين اثر كبير بين القوى الهائلة المتحاربة (اعتقد ان الثورة العربية ما كان يمكن ان تؤثر تأثيرا يستطيع ان يغير مجرى الحرب، فينزع النصر من احد الطرفين ليأخذ الآخر... وان انكسار الالمان واستسلامهم كان من الامور المحتمة، نظرا الى سير الوقائع العالمية، سواء اقامت الثورة في الحجاز ام لم تقم...) .
واستشهد الحصري بخطبة انور باشا في المجلس النيابي التي ربط فيها مصير بلاده بمصير المانيا حالة هزيمتها او انتصارها... واضاف ان الحكومة العربية التي ترأسها فيصل في سوريا والتي هي احدى نتائج الثورة في الحجاز، كانت مصدر قلق للحكومة الفرنسية ودفعتها الى حشد قسم من قواتها في السواحل السورية، بدلا من توجيهها للشمال واحتلال اقسام اضافية من الاراضي التركية... وانتهى الحصري بعد هذه المقدمة الى ما كان يرمي اليه في تجاوز الماضي، وتفهم متطلبات الظروف الحاضرة للتقارب بين العرب والاتراك و " ضرورة عقد اتفاق بين الحجاز وبين تركيا " وهو ما كان ينادي به ايضا (يونس نادي) واعرب الحصري اخيرا عن امله في تفهم الاخير لملاحظاته والحكم على ضوءها .
ولعل الحصري كان على حق في رسالته الاخيرة للصحفي التركي، لما كان يتمتع به الاخير من مكانة لدى الحكومة الكمالية والدور الكبير الذي يلعبه في توجيه الرأي العام التركي، فضلا عن كونه نائبا متنفذا في المجلس الوطني الكبير وعضوا فعالا في لجنة الشؤون الخارجية. علما ان الرسالة لم ترسل لتنوير يونس نادي فحسب بل و(فريد بك) نفسه، من هنا جاءت الرسالتان في ظرف واحد .
اوضحت الحكومة الكمالية موقفها على لسان فريد بك بعد مرور شهرين على استفسار الحصري. فاكدت رغبتها في تحرير جميع الاقطار الاسلامية من احتلال الاجنبي والتضحية الممكنة في هذا السبيل الا (اننا لا نعلم ما هي العواطف التي تكنها نحونا اليوم الهيئة الحاكمة في الحجاز، غير اننا نظن ان هذه الحكومة خاضعة للتاثير الانكليزي في الحجاز. ونحن نرغب ان يكون المسلمون سعداء مرفهين في جميع الجهات). والتفتت المذكرة الجوابية الى مساعدة سوريا والعراق لنيل استقلالهما واستعداد الحكومة الكمالية للتعاون مع أي جهة اسلامية في هذا السبيل، كما اشارت الى استعدادها ـ وردا على استفسار الحصري ـ لفسح المجال امام الحركة المناوئة للفرنسيين في ممارسة نشاطها في هضبة الاناضول شريطه استصحاب عناصرها لبعض الاوراق اللازمة بهم .
على اية حال فإن التطورات التي طرأت على السياسة الدولية والتسويات التي جرت في المنطقة، اضعفت التوقعات المترتبة على هذه الاتصالات. ولم يحدث ما يثير الانتباه بين الطرفين، مع بقاء الموقف الحجازي متجاوبا تجاه الكماليين بشكل عام. فتشير "القبلة" الى ما ينم عن انعدام الخلافات بين الحجاز والكماليين، بما في ذلك تاكيدها على الروابط القديمة التي تربط الشعبين العربي والتركي . وتورد بعض الاشارات الوثائقية عن بعض المراسلات المتبادلة بين الملك حسين وحكومة أنقرة، مفادها كما جءا على لسان ناجي الاصيل في لندن سنة 1923 اتخاذ العرب موقف الحياد من تطور الاحداث مستقبلا، دون الاخلال بالعلاقات الممكنة بين العرب واصدقائهم . وبكلمة اخرى محاولة لتوجه جديد، يامل الحسين منها التقليل من اهمية علاقاته مع بريطانيا. ومن الطبيعي ان تنبه الاخير وتحذر، للتبدل الاخير في موقف الحسين وان تهدد بإعادة النظر في علاقاتها مع العرب فيما اذا تحاشوا الاقتداء بمشورتها والتعاون معها .
ومع ما أبداء فيصل من التودد والاعتذار في اجابته على التنبيه الاخير، فإنه برر موقف والده الاخير، بالتهم الموجه ضده في شق عصا الاسلام وكونه سببا في انخذالهم بعد فشله في تحقيق الوعود التي قطعها له الحلفاء، الى جانب محاولته في إثبات عدم ولائه للقوى الاجنبية، انقاذا لموقفه المحزن بين المسلمين وعلى حد قول فيصل، واعتمادا على برقية والده، ان الاخير، انما أراد من اتصالاته بالكماليين، لسبر غورهم، والتعرف على ما ينطوي عليه موقفهم .
وآخر ما يمكن إيراده بصدد العلاقات الحجازية الكمالية، اللقاء المباشر الذي تم بين وفدي كلتا الدولتين في مؤتمر (لوزان) والذي اظهر تعاطفهما بشكل اكثر وضوحا من السابق، فقد ابلغ عصمت باشا وزير خارجية تركيا ورئيس وفدها للمؤتمر، الدكتور ناجي الاصيل رئيس الوفد الحجازي (ان يبرق الى جلالته الهاشمية بصفته الرئيس الاعالى للامم العربية بان عصمت باشا مخول السطلة التامة من حكومة أنقرة ليعلن ان تركيا لا تضمر أي عداء نحو العرب... وان تركيا على العكس اعترفت بالاستقلال التام للبلاد العربية وان ذلك لايقتصر على الحجاز وحده بل يتناول سوريا وفلسطين والعراق واضاف عصمت باشا الى ذلك ان هذا التصريح صادر منه رسميا بصفته وزير الخارجية واضاف انه سواء امضت تركيا معاهدة الصلح مع الحلفاء او لم تمضها فإنها تعترف اعترافا صريحا بالاستقلال التام للبلاد التي ذكرتها) . وقد اعربت وزارة خارجية الحجاز عن مشاعرها الودية تجاه الموقف الاخير في برقية بعثت بها للاصيل بهذا الشأن، وبرقية اخرى مماثلة الى وزارة خارجية تركيا تشكر فيها اعتراف الحكومة التركية الرسمي باستقلال العرب التام واعتزاز الحكومة الهاشمية واهتمامها (لانه لاغاية للعرب الا استقلالهم في حدود بلادهم المعروفة، ويمدون ايدي وفائهم وامتنانهم لكل من يعترف لهم بذلك...) .
ومع ذلك فلم تسفر محاولات التفاهم بين الجانبين الحجازي والتركي آنذاك عن نتائج ايجابية واقعية، وساد الصمت هذه العلاقة حتى نهاية المملكة سنة 1925.
موقف الهاشميين من معاهدة سايكس بيكو:
سعت الحليفتان (بريطانيا وفرنسا) اثر اتفاقية سايكس ـ بيكو (مايس 1916) الى تسوية التناقض القائم بينها وبين ما جاءت به وعود مكماهون، ذلك التناقض الذي كان يقوم بشكل رئيسي على المصالح الفرنسية في سورية. وتمهيدا لذلك حاولت بريطانيا تكييف اذهان الاوساط العربية الى مافيه اقرار المصالح الفرنسية في سورية، والترويج بأهمية التفاوض المباشر بين فرنسا والملك حسين. ومن هنا اقتضى الامر سفر ممثلين عن الجانبين البريطاني والفرنسي للتشاور مع الحسين بهذا الصدد. ومثل السير مارك سايكس الجانب الاول، فيما مثل الجانب الثاني المسيو بيكو ، على ان يسعيا
قبل لقاء الحسين، الى الاتصال بسكان المنقطة وتقريب نظرهم بشأن الاتفاقية .
ومن هنا جاء وصول سايكس وبيكو الى القاهرة في نيسان 1917، مصحوبا بنشاط دعائي عن مهمتهما. اذ كشف بيكو بوضوح ـ في كلمته في الجالية السورية ـ عن مصالح بلاده في سورية (ان الأوان قد حل بما يتعلق بسورية ولبنان وان جميع الحلفاء قد انتخبوا فرنسا وصية على لبنان، وسيتسع مدى الحكم في البلاد الذي كانت لفرنسا فيها امتياز اكثر من السابق) وكان من الطبيعي ان يستاء السوريون من هذه التصريحات ـ رغم وجود من يؤيدها ـ وان يعربوا عن احتجاجهم عليها . اما بالنسبة للحسين ـ وبعد استفسار الفاروقي عن موقفه ـ فقد طلبت التأكد من المندوب السامي البريطاني في القاهرة عن مدلول هذه الخطبة . في الوقت الذي استفسر فيه من الاخير عن هدف بعثة سايكس بيكو . ولم يقتصر الامر على بيكو بل وسايكس ايضا. اذ ذهب هو الاخر الى القاء الضوء على الخطوط العامة للمصالح الفرنسية في سورية، وبأنها تحظى بموافقة حكومته، وانه بتوضيح هذا انما ينفذ اوامر حكومته وتعلمياتها. واكد ـ في حديثه هذا للفاروقي ـ على اهمية اتحاد الحلفاء وازاحة ما يعيق ذلك فيما تظاهر بيكو للفاروقي لدى اجتماعه به، بعطف حكومته على العرب وجدراتهم بالاستقلال اذا ما نظموا امورهم واوضح امكانية حل القضايا المتعلقة بمصالح بلاده في سورية عن طريق المفاوضات والاتفاقات دون ان يتطرق بالتفصيل الى هذه النقاط .
وعلى اية حال فقد ان لكلك من سايكس وبيكو ان يسافرا الى جدة ـ كما يفترض ـ للاجتماع بالحسين للمشاورة في الامور التي تقدم ذكرها، وابلغت وزارة خارجية بريطانيا ممثلها سايكس بحصر حديثه مع الحسين في نطاق التعليمات التالية .
طمأنة الحسين بشأن مقاصد فرنسا في داخلية سورية، بعد ان وافق بيكو على ترك الامر بيد سايكس.
ان يوضح للحسين عزم الحلفاء على دعم طموحات العرب، مع الاشارة الى صعوبة فرض سيادته على السكان الذين لا يرغبون فيها، لان اتساع هذه السيادة يتوقف على قبول سكان المناطق المعينة.
اما بالنسبة لبغداد ومنطقتها، فقد اوضحت المذكرة احتفاظ بريطانية بالسلطة العسكرية والسياسية فيها لما تقتضيه المصالح الستراتجية والتجارية والرغبة للنهوض بالمدينة وازدهار البلاد .
وقد ابلغ سايكس باحتمال القيام بزيارة ثانية بصحبة بيكو الى جدة اذا ما تكللت رحلته بالنجاح لطرح القضية السورية بتفاصيلها ـ كما ارتات ولإنجاح محادثات سايكس ان ينقل الاخير رسالة ودية مشجعة من الملك جورج* الى الملك حسين، وابلاغه بموافقة الحكومة البريطانية على زايدة اعانتها المالية الى (200) الف جنيه .
اكد الحسين عند اجتماعه بسايكس على الاستقال الذي وعد به، وخشيته من التهم في المستقبل حالة الاخلال بذلك. اذ من الطبيعي ان يتهمه مسلمو سورية بالخيانة اذا ما وافق على ضمها لفرنسا، بعد ان دفع اهاليها للثورة. لكن سايكس لم يرد بدوره بأكثر من تعليمات حكومته المدرجة اعلاه، واكد على اهمية التسوية العربية ـ الفرنسية، وهو امر شاطره به الحسين، وعده ضرورة للتطور العربي في سورية .
ترك سايكس جدة ولم يتمكن من كشف حقيقة معاهدة سايكس ـ بيكو امام الملك حسين ، ليعود ثانية برفقة المسيو بيكو في هدف بحث الامر تفصيلا، في الوقت الذي بعث فيه (ونجت) ـ المندوب السامي في القاهرة ـ تمهيدا للقاء ـ ببرقية يعرب فيها عن سروره لوجود ممثلين لاكبر دولتين في الحجاز، لترسيخ اسس الاستقلال العربي .
بدأ الطرفان اجتماعهما الاول في 19 مايس 1917 ، واعرب بيكو في بدايته عن امل حكومته (في المستقبل ان تساعد في الساحل السوري بعمل عسكري مثلما يساعد الانكليز العراق) وردا على ذلك، لم يذهب الحسين بأبعد مما ابداه سابقا لسايكس في عجزه عن تسليم المسلمين الى حكم مباشر لدولة غير مسلمة ، ومع اقراره بوجود مستشاري كلا الدولتين في سورية والعراق، فإنه يعارض تمتعهم بأي سلطة تنفيذية . بيد ان (الحسين) وفؤاد الخطيب الذي حضر الاجتماع ابديا موافقتهما في النهاية على وجود المستشارين المتمتعين بسلطة تنفيذية. وينتهي الاجتماع الاول دون نتيجة تذكر، انعكس مردودها على المسيو بيكو الذي خرج مستاءا لموقف الحسين، بينما كان استياء سايكس من بيكو نفسه لآرائه السلبية من الحسين والحركة العربية واوضح (عبث محاولة التوفيق بين فرنسا والشريف حالة عدم تغيير بيكو لموقفه) الذي لم يكن سليما كموقف الشريف .
وفي الاجتماع الثاني الذي عقد في اليوم التالي طرح الحسين وجهة نظره واجابته على كل من سايكس وبيكو، وطلب من فؤاد الخطيب قرائتها عليهما: (ان جلالة ملك الحجاز يسره ان يعلم ان الحكومة الفرنسية تستوصب المطامح القومية العربية وبما ان الملك يثق ببريطانيا العظمى فإنه سيقبل اذا ما اتبعت فرنسا تجاه المطامح العربية في سوريا المسلمة السياسية ذاتها التي تتبعها بريطانيا في بغداد) . واشار الى رفضه فكرة الاحزاب العربية العاملة في مصر في ارسال بعثة عربية الى اوروبا ودول العالم الاخرى لغرض اطلاع العالم على المطالب العربية ثقة منه بعضد بريطانيا وفرنسا للعرب ... وبين ايضا ان موقفه المتمثل في الاجابة الاخيرة، انما جاء لثقته الكاملة بحفاظ بريطانيا على وعودها واطمئنانه لاقوال سايكس الذي يمثلها مباشرة، فهو لا يعرف فرنسا الا عن طريقها .
والظاهر ان الحسين قد اخطأ في تقديراتها لعدم انتباهه بدقه للاهداف البريطانية في العراق، ولعل هذا ما يفسر تساؤلات الكولولنيل ولسن من سايكس عن مدى ادراك الحسين لحقيقة وضع بريطانيا في بغداد اولا؟ وامله في ازالة هذا الغموض (ذلك ان الشريف يعتقد ان بيده ورقة رابحة هي رسالة السيد مكماهون ولكن لافؤاد ولا فيصل ولا احد غيرهما من مستشاري الشريف يعرف محتوياتها) واعرب ولسن عن خشيته لطبيعة الفهم الذي خرج به الحسين ونتائج ذلك، وضرورة مصارحته بوضوح بما في ذلك النقاط الرئيسية لاتفاق بريطانيا بشأن العراق وقد عزز ولسن ما ذهب اليه بمذكرة الضابط البريطاني (نيو كمب) التي اكدت على دور سايكس في اقناع كل من فؤاد وفيصل على التصريح الذي خرج به الحسين فيما بعد، بعد ان اشار بترك الموضوع على عاتقه. وقد كان بإمكانه ـ كما اوضح ولسن ـ الكشف عن حقيقة وضع بلاده في العراق، فيما لو عرف حينها بدور سايكس في اقناع الحسين، لاهمية مثل هذه الخطوة، ففي الظاهر ( ان وافق الشريف على ان تخضع سوريا لسيطرة فرنسا، وهو امر اعتقد ـ نيو كمب ـ انه لم يقصده ابدا) ، وقد اكد كل من فيصل وفؤاد للكولونيل ولسن في 22 مايس، ان ما انتهى إليه الحسين في تصريحه الاخير بشأن سوريا انما جاء بإلحاح من سايكس لاقرار ذلك بإسم بريطانيا، ومع ذلك فالحسين يملك رسالة مكماهون التي تنص على استقلال العراق باستثناء البصرة التي ستخضع لبريطانيا مؤقتا مقابل اجر مالي تدفعه الاخيرة . وقد ارفق ولسن ملاحظاته هذه التي بعثها الى الجنراك كلايتون المتقدمة، ونزول الحسين لضغط سايكس لاقرار فرنسا في سوريا بما لبريطانيا في العراق، اعتقادا منه باستقلال بغداد، واستنادا الى مذكرة الخطيب، ان الحسين كان قد اوضح لبيكو مسؤوليته عن سوريا واهلها الذين بايعوه بالزعامة، اما ما تحاوله فرنسا في ضم المسيحيين الى جانبها، فإنما تهدف بذلك الى خلق نوع من التعصب الاعمى، فلا اهمية لمن يكون لبنان بقدر اهمية تقرير مصيره بيد ابنائه... ورفض ما أوضحه سايكس في كون السلطة التنفيذية الممنوحة للمستشارين الاوروبيين سبيلا لحل المشكلة لكن الحسين ـ كما اوضح فؤاد الخطيب ـ عدل عن رأية في اليوم التالي ووافق بعد جدل ثلاثة ساعات لا لشيء الا لانه ( يثق بما يقوله المندوب السامي البريطاني... اعتقادا منه ان بغداد ستكون له تماما...) .
ولعل في الرسالة التي بعثها الحسين الى المندوب السامي في القاهرة، منعا للتأويلات التي قد تثار حول محادثات جدة، ما يلقي الضوء على اللقاء الاخير وما تم التوصل اليه، حيث جاء في قوله (لا بد ان حضرته "يقصد سايكس" صرح لفخامتك ان ملخص قراري الصريح الغني عن التأويل والتفسير بانه اذا لم تكن حدود البلاد العربية على الوجه المقرر سابقا مع بريطانيا العظمى فإن اخلاصي ونصحي لها ولبلادي وقوميتي يوجبني على الانسحاب بصورة قطعية) .
ولم يكتف الحسين بذلك وانما اوفد فؤاد الخطيب الى القاهرة لشرح موقفه هذا من محادثات جدة، مما دفع بمسؤولي القاهرة الى ابلاغ سايكس بثبوت عدم استيعاب الحسين لما طرحه سايكس ورفيقه، وهو يفهم ان العراق وسوريا من نصيبه بلا شروط ، واشار كلايتون، في رسالة اخرى الى سايكس ـ ومن خلال انطباعات الخطيب عن المحادثات ـ الى الحسين (لم يفهم ابدا الوضع كما عرض اليه بشأن سوريا والعراق في اجتماعكم المشترك، او على الاقل فهو يصمم ان لا يفهم الوضع وان يخرج من المقابلة بتفسيره هو ـ الا انني اظن ان الاحداث ستكون اقوى منه وانه في نهاية الامر سيضطر اما ان يقبل الامور كما هي او ان يسقط) ، ولعل في هذا التصوير ما يفسر تجاهل المسؤولين الانكليز امر المذكرة التوضيحية التي اقترح كلايتون ارسالها الى الحسين لاطلاعه على حقيقة الفهم الذي خرج به سايكس وبيكو عن محادثات جدة .
وفي التقرير الذي رفعه لورنس الى حكومته في 30/7/1917 عن اجتماعه بالحسين في 29 من نفس الشهر، ما يلقي ضوئا اكثر على حقيقة موقف الحسين من المحادثات الاخيرة، فقد عبر الحسين ـ كما ذهب لورنس ـ عن رفضه القاطع إلحاق بيروت ولبنان بفرنسا (وانها اقطار عربية ولكني لن استولي عليها ولن اسمح لاي جهة اخرى بالاستيلاء عليها ـ لقد استحقت الاستقلال ومن واجبي العمل على تحقيق الاستقلال لها) واضاف لورنس ان الحسين رفض الدخول في بحث تفصيلي حول الحدود، وحجته ان الحرب لم تنته بعد، ومن هنا فهو يحتفظ بحريته الكاملة عندما يحين الوقت لذلك ( اذا راينا ذلك ملائما فإننا سنلاحق الاتراك حتى استانبول وارضروم ـ فلماذا نتحدث عن بيروت وحلب وحايل؟ ).
كان الحسين على غاية من السرور اعتقادا منه بأنه اوقع بيكو في المصيدة، بعد اتفاق جدة، اذ عد الوجود الفرنسي في سوريا احتلالا وقتيا ولأسباب استراتيجية وسياسية ، ومن المحتمل انه سيتقاضى منحة سنوية بمثابة تعويض واعتراف (لقد كنت مستعدا ـ كما ذهب الحسين ـ دون ان يطلب الي ذلك ان احافظ مصالحهم في خطوط سكك الحديد الموجودة حاليا، وان اساعد معاهدهم التعليمية، ولكن الحجاز وسورية مثل راحة اليد واصابعها وليس باستطاعتي ان ارضى بقطع أي اصبع او جزء من الاصبع لأن ذلك سيتركني كسيحا) واضاف الحسين في تعليقه عن محادثات جدة، بانها كان قصيرة ولا تحمل الطابع الرسمي، فضلا عن افتقارها للوثائق المكتوبة، وما حصل من تبدل في الوضع انما هو تخلي فرنسا عن فكرة احتلالها الدائم او فرض سيادتها على سورية " ولكننا لم نضع هذا ضمن معاهدة رسمية، لان الحرب لم تنته بعد. انني لم افعل سوى انني قرات قبولي صيغة: (مثل بريطانيا في العراق) التي اقترحها علي بيكو. وذلك لان السيد مارك سايكس اكد لي ان هذه العبارة ستضع خاتمة للبحث ).
وقد اكد الحسين هذه الحقيقة عند اجتماعه بالمعتمد البريطاني في جدة في 22/11/1918، في منحه لفرنسا ما لبريطانيا في العراق. مع بقاء سورية بمدنها المختلفة حمص، حماه، طرابلس، الاسكندرونة ضمن حدود الدولة العربية المتفق عليها. وهذا ما رد به على المعتمد (ولسن) ـ الذي اعتبر هذه المدن ضمن منطقة النفوذ الفرنسي ـ وهو امر اضاف الحسين ـ كان من الاجدر ان يبلغ به في حينه لتحديد موقفه منه.
ولعله بالامكان اضافة برقية (ونجت) الى وزارة خارجية بريطانيا في سنة 1918 دليلا آخر لتعزيز ما ذهبنا اليه. حيث جاء فيها (تذكرون ان اتفاق سايكس ـ بيكو لم يبلغ ابداً بصورة رسمية الى الحسين ).
وفي السنوات التي تلت الحرب ظل الحسين يؤكد بإصرار على ان احدا لم يأت على ذكر اتفاقية سايكس ـ بيكو، خلال اجتماع جدة، الا بعد ستة اشهر حينما فضحها الشيوعيون في عام 1917 . واكد ذلك في افتتاحية احد اعداد جريدة القبلة في مقال تحت عنوان (القضية العربية في دورها الجديد) وانه لو فهم من سايكس وبيكو بوجود ترتيبات تتنافى مع الاهداف العربية لتخلى عن تحالفه مع بريطانيا، ووافق على عقد صلح منفرد مع الاتراك، الذين وافقوا على استقلال العرب التام وتحقيق كافة مطاليبهم بضمان المانيا. وذهبت الجريدة الى القول (لو ان المراد التربع على منصبات المؤترمات والتبجيح على كراسيها، لامضى جلالة مولانا المنقذ معاهدة فرسايل وماهو في معنى ذلك... ).
ان ما تقدم يكاد يوحي بإدراك الحسين لنوايا الحليفتين في المنطقة ، ولكن ضمن فهم وتصور خاطئين ن عززهما افتقاره الى الخبرة السياسية اولا وثقته العميات ببريطانيا ثانيا. ثم الاهداف الاستعمارية ـ وهي الاهم ـ التي عزمت كل من بريطانيا وفرنسا تنفيذها في المشرق العربي منذ عام 1915. وسنلتقي خطوات البحث القادمة ضوءا على حقيقة موقف الحسين من معاهدة سايكس ـ بيكو .
الهاشميون وبداية القضية الفلسطينية:
ـ موقف الحسين من وعد بلفور:
(أ) استفسار الوطنيين عن موقف الحسين:
اثار وعد بلفور (2 تشرين الثاني 1917) موجة من السخط والاحتجاج لدى الاوساط العربي، مما دفع بالسلطات البريطانية الى اتخاذ مختلف الاجراءات لتهدئة الموقف، وازالة المخاوف التي نجمت عن هذا الوعد . اما بالنسبة لموقف الحسين فلم تصدر عنه اية اشارة حينها، بيد ان المسؤولين الانكليز كانوا يتوقعون انه سيكون (اكثر صعوبة من عرب القاهرة، الذين هم اكثر صقلا وثقافة) . لكن هؤلاء ـ ومعظمهم من السوريين المقيمين في مصر ـ لم يكتفوا بالموقف المعارض للوعد المذكور، وانما عمدوا الى الاتصال بالحسين عن طريق الفاروقي ممثله في القاهرة، للاعلان عن موقفهم الاخير . وقد ارسل هذا فعلا نسخه من وعد بلفور ثم تلاه بإرسال احتجاج السوريين الامر الذي كان سببا في عزله ـ كما يبدو ـ من قبل الانكليز لتجاوبه مع زملائه العرب . وعلى حد قول وليم يال ( William Yall ) المواطن الامريكي المقيم في القاهرة، ان الفاروقي افهم السوريين باقتناع سيده بالبرنامج البريطاني المتعلق بمستقبل فلسطين، وكذلك الحال بالنسبة لاحتلال فرنسا لسورية . وذهب (يال) الى ان السطات البريطانية كما استوضح نفسه. كانت تعتقد ان الحسين رجلاً معقول، ولا تتوقع منه مشاكل بشان مستقبل فلسطين خلافا لما اوردناه قبل حين وأيا كان الاعتقادات بموقف الحسين، فإن الوطنيين السوريين عزموا على الاجتماع المباشر بالهاشميين للكشف عن موقفهم، فبعثوا بحقي العظم ممثلا عنهم لهذا الغرض، بيد ان اجتماع الاخير بالحسين وبنجله فيصل ـ كما يبدو ـ لم يكن موفقا. ولم يبد فيصل حينها ـ كما ذهب يال ـ معارضته لما يسمى حق اليهود في وطن قومي في فلسطين، رغم عدم ارتياحه لتصريح بلفور. بينما اخفق العظم في دفع الامير للتأثير في والده للاحتجاج ضد وعد بلفور مما دفع بالعظم للارتياب بسياسة الاشراف ازاء فلسطين . ويبرر (يال) في تقريره موقف الحسين المتناقض بين متطلبات السياسة البريطانية ودواعي الاستقلال العربي المنشود عدم اعتراضه على السياسة البريطانية بسبب الوضع القلق الذي تحيطه، اذ كان جل إعتماد ثورته على المعونة البريطانية الشهرية، التي بدونها تهدد مكانته وهيبته بين امراء الجزيرة الذين كانوا علىعداء معه، فضلا عن نفوذه بين الوطنيين السوريين .
وعلى ما يظهر تقرير (يال) ان ثقة الوطنين السوريين بالحسين اخذت تضعف اثر موافقة الاخيرة، فعزموا على عقد اجتماع في القاهرة يعترضون فيه على زعامة الحسين للدولة العربية، الا اذا اعلن استنكاره للمشاريع الصهيونية ومن ثم تقديم احتجاجه لدول الحلفاء .
ومع احتمال صحة هذه الاخبار، فإنها تكاد تبدو حقائق لمواقف آنية سرعان ما اتخذت شكلا آخر تقريبا بعد فترة من الزمن كما سيتضح.
(ب) اجتماع الحسين ـ هوغارث:
تجاوبا مع الاستياء الذي عم الاوساط العربية بسبب وعد بلفور ولقلقه من الاهداف المترتبة عليه في فلسطين وما قد يعنيه من قيام الدولة اليهودية ، طلب الحسين من الحكومة البريطانية تفسيرا واضحا لوعد بلفور ومداه .
واستجابة لذلك ولتخفيف حدة السخط الذي عم السكان العرب . وابعادا للشكوك التي سادتهم بعد فضح معاهدة سايكس بيكو ، واخيرا لمعالجة التوتر القائم بين الحسين وعبد العزيز ابن سعود ، بادرت وزارة خارجية بريطانيا الى إيفاد الدكتور هوغارث ( Dr. Hogarth ) الى الحسين، لتسوية هذه المشاكل، وايجاد خطة سياسية ثابتة لمعالجتها، وحملته مذكرة شفهية تضمنت وجهة نظرها بالاوضاع الاخيرة ، جاء فيها ثلاث نقاط يمكن ايرادها كالآتي:
اكدت الحكومة البريطانية في النقطة الاولى على عزمها في اتاحة الفرصة الكاملة امام العرب لاستعادة كيانهم كباقي الامم، وذلك لن يتم الا باتحادهم الذي سيتولونه بأنفسهم، مع استعداد بريطاينا وحلفائها في اسناد ما يحقق ذلك .
تأكيد الحكومة البريطانية على رفضها خضوع شعب لشعب آخر في المنطقة، ونظراً لأهمية فلسطين الدينية وبحكم مراكزها الدينية التي تمثل الاديان السماوية، فإن الامر يقتضي اقامة نظام خاص بهذه المراكز، اما فيما يخص مسجد عمر فأمره خاص بالمسلمين ولا يخضع لاية سلطة غير اسلامية ، وكأن مسجد عمر هو القضية الرئيسية في فلسطين ؟
اما النقطة الاخيرة والمهمة في هذه المذكرة فتتعلق بعودة اليهود الى فلسطين، حيث ابدت بريطانيا عطفها وعزمها على ازالة ما يعيق هذا المشروع (على ان يتفق ذلك مع حرية الاهالي الموجودين من الوجهتين الاقتصادية والسياسية) دون ان تغفل المذكرة الاشارة الى اهمية التعاون العربي الصهيوني للقضية العربي، ذلك انها ستكتسب وعد وعطف كل الدول التي لليهود فيها نفوذ سياسي، الامر الذي لا يبرر تجاهل مثل هذه الاهمية .
اجتمع هوغارث بالحسين، وابلغه المذكرة شفهيا ، لكن الاخير لم يغفل تدوينها لديه، ولعل في استخدام انطونيوس لبعض نصوصها في كتبه يقظة العرب، قبل نشر هذه الوثائق ما يدعم ذلك .
اعرب الحسين عن ارتياحه للنقطة الاولى باعتبارها الاساس الذي قام عليه تحالف الطرفين، واظهر استعداده ـ وللمقتضيات الحربية ـ للاعتراف ببعض التعديلات الثانوية في اتفاقيته مع الحلفاء، على ان يبلغوه بصراحة عن هذه التعديلات والضرورة التي تقتضيها .
ولما اعاد هوغارث لاذهان الحسين التحفظات المنصوصة في اتفاقه مع بريطانيا والذي يكفل فيه المصالح الفرنسية، ابدى الحسين شكه في وجود اتفاق حقيقي ودائم في المصالح بين فرنسا وبريطانيا، فاكتفى هوغارث بالاشارة الى اتفاق وجهات نظر الدولتين بشأن القضايا العربية، واخذهما بالمبادئ الاميركية بقوة حول تقرير الشعوب لمصيرها، وبأن فرنسا لاتهدف سوى حماية ومساعد الحكومة المستقلة في سوريا ، لتترك كلمة الحماية للمستقبل وتأويلها وفق المصالح المنشوردة.
اما بالنسبة للنقطة التالية في المذكرة، فالذي يظهر من الاجتماع ان الحسين لم يعط جوابا محددا بشأنها، فهو في الوقت الذي يبدي فيه تعاطفه لفكرة الاشراف الدولي على فلسطين واستقرار اليهود فيها ، وقبوله بالتدابير المناسبة لتأمين الاماكن المقدسة واشراف الطوائف المعنية عليها ، يعتبر ذلك " مسألة يعاد النظر فيها بعد عقد الصلح " رغم تأكيد هوغارث في اعتبارها تدابير نهائية .
والظاهر ان الحسين كان يأخذ الامور بحسن نية. ويرى في منغصات حلفائه، قضايا آنية تحتمها ظروف الحرب وهذا ما اوضحوه له مسبقا. ومن هنا كان يرى في نهاية الحرب نهاية مشاكله معهم، وذلك ما اكده لهوغارث من ان هناك (حسابات سيسويها بعد الحرب وانه الى ان يجيء أوان ذلك لا يلح في شيء) الامر الذي يفسر يقين هوغارث (في انه ـ الحسين ـ فيما بينه وبين نفسه لا ينزل في شيء من مطالبة الاصلية للعرب او لنفسه مع الزمن)، رغم عدم قناعته في ان تكون للحسين (خطة مرسومة او انه يعرف طريقه الى غايته) .
واخير فإن الاقتراح الذي ابداه هوغارث في استثناء الاشارة الى عبارة الادارة السياسية من البيان الذي اقترح صياغته في ضوء النقطة الثانية من الرسالة وموقف الحسين المذكور من هذه النقطة، ما يمكن اضافته من اجل توضيح الصورة التي كان عليها موقف الحسين من قضية الاشراف الدولية والنظام الخاص في فلسطين .
اما بالنسبة القسم الثالث من المذكرة والمتعلق بإقامة اليهود، فلم ير الحسين في ذلك الامر اكثر من كونه موضوعا يتعلق بطائفة من اسسهل الذمة ومشكلة سكناهم بين المسلمين وانطلاقا من هذه الفكرة، فإنه سيبذل جهده لتحقيق هذه الرغبة ، ما دامت الغاية من ذلك تهيئة الملجأ لليهود المضطهدين، وما دامت مسألة التنازل عن مطلب السيادة للعرب، لم يكن موضوع بحث ابدا . وذهب الى انه (لن يقبل قيام دولة يهودية مستقلة في فلسطين)، دون ان يكون في وسع هوغارث الافصاح بأن ذلك ما كانت تفكر فيه بريطانيا ، علما ان ذلك لم يمنع الحسين من ابداء قناعته ـ وعندما يحين الوقت ـ للنظر في تزويد الحكومة السورية بما في ذلك فلسطين بالخبراء والفنيين والاداريين .
ومع ذلك فلم يكن موقف الحسين من الموضوع مشجعا بالنسبة لوجهة النظر البريطانية الا انه ـ كما ذهب كلايتون في هذا الصدد ـ ومع عناده ومحاولته تحريف كل شيء غير محدد الى صالحه، فما زال من الضرورة ابقاؤه على المسرح . هذا ولعل موقف الحسين الحقيقي من القضية الفلسطينية يتضح في مقاله الذي نشرته جريدة القبلة. وقد جاء فيه:
(لقد كان من اعجب الامور قبل هذا العهد الاخير ان يزهد ابن فلسطين في بلاده ويتحول منها راكبا كل بحر الى كل قطر لا يمسكه في تربته الاصلية تسليل آبائه واجداده فوق اديمها الف عام او اكثر. هذا بينما نرى اجانب اسرائيليين ينسلون اليها من روسيا والمانيا والنمسا واسبانيا وامريكا حتى ارتقى عددهم خمسة وثلاثين عاما من اربعة عشر الف نسمة الى خمسة واربعين الف...) . وقد عللت الجريدة وجود هذه الظاهرة الى نقص الامكانيات والوسائل الكافية لهم في العهود السابقة، بينما توفرت لليهود المهاجرين بفضل تعاونهم... ومن هنا تهيب القبلة بالفلسطينيين الى العودة الى اراضيهم لافادة اخوانهم... بعد انتفاء ما يعيق ذلك، للاستفادة من مؤهلاتهم العلمية التي استزاد بمثلها نزيلهم اليهودي، فضلا عن الخبرات التي جاءت بها الجاليات الوافدة من اميركا واوروبا .
وتجدر الاشارة الى ان الحسين كان قد طالب (ونجت) في شباط 1918، بتنفيد الاشاعات التي اثيرت ضده بين بعض سكان فلسطين، بإتهامهم إياه في اخضاع فلسطين للسيطرة الصهيونية، اذ ان مثل هذا الاتهام على حد " لايمكن ازالته الا بالانتحار " .
كما اعرب الحسين عن امتعاضه لـ(ونجت) للاجراء الذي اتخذته الحكومة البريطانية في وضع فلسطين تحت الاشراف العسكري البريطاني التابع لقيادة الجنرال اللنبي ( Allenby ) ، (فالشكل والكيفية التي تقررت لادارة فلسطين وما حولها... سيكون حكما قاضيا على حكم مخلصكم بالانتحار...) .
ـ موقف القادة الحجازيين من عروض العثمانيين للتفاهم:
لقد مرت محاولات التفاهم بين القادة الحجازيين والعثمانيين بثلاثة ادوار هامة لم تسفر عن نتائج ايجابية. تمثل الدور الاول بجهود جمال باشا، وتمثل الدوران الثاني والثالث بمفاوضات جمال باشا الصغير مع المسؤولين الحجازيين.
مساعي جمال باشا: فضحت ثورة اكتوبر جملة من الاتفاقيات السرية في 8 تشرين الثاني 1917، كان من بينها اتفاقية سايكس ـ بيكو، المتعلقة بالمشرق العربي، فلم تمض ايام حتى كانت تفاصيلها بيد الحكومةالعثمانية، التي سارعت لاستغلالها في اقناع الحسين لسحب قواته من خطوط القتال.
وقد جاءت عروض العثمانيين الاولى للصلح على يد جمال باشا في اواخر تشرين الثاني 1917، اذ بعث بثلاث رسائل الى القادة الحجازيين اثنتين منها الى كل من الامير فيصل ـ وكان حينها في العقبة ـ والقائد جعفر العسكري، وذلك بتاريخ 26 تشرين الثاني فيما كانت الثالثة للامير عبد الله في 5 كانون الاول 1917 .
اوضح جمال في رسالته لفيصل، ان الهدف من اشتراك الدولة في الحرب انما كان لانقاذ العالم الاسلامي من الوضع الذليل الذي يعانيه، بينما الحقت الثورة في الحجاز، الضرر بالدولة ووحدتها، واشار الى صعوبة اقرارها الان بعد تشكف حقيقة الحلفاء واطماعهم في العراق والشام، وما التقدم البريطاني الذي وصل... فلسطين، الا دليل لذلك. وقد اراد جمال ابقاء الباب مفتوحا لتسوية الامور ودعى فيصل الى الاجتماع لهذا الغرض وختم رسالته بعدها بالواجب الديني الذي دفعه لهذه الخطوة .
وقد ارفقت هذه الرسالة بورقة صغيرة تضمنت النقاط التي يمكن في ضوءها اجراء المفاوضات، جاء فيها اقرار الحكم الذاتي الكامل للولايات العربية، والاعتراف بالاماني القومية وعند الاتفاق فإن تصديقها لا يضمن من قبل السلطان فحسب، وانما بضمان مماثل من الحكومة الالمانية .
ولم تعد رسالتا جمال الاخريتان، لكل من جعفر وعبد الله، في مضامينهما عن الدعوة التي ودجهها لفيصل وتسوية الامر قبل فوات الاوان .
ولم يكتف جمال بذلك، بل راح، من اجل تحقيق مشروع الصلح، الى اشاعة خبر الاتفاقية السرية بين الناس. اذ دعا ببيروت ـ في 4 كانون اول 1917 ـ الى مأدبة جمع فيها اعيان ووجوه سوريا، وكرر عليها ما تقدم واشار الى غرض الصلح الذي قدمه للحسين، بعد ان راجع الاضرار التي خلقت بالدولة والعرب على السواء، والخديعة التي وقع بها الحسين جراء تصديقه وعود الحلفاء الكاذبة التي لوحوا بها لاجل مصالحهم. وراح يلوم الحسين لكونه السبب في وصول قوات الحلفاء الى ابواب القدس دون ان يغفل (جمال) تجديد نصائحه السابقة، والعدول عن الخطأ . ثم امر الباشا بطبع الحقائق الاخيرة في صحف بيروت ودمشق، واصدر عددا خاصا بهذا الخصوص في جريدة (الشرق) التي كانت تمولها السلطات العثمانية ، وهربت نسخ من هذه الصحيفةالى مكة عبر المدينة التي لما تزل تحت السيادة العثمانية. وعلى حد قول المعاصرين ان امل الاتراك في نجاح الصلح كاد ان يبلغ ذروته ، وامسى سببا لكثير من المتاعب التي واجهها الحلفاء في المنطقة هذه الآونة .
اتصل الحسين حال تسلمه رسائل جمال باشا ـ بالسير (ونجت)، يستفسر عن الاتفاقيات السرية التي اشاعها جمال وجهله بهذه الاخبار التي لاتخفى عن بريطانيا في الوقت الذي اقترح فيه بالرد على جمال باستحالة الصلح دون موافقة الحلفاء، واستعداده للسعي في عقد صلح منفرد بين الدولة العثمانية والحلفاء حالة رغبتها بذلك، على ان تخلي بعض المواقع المعينة. وذهب الحسين الى تخويل ونجت في ابلاغ فيصل ما يراه صائبا لتحديد موقفه ، علما انه اكد على نجله فيصل بمواصلة تقدمه واستلام تعليماته من (ونجت) او القائد العام الجنرال (اللنبي) حالة عدم استلامه اية اوامر من قبله اعقبها برسالتين اخريتين، اكد فيهما لـ (فيصل) رفضه القاطع لمشروع الصلح مع العثمانيين .
اعرب المسؤولون الانكليز عن ارتياحهم للموقف الاخير، واستجابة لطلب الحسين، ابلغ (ونجت) الامير فيصل بالتشاور مع الكولونيل لورنس بشأن عروض الصلح ، في الوقت الذي ابلغ فيه اللورد بلفور (وزير الخارجية) بهذه التطورات مع احدى رسائل جمال باشا التي كان قد بعث بها الى فيصل، دون ان يتجاهل ونجت استئناف تلفيقاته السابقة في الاشادة بمكانة الحسين ودروه في الحركة العربية، ورغبة الحلفاء في دعم العرب وتقدمهم .
لكن الحسين لم يقتنع بالتعابير الودية ـ كما يبدو ـ وواجه (ونجت) بتحديد الموقف البريطاني من الاشاعات التي اخذت تلصق به بعد شيوع خبر فضح الاتفاقيات السرية ، وما قادت اليه من التذمر والبلبلة بين صفوف قواته المقاتلة . الامر الذي دفع بالسلطات البريطانية ـ ولقلقها من الاستياء الذي اخذ يدب بين هذه القوات ـ الى محاولة صرف النظر عما اثاره كشف الاتفاقية من الشكوك، وبالشكل الذي لا يخل بمصالحها، كأن تكثر من تصريحاتها التعميمية من جهة، وتأكيدها على الحسين في تصعيد العمليات العسكرية وحث انجاله على ذلك من جهة اخرى باعتباره الجواب الفصل على مشروع الاتراك وحلفائهم الالمان الذين لم يألوا جهدا في بث الاشاعات بين قوات البدو والقريبة منهم . ولعل في رسالة السير ونجت الى حكومته في 22/1/1918 دليل واضح على مدى القلق الذي انتاب المسؤولين الانكليز، وبالذات ابرزهم في المنطقة. فقد اشار الاخير الى فاعلية الحقائق التي نشرتها الصحف الروسية في نفوس العرب، ومن ان القلق يبدو واضحا في الحجاز لاحتمال وجود نشاطات دعائية مناوئة في سورية، ومن هنا جاء تأكيده على ضرورة تجنب التصريحت التعميمية واتخاذ موقف واضح من التطورات الاخيرة. وابدى المقترحات التالية التي يرغب في ابلاغها للحسين:
ان حكومة جلالته ما تزال مصممة على تحقيق استقلال العرب والوفاء بالوعد الذي قطع عن طريقه (الملك حسين) للعرب في بداية ثورة الحجاز.
ان حكومة جلالته لن توافق على احتلال اجنبي او اوروبي دائم لفلسطين، سورية العراق (باستثناء البصرة)، بعد الحرب.
واضاف ونجت: ان هذه المسألة عاجلة اذا ما أريد ايقاف دعاية العدو عند حدها، واذا ما اريد منع العرب من الانحياز الى جانب العدو. وختم قوله بضرورة اتخاذ فرنسا تصريحا مماثلا .
وعلى اية حال فإن الحسين من الجهة الثانية استأنف استفساره السابق، واعرب عن حراجه موقفه بين المسلمين والعرب جراء الحقائق التي كشفتها الوثائق السرية والتي قد تضطره الى الانسحاب أو الانتحار، حالة عدم اتخاذ الاجراءات، التي تحول دون جعله مادة للاقاويل والتكهنات... فاضطر ونجت حينها الى احالة الامر الى وزارة الخارجية البريطانية لتوضيح موقفها، الا ان الوزارة ومع سنوح هذه الفرصة لمصارحة الحسين بالحقيقة تجاهلت الامر واستمرت على تسترها السابق، كما يتضح ذلك من خلال المذكرة التي وجهها اللورد بلفور الى ونجت في 4 شباط، الذي ابلغها بدوره الى الحسين في 8 شباط. فقد اشادت المذكرة بموقف الحسين من العروض التركية، باعتباره نموذجا لصدق العلاقة القائمة بين الطرفين، وذهبت المذكرة الى تكذيب الاشاعات والاتهامات التي تثيرها تركيا ضد الحلفاء في هدف بث الخلافة بينهم وبين العرب... واضافت المذكرة (ان حكومة جلالته مع الدول المحالفة لها ما تزال تلتزم بموقف الدفاع عن قضية تحرير الامم المظلومة وهي مصممة على الوقوف الى جانب الشعوب العربية في جهادها الرامي الى قيام عالم عربي يسوده القانون والشرع بدل الظلم العثماني...).
(ان حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى تكرر عهودها السالفة التي قطعتها لجلالتكم بخصوص تحرير الشعوب العربية. ان سياسة التحرير هي السياسة التي سارت عليها حكومة جلالته والتي تقصد ان تستمر عليها بتصميم لا يتزعزع، وذلك بان تحفظ العرب الذين تم تحريرهم من خطورة عودة الاحتلال، وبأن تساعد العرب الذين لا يزالون تحت نير الظالمين كي ينالوا حريتهم) .
وقد اعقب ونجت هذه المذكرة ببرقية منه، حاول فيها تبديد مخاوف الحسين، وضرورة الركون لوعود الحلفاء الذين جردهم من المطامع في المنطقة بما فيها سورية، لكنه لم يحدد بشكل واضح المستقبل الذي ينتظرها وانما اكد على ضرورة المشاورات الودية بهذا الشأن لما يضمن مصالح الاطراف المعنية، دون اهمال الحقوق المعقولة للاقليات الاخرى .
2ـ مساعي جمال الصغير: ومرت هذه المساعي بدورين رئيسيين كان الاول في شباط 1918، وذلك حينما فاتح جمال الصغير فيصلا بالتفاهم. اذ اوفد الصغير رسولا الى الامير فيصل يدعوه مجددا لعقد الصلح، فلم يعارض الاخير شريطة انسحاب القوات العثمانية عن المدينة المنورة ومعان وجميع محطات سكة الحديد حتى عمان، ليحاول بعدها اقناع والده بمفاوضات الصلح. غير ان الحسين اصر على رفضه لمشروع الصلح وتمادى في ثقته ببريطانيا فأكد لفيصل وفاء الحلفاء بوعودهم، ثم بعث بدعوة جمال الصغير وموقفه منها الى السير ونجت .
اما الدور الثاني لمحاولة الصغير فكان في 5 حزيران 1918، اذ قدم ثانية الى فيصل الدعوة للتفاهم. وقد اجاب الاخير بالقبول مقابل الشروط التالية:
1ـ نقل جميع القوات العسكرية المرابطة على خط سكة الحديد بين المدينة ـ عمان الى عمان .
2ـ التحاق جميع الضباط العرب الموجودين في الاناضول والروميللي بالجيش العربي.
3ـ يوضع الجيش العربي تحت امرة قائده حالة اشتراكه بجانب الدولة العثمانية ضد العدو.
4ـ تحصل سوريا على استقلالها الذاتي.
5ـ تمتنع القوات العثمانية من الاستحواذ على اية كمية من المواد التموينية الموجودة في سورية في الوقت الحاضر، لتبقى تحت تصرف الجيش العربي .
ويبدو ان هناك ثمة نقاط تحيط بموقف فيصل الايجابي من عروض الصلح، الامر الذي يقتضي توضيحها لفهم مايليها من نقاط. اذ تشير بعض الوثائق الى ابلاغ الحسين لـ (ونجت) في 7 حزيران بعرض الصلح الاخير أي في نفس اليوم الذي ابلغ فيه نجله برفض هذه العروض، بينما يعرض فيصل بعد ثلاثة ايام شروطه على جمال الصغير وهو وقت كاف لوصول اوامر والده . وبكلمة اخرى ان فيصل دخل مفاوضات الصلح رغم وصول اوامر والده برفضها، ولعل هناك ما يبرر موقف فيصل، فلا غرابة في ان يكون للتذمر الذي ساد القوات العربية ازاء حقيقة اهداف الحلفاء اثره في اضطرار فيصل لاتخاذ الموقف الاخير , وهو الذي عهدناه مترددا في قبول الثورة لريبته بنوايا الحلفاء، الامر الذي قد يعزز طبيعة الاستجابة التي ابداها، بعد نفور اتباعه واستصعابهم القتال. وقد اعرب فيصل عن رأيه الشخصي بتحول السياسة البريطانية في هذه الفترة، وبكونها اخذت (تبعث على الياس) ولعل الامر يبدو اكثر قناعة، حينما يكون الامير على علم بمفاوضات الصلح الجارية بين الدولةالعثمانية وبريطانيا، بعد ان وصلته اخبارها ولم يمض اسبوع على بدئها ، اذ رأت الحكومة البريطانية، وبعد اتضاح السياسة الجديدة لثورة اكتوبر، امكانية تسوية مشاكلها مع الدولة العثمانية ، وتم بحث الامر بين وفدي كلا الجانبين العثماني برئاسة طلعت باشا، والبريطاني برئاسة السير اوبري هربرت ( Aubrey Herbert ) وكان ذلك في حدود كانون الاول 1917 . والظاهر ان مثل هذه المساعي سبق ان تم التشاور بشأنها في منتصف سنة 1917 وكان السفير الاميركي في الاستانة (مورجانتو) هو الوسيط في هذا السبيل، غير ان هذه المساعي باءت بالفشل وقد قيل أن للصهيونية بدأ في ذلك، لما في هذه التسوية من خطورة على مشاريعها في فلسطين، حتى ان وايزمن سارع الى الاجتماع بمورجانتو في جبل طارق وهو في طريقه الى لندن لاتمام مشروع الصلح، وتمكن من اقناعه للعدول عن مسعاه .
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه هذه الاتصالات،واصل الحسين شكواه من الاشاعات التي اخذت تشكك بصدق الحلفاء، واتهامهم بالالتفاف على الوعود التي قطعوها . فلم يبخل (ونجت) بدوره في تزكية موقف الحلفاء، وسعيهم لاتحاد العرب وتخليصهم من الحكم العثماني، واستشهد (ونجت) بتصريح هوغارث لدى زيارته جدة كما تقدم اكد فيه تصميم الحلفاء لاتاحة الفرصة في بعث العرب... والسعي لوحدتهم... غير ان هذا الاتحاد ـ كما ذهب ونجت ـ سيكون ارسخ قدما اذا تولاه العرب بأنفسهم وبقناعتهم... .
ومع ذلك فإن المسؤولين الانكليز من جهة ثانية كانوا على حذر من محاولات جمال الصغير الاخيرة، وسعوا مجددا لاحباطها، ولم يكتفوا هذه المرة بالبرقيات الودية المعتادة مع الحسين ، وانم شرعوا ـ وبالذات ونجت ـ الى اقناع الحكومة بتكذيب وجود نص مكتوب لاتفاقية سايكس ـ بيكو، باعتبارها محور المشكلة. وابرق ونجت الى وزارة الخارجية في 16 حزيران يطلب موافقتها لمذكرته المقترحة بهذا الخصوص الى الملك حسين، والتي رفعها فيما بعد الى الحسين قد جاء فيها: (ان البولشفيك لم يجدوا في وزارة الخارجية في بتروغراد معاهدة معقودة، بل محاورات ومحادثات موقتة بين انجلترا وفرنسا وروسيا في اوائل الحرب لمنع المصاعب. وان جمال باشا اما من الجهل او الخبث غير في مقصدها الاساسي. واهمل شروطها القاضية بضرورة وضع الاهالي وحماية مصالحهم. وقد تجاهل ما وقع بعد ذلك من ان قيام الحركة العربية ونجاحها الباهر وانسحاب روسيا قد اوجد حالة اخرى تختلف عما كانت عليه بالكلية منذ امد مضى .
بيد ان التصريحات الاخيرة لم توقف الاتصالات الجارية بين فيصل وجمال الصغير، وقد طلب الامير من الاخير الاسراع في الاجابة على مقترحاته المتقدمة نظرا لقرب موعد الهجوم البريطاني العام . فأسرع الصغير وبعث بدوره بالامير محمد سعيد الجزائري ممثلاً له في التفاوض مع فيصل . وفي منطقة وهيدة غرب مدينة معان، اجتمع الاميران ليلة 12 آب 1918 وسلم الجزائري فيصل رسالة جمال الصغير التي دعا فيها الى انحاء الفتنة وايقاف القتال بين المسلمين ، واستعداد الدولة لقبول جميع المطاليب التي يتقدم بها العرب . الا ان الامير لم يكن قانعا ـ كما يبدو ـ بالرسالة الاخيرة والتي سبق وان تسلم مثلها من قبل، ولم يجد فيها ما يعجل في اتمام الصلح، واعتبر هذه الرسائل سببا في ضياع الوقت، في الوقت الذي امسى فيه الوضع العسكري غاية من الخطورة . ومع ذلك فقط طرح فيصل مطالبه المتمثلة بحرية واستقلال العرب ضمن اتحاد لا مركزي مع الدولة العثمانية، واذا ما أبدت الدولة استعدادها لذلك، فالعرب على استعداد للموافقة على الصلح . ويضيف البعض طلب فيصل بانسحاب القوات العثمانية عن البلاد العربية، لاعلان استقلالها . رفع جمال الصغيرمطالب فيصل الى الاستانة فوافق عليها السلطان، واصدر ارادته السنية في اقرار مطالب الجانب العربي، غير ان كلا من انور وطلعت باشا اهملا الامر ، ولم يبلغا القوات العثمانية في سورية بالامر بعد الهزيمة النهائية التي احاقت بهذه القوات وخروجها من فلسطين مندحرة .
والظاهر ان كلا من انور وطلعت باشا كانا رافضين لهذه المشاريع منذ البداية وذهبت عبثا جهود الجنرال الالماني (ساندرس) لاقناعهما بالموافقة على المشروع . لتفشل آخر محاولة للصلح بين الهاشميين والدولة العثمانية خلال فترة الحرب.
ومع فشل محاولات الصلح مع العثمانيين فإن الحسين، وبعد تسلمه لحقيقة الاشاعات التي اثيرت مؤخرا، اندفع لمصارحة حليفته بتصوراته عن مستقبل المنطقة على ضوء ما يربطه بها من التزامات وعهود، منعا للغموض او التأويل الذي قد يثار حولها في المستقبل. ومن هنا جاءت رسالته المطولة. مرفقة ببنود الاتفاق الذي عقده مع مكماهون . اما عن رسالته لنوجت فقد جرد نفسه فيها من المطامع الشخصية، بقدرما يسعى اليه من تأمين مصالح المسلمين عامة والعرب خاصة. اما تلبية الدعوة البريطانية في دخول الحرب، فإنه كان يهدف من ورائها الى:
1ـ " حفظ الكيان الاسلامي بالنظر لما حل وسيحل بتركيا ".
2ـ صيانة العظمة البريطانية، من الاستهداف الى ما سترمي عكس مقاصدها.
3ـ " سلامتي من الاتهام بالتواطؤ معها ضد الاساس المقصود بالنهضة ". واضاف ان الاجتماعات التي كان قد عقددها مع ستورس ومارك سايكس وهوغارث في السنوات الماضية لم تكن لتشير الى ما سيحل بالمقررات التي اتفق عليها مع بريطانيا (غير ان ما في طبيعة مشروعنا وتتماته الحياتية من الرقة وما يتصادف من بعض حالات، يستدعي سياقها زيادة تعيين الامور وتاكيد الحقيقة عند الحدود فقط... عما لو فهمت الغلط في مقرراتنا المذكورة اساسا اوجدت ما يوجب تعديلها الامر الذي لا اقول انه يمس كيان العالم الاسلامي ولكن اظن. وبعض الظن اثم انه لايخلو من شيء من ذلك، هذا على فكري الخصوصي فمتى اضفنا عليه تظاهر عجزي بعدم حصول ما كان يؤمل من النتائج يتحتم علي الانسحاب من الامر والتنازل عند لاعتقادي الشخصي ان تعديل مقرراتنا المذكورة بصرف النظر عما في اخلاله بالغايات المقصودة الاساسية وعرضتنا لحذر موادنا الثلاث آنفة البيان وطمس صحيفة تاريخي، فهو يزيل ويسقطني من ثقة واعتماد بلادي واقوامي الاقربين حينما يظهر لهم عكس تلك المقررات التي اعلنتها لهم. واكون قد خدعت نفسي وغششتكم...) .
وذهب الحسين يعبر عن خطورة الوضع الناجم عن تزعزع ثقة الناس بوعود الحلفاء وعدم اقتناعهم بالحجج او تصديقها (وعليه فإن كان لابد من التعديل ـ ويقصد تعديل مواد الاتفاق ـ فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب... اما عطف الامر وتعليقه بمؤتمر الصلح فالجواب عليه من الآن بأن لا علاقة لنا به ولا مناسبة بينا واياه حتى ننتظر منه سلبا او إيجابا)، اذ لا اهمية لقراراته عنده، ما لم تقرها حليفته بريطانية .
الحجاز ومؤتمر الصلح:
دعي الحجاز الى مؤتمر الصلح،الذي انعقد في باريس سنة 1919، بصفته دولة حليفة ساهمت في المجهود الحربي. وكانت الدعوة موجهة من بريطانيا الى الحسين. حيث تم ترشيح ابنه فيصل لحضور المؤتمر. وقد ابرق الاول للثاني يأمره بالسفر الى باريس لحضور المؤتمر .
لقد كان موقف الوفد الحجازي حرجا للغاية سواء بالنسبة له، او للحلفاء اذ لم تكن هناك فكرة واضحة لدى فيصل عن مفهوم الحلفاء لمركز والده. فقد اراده هؤلاء ان يكون ممثلا عن مملكة الحجاز بينما اراد فيصل ان يكون ممثلا عن مملكة الحجاز والبلاد العربية. وهنا ارتطم الوفد الحجازي بواقع السياسات الدولية خاصة بالنسبة لكل من انكلترا وفرنسا ومطامعهما في البلاد العربية، ناهيك عن المشكلة الفلسطينية والانتداب على البلاد العربية. وهذا ما تمثل في نشاطات فيصل في باريس . ولا نريد هنا ان نخوض في موضوع المتاهات الدبلوماسية التي اضاع فيها الوفد الحجازي نفسه خاصة في موضوع الاماني القومية العربية وموقف الحلفاء منها، ذلك لانها قد اشبعت بحثا من قبل غيرنا ، هذا الى جانب كونها خارج نطاق موضوع الممكلة الحجازية حسبما نرى. لذا فقط انصب البحث على سياسة الملك حسين الخارجية بقدر ما يتعلق بالمصلحة الحجازية.
اما انعكاس هذه السياسة لمملكة الحجاز في سنواتها الخمس الاخيرة ( 1920-1925) فتمثل بما يأتي:
اولا ـ العلاقات الحجازية البريطانية.
ثانيا ـ التقارب الحجازي السوفيتي.
ثالثا ـ محاولات التفاهم مع الكماليين.
اولا ـ العلاقات الحجازية ـ البريطانية:
1ـ تدهور العلاقات الحجازية ـ البريطانية: لم تجد مساعي فيصل في مؤتمر الصلح في إبعاد فرنسا عن اهدافها في السيطرة على سورية، في الوقت الذي بدأت فيه بريطانيا بتنفيذ التزامها حيال حليفتها بشأن سورية وامرت بسحب جيوشها عن الاخيرة تمهيدا لدخول القوات الفرنسية بما صاحب ذلك من تحاشي المسؤولين الانكليز البحث في هذا الموضوع مع الملك حسين، كما يتضح من موقف الجنرال اللنبي لدى زيارته الحسين في جدة في كانون الثاني 1920، حينما تجنب البحث حول مصير سورية، والالتفاف الى الخلافات الحجازية النجدية، وقيل ان الحسين واجد (اللنبي) بالانفعال حد البكاء لتهاون بريطانيا في وعودها معه . وقد ابدى الاخير نفس الموقف للامير عبد الله عند زيارته القاهرة (26 نيسان ـ 11 مايس 1920)، واضاف عدم اعتارف حكومته بأحقية الملك في التعبير باسم العرب الذين لم ينتخبوه ناطقا باسمهم، فضلا عن انتقال هذا الموضوع من حكومته الى مجلس السلم الاعلى .
وتوجت هذه المغالطات في تراجع بريطانيا عن التزاماتها في مؤتمر سان ريمو (25 نيسان 1920) بإقرارها مبدأ الانتداب على اقطار المشرق العربي وبما ينسجم مع مصالح حليفتها فرنسا، وقد اكدت ذلك في مذكراتها الجوابية للملك حسين في 15 حزيران 1920 ، التي احالت فيها مسؤولية الانتدابات الى مجلس السلم الذي رأى بدوره ضرورة مساعدة اقطار المشرق العربي من قبل فرنسا وبريطانيا، مع الاعتراف باستقلال الحجاز واعتباره عضوا في مجلس عصبة الامم. وجوابا على استفسار الحسين عن الدعوة التي كان قد وجهها مؤتمر سان ريمو الى نجله فيصل، اوضحت المذكرة عدم مسؤولية الحكومة البريطانية عن هذه الدعوة باعتبارها موجهة من قبل مؤتمر السلم. ويبدو ان الحسين كان قد انتقد الجهات البريطانية عن نكثها بالوعود، مما يفسر دفاع وزارة الخارجية البريطانية عن سمعة الحكومة وعن احترامها للعهود الموجودة بين الطرفين .
ومع الارتياح الذي ابداه الحسين لما اوردته المذكرة الاخيرة عن احترامها بريطانيا للوعود، ذهب الى توضيح النقاط التي يحتفظ بها بشأن علاقته بالاخيرة، وموقفه من مؤتمر الصلح وقراراته. قد جاء فيها:
ان علاقته ببريطانيا وليست مع مؤتمر الصلح.
حراجة موقفه بعد قرار المؤتمر بفرض الانتداب على البلاد العربية وتقسيمها، واستفساره عما ينقذه من هذا المأزق.
لفت انتباه المسؤولين الى رسائل مكماهون، وامله في التزام بريطانيا بكلمتها.
المطالبة باستقلال العراق وسورية والجزيرة العربية وفلسطين باي وسيلة كانت، واعدا باستمرار العرب على حماية مصالحها في المنطقة.
واوضح اخيرا الوضع الاقتصادي المتردي الذي يعانيه الحجاز لطبيعته وامكاناته الفقيرة والتي توجب وحدته بالاقطار العربية الاخرى .
جدد الحسين شكواه وحراجة موقفه ازاء التطورات الاخيرة... والنتائج المخيبة التي تلقاها العرب والاتراك على السواء،جراء ثقته بالوعود البريطانية. وراح يلوح بفكرة التنازل عن العرش، لعجزه عن الانتحار. في الوقت الذي اعرب فيه عن عجزه ـ دون الدعم البريطاني ـ في مواجهة الاضطراب الداخلي حالة تجاوز الحكام المجاورين على بلاده. وطالب ايضا باستئناف الاعانة الشهرية، واكد خطورة تجاهل الحكومة لهذين الطلبين على وضعه الحلي. وتنصله من مسؤولية التنائج المترتبة على سقوطه في الوقت الحاضر. كما اعاد الحسين مطالبته بريطانيا بتنفيذ وعودها في العراق، بعد ان كان اتفاقها يقتصر على احتلال البصرة. وكذلك الحال بالنسبة لالتزاماتها بشأن سورية وفلسطين، واهمية استجابتها على علاقة الطرفين بما ستوفره من ولاء العرب الثابت، وعكسه، حالة اجهاضها لحقوقهم. ومع ذلك فلم يخف الحسين تعبيره عن ارتباكه، وطلبه النصيحة البريطانية .
وجدير بالاشارة ان الحسين كان قد رفض التوقيع على معاهدة فرساي (28 حزيران 1919)، وتوج هذا الموقف بالنسبة لمعاهدة سيفر 10 آب 1920 لاقرارهما مبدأ الانتداب على اقطار المشرق العربي ، وبما تضمنه من دعم لسياسة انشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين . ويلاحظ من الوثائق البريطانية اهتمام المسؤولين الانكليز بتغيير موقف الحسين الاخير، فهما منهم في تاثير موقف الوفد الحجازي في باريس، على الجهات الاسلامية، وكسبها لجانبه، بعد انفراده في رفض التوقيع على معاهدة الصلح. ومن هنا جاءت ـ كما يبدو ـ تأكيدات اللورد كررزن ( Curzon) الى القاهرة على حمل الحسين لتغيير موقفه وذلك باتباع الوسائل اللازمة، والتشبث بغروره الفارغ، وابلاغه بأهمية اسهامه في اعادة السلام للعالم. وإبلاغه ايضا باستقلال الحجاز الذي تضمنته المعاهدة، واعتراف تركيا بذلك . ويضيف كررزن الى تأكيداته، ضمان بريطانيا لهذا الاستقلال والعمل على دعمه، وعزمها ـ بعد اتمامه ـ على فتح المفاوضات بشأن الحدود الحجازية النجدية. ثم يختم كررزن منذرا (ان رفض الحجاز توقيع معاهدة السلام سيعرض وضعه للخطر،وان حكومة صاحب الجلالة راغبة في تصحيح ذلك, لهذا فإنها تدعو الملك حسين بجدية الى إرسال ممثله لتوقيع المعاهدة بالسرعة الممكنة . بيد ان الحسين طالب بوفاء بريطانيا بوعودها، شرطا للتوقيع على المعاهدة. ولم يستجب لمساعي الجهات البريطانية، او محاولات نجله عبد الله في هذا السبيل . فانتهجت سبيلا آخر لاستدراجه وذلك عن طريق رشوته بالمال. فأوعز كررزن الى المسؤولين في القاهرة بتخصيص (30) الف جنيه لهذا الغرض، على ان تمنح هذه المبالغ وفق شروط، يتسلم الحسين الدفعة الاولى منها وقدرها (10 آلاف) جنيه شريطة تعهده بصرفها داخل الحجاز ، اما العشرة الثانية فتدفع مقابل تعهده بتوقيع معاهدة الصلح في حين تسلم الثالثة عند توقيعها فعلا .
ومن الطبيعي ان يلتزم المسؤولون الانكليز في القاهرة او (جدة) بحسن التصرف. اذ لم يكن مرغوبا ـ كما جاء في تعليمات كررزن ـ بمواجهة الحسين بهذه العروض وكانها رشوة لشراء توقيعه. واستوجب على الميجور (باتن) ( Batten ) القنصل البريطاني في جدة الاتصال بالحسين بهذا الخصوص كما لو كان الامر بدافع شخصي، والتنويه الى استعداد الحكومة لاستئناف المدفوعات المالية، اذا ما تعاون معها في احلال السلام في الشرق الاوسط، عن طريق توقيعه على معاهدة الصلح لكن الحسين رفض هذا العرض رغم الضائقة المالية التي كان يعانيها بعد انقطاع الاعانات البريطانية في نيسان 1920 ، حتى كان يضطر الى استحصال الاموال من الديون الاجبارية التي تفرض على معظم التجار، دون تسديدها لهم .
لقد اصبح واضحا ان (موقف الشريف حسين تجاه حكومة صاحب الجلالة احدى العوائق التي يجب دراستها... وان القرارات التي اعلنت بعد مؤتمر سان ريمو ـ كما يتضح من الوثائق البريطانية ـ رغم كونها غير مفاجئة كليا للملك حسين فإنها كانت خيبة امل عميقة له، ودفعته الى التعبير بصراحة عن عدم ثقته بالنوايا الطبية لحكومة صاحب الجلالة التي اضمرتها منذ محادثات السلم في باريس) . ومع ذلك فقد كان بإمكان حكومتهم ـ كما ذهب المسؤولون الانكليز ـ من ترضية الحسين فيما لو اوقفت فرنسا عملية احتلالها لسوريا . فوقوع هذه الاحداث، او بكلمة اخرى مصادقة بريطانيا عليها اعاق وسيعيق استمرار العلاقات مع الحسين ويجعلها مستحيلة .
لقد انعكست مواقف الحسين الاخيرة من بريطانيا على بعض تصرفاته تجاهها، كأن يرفض السماح للقنصل البريطاني الميجر (مارشال) في مزاولة وظيفته الادارية، او تنصله من ضمان سلامة حجاج نجد، ومعاملته الجافة للضابط السياسي المرابط في مكة ، واهماله براحة الحجاج الهنود، ثم رفضه ارسال مستشفى ميداني هندي كان قد طلبه سابقا لمعالجة الحجاج الهنود، وطرده او رفضه معالجة الهنود في المستشفى الهندي بدلا من المستشفى الحجازي الذي لم يكن يتمتع بالمزايا الصحية .
ومع بساطة هذه التصرفات في طبيعتها الا انها بمجموعها كانت تشكل مؤشرا لتراجع الحسين عن مواقفه الودية من بريطانيا ومحاولة اعتراض رغباتها ـ ورغم ما تعنيه هذه السياسة من رغبته في الاحتفاظ بسيادته باعتبارها عنصرا مهما في تقرير مواقفه ـ فإن السبب الرئيسي لهذا الموقف انما يعود للموقف البريطاني الصامت من الاحتلال الفرنسي لسوريا، ثم قطعها للاعانات المالية فضلا عن امتناع (لويد جورج ـ Lloyd George ) رئيس وزراء بريطانيا من الاجتماع بالامير فيصل خلال وجوده في اوروبا، بعد اخراجه من دمشق . " ولذلك فمن غير المستغرب ان يستمع الحسين الى وعود مصطفى كمال وان يحاول مساعدة رجال القبائل في الشمال للعمل ضد الفرنسيين، وبهذا الخصوص فهو يشير في تصريحاته الاخيرة بأنه قد ثار ضد جمعية الاتحاد والترقي وليس الحكومة التركية .
وضمن ما اخذ يبديه الحسين من المواقف السلبية، تهديده بالاستقالة عدة مرات هذه الآونة، الى الحد الذي دفع بالجهات البريطانية، الحذر من المشاكل التي قد تنجم عن ذلك لاحتمال اصراره على هذه الخطوة، والتفكير في من سيحل محله، بعد ان بات مؤكدا استمرار الاوضاع غير المرضية في الداخل، والتي ستتفاقم بمجيء الامير علي خلفا لوالده لضعف قابلياته وافتقاره لتجربة والده، وصعوبة ترشيح فيصل او عبد الله رغم رجاحتهما وتصويت الاهالي لاحدهما . كان الحسين ـ من وجهة نظر المسؤولين الانكليز ـ يهدف من سياسته المتعمدة الى دفع بريطانيا في معارضته، لكسب الرأي العام الاسلامي بما فيه الحجاز، وتعريض بريطانيا للانتقاد، لتدخلهما في شؤون الحجاز الداخلية، حتى اذا تمكن من ضمان مصادقة بريطانيا على تنازله، فإنه سيثبت بلا شك حقيقة استقلال الحجاز الشكلية .
وعلى اية حال فإن جهودا من الطرفين قد بذلت لتسوية خلافاتهما ومعالجة ما اخذ يسود العلاقات من البرود.
2ـ محاولات لتسوية الخلافات:
حاول الامير فيصل بعد خروجه من دمشق السفر الى سويسرا لمعالجة القضية السورية في عصبة الامم. وقد تلقى وهو في بور سعيد تعليمات والده للعمل بموجبها جاء فيها:
1ـ عدم الذهاب الى فرنسا.
2ـ ان يقتصر مباحثاته مع الحكومة البريطانية فقط.
3ـ اقتصار المباحثات على رسائل مكماهون دون سواها .
اضطر فيصل للبقاء في ايطاليا لاعتذار بريطانيا لاستقباله في الوقت الحاضر، وانشغال لويد جورج ببعض المباحثات في سويسرا وقبل دعوته الى لندن رفع فيصل في 11 ايلول مذكرة الى الحكومة البريطانية راجع فيها تطور العلاقات العربية البريطانية بعد الحرب بما في ذلك القضية السورية والاحتلال الفرنسي لسوريا، وعلاقة والده ببريطانيا منذ بدء الاتصالات بين الجانبين عام 1915 حتى ذلك الحين واعرب عن رغبته في الحضور الى لندن ممثلا عن والده بعد تفويض الملك حسين له بذلك. وقد حمل الجنرال حداد معتمده في لندن هذه المذكرة الى الحكومة البريطانية .
اتصل حداد باشا بوزارة خارجية بريطانيا، واجتمع بعدها بكل من (كلايتون ولورنس) واعلمهما بالمذكرة الاخيرة، وناشدهما بالموافقة على قدوم الامير فيصل لما يحمله من الامور التي تهم الحكومة البريطانية. فبينما امله الاول بدعوة فيصل ريثما تتشاور الحكومة بهذا الشأن، اقترح لورنس بان ترفق ـ معاهدة سايكس بيكو ومراسلات الحسين ـ مكماهون ـ مع مذكرة الامير فيصل الى الحكومة البريطانية .
والجدير بالاشارة ان الحكومة البريطانية قد اختلقت امام حداد باشا ـ خلال لقاءاته الاخيرة بعض الاكاذيب فيما يخص مراسلات مكماهون. اذ ادعت وزارة الخارجية بوجود نوع من التحريف في رسالتي مكماهون المؤرختين في 24و25 تشرين الاول 1915، الامر الذي اضطر حداد للاستفسار من فيصل وهو في ايطاليا عما اذا كان مكماهون قد وقع على الاصل الانجليزي او الترجمة العربية وفيما اذا كانت رسائل مكماهون تترجم في الوكالة البريطانية في القاهرة او مكة، كما طلب نسختين باللغة العربية لهاتين الرسالتين، اذ لم تكن لديه سوى النسخة الانكليزية . وقد دحض فيصل هذه الادعاءات وعدها امرا مضحكا، واوضح ان الرسائل من والى والده كانت باللغة العربية، ولا يتحمل الجانب العربي اية مسؤولية، ونصح بالاعتماد على النسخ العربية لمواد المراسلات الموجودة التي استخدمها الوفد الحجازي في باريس، دون الاخذ بنسخ وزارة الخارجية البريطانية، والتي يحتفظ بترجمتها لديه .
ظل فيصل في ايطاليا منتظرا موافقة الحكومة البريطانية على قدومه الى لندن، في الوقت الذي اخذ يؤكد فيه على حداد باشا الحصول على هذه الموافقة، بعد إلحاح والده المتزايد بهذا الشأن . ومع ان الاخير قد اجرى اتصالاته مع (لويد جورج) بتمثيل فيصل له في لندن ، فإن الحكومة البريطانية ـ كما يبدو ـ ابدت ترددها في مناقشة مايثير ازعاجها، ولعلها لم تكن انتهت بعد من اعداد الخطط الجديدة لسياستها في المشرق العربي، فبررت ذلك بحجة عدم الاتفاق مع الحسين حول تعيين الوفد المرسل من قبله. بيد انها وافقت بعد ذلك على قدوم فيصل، وقررت إبلاغ والده بالامر . بعد مطالبة الاخير بذلك، فغادر فيصل ايطاليا في تشرين الثاني 1920.ليرأس الوفد الحجازي في لندن .
لم تكن الحكومة البريطانية في استقبالها للامير فيصل، تعني الاهتمام بمطاليب الحسين عموما، وهي في الوقت الذي وضعت فيه الاعتبارات لترشيح فيصل ملكا على العراق في هذه الفترة ـ والذي بررت فيه موافقتها على لقائه ـ كانت ترغب من جهة ثانية في تجنب اية خطوة من شانها منح الحسين تعهدا ما، ومن هنا امسى واضحا ومنذ بدء لقاءات الامير فيصل في لندن، انها تفتقر الى الهدف الذي جاء من اجله. فقد وجدت بريطانيا في مجيء فيصل فرصة لغرض قيودها وتحفظاتها على الحسين وانجاله، كان الهدف الرئيسي منها إقناع الاخير بالتوقيع على معاهدتي فرساي و سيفر، رغم ما كان يبديه فيصل من الرغبة في إثارة قضية وعود بريطانية لوالده .
عقد فيصل اجتماعه الاول مع السير جون تيللي ( J. Tilley) في 22/12/1920 اوضح فيه الاخير ـ ردا على استفسار فيصل ـ هدف حكومته الرامي الى تثبيت علاقتها مع الحجاز في اتفاقية بين الطرفين تحل محل الاتفاقيات السابقة. بينما طالب فيصل الوفاء بالوعود المقطوعة لوالده وتقدير موقفه بين المسلمين. ولتيقن (تيللي) من نية حكومته في ترشيح فيصل لعرش العراق، أجاب عن عزم حكومته على تنفيذ هذه الوعود ونيتها في تأسيس حكومة عربية في العراق. ومع ان الامير قد كرر دعوته الى تأسيس دولة عربية في ضوء مراسلات والده ومكماهون، فإنه اعرب عن تفضيله بأن لا يقف موقف المتمسك بنص العبارة الاخيرة، لكنه يطالب بالمحافظة على الروح العامة للتعهدات البريطانية .
واستأنف فيصل حديثه عن مراسلات حسين ـ مكماهون مجددا في اجتماعه الثاني الذي عقده مع المستر لندسي ( R.C. Lindsay ) نائب اللورد كررزن. حيث واجه الادعاء السابق القائل بوجود نوع من سوء الترجمة في المراسلات المذكورة وما ترتب عليه من غموض بعض التحفظات، (ويقصد بها المتعلقة بسورية وفلسطين) وردا على ادعاء (لندسي) اوضح فيصل ان التحفظات التي اتفق عليها مكماهون اقرت تأجيل البحث في مستقبل مناطق كليكيا والساحل السوري الواقع غرب مدن حمص حماه، حلب، دمشق (أي لبنان)، الى ما بعد الحرب، اما المدن الاربع وفلسطين، وحتى المناطق المؤجل بحثها فهي ضمن الوعود المقطوعة لوالده وهذا ما يفهمه العرب ايضا .
اما بشأن الانتداب فقد اوضح فيصل رغبته في مناقشته في ضوء الوعود البريطانية وليس بوصفه وثيقة في عصبة الامم. وردا على ذلك ذهب (لندسي) الى الربط بين نظام الانتداب والمساعدات البريطانية التي يطلبها والده، فالانتداب بنظره هو مجرد تحديد للخطوط التي تمنح بموجبها مثل هذه المساعدات، وان موافقة عصبة الام على ذلك مسألة جوهرية لبريطانية. كي يكون بإمكانها منح هذه المساعدات بيد ان الحسين كما اضاف لندسي لم يطلب مساعدة بريطانية فحسب، وانما اشترط عدم تدخل أي قوة اخرى في شؤون مستقبل البلاد العربية، الامر الذي يضطر بريطانية الى الحصول على موافقة الحلفاء بشان مركزها الخاص في هذه البلاد وذلك يتم فقط بحصولها على موافقتهم على مواد الاتنداب . وقد عقب فيصل على حديث لندسي برغبه والده في ان يستشار بخصوص شروط الانتداب، لا بصفته عضوا في العصبة، ولكن بصفته المتكلم بأسم العرب والذي دخلت معه بريطانيا في اتفاق ـ بيد ان هذا التصور ـ كما ذهب لندسي ـ لا يمكن قبوله دون اقرار العرب انفسهم بهذه الزعامة، فلبريطانيا معاهدات مع الحكام العرب كانت قد عقدتها خلال الحرب، ولايمكن تعديلها الا بموافقتهم، فأعاد فيصل الى ذهن نظيره وعود بريطانيا لوالده بتشكيل المملكة العربية، ومع ذلك فهو في الوقت الذي لا يطالب بتعديل معاهدات بريطانيا مع الحكام المذكورين، فإنه يبدي ملاحظته عن تزعزع مركز بريطانيا في المنطقة حالة صدور تحفظات اخرى بشان المناطق الواقعة تحت الانتداب .
ولم يكتف (لندسي) باجتهاداته الرامية لاضعاف الوعود المقطوعة وتاويل الحقائق لصالح حكومته، واشار الى ان مكماهون لم يستخدم عبارة (الممكلة العربية) الا في جوابه على رسالة الحسين التي وافق فيها على احترام الاتفاقيات المعقودة بين بريطانيا وشيوخ العراق بل وبقية شيوخ العرب. واضاف ان وعد مكماهون الاصلي هو الاعتراف ومساعدة (استقلال العرب) ولا اعتراض لديها على ذلك اذا ما تمكن الحسين من الاتفاق مع الحكام العرب وضمهم الى الممكلة العربية، وعمل على وضع دستورها الموحد، الا انها على يقين من انعدام ملامح مثل هذا الهدف في المستقبل، اذ ان بعض هؤلاء الحكام كانوا في صراع حقيقي مع الحسين .
وكرر لندسي ما اعاده اسلافه (تللي) و (كورزن) في اعتباره عدم تصديق الحسين لمعاهدة فرساي، اساسا للمشكلة وعائقا في سبيل تفاهم الجانبين .
وقد اجتمع فيصل بالمستر لندسي مجددا في 31 آذار 1921- بدعوة من الاخير وبأوامر من (كورزن)، كان الهدف منها لفت نظر الامير قبيل مغادرته انكلترا، الى رغبة بريطانية في تجنب أي خطوة من شأنها إثارة المشاكل بينها وبين فرنسا، وخطوة اصطدامها مع حليفتها فرنسا . وقد ابدى فيصل قناعته بموقف بريطانيا من القضية السورية منذ السابق، كما اشار الى تعهده الذي قطعه لـ(كليمنصو) رئيس وزراء فرنسا في العام الماضي، للتفاهم بشأن سوريا، شريطة حصول العرب على الحكم الذاتي غير ان من اعقبوا كليمنصو لم يسعوا لتحقيق ذلك. ومع تاكيده على عدم تنازله عن اهداف امته مقابل مركز . يدر عليه موردا جيدا، فإنه استجاب لرغبة (لندسي) في بذل مساعيه لايقاف هجمات اتباعه ضد الفرنسيين في المناطق البريطانية، ومنع ما من شأنه خلق المشاكل بين الدولتين. وقد اعرب (لندسي) في امله في ثقة الحسين ببريطانية لما في ذلك مصلحة الجانبين ... وعلى اية حال ومع عدم تلبية بريطانيا لمطاليب الامير فيصل. فقد استقر رأيها كما اشرنا الى تنصيب الاخير ملكاعلى العراق، خصوصا وان ثورة العشرين في العراق والاضرار التي الحقتها بالسياسة البريطانية هناك، ما يبرر اهمية هذه الخطوة فأبلغت فيصل بذلك مبدئيا، لحين اقراره في مؤتمر القاهرة الذي عزمت على عقده في القاهرة في آذار سنة 1921. وقد تم ما اتفق عليه، واعلن في حينه فيصل ملكا على عرش العراق .
المعاهدة الحجازية ـ البريطانية:لقد حاولت الحكومة البريطانية فرض سيادتها على الحجاز عن طريق معاهدة، مرتين كانت الاولى سنة 1921، اما الثانية فكانت في سنة 1923، ولم يكتب لها النجاح في المحاولتين.
(أ) المحاولة الاولى:
كانت هذه كما نوهنا في سنة 1921، اذ حاولت الحكومة البريطانية بعد انقضاض مؤتمر القاهرة في تموز 1921 تحديد علاقاتها مع الحكومة الهاشمية ضمن السياسة التي اختطها المؤتمر الاخير في الشرق الاوسط من خلال معاهدة مع الحسين من شأنها اقناعه بالموافقة على سياستها في المنطقة بما فيها الاهداف الصهيونية في فلسطين . وقد تم اعداد مسودة المعاهدة المقترحة من قبل لجان ارتباط دوائر الشرق الاوسط التي عقدت في وزارة المستعمرات في 20 مايس الى جانب مسودة تصريح يقر فيه الحسين السياسة الانتدابية في المنطقة ، فيما حث كررزن الكولونيل لورنس لبذل مساعيه في اقناع الحسين والاتصال بتشرشل (وزير المستعمرات) حصولا على التعلميات خلال مفاوضاته مع الحسين .
وفي الوقت الذي غادر فيه لورنس لندن الى الحجاز في 9 تموز 1921، ارتأى المسؤولون الانكليز مفاتحة الحكومة الفرنسية بشأن مهمة لورنس واهدافها من المعاهدة المقترحة، حيث اوضحت المذكرة البريطانية ـ وكما اقر في البرلمان، ومنعا للخصومات بين حكام الجزيرة ـ عزم بريطانية في منحهم بعض الاعانات المالية، ولضمان فاعلية هذه السياسة اشركت الحسين فيها ( ولكن قبل منحه معونة فعلا فإن حكومة صاحب الجلالة ترغب في تأمين قبول الملك حسين موضوع إعلان (القيام) بشكل من اشكال التصريح العلني يعترف بموجبه بمبدأ الانتداب، وبخاصة وضع انتداب بريطانيا على فلسطين وما بين النهرين وفرنسا على سوريا، وان يوقع على اتفاقية مع حكومة صاحب الجلالة، ان هذه الاتفاقية وضعت بالدرجة الرئيسية لتسهيل التسوية السلمية للحدود وغيرها من النزاعات التي تؤثر على الحجاز. وتأمين مصالح الرعايا البريطانيين وبخاصة المسلمين الهنود، وتحقيق بعض التحسينات في المجالات الصحية والحج. واضافت المذكرة (ان الاتفاقية ستصاغ بعناية لتجنب أي مظهر للتدخل في المركز المستقل لممكلة الحجاز، ولن تمنح موادها أي مركز اقتصادي او سياسي متميز لحكومة صاحب الجلالة) واعربت المذكرة عن ثقتها بترحيب الحكومة الفرنسية بنجاح مثل هذه المفاوضات خدمة للمصالح المشتركة .
لم يكن الحسين واضحا مع لورنس لدى اجتماعهما في جدة بل كان متذبذبا في موقفه من المعاهدة وهذا ما تمادى به طيلة فترة المفاوضات، ووصفه لورنس بانه على جانب من الغرور والغباء رغم اخلاصه للمصالح البريطانية. والسبب كما يرجعه الاخير، يعود الى حاشية الملك التي تضم بعض المعادين لبريطانية . وقد عبر لورنس عن صعوبة المفاوضات مع الحسين واستمرار ذلك في المستقبل، بعد ان بلغت حدا من الشجار والغضب، وبالرغم من ذلك فقد استمر (لورنس) بالضغط على الملك لقبول المعاهدة مبدئيا في الحال ، الامر الذي دفع بالاخير لمصارحته في رفضه (بشكل مطلق أي فكرة حول عقد معاهدة،ولكنه توقع اعترافا بملوكيته على ما بين النهرين وفلسطين وترجيحه على جميع حكام الجزيرة الذين يجب حصرهم ضمن حدود ولاياتهم لما قبل الحرب، والتنازل عن عسير والحديدة). دون ان يستلين لمساعي لورنس، حتى ان نجله الامير زيد تطوع للاجتماع بلورنس وعرض عليه معاهدة تستند الى مسودة المعاهدة البريطانية للنظر فيها ، الا ان لورنس لم تثنه صلابه الحسين فهو بنظره ضعيف ومن الممكن استدراجه للمطاليب البريطانية رغم عدم جدوى المنطق معه، لما كان يراه في نفسه من الحكمة والكفاءة، فضلا عن نفاق حاشيته، كما كان من الصعوبة التشدد معه خشية غيظة وانزوائه في مكة . وقد اكد الحسين موقفه من جديد منكرا وجود أي فكرة لديه عن توقيع اتفاقية،وذلك في اجتماع آخر مع لورنس، عاد بعدها وبعد جو من التذمرـ وطرح مسودة معاهدة بديلة وصفها لورنس.... بالثرثرة، رغم قناعته بمواصلة المفاوضات وبأن (الحاجة الاساسية ـ بنظره ـ ليست في ضمان توقيعه قدر ما هي ان تنهي قناعته بأننا معتمدين عليه لضمان مكانتنا في الشرق وبأننا سندفع أي ثمن ونمضغ أي اغاظة للابقاء على صداقته) واعرب لورنس عن اعتقاده في تجاوب الحسين في المرة القادمة . وقد صح توقعه ولكن بحدود، اذ ابدى الحسين ـ بعد استئناف المفاوضات ـ موافقته على معظم مواد المعاهدة، الا انه عاد بطلبه في حذف المادتين 3.1 المتعلقة بحدود الحجاز مع تعديل بسيط في المادة 14 المتعلقة بتنسيق قضايا المحاكمات بين الجانبين، في حين رفض المادة 15 الخاصة بقضية الانتداب ، واقترح بدلها الاعتراف بالرعاية البريطانية او النصح او المعونة او اي كلمة سوى الانتداب. كما اقترح تمديد فترة ثابتة للمعاهدة كأن تكون (3 سنوات) قبل تجديدها بما في ذلك اقراره لأفضلية مصالح الرعايا البريطانيين في جميع الامتيازات الممنوحة في الحجاز. وازاء التقدم الذي طرأ على موقف الحسين، تكرم لورنس للاخير في نهاية الاجتماع بقرض قدره (80الف ) روبية للعوز المالي الذي كان يعانيه، في الوقت الذي واصل مفاوضاته مع الامير زيد الذي ناب عن والده في المفاوضات للتوصل الى ما يمكن تسويته بشان المواد العالقة رغم ترجيحه ـ كما اشار لحكومته ـ في الاحتفاظ بما لديه من نفوذ لدى الملك لمناقشة التصديق على معاهدة فرساي .
وقد تشاور ( لورنس ) مع وزير خارجيته (كورزن ) بشأن سير المفاوضات، وابدى الاخير ارتياحه لتقدمها نحو الافضل ومع اقراره بصرف الاعانة، الا انه ذكرلورنس بـ (20) الف جنيه كانت قد اقرضتها وزارة المستعمرات كدفعات للامير فيصل. اما بشان، مواد المعاهدة فقد وافق على حذف المادتين (3.1) لتعويض المادة (4) عنهما، كما اشار عليه ببعض الاقتراحات بشان المادة (14) والصيغة التي يمكن الاتفاق عليها بخصوص الامور القضائية اما بالنسبة للمادة (15) كنقطة بارزة في المباحثات فقد اقترح لها كررزن الصيغة التالية:
(ان صاحب الجلالة الملك حسين يقر هنا المركز الخاص لصاحب الجلالة البريطاني فيما يتعلق ببلاد ما بين النهرين وفلسطين وبما يتوافق مع ميثاق عصبة الامم وتعهد بأنه في مثل هذه الامور التي تتعلق بهذه البلدان والتي تدخل ضمن نفوذه فسيبذل كل ما بوسعه لمساعدة صاحب الجلالة البريطاني ) وسيبقى او يلغي (كورزن) الفقرة الثانية من المادة (15) الحالية حسب رغبة الحسين . واضاف (كورزن) مادة جديدة للمعاهدة تنص على اعتبار المعاهدة في حيز التطبيق من تاريخ توقيعها، وستبقى نافذة مدة سبع سنوات وعند عدم ابلاغ أي من الطرفين الطرف الآخر قبل ستة اشهر من انتهاء فترة السبع سنوات، بنيته لانهاء المعاهدة، فستبقى نافذة ستة اشهر بعد ابلاغ أي من الطرفين الطرف الآخر بإنهائها. .
غير ان الاقتراح الاخير بشان المادة (15) لم يحظ بقناعة لورنس واشار الى غموض عبارة (المركز الخاص بموجب ميثاق عصبة الامم) اذ يمكن تفسير المادة (15) طبقا للميثاق الا انه لا يمكن اسنادها عليه، ومن هنا فهو يقترح مسح الاشارة الى العصبة او استبدال عبارة (النصح والمساعدة) من الميثاق دون ذكر المصدر. فيما اعتذر لورنس عن الحصول على تصريح في اقرار الوجود الفرنسي في سوريا في الظرف الحالي للعلاقة المتردية بين الطرفين فضلا عن ترجيحه اهمية ضمان الحصول على المعاهدة الموقعة قبل ادخال الاقتراح الاخير . ومع موافقة (كورزن) على اقتراحات الكولونيل (لورنس) فقد حثه في الحصول على تصديق الحسين على معاهدة فرساي حالة رفضه لاقرار الوضع الفرنسي في سوريا كي يمكن تقديمها كاعتراف بمبدأ الانتداب الفرنسي في سوريا، على ان يبقى التوقيع على المعاهدة مهمته الاساسية حتى وان رفض الحسين النقاط المدرجة اعلاه .
لكن مشاورات (كورزن) ـ لورنس لم تضع في الحسبان تذبذب الحسين في مواقفه واحتمال إلغائها، خصوصاً وانه اخذ يشك في النوايا البريطانية ، لذا فهو يطرح على لورنس بعد عودته من عدن في 6 ايلول، مطالب جديدة:
(أ) عودة كافة دول الجزيرة الى حدود ما قبل الحرب عدا مملكته.
(ب) تسليم كافة المناطق التي ستنجم عن ذلك اليه.
(ج) حقه في تعيين القضاة والمفتيين في الجزيرة والعراق وفلسطين.
(د) الاعتراف بسيادته على كافة الحكام العرب اينما كانوا .
(هـ) اما القضية السورية فاشار الى امكانية بحثها مع فرنسا على حدة .
ارجو محاولة منه لتنفيذ هذه المطاليب، بالاستقالة والانتحار لكن لورنس ونكاية بالملك اجابه بإمكانية استئنافها مع خلفه، فيما اتخذ الامير علي موقف متشددا من والده وشكل لجنة منه ومن اخيه زيد والجنرال حداد وفؤاد الخطيب للتفاوض مع لورنس، الامر الذي كان باعثا لاستحسان الاخير وارتياحه لاستغلال الفرصة، في الوقت الذي اخذ فيه الحسين يفقد الكثير من وقته امام ضغط عائلته للتراجع عن عناده، ولعل ذلك ما يفسر تفاؤل لورنس، وتوقعه الحصول على المعاهدة خلال يومين اوثلاثة .
وفي الاجتماع الذي تم بين علي ولورنس في 7 ايلول تناول الجانبان مجمل اوضاع الشرق العربي، كان في بدايتها العلاقات مع نجد، حيث اكد الامير علي تبعية بعض المناطق الكائنة في الحدود كرانية والخرمة وتربة وبيشة للحكومة الحجازية وردا على نظيره وافق لورنس على عرض الموضوع على وزارتي الخارجية والمستعمرات وارسال هذه الحجج الى عبد العزيز بن سعود للتحقق من وجهة نظره، ووعد بإلحاق هذه المناطق بالحجاز، حالة تسليم عبد العزيز بن سعود بها، وخلاف ذلك فإن الحكومة البريطانية ستبلغ رد الاخير للحسين لإبداء رأيه اما بالنسبة لعلاقة الحجاز باليمن فقد وافق الايمر علي على تحديد حدود القطرين اذا ما نفذت طلبات الحجاز بشأن الحدود مع نجد وبالنسبة لعسير فقد اوضح لورنس من جانبه عغدم اعتراف حكومته بأي سيادة في عسير وعدم ارتباطها مع الادريسي بهذا الصدد الا في مادة واحدة ضمن معاهدتها معه، اقرته فيها بسيادته على الارض التي اتسولى عليها من الاتراك اثناء الحرب، وهذا ما سيوفر للحكومة الهاشمية مد نفوذها جنوبا بالطرق السلمية كما اعرب عن ذلك الامير علي، ولم يول الاخير اهتمامه بعدن والمناطق الواقعة عبر البحر العربي حتى اعلى الخلج العربي نظرا لارتباطها بمعاهدات رسمية مع بريطانيا تضمن فيها استقلالها . وبشأن العلاقات الودية بين الحجاز وحايل كما يبنها علي هذه الآونة، أشار عليه لورنس بضرورة إبالغ الحكومة الحجازية باقي الدول، اذا ما كان من اعتراف او اتافق رسمي بين الجانبين .
وعند الحديث عن قضية فلسطين برر لورنس تأجيل بحثها لحين ضهور نتيجة المباحثات التي يجريها الوفد الفلسطيني مع الحكومة البريطانية والتي شتكون نجاح مفاوضاته مبررا لالقاء مسؤولية القضية عن كاهل الحسين. ومع موافقته لذلك اضاف علي، استئناف والده الدفاع عنها حالة فشل مفاوضات الوفد المذكور، استجابة لطلب سكان البلاد منه المساعدة، فمبدأ والدهـ كما ذهب ـ تأييد رغبة الاهالي بصرف النظر عن الاشخاص .
وفيما يتعلق بالوحدة العربية تتظاهر لورنس بترحيبه وترحيب حكومته بمثل هذه الخطوة على ان تعتمد في اساسها على رغائب السكان .
امام بشأن مواد المعاهدة فقد ادخل الامير عليها بعض التعديلات البسيطة . فضلا عن موافقته التي ابداها للتصديق على معاهدة فرساي ، ومع هذه الخطوات فإن الاجتماع الاخير لم يسفر الى ما فيه توقيع المعاهدة، ومن هنا يأتي اقتراح لورنس بالضغط على الحسين باللجوء الى طبيعته الحسنة وذلك بإيقاف المعونة وحصار مينائه او ترجيح ابن سعود عليه
ومع ان الحسين قد صادق على معاهدة (فرساي) الا انه ابطلها بشرطه الذي ارفق مع المعاهدة والذي ازعج المسؤولين الانكليز، ذلك هو (احترام استقلال العرب المعروفين) دون علم الجانب البريطاني . مما اغاض اللورد كررزن الذي نصح لورنس بتجاهل هذا الشرط بحجة جهل الحسين بالقضايا القانونية. اذ ان الحكومة الفرنسية التي تحاول الحصول على مصادقة الحسين كأعتراف بمركزها في سوريا سوف ترفض بالتأكيد أي تعديلات بسسب تحفظاته، واوصى بالسعي لاقناع الحسين بسحب شرطه اذا سنح الوقت .
والظاهر ان الحكومة البريطانية ولانزعاجها من عدم وضوح الحسين. فضلا عن مشاغلها الاخرى في المنطقة، اخذت تقلل من اهمية المفاوضات، ورجحت تفرغ لورنس للتشاور مع هربرت صموئيل بشان مستقبل السياسة في شرق الاردن، وانابت المعتمد البريطاني في جدة لمواصلة المفاوضات ، في الوقت الذي لم يعزف فيه الحسين عن مماطلته السابقة اذ وعد مجددا بتوقيعه على كل جملة في المعاهدة، لكنه حين تقدم ايه نجله الامير علي لتوقيعها صرخ بوجهه والقاها عليه، ارسل بعدها بثماني مواد متناقضة اضافة الى شروط مرفوضة بالاجمال. وقد قاد تماديه هذا الى تأليب انجاله ضده فاتهمه علي بالجنون وشرع مع زيد في العمل على اقالته (ان عليا وزيدا ـ كما ذهب لورنس ـ يتصرفان بطريقة مدهشة وقد يغيران الاشياء في الاسابيع القليلة ) . فكان الابناء في قناعة من موقفهم المتجاوب مع الاهداف البريطانية، وبذلك فإن استقالة الحسين كانت تعني التوقيع على المعاهدة من قبل خلفه، وهذا ما رغب لورنس في تحقيقه بوساطة المعتمد البريطاني (مارشال) الذي خلفه في المفاوضات، دون أن يتغافل ـ وهو في طريقه الى عمان ـ عن معاقبة الحسين واجراح وضعه المالي حين عمد الى استرجاع مبلغ الـ ( 80000) روبية * التي اقرضها للحسين كما تقدم ، خصوصا وان الاخير كان بأمس الحاجة للمال بعد ان اخذت خزينته تعاني من العجز اكثر من السابق، حيث ازدادت مدفوعاته على وارداته بمبلغ قدره ( 70000) باوند*. مما دفعه لادخال ضرائب جديدة لمواجهة العجز المتوقع في السنة المقبلة . ومن الطبيعي ان يمعن المسؤولون الانكليز في تعاملهم مع الحسين على هذا الضوء قد صارح مارشال الامير علي ان حكومته لن تتخذ أي خطوة بشان منح الاعانات المالية ما لم يوقع والده المعاهدة ولم يتردد على بدوره للكشف عن الضائقة المالية التي يعانيها والده واضطراره للتوقعيع على المعاهدة، ولعل هذا ما يفسر استفسار مارشال من حكومته بتخويله وعد الحسين بمعونة خمسة اشهر حالة توقيعه على المعاهدة .
ولا بد من الاشارة الى ان المناورات التي اتبعت مع الحسين لم تقتصر على المسؤولين الانكليز وانما شملت عائلة الحسين نفسه، فقد مر بنا موقف كل من الاميرين على وزيد، كما ابدى الامير عبد الله في رسالة لوالده موقفا متشددا لحثه على توقيع المعاهدة ، ولعبت زوجة الحسين دورا مماثلا ، فيما كان الرأي العام في جدة كما ذهب مارشال، مناهضا له ، فاضطرب موقف الملك ولم تسعفه تهديداته بالاستقالة حيث كانت تجاب بما يفاقم غضبه. فمع اسف المعتمد البريطاني لعزم الحسين في الاستقالة الا انه امر خاص بالحسين وشعبه ولا دخل لبريطانيا فيه .
وفي ضوء المساعي الرامية لاقناع الحسين عمدت الحكومة البريطانية الى اساليب اخرى لتحقيق غايتها. حينما سعت الى ترتيب زيارة متبادلة بين امير ولاية ويلز ولي العهد البريطاني والملك حسين شريطة توقيع الاخير على المعاهدة خلال اجراء الترتيبات لهذه الزيارة، غير ان المبادرات باءت بالفشل رغم تفاؤل الاطراف المعنية بها، اذ واجه الحسين المعتمد البريطاني ـ وبعد المباحثات التي تمت بين الاخير وحداد باشا نيابة عن الملك ـ بنسخة خاصة به من المعاهدة البريطانية المقترحة حذف منها المادتين 2و5* ـ المتعلقتان بحدود الحجاز بكل من نجد وعسير ـ فضلا عن تعديلاته الاخرى لبعض المواد. فتفشل المساعي مرة اخرى، وتنتفي معها فكرة الزيارة المقترحة لأمير ويلز .
كان الحسين يحاول الحصول على اكبر مقدار من النجاح في مفاوضاته، الا انه ـ وبحكم موقفه القلق ـ يفتقر الى القدرة على مواجهة التهديدات البريطانية بإيقاف المفاوضات، ومن هنا فهو يعرب لنجله عبد الله عن عزمه في ارسال المعاهدة الى عمان لتوقيعها ، آملا في تسوية خلافاته عن طريق نجله الامير، فيما راح ـ وحفاظا على استمرارية المفاوضات واعاد لعبته من جديد مع مارشال بتوقيعه المعاهدة دون اعتراض، الا انه يعرض نسخته السابقة التي سبق ان رفضها مارشال ، في نفس الوقت الذي يعرب فيه الى (لويد جورج) عن غبطته لزيارة امير ويلز للحجاز واستعداده ـ وعلى شرف الامير المذكور ـ التوقيع على المعاهدة وارسالها للمعتمد البريطاني تاركا مناقشة مطالبة لحسن نية ( لويد جورج ) ومشاعره، الا انه يعيد تأكيده على حذف المادتين 2و5 ويعرب عن عدم ارتياحه لتردد مارشال في قبولها الامر الذي يوحي له ـ كما ذهب الحسين ـ بوجود بعض النوايا الخفية تجاهه من قبل الجهات البريطانية، مما لا يدع لديه ضرورة مواصلة المفاوضات ومع ذلك فهو لاينوي عرقلة السياسة البريطانية، فما زال المخلص، وله الثقة من انجاز ما عليه من التزامات .
لقد نبه مارشال الملك حسين عن نتائج موقفه، كإلغاء فكرة الزيارة المتبادلة بينه وبين امير ويلز، والاهم من ذلك حرمانه من أي اعانة، رغم ان الاجراء الاخير يتوقف على التقرير الذي سيرفعه لورنس لحكومته ، واستكثر المسؤولون الانكليز ـ كما يبدو عن طريق عبد الله ـ رسالة الحسين الاخيرة للويد جورج بشأن اقتراحه القاضي بإلغاء المادتين 2و5 وطلب الاعتذار عنها. كما طلب عبد الله في رسالته هذه تخويله السلطة الكاملة لاستئناف كافة المفاوضات المقبلة، وهذا ما يريح الجهات البريطانية لاعتقادها بضمان عبد الله لاتمام المعاهدة . وقد استجاب الحسين لهذا الطلب خصوصا وانه ابدى مثل هذه الرغبة مسبقا كما تقدم، فاعتذر للحكومة البريطانية عن رسالته السابقة للويد جورج، ورغبته في فتح المفاوضات بواسطة عبد الله . وخول الاخير ـ بناء على طلب الحكومة البريطانية ـ بإجراء المفاوضات الا انه اشترط التمسك بقراراته (بقصد رسائله مع مكماهون) ، وبعث برفقة هذا التخويل نسخته من المعاهدة، تضمنت ملاحظاته السابقة التي حذف فيها المادتان 2و5 اللتان تتضمنها المسودة البريطانية، ثم اصراره في إلغاء الامتيازات البريطانية في البلاط الهاشمي، وتقليص حدود الادريسي وابن سعود الى ما كانا عليه قبل الحرب، وتحديد المراكز المتميزة للرعايا البريطانيين في الحجاز، بالاضافة الى صلاحيته في منح جوازات السفر لأفراد مختلف البلاد العربية .
سعى الجانبان عبد الله ـ لورنس، الى تذليل ما يعيق إقرار المعاهدة واجريا عليها بعض التعديلات، حيث تم الاتفاق على صيغة جديدة للمادتين 2و5 محور الخلاف الحالي وكانت كالاتي (ان صاحب الجلالة الملك حسين يتعهد ببذل كل ما في وسعه لتشجيع استمرار السلام والعلاقات الودية بينه وبين جيرانه المرتبطين بمعاهدات مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية وسيحرم في منطقته وكل المناطق التي له نفوذ عليها، كل ما يضر مصالح هذه الدول ماديا ومعنويا او مصالح حكامها.
ان الحكومة البريطانية السامية تتعهد ببذل جهودها الطيبة عندما يكون ذلك مرغوبا في تشجيع ومساعدة حل أي نزاع قد يثار حول أي نقطة بين صاحب الجلالة الحسين واي واحد من جيرانه من المرتبطين بمعاهدات مع الحكومة البريطانية) .
اما التعديل الثاني فيتمثل باقتراح لورنس في شطر المادة (4) الى قسمين ينتهي القسم الاول عند الفقرة الاولى من المادة، فيما تكون الفقرة الثانية مادة جديدة تضاف اليها الفقرة التالية (ويتعهد لاقامة علاقات مع اولئك الحكام بالطريقة الودية التي سادتها قبل الثورة في الجزيرة واحترام كافة المواثيق السابقة والحدود التي اتفق عليها بينه وبينهم على شرط ان لا يكون في هذه المواثيق والحدود شيء مناقض لجوهر المعاهدات المشار اليها في المادة 4) .
وافقت وزارة الخارجية البريطانية على مقتراحات لورنس التي اتفق عليها مع عبد الله مع بعض التعديلات البسيطة . اما بالنسبة للامير عبد الله فمع اعترافه بعدم اهمية توقعيه دون مصادقة والده، فإنه اقسم بمصادقة والده على توقيعه هو (عبد الله)، لكن لورنس كان في شك من ذلك وقد صدق ظنه، فلم يكترث الحسين بالتعديلات واعتبارها امرا تافها ، بعد ان تسلمها منهما بنصيها العربي والانكليزي إثر عليها في 9 كانون الاول 1921 ومع ذلك فإن الحسين لم يكن بتلك القوة في اتخاذ مثل هذه الخطوة وطلب من الحكومة البريطانية تأجيل قرارها النهائي بشان المعاهدات والموافقة على قدوم نجله عبد الله الى لندن بما سينقله من وجهات نظر جديدة ضمنها الرسالة المقرر حملها معه . واكد طلبه هذا في رسالة وجهها لرئيس وزراء بريطانيا بتاريخ 28 كانون الاول 1921 ، واعقبها بعد يومين برسالة مطولة الى الجهة ذاتها، اشتكى فيها ـ بعد تأكيده على قدوم عبد الله الى لندن ـ من تجاهل الحكومة البريطانية له في قطعها للاعانات المالية وتحويلها لابن سعود، وتساهلها مع تجاوزاته ضد الحجاز، واتهم لورنس في محاولته توسيع حدود نجد على حساب الاراضي الحجازية رغم كونها اساس الخلافات، وذهب الحسين في الكشف عن ضيقه الاقتصادي، عندما اخذ يطالب بإعادة بعض الواردات المالية الى جيبه والمتمثلة في امانات الحجرة النبوية في المدينة التي استولى عليها الاتراك، واعادة املاك سكة حديد الحجاز التي استولى عليها الفرنسيون بعد احتلالهم الشام، ثم اموال الاوقاف على مصر والاستانة وبلاد الشام والعراق. ولم ينس الحسين توجيه انظاره الى املاك الادريس، خصوصا وان الاخير اعلن عن موافقته في تعيين الحسين للقضاة في وحدات بلاده الادارية (وكل هذا يثبت يا جناب الوزير الافخم اني اصبحت ربان سفينة كلفوه بسيرها بعد سلبه آلاتها الفنية). وناشد الحسين حلفاءه معالجة القضايا المشتركة في ضوء مراسلاته مع مكماهون، مؤكدا تجرده عن المطامع الشخصية .
لكن زيارة عبد الله التي اقترحها الحسين على الحكومة البريطانية في رسائله الاخيرة، دون التصديق على المعاهدة ـ كما اعتقد المسؤولون الانكليز ـ سيشجع الحسين في ضمان تعديلها، لذا جاءت اجابة وزارة الخارجية، على اقتراح الحسين جدية برفضها لأي تعديل في المعاهدة، واذا كانت لدى الحسين نقاط للتشاور فيها بالامكان اجراؤها بعد زيارة عبد الله المقترحة .
وردا على ذلك هدد الحسين بالاستقالة حالة عدم استلامه أي اجابة كانت حتى نهاية الشهر الحالي (كانون الثاني 1922)، بشأن زيارة نجله الى لندن , واعقب ذلك برسالة مطولة في 30/1/1922 للمعتمد ضمنها شكواه من الموقف البريطاني الاخير، اما بشأن المعاهدة فقد تعهد بموافقته عليها اذا ما الغيت المادتين 5.2. المتعلقتين بحدوده مع كل من الادريسي وابن سعود، وذلك بإرجاع حدودهما الى ما كانت عليه قبل الحرب، ويتعهد هو بالحفاظ على حقوقهما بحياته واملاكه.... واوضح انه سيضطر الى معالجة الامر بما تقتضيه حسياته، حالة عدم تسلمه اجابة الحكومة البريطانية، سواء بنعم او لا بشأن زيارة نجله المقترحة .
ولم يكتف الحسين برسائله المتعددة، وراح محاولا إبطال شرعية المادتين 4و5 من المعاهدة المقترحة * ذات العلاقة بقضية الحدود مع ابن سعود والادريسي، والتي امست ابرز المسببات وراء رفض الحسين للمعاهدة. اذ نفى وجود أي اتفاق قائم ـ كما جاء في هذه المواد ـ بينه وبين الحاكمين المذكورين بشأن الحدود وهذا ما يحتم اسقاط المادة ذات العلاقة ـ واضاف الحسين الى ذلك، انتقاده للحكومة البريطانية بعقدها المعاهدات مع الحكام العرب ، دون ابلاغه بصورة رسمية او شخصية، الامر الذي يتنافى ـ بقوله ـ مع الشهادة والشرف البريطاني فهل هناك ـ تساءل الحسين ـ ما يبرر توقعيه على مواد تستند الى اساس غير موجود ؟ وهل في ذلك ما يغضب بريطانيا ويدفعها لرفض زيارة نجله عبد الله ؟.
وينتهي الحسين الى حقيقة تكاد تكون مهمة في إلقاء الضوء اكثر من السابق عن السبب الذي يكمن وراء رفضه التصديق على المعاهدة ـ كما سنوضحه ـ وذلك بقوله: (والحالة ان باقي مواد المعاهدة اذا استثنينا المواد المتعلقة بالحضرة السعودية والادريسية جارية ومعتبرة بمادتها ومعناها في الماضي والحال والاستقبال دون عهد او شرط يتعين هذا بمراجعة المواد المطلوب المحافظة عليها في المعاهدة وهذا من طبيعة حقوقنا وما تلزمنا به واجبان الوفاء). وهو بذلك لايسعى لعرقلة مساعي السياسة البريطانية كما لايحمل أي غرض كان تجاه الحاكمين المذكورين . واعقب الرسالة السابقة بشأن الحكام العرب، والنتائج السيئة المترتبة على عقد الحكومة البريطانية لاتفاقياتها مع الحكام المجاورين، وهو لايهدف من نصيحته الى اطماع شخصية، وانما حفظا على هيبة بريطانيا. ولم يخف الحسين عن جورج امتعاضه من مواقف حكومته الاخيرة، وبأنها اخذت تلعب دور فرنسا في تخليها عن التزاماتها وهذا ما اتضح لديه من خلال رفضها لزيارة نجله عبد الله .
ان دلائل معاناة الحسين من جفوة المواقف البريطانية، سبق لها ان ظهرت منذ بداية شباط 1922 واخذت تنعكس على مواقفه في جريدته الرسمية (القبلة)، حينما شرعت في نشر بعض المراسلات الرسمية والسرية منها الجارية بينه وبين القنصلية البريطانية، وتعليقها اللاذع الذي رمت به بريطانيا بالعمل على عرقلة وحدة الجزيرة العربية، وتشجيعها لابن سعود في تحقيق هدفها هذا وتعبيرا عن هذه المعاناة ووضعه الصعب الناتج عن الاوضاع الاقتصادية المتردية ـ كما تلمسها المسؤولون الانكليز هناك ـ استأنف الحسين تهديداته السابقة بالاستقالة بل وحدد 27 شباط 1922 كآخر موععد لذلك. ولعل في احتفاظ الحسين ـ اعتقادا منه ـ بأهميته لدى بريطانيا وصعوبة استغنائها عنه، ما كان يدفعه ايضا لهذه الخطوة، والوقع ان الجهات البريطانية لم تبخل في إقرار هذا التصور طالما لايعدو اكثر من كونه ارضاء طموحات الحسين، ولكن دون ان يصحب ذلك أي إسعاف مادي من قبلهم ، وامعانا في اذلاله لشروطها. وسيان لديها ـ في هذه الفترة ـ من يوقع على المعاهدة، سواءا أكان الحسين، ام خلفه، بل أبدوا ارتياحهم لعزم الحسين على الاستقالة ولم يتردد بعضهم في تسهيل مهمة رحيله عن الحجاز اذا ما اراد ذلك بعد استقالته من الحكم . وصارحت الحكومة الحسين بما خيب آماله. فمع اعترافها بولائه وعلاقته الودية طوال سنوات حكمه واسفها لعزمه الاستقالة، فإنها ترى ذلك قضية على الحسين معالجتها مع شعبه ، فيما ابلغت (بريطانيا) معتمدها في جدة سريا برغبتها في تولي الامير علي الحكم، وضرورة التأكيد على مشاعرها الودية له في حالة تسلمه عرش المملكة .
لكن الموقف الاخير لم يكن يمنع الحكومة البريطانية من الاحتفاظ بسياستها. المبدئية في تحقيق اقصى ما يمكن تحقيقه من خلال الحسين او غيره كما اشرنا شريطة اقتدائه بنصائحها وتجاهل خصوماته الجانبية مع الحكام المجاورين، تحقيقا للاهداف المشتركة على حد ادعائها الذي دعمته بمشاعر الود التي تكنه للعرب. وما المعاهدة المقترحة ـ بنظرها ـ الا تأكيد على ذلك رغم رفض الحسين لها بحجة استنادها الى اسس غير موجود. ومع ذلك فإن التصريح الاخير لم يغفل تأكيد تجاهل الحكومة البريطانية ـ نكاية بالحسين ـ لقضية الاستقالة باعتبارها قضية داخلية إمعانا في كسر عناده.
ظلت الخلافات بشأن المعاهدة عالقة بين الطرفين، وكما اشرنا كان للعلاقات مع ابن سعود اثرها في ذلك، فأخذ الحسين يعرب بما ينم عن فقدانه الثقة بنوايا بريطانية وسعيها الايقاع به تحت رحمة ابن سعود ، كما يتضح من خلال الانتقاد الذي وجهه وزير خارجية الحجاز حول التضارب الموجود بين المعاهدة المعقودة مع ابن سعود والمعاهدة المقترحة مع الحسين , وقد اعرب المعتمد البريطاني عن اسفه للتصورات الاخيرة (فإذا كان جلالته "الحسين" يعتقد بان بريطانيا تنصب فخا له لتسليمه لابن سعود ـ لاسمح الاله بذلك ـ الامر الذي يفهم في كونها سببا في عدم المصادقة على المعاهدة. فإن كلتا المعاهدتين قد صيغت من قبل شعبين مختلفين في بلدين منفصلين. وانا ارجو تطمين جلالته بأن اختلاف صيغتهما لايعني وجود نوايا شريرة ضده) الا ان الحسين احتفظ بموقفه المنتقد لوجود المعاهدات القائمة بين بريطانيا والحكام المجاورين، كما استمر في تاكيده على تعديل مواد المعاهدة السالفة الذكر المتعلقة بقضية الحدود مع نجد وعسير، ومجردا نفسه من الاطماع الشخصية، بان اعلن استعداده لترك البلاد والتنازل لابن سعود. لكنه اندفع بعدها ـ ولإحساسه بإفلاس نداءاته ـ بمناشدة المعتمد البريطاني في بذل مساعيه في تسوية الامور متعهدا بحفظ كافة حقوق ابن سعود ...
انتهت مباحثات معاهدة 1921 بالفشل، واذا كنا قد بسطنا الاسباب التي حالت دون توقيع الحسين على المعاهدة، فإن هذه الاسباب والتي عكست موقف الحسين تقودنا ـ وتثبتا من موقف الحسين ـ حيال قضية فلسطين كأساس في فشل المعاهدة كما ذهب البعض ـ الى التزام الدقة في ذلك. فمن خلال تتبعنا لوثائق وزارة الخارجية البريطانية وبالاحرى الملف ( 686/74) المكرس بكامله تقريبا للاتصالات المتعلقة بمعاهدة 1921، نجد ان الرأي الاخير يتضمن شيئا من التعميم في تشخيص مسببات فشل المعاهدة. واذا كانت هناك من صعوبة في تحديد هذه المسببات من خلال تتبع خطوات المفاوضات المتقدم ذكرها، فإن المذكرة البريطانية المؤرخة في 28 تشرين الاول 1921. ولكونها تقريرا عن مجمل نتائج مباحثات المعاهدة حتى التاريخ الاخير تغنينا عن ذلك التتبع، اما ما يعقب هذا التاريخ فالوثائق التي تليه فيها من الكفاية في الكشف عما نحن في صدده.
جاء في المذكرة (ان لورنس فشل في اقناع الحسين في اصدار أي تصريح فيما يخص الانتداب الفرنسي في سوريا بسبب الموقف الموحد للصحافة السورية ضده وضد ابنائه رغم ان الملك حسين قد وافق في احد المرات ان يدخل في مسودة المعاهدة اعترافا بالمركز الخاص لبريطانيا في فلسطين وما بين النهرين. وعلى اية حال فقد نجح لورنس بعد جهد كبير في اقناع الحسين بتوقيع معاهدة فرساي والتي تتضمن اعترافا ـ ولو بصورة غير مباشرة ـ بالانتداب الفرنسي والبريطاني في سوريا وفلسطين وما بين النهرين) ولسوء الحظ فقد تبين فيما بعد، دون علم الكولونيل لورنس، ان الملك حسين قد ارفق مصادقته على معاهدة فرساي بشرط يتعلق باستقلال العرب .
لكن المادة (15) من المعاهدة المتعلقة بالانتداب البريطاني على ـ العراق ـ فلسطين اضافة الى الانتداب الفرنسي اخذت تحتل دورا ثانويا بعد هذا التاريخ كمسببات لرفض الحسين التوقيع على المعاهدة، واخذت المواد (5.4.2) بشأن علاقة الحجاز بنجد وعسير تحتل الدور البارز في هذه المفاوضات وهذا ما تعرضنا له تفصيلا في الصفحات السابقة. بل ان الحسين كما تقدم تعهد بتوقيع المعاهدة بكامل موادها عدا المواد السالفة الذكر التي طالب بتعديلها لصالحه .
ومن هنا يبدو ان المادة (15) بما فيها الفلسطينية ـ تعقيبا على الرأى السابق ـ وان كان عائقا في طريق اتمام المعاهدة، فإن فاعليتها تكاد تبدو اقل من السابق، بعد تاريخ 28 تشرين الاول 1921سالف الذكر قياسا للمسببات الاخرى، علما ان الملف ( F.O. 686/74) الذي بحوزتنا والحاوي على ما يقارب الـ 450 ورقة يكاد يغطي فترة المباحثات واتصالاتها بأيامها تقريبا.
وعلى اية حال ـ وبغض النظر ـ عن الملاحظات الاخيرة فإن الحسين رفض المعاهدة كليا وقد اكدت القبلة هذا الموقف بقولها (ان الحسين بن علي لم يتوقف عن امضاء المعاهدة... فقط بل رفض قبلها فرساي ايضا لاسقاطها الحقوق المعترف بها لبلاده وابناء اقوامه وعداه، فبولائكم... ووفائكم يعز علينا بحثكم في تردده عن امضاء العهد المذكور وعهودكم المعلومة له ضربتم بها عروض الحيطان...) .
واتماما للظروف التي احاطت بالموقف الذي اتخذه الحسين من مشروع معاهدة 1921، فإن الحقيقة تقتضي الاشارة الى المعارضة الفلسطينية التي كان لها اثرها ايضا في موقف الحسين، بصرف النظر عن المقاومة التي اعلنوها في بلادهم في اعقاب وعد بلفور. فكانت لهم اتصالاتهم بالملك حسين ، واحتجاجاتهم التي كانوا يوجهوها للاخير او لغيره من الحكام الآخرين ، بصدد الوضع في فلسطين وهذا ما يمكن ملاحظته اكثر وضوحا عند الحديث عن مشروع معاهدة 1923 (المحاولة الثانية).
(ب) المحاولة الثانية:
وكانت هذه سنة 1923، حين دارت المباحثات فيها بين ناجي الاصيل واللورد كررزن وذلك على اثر محاولة الحلفاء التوصل الى تسوية مع الاتراك في اجتماعات مؤتمر (لوزان) التي بدات منذ تشرين الثاني 1922. فقد حاول الحسين استغلال هذه المناسبة واسماع صوته في المؤتمر، والتفاوض مع بريطانيا لما يمكن التوصل اليه، وأبلغ وزارة خارجيتها يطلب الاشتراك في المؤتمر . بيد ان تجاهل بريطانيا لطلبه دفعه للمشاركة دون ان توجه له دعوة رسمية، وانتدب الدكتور ناجي الاصيل ممثلا عنه في المؤتمر . فترك الاخير مكة حاملا معه معاهدة (عبد الله ـ لورنس) سابقة الذكر مع بعض التعديلات التي لم يكشف عنها في حينه .
سلم الاصيل ـ لدى وصوله لوزان في 14 كانون الاول 1922 ـ اللورد كررزن مذكرة من الملك حسين كرر فيها مطاليبه المعتادة في تنفيذ الوعود المقطوعة للعرب ، وعقد معه عدة اجتماعات تمخضت عن اتفاق مبدأي بين الطرفين بشأن مشروع معاهدة جديدة تنظم علاقة الدولتين . وقد وقعها كررزن في منتصف نيسان 1923 بالحروف الاولى، فعاد بها الاصيل الى الحجاز لاطلاع سيده عليها .
لقد ابدى المسؤولون الحجازيون ـ ومن بينهم الحسين ـ تفاؤلهم بالمعاهدة الجديدة ، واعلن الاخير بما اعتقده، بأستجابة بريطانيا للمطاليب العربية واستقلال العرب، وراح رئيس ديوانه واكد ذلك في بيان اذاعه بين حشود الحاضرين ممن جاءوا لتهنئة الملك بمناسبة عيد الفطر ... لكن هذا التفاؤل لم يكن سوى ضرب من التسرع والتقديرات المضطربة سرعان ما تلافاه الملك وحكومته، بسبب صرخات المعارضة التي اطلقها الفلسطينيون ضد المعاهدة الجديدة (المادة الثانية منها بالذات). اذ رفضت اللجنة التقليدية الفلسطينية في اجتماعها المنعقد في يافا في 19 حزيران 1923، ماجاء في المعاهدة الاخيرة بشأن فلسطين . وعبر المؤتمر العربي الفلسطيني في برقيته للملك حسين عن رفضه لها وطالبه بعدم ابرامها دون موافقة الامة . كما اكدت الاوساط الفلسطينية الاخرى هذا الموقف، واعربوا عن هدفهم في تاسيس حكومة عربية مستقلة في فلسطين . فاقتدى الحسين بالرأي الفلسطيني، واعلن عن موقفه بوضوح في الكلمة التي القاها بين وفود الحجاج خلال موسم الحج (تموز 1923). حيث اشار فيها الى تناقض المعاهدة المقترحة مع الوعود البريطانية المقطوعة للعرب. واكد على ادخاله التعديلات على موادها بما يضمن حقوق العرب بما في ذلك فلسطين التي اشترط استقلالها (استقلالا تاما مطلقا يخول الفلسطينيين إدارة بلادهم بانفسهم واختيارهم طريقة الحكم التي يريدونها وبذلك جعلت وعد بلفور ـ كما ذهب الحسين ـ في حكم انه لم يصدر وقضى عليه بالموت. وفوق ذلك فإنني طلبت في التعديل أنه بعد عقد المعاهدة يؤمر المندوب السامي في فلسطين ان يصرح مندوب من قبلي امام ممثلي فلسطين، باستقلال الاقطار الفلسطينية استقلالا تاما مطلقا ودخولها صراحة في الوحدة العربية طبقا للعهود البريطانية المقطوعة لي) . واكد في بلاغه رفض المعاهدة دون الاخذ بهذه التعديلات (ولن يذهب شبر من ارض فلسطين، بل سيحافظ عليه محافظته على بيت الله الحرام في مكة المكرمة). كما اعلن عن عزمه في السفر الى فلسطين واستشارة زعمائها عن نوع الحكم الذي يبتغون، واطلاعهم على الموقف البريطاني من التعديلات الاخيرة، سلبا كان ام ايجابا... وذهب في هذا السبيل وبعث بمندوبه (الشيخ عباس مالكي) الى القدس لشرح موقفه الاخير . وقد اشارت جريدة (صوت الشعب) الفلسطينية لمهمة الاخير وتأكيده لحرص سيده على استقلال فلسطين، وتثبيت مواقفه على ضوء آراء زعماؤها .
وصل الاصيل لندن في تموز 1923، وهو يحمل المعاهدة والتعديل الذي وضعه الحسين في المادة الثانية . فلم تبدو وزارة الخارجية البريطانية موافقتها لاقتراحات الاخير المتقدمة بشأن فلسطين وعبرت ـ في مذكرة بعثتها للاصيل ـ عن موقفها المساند لوعد بلفور ، والتزامها بميثاق عصبة الامم الذي كان يعني في مضمونه (الالتزام بتسهيل إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين...) واضافت المذكرة ان ما تفهمه الحكومة البريطانية هو ضمان هذا الشرط، وستوقف المباحثات في حالة عدم استعداد الحسين لقبوله . وقد بعثت الحكومة البريطانية بمذكرة الى الحسين ضمنتها هذا الموقف .
كان اصرار بريطانيا على تنفيذ وعد بلفور، عاملا رئيسيا في عرقلة سير المفاوضات ولم تجد نفعا الحلول الوسطية التي اقترحها الاصيل في تسوية الخلافات. فقد تقدم الاخير في اوائل تشرين الثاني 1923 بصيغة جديدة للمادة الثانية من المعاهدة اقترح فيها اعلان بريطانيا عن استعدادها لتاسيس حكومة تمثيلية وطنية في فلسطين تتمتع باكبر قسط ممكن من الاستقلال انسجاما مع الكتاب الابيض الصادر في حزيران 1922 ، شريطه اعتراف الحسين بالمركز الخاص لبريطانية في فلسطين. غير ان الاصيل ـ ومع اقتناع بريطانيا باقتراحه ـ لم يكن مخولا بذلك، ولم يبلغ باوامر من الحسين بهذا الصدد .
لم تنته مساعي الاصيل الى نتجية، وبدت اكثر تعقيدا من السابق ـ لا كما كانت تصوره بعض الصحف في اقتراب الطرفين من تسوية خلافاتهما ـ وهذا ما يمكن معرفته من خلال الموقف السلبي الذي اتخذته (القبلة) حيال الموقف البريطاني، سواء في معرض دفاعها عن سلامة موقف الحسين واصراره على ضمان الحق الفلسطيني او من خلال التهم التي اخذت توجهها ضد بريطانيا ومناوراتها مع الملك حسين في هدف إجباره على توقيعه على شروطها، غير ان الحسين ـ اضافت (القبلة ـ استمر على موقفه وحفاظه على سمعته، وهذا ما أكدته بوضوح الاوساط السياسية الفلسطينية في مؤتمراتها الاخيرة، رغم تشويه بريطانية لهذه الحقيقة. واوضح المقال ان الاخبار التي تشكك في هذا الموقف انما لتحقيق هدفين اولهما زعزعة علاقة الحجاز بالاقطار العربية ـ والدليل على ذلك ما ساد فلسطين من الاضطراب لولا تدارك حكومة الحجاز وتأكيداتها على موقفها الاخير من قضية فلسطين ـ وثانيهما إذلال الملك حسين وجره لتوقيع المعاهدة في وقت تكون قد تزعزعت فيه وحدة العرب ويستشهد المقال، تأكيدا لما ذهب اليه من نقاط، بالنبأ الذي نشرته وكالة (رويتر) في 3 آب 1923، والذي كان مفاده رفض الحكومة البريطانية لقسم من التعديلات التي اقترحها الحسين على المعاهدة وقبولها بالقسم الآخر، وابلاغها الحسين بذلك... .
ومما زاد في تعقيد المفاوضات، التبدل الذي طرأ على الوضع السياسي الداخلي في بريطانيا، فقد أبدت حكومة العمال ـ التي حلت بدل المحافظين ـ موقفا متصلبا تجاه المعاهدة، وعمدت في 10 كانون الاول 1923، الى ايقاف المفاوضات الجارية بشأنها، وكشفت عن موقفها بالنقطتين التاليتين ليختار الحسين احدهما كحل للخلاف هما:
الموافقة على وعد بلفور بعد تفسيره تفسيرا رسميا بان لا ينطوي على إنشاء حكومة يهودية في فلسطين وانما تكون موطنا عاما لليهود يلجأون اليه متى شاؤوا.
إخراج فلسطين نهائيا من المعاهدة والسكوت عنها، وانشاء الاتحاد العربي من العراق وشرق الاردن والحجاز . واضافت الحكومة البريطانية، ان الحسين سيجد كل ما تستطيع منحه اياه لانهاء الخلاف وإبرام المعاهدة، اذا وافق على احد الشرطين المتقدمين .
ولاريب ان بريطانيا في عرضها الاخير كانت على علم تام بأوضاع الحجاز الاقتصادية المتردية منذ سنة 1920 كما توضح في الفصل السابق، وكذلك الحال بالنسبة لقدراته العسكرية التي تدهورت بعد الضربة القاسية التي سددها له (ابن سعود) في معركة (تربة) 1919، بما رافقها من تصاعد اهمية الاخير لدى بريطانيا وترجيحها على غيره من الحكام. ومن هنا جاء طرحها للخيار التعجيزي، اعتقادا منها بأضطرار الحسين لإحدى صورتيه اللتين تتفقان جوهريا في ترك مصير فلسطين وديعة بيد بريطانية لتاسيس الوطن القومي لليهود .
وردا على الموقف البريطاني، حاول الحسين تدارك الموقف واجتمع بالمندوب السامي البريطاني في فلسطين السير (هوربرت صموئيل)، في عمان خلال زيارته لها في كانون الثاني 1924، لبحث المعاهدة مجددا ، واقترح حينها إسقاط المادة الثانية من المعاهدة كليا ليتسنى له توقيعها، لكن المستر جيمس هنري توماس ( J.H. Thomas ) وزير المستعمرات البريطاني، رفض الاقتراح الاخير لما فيه استمرار للاوضاع السابقة وتفسيره كهزيمة منكرة لوعد بلفور، وما يترتب على ذلك من تشجيع الفلسطينيين لاستئناف هياجهم الذي هدأ حاليا، هذا فضلا عما رآه (توماس) من وجوب إجراء هذه المفاوضات في جدة لا عمان . الا ان الحسين عاود طلبه في استئناف المفاوضات واتصل بكل من رئيس الوزراء البريطاني ووزير خارجيته بهذا الخصوص، وطلب إرسال مندوب بريطاني او حجازي لتولي ذلك ، فلم توافقه بريطانيا على طلبه، واعتبرت ممثلها في جدة الوسيط بينهما، كما اعترضت على وجود ممثل حجازي في لندن لحين إبرام المعاهدة . ومما زاد في سلبية موقفها الاخير، اعلان الحسين خلافته على المسلمين في عمان آذار سنة 1924 خشية اتهمامها مجاراة الحسين في خطوته الاخيرة، في حالة اتفاقها معه بشأن المعاهدة .
ولابد من الاشارة من جديد، الى الموقف الفلسطيني الذي ظل مواكبا لتطورات الموقف حيال المعاهدة، وقضية فلسطين التي كانت محور الخلاف. فقد استغل الزعماء الفلسطينيون فرصة زيارة الحسين لعمان للاجتماع به، وانتدبت اللجنة التنفيذية الفلسطينية وفدا لهذا الغرض، ضم بعض الشخصيات الفلسطينية امثال موسى كاظم الحسيني رئيسا للوفد، وامين التميمي وحافظ طوقان وشكري التاجي وعوني عبد الهادي. وقد ركز الاخيرون عن لقائهم بالحسين، على قرار المؤتمر الفلسطيني السادس الرافض لمشروع المعاهدة. فلم يبخل الحسين بتأييد موقفهم، وتعهده بعدم توقيع المعاهدة، او ما يتعلق منها بفلسطين، دون مشورتهم، على ن لا تخرج عن حدود التفهم والتأني . وقد نقل الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية انطباعه عن موقف الحسين، هذا بنفيه وجود معاهدة بين الاخير وبريطانيا، والتزامه بإبقاء فلسطين لأهلها ...
وواصل الفلسطينيون متابعتهم لمفاوضات الحسين بعد عودته لمكة في آذار 1924 واكدوا ذلك لدى عودة الاصيل اواخر حزيران 1924 الى الحجاز بالمعاهدة المعدلة في ضوء المقترحات البريطانية السابقة، حيث اعلنوا احتجاجهم ضدها، ورفع كاظم الحسيني احتجاجا رسميا الى الحسين بهذا الشان، فضلا عن الاحتجاجات التي رفعتها الاوساط السياسية في فلسطين الى الحكومة البريطانية وتنديدها بوعد بلفور . واجلت اللجنة التنفيذية الفلسطينية عقد مؤتمرها السابع بناء على طلب الهيئات السياسية لحين التثبت كليا من أبعاد المعاهدة بالنسبة لفلسطين . فكان لهذه المعارضة بلا شك اثرها في محاولات التفاهم البريطاني الحجازي، بما في ذلك موقف الحسين، ولعل هذا ما يفسر الرأي الذي يرجع تآلف موقف الحسين والفلسطينيين الى (التخويفات التي بدت من اعوانه في فلسطين) . فقد بعث الاخير بـ (ناجي الاصيل) مجددا الى لندن في آب 1924، مع تعديلات على المعاهدة اقترح فيها اقامة حكومة دستورية في فلسطين حفاظا على حقوق اهاليها، مقابل استعداده للاخذ بالمشورة البريطانية في القضايا الاخرى . بيد ان هذه المحاولة شاء لها ان تكون الاخيرة اذ جاء تقديمها بعد استيلاء النجديين على الطائف، وتنازل الحسين عن العرش في 3 تشرين الاول 1924 .
لم يقر الحسين المعاهدة كما تبين (وغير خاف ان علة العلل التي سببت عدم امضاء المعاهدة، انما هي المشكلة الفلسطينية)، وهذا ـ كما ذهب مراسل جريدة المقطم في فلسطين ـ ما يؤكد بطلان الاتهامات التي شككت بمواقف الحسين، وعدم صحتها .
والجدير بالالتفات ان هذا الموقف حظى بإهتمام الاوساط السياسية الفلسطينية وتقديرها، فقد نشرت اللجنة التنفيدية الفلسطينية بلاغا رسميا بهذا الصدد جاءت فيه (علمت اللجنة التنفيذية من استخباراتها الخاصة العديدة بأن المعاهدة العربية البريطانية التي عرضت على جلالته في الآونة الاخيرة بواسطة مندوبه الدكتور ناجي الاصيل كانت تناقض الميثاق الوطني وعليه فقد رجعت من حيث اتت كما رجعت اخواتها من قبلها بدون توقيع جلالته. لهذا فقد قررت اللجنة التنفيذية في جلستها شكرها لجلالة ملك العرب وخليفة المسملين لسهره على مصالح هذه الامة الاساسية ومراعاته لعواطفها وعلى الله حسن الثواب) .
وعلى اية حال فقد انتهى الحسين سياسيا كما اشرنا، ولتيقنها من إشراف الحجاز على الانهيار، استكملت بريطانيا خطواتها في التخلي عنهم، ورفضت بحث المعاهدة مع الاصيل، في ضوء تعديلات الحسين ، هذا فضلا عن الاحداث الدائرة في الحجاز والتي تبرر اتخاذ هذا الموقف ، لكل الاصيل ـ وتقدير منه لأهمية الدعم البريطاني في هذا الظرف ـ حاول اقناع الجانب البريطاني واوضح عدم مشاطرة الملك الجديد (علي) لموقف والده من المعاهدة، وستظل المعاهدة على ما اتفق عليه مبدئيا في حزيران سنة 1924 غير ان الحكومة البريطانية لم تغير موقفها، واصرت على رفضها لاستئناف المفاوضات مع حكومة الملك علي، واعتبرت نفسها في حل من الالتزامات لوالده، وكأنها وعود شخصية تزول بزوال الاشخاص .
تضمنت معاهدة 1923 في ماديتها الرابعة والخامسة تعهد بريطانيا في مساعدة الحجاز بتسوية نزاعاته مع حاكمي نجد وعسير سلميا . ومن هنا جاءت عروض الاصيل في هدف انهاء النزاع من قبلها ، وجاءت ايضا بعض التنازلات التي ابداها الملك علي بشان المعاهدة كما يبدو .
لم تعر بريطانيا اهتمامها لدعوات الحجاز، اذ لاجدوى من معاهدة مع دولة تلفظ انفاسها الاخيرة، خصوصا وان لها في الاحداث الدائرة في الحجاز، قسطا وافرا من التخطيط لضمان مستقبل سياستها في المنطقة ، فضلا عن رغبتها في تجنب المشاكل مع ابن سعود، بعد أن اثبت قوته ووطد عزمه الى ازاحة العائلة الهاشمية من الحجاز .
التقارب الحجازي السوفيتي:
كانت سياسة روسيا القيصرية قبل وبعد اندلاع الحرب العالمية على اتفاق مع سياسة الحلفاء الاستعمارية فيما يتعلق بالمنطقة العربية، حتى قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية سنة 1917 وما حملته من تغيير لاوضاع روسيا بما فيها سياستها الخارجية والتي تمثلت خطوتها الاولى بفضح المخططات الاستعمارية المرسومة في المعاهدات السرية ومن جملتها معاهدة سايكس ـ بيكو كما تبين سلفا.
ان ما نلمسه عن العلاقات بين الحجاز والاتحاد السوفيتي انها كانت تتسم بنوع من الجفوة والنفور تماشيا مع موقف بريطانيا الحليفة الرئيسية للحجاز. والذي يقرأ اعداد جريدة (القبلة)، يلاحظ بعض الاشارات التي توضح هذا الموقف. كان تلقي مسؤولية الاوضاع المتردية في روسيا على عاتق البلاشفة او كما ذهبت في احدى مقالات (دمارسوسكو) تصف الدمار الذي سببه الاخيرون لروسيا وتعرضها بالانتقاد لسياستهم في مضايقة التجار والاثرياء، وما جرته من النتائج السلبية للاوضاع الاقتصادية او استهجانها للصلح الذي عقده قادة الثورة مع المانيا وانسحابهم عن الحرب ، وانتقادها، وبشكل أدق استعصابها لسياستهم التي اولت دورا بارزا لطبقة العمال والفلاحين . وقد عززت نظرتها الاخيرة في مقالة اخرى جاءت تعليقا على دفاع احدى الجرائد المصرية (الافكار) عن حقوق العمال وقالت في هذا الصدد (ان هذه القضية يرجع فيها الحكم الى وجهين اولهما الديني ولانرى لزوما لبحث فيما يقوله ذلك القانون الشريف... الثاني ما تحكم به المدارك البشرية فنقول انه لا مشاحة اذا اثبتنا للعمال حقا بالشكل والطرز الذي يزعمون. ان ذلك الحق لا يخلو من احد امرين اما ان يكون له حد معلوم او هو عبارة عن كل ما احدث في العالم بلشفيكية او (خرشفيكية) اتخذ مبتدعوها اولئك العمال وسيلة لانتشارها غير ملتفتين لتأثيرها على العالم الكروي كما هو مشهود) .
وتذكر " القبلة " القارئ بموقفها هذا من النظام الجديد في روسيا في أعدادها المتقدمة والتي ادرجنا بعضها قبل قليل، ومناوأتها (للمذهب البولشفيكي) وبانها (كانت من جملة المقاومين لهذه الفكرة السيئة بالتاثير على نظام العالم وسعادة البشر) . ونجد الجريدة تقف الى جانب بعض الآراء التي ارتفعت في مصر ضد البلاشفة. كما جاء ذلك في دفاعها الواضح لمفتي مصر ـ الذي كان قد هاجم البلاشفة واتهمهم ببعض التهم ـ بما في ذلك تهجمها على منتقديه من الكتاب المصريين .
بيد ان المواقف الاخيرة وسياسة الحجاز الخارجية عموما كان لابد لها ان تتأثر بالتغيرات الجديدة التي طغت على السياسة الدولية ـ وبالذات السياسة البريطانية ـ في المنطق بعد انتهاء الحرب العالمية وما جرت على الحسين من نكسات مخيبة. لذا كان من الضرورة ان تعيد العائلة الهاشمية نظرها وتصوراتها لأبعاد هذه التصورات، فترى الامير فيصل ـ خلال إقامته في ايطاليا سنة 1920 بعد هزيمته في سوريا ـ يحث والده بالالتفات الى الاتحاد السوفييتي والاستفادة من دعوته الموجهة الى اقطار الشرق للتحرر والاستقلال .
ونجد "القبلة" ـ انعكاسا للتصدع الذي اصاب العلاقات مع بريطانيا ـ تشير الى اهمية المبادرات السوفييتية لتوطيد السلام في العالم من خلال انهاء الاستعمار ومنح الشعوب استقلالها، (وهذا ما حمل شعوب اوروبا ـ كما ذهبت "القبلة"ـ بتوجيه انظارها الى موسكو التي ترسل اليهم اشعة اراحتهم من الرضوخ الى القواعد التي تضغط على افكارهم وتجبرهم على تقديم ضحايا الانفس والاموال في سبيل تنفيذ برامج الحكومات الاستعمارية) . وذهبت في مقالة اخرى ـ بعنوان (العرب والموقف الحاضر) واستشهدت بتعزيز رأيها بأقوال احدى الصحف الغربية بقولها (ان مبادئ حرية الشعوب هي مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى، ولقد حاول الرئيس ولسن ان يحييها في مذكراته، واما السوفييت فإنهم احيوها الآن بتمامها) .
ولم يقف التحول البسيط الذي طرأ على سياسة الحجاز الخارجية عند هذا الحد وتطور الى لقاءات دبلوماسية مباشرة بين مسؤولي كل من الحجاز والاتحاد السوفييتي وهذا ما تم في مؤتمر (لوزان) في سويسرا سنة 1922 بين (ناجي الاصيل) ممثل الحجاز في المؤتمر، و(جيجيرين Chicherin) وزير الخارجية السوفييتي ، ورئيس وفده للمؤتمر، وذلك في كانون الاول 1922 . اما ما دار في هذا اللقاء فتناول نقطتين تتعلق الاولى برغبة الحسين في تزعم العرب جمعيا، ثم العمل على اقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. وبخصوص النقطة الاولى، اوضح جيجيرين رأيه قائلااننا نتعاطف جدا مع توحيد الشعب العربي، ولكننا لا نستطيع ان نتدخل في مسألة ما اذا كان هذا التوحيد مرغوبا فيه بشكل اتحاد تحت زعامة الحسين، او بشكل آخر ما. فذلك امر يعود للشعب العربي نفسه) وردا على تعقيب الاصيل ـ إصرار ملكه لرئاسة (الحكومة الهاشمية) العربية ـ ذهب رئيس الوفد السوفييتي للتاكد من وجهة نظر ممثلي الاقطار العربية الاخرى بهذا الخصوص، وكلف احد موظفيه (فورفسكي) لاتمام هذه المهمة .
اما بخصوص إقامة العلاقات الدبلوماسية، فلم يتمكن الطرفان من إتمامها في هذا اللقاء، غير ان جيجيرين وقبيل مغادرته لوزان في 3 شباط 1922. كلف (فوروفسكي) ايضا بمواصلة مفاوضاته بهذا الشأن الى جانب مهمته الاولى. الا ان اغتيال الاخير في 10 مايس 1923، حال دون اتمام المهمتين . ومع ذلك فلم تتوقف هذه المفاوضات واستؤنفت بين ممثلي البلدين في (روما) في نيسان 1924، حتى تكللت باتفاق الطرفين على التبادل الدبلوماسي، وتقرر ان يكون للإتحاد السوفييتي في الحجاز ممثلية وقنصلية عامة، وان يكون للحجاز بالمقابل بعثة رسمية في الاتحاد السوفييتي . كان (كريم عبد الغفور وفيج حكيموف) اول ممثل وقنصل سوفييتي عام لدى الحجاز . وقد قام هذا، بعد وصوله جدة بتسليم اوراق اعتماده للحسين في 9 آب 1924 ، موقعة من قبل رئيس الدولة السوفيتية (كالينين) وكان في مقدمة هذه الاوراق رسالة وجهها كالنين الى الحسين، خاطبه فيها بـ (الصديق العظيم والطيب). وعبر فيها عن سعادته لاقامة (علاقات صداقة وطيدة مستمرة) بين الاتحاد السوفيتي والحجاز. وتمنى في ختام رسالته (لجلالته والشعب العربي الصديق الازدهار والتقدم) . اما اول مبعوث دبلوماسي حجازي لدى الاتحاد السوفيتي فكان الامير (حبيب لطف الله) وقد وصل موسكو في بداية تشرين الاول 1924 واستقبل من قبل مسؤولي وزارة خارجية الاتحاد السوفييتي، وخصص له وللوفد الحجازي الاماكن المخصصة لاقامتهم . غير انه لم تسنح للحسين فرصة متابعة علاقاته الجديدة، بعد اضطراره للتنازل عن العرش في نفس الشهر الذي استقرت فيه سفارته في موسكو أي تشرين الاول 1924، إثر الهجوم الوهابي على الحجاز. وقد عبر الاتحاد السوفييتي عن موقفه تجاه حرب الحجاز سنة 1914، بامله في خروج الحجاز من هذه المخاطر سالما .
اما موقف الحجاز من التقارب السوفييتي فكان سلبيا كما يبدو في عهد ملكية الملك علي قصيرة الامد. وقد يمكن تفسير ذلك لاعتبارات اسلامية واخرى دبلوماسية ارضاءا لانكلترا آملا في الحصول على مساعدتها ضد الخطر الوهابي. والحقيقة ليست لدينا نصوص تفصيلية بصدد الموقف الاخير، عدا إشارة بسيطة اوردتها جريدة (المفيد) العراقية، هدفت منها الاشارة الى موقف الملك على المناوئ للشيوعية الذي ضمنه في تصريح له بهذا الخصوص.وقد جاء توضيح الجريدة الاخير بصيغة عبارة ادرجتها تحت صورة للملك علي .
محاولات حجازية للتفاهم مع الاتراك:
لاتعدو محاولات التقارب التي بذلها الحجاز مع الانظمة الجديدة التي جاءت بعد الحرب كما اشرنا سابقا ان تكون الا انعكاسا لتدهور علاقاته بالحليفة الرئيسية بريطانيا ورد فعل لسياستها التي خيبت آمال الحسين وتوقعاته، ومن هنا جاءت بعض مظاهر التعاطف والنوايا الطبية التي اظهرها الحسين لحركة الكماليين عند استفحالها أواخر 1920 ومن ان ثورته انما جاءت ضد الاتحاديين . ولم يقتصر الامر على المشاعر الاخيرة، وتجاوزها ـ بحكم مصالح الجانبين في سوريا ـ الى محاولة التعاون ضد العدو الفرنسي المشترك. والحقيقة ان هذه المحاولات لم تكن خافية عن انظار المسؤولين الانكليز ، الذين راحوا يحذرون من تحركات الامير فيصل، بعد ان تمكنوا من الوقوف على حقيقة زيارة الاخير الى مدينة حلب للاجتماع بمبعوثي مصطفى كمال ، حتى انهم، ولتهدئة الموقف، حاولوا إعادة الثقة لفيصل وإقناعه بحسن النوايا الفرنسية. ونصحت الحكومة بدورها مسؤوليها بطمانة فيصل وتبديد مخاوفه بشأن هذه النوايا، واستبعاد أي هجوم فرنسي قد يشن ضده. هذا في الوقت الذي استفسرت فيه من الحكومة الفرنسية عن ضمانات تقدمها بهذا الشأن .
وكان طبيعيا ان يصعد الامير فيصل من مساعيه للتفاهم مع الكماليين بعد اخراج الفرنسيين له من سوريا، فقد كلف الامير فيصل ـ خلال وجوده في إيطاليا ـ مرافقه (ساطع الحصري) بالسفر الى الاستانة للتباحث مع الكماليين بما يوصل الى إعادة النظر في العلاقات القائمة بين الطرفين. فاجتمع مبعوث فيصل ببعض ممثلي الكماليين في الاستانة، وطرح لهم موقف العرب الحاضر وما يحيط بهم من ظروف، بما في ذلك محاولته تصحيح التصورات الخاطئة في ذهنهم تجاه العرب. غير ان محادثات الحصري لم تكن وافية لتعذر استئنافها بسبب الاوضاع الحربية التي كانت تسود تركيا حينها ، ومع ذلك فلم يمتنع الحصري عن مواصلة مساعيه مع ممثلي الكماليين الموجودين في روما ن فترك الاستانة بعد تزوده ببعض المعلومات من قبل الاخيرين الموجودين فيها لضمان اتصاله برفاقهم في روما فضلا عن الاوراق والوثائق التي زوده بها فيصل عند عودته الى ايطاليا في طريقه لمواصلة المفاوضات. ولدى اجتماعه بهم واستفساره عن مواقفهم، ونزاعاتهم، ارتاى الاتصال بـ (فريد بك) وزير مالية الحكومة الكمالية بانقرة، وممن كانت له به معرفة جيدة، فبعث له في 29/10/1920 برسالة استفسر فيها عن موقف حكومته من الحكومة الحجازية، ومدى استعدادها لتمويل الحركة ضد فرنسا، وما يقتضي ذلك من الامور .
وقد ارفق الحصري هذه الرسالة باخرى الى (يونس نادي) صاحب جريدة (بني كون) أي اليوم الجديد. تعليقا على تهجمه ضد الملك حسين والقضية العربية، في محاولة من الحصري لإقناعه بطرح القضية بشكل موضوعي . ومما جاء في رسالته لاثبات وحدة مصالح العرب والاتراك، سماح القوات العربية في سورية بتزويد القوى التركية التي تعمل شمال حلب بالذخائر التي تحتاجها وحيلولتها (دون استفادة الفرنسيين من السكك الحديدية السورية في حركاتهم ضد القوى المذكورة.
حتى ان الجنرال (غورو) كان قد توهم بتاثير هذه الوقائع، باننا كنا متفقين معكم اتفاقا رسميا) .
وردا على ما جاءت به جريدة (يني كون) في اعتبارها لثورة الحسين ـ سببا في اندحار قوة المسلمين عموما بما فيهم العرب والاتراك ـ اثبت الحصري عدم صحة هذا الرأي اذ ان ظروف الحرب كانت قد ربطت مصير الدولة العثمانية ومقدرات البلاد الاسلامية بمصير المانيا، ولا يمكن ان يكون لحركة الحسين اثر كبير بين القوى الهائلة المتحاربة (اعتقد ان الثورة العربية ما كان يمكن ان تؤثر تأثيرا يستطيع ان يغير مجرى الحرب، فينزع النصر من احد الطرفين ليأخذ الآخر... وان انكسار الالمان واستسلامهم كان من الامور المحتمة، نظرا الى سير الوقائع العالمية، سواء اقامت الثورة في الحجاز ام لم تقم...) .
واستشهد الحصري بخطبة انور باشا في المجلس النيابي التي ربط فيها مصير بلاده بمصير المانيا حالة هزيمتها او انتصارها... واضاف ان الحكومة العربية التي ترأسها فيصل في سوريا والتي هي احدى نتائج الثورة في الحجاز، كانت مصدر قلق للحكومة الفرنسية ودفعتها الى حشد قسم من قواتها في السواحل السورية، بدلا من توجيهها للشمال واحتلال اقسام اضافية من الاراضي التركية... وانتهى الحصري بعد هذه المقدمة الى ما كان يرمي اليه في تجاوز الماضي، وتفهم متطلبات الظروف الحاضرة للتقارب بين العرب والاتراك و " ضرورة عقد اتفاق بين الحجاز وبين تركيا " وهو ما كان ينادي به ايضا (يونس نادي) واعرب الحصري اخيرا عن امله في تفهم الاخير لملاحظاته والحكم على ضوءها .
ولعل الحصري كان على حق في رسالته الاخيرة للصحفي التركي، لما كان يتمتع به الاخير من مكانة لدى الحكومة الكمالية والدور الكبير الذي يلعبه في توجيه الرأي العام التركي، فضلا عن كونه نائبا متنفذا في المجلس الوطني الكبير وعضوا فعالا في لجنة الشؤون الخارجية. علما ان الرسالة لم ترسل لتنوير يونس نادي فحسب بل و(فريد بك) نفسه، من هنا جاءت الرسالتان في ظرف واحد .
اوضحت الحكومة الكمالية موقفها على لسان فريد بك بعد مرور شهرين على استفسار الحصري. فاكدت رغبتها في تحرير جميع الاقطار الاسلامية من احتلال الاجنبي والتضحية الممكنة في هذا السبيل الا (اننا لا نعلم ما هي العواطف التي تكنها نحونا اليوم الهيئة الحاكمة في الحجاز، غير اننا نظن ان هذه الحكومة خاضعة للتاثير الانكليزي في الحجاز. ونحن نرغب ان يكون المسلمون سعداء مرفهين في جميع الجهات). والتفتت المذكرة الجوابية الى مساعدة سوريا والعراق لنيل استقلالهما واستعداد الحكومة الكمالية للتعاون مع أي جهة اسلامية في هذا السبيل، كما اشارت الى استعدادها ـ وردا على استفسار الحصري ـ لفسح المجال امام الحركة المناوئة للفرنسيين في ممارسة نشاطها في هضبة الاناضول شريطه استصحاب عناصرها لبعض الاوراق اللازمة بهم .
على اية حال فإن التطورات التي طرأت على السياسة الدولية والتسويات التي جرت في المنطقة، اضعفت التوقعات المترتبة على هذه الاتصالات. ولم يحدث ما يثير الانتباه بين الطرفين، مع بقاء الموقف الحجازي متجاوبا تجاه الكماليين بشكل عام. فتشير "القبلة" الى ما ينم عن انعدام الخلافات بين الحجاز والكماليين، بما في ذلك تاكيدها على الروابط القديمة التي تربط الشعبين العربي والتركي . وتورد بعض الاشارات الوثائقية عن بعض المراسلات المتبادلة بين الملك حسين وحكومة أنقرة، مفادها كما جءا على لسان ناجي الاصيل في لندن سنة 1923 اتخاذ العرب موقف الحياد من تطور الاحداث مستقبلا، دون الاخلال بالعلاقات الممكنة بين العرب واصدقائهم . وبكلمة اخرى محاولة لتوجه جديد، يامل الحسين منها التقليل من اهمية علاقاته مع بريطانيا. ومن الطبيعي ان تنبه الاخير وتحذر، للتبدل الاخير في موقف الحسين وان تهدد بإعادة النظر في علاقاتها مع العرب فيما اذا تحاشوا الاقتداء بمشورتها والتعاون معها .
ومع ما أبداء فيصل من التودد والاعتذار في اجابته على التنبيه الاخير، فإنه برر موقف والده الاخير، بالتهم الموجه ضده في شق عصا الاسلام وكونه سببا في انخذالهم بعد فشله في تحقيق الوعود التي قطعها له الحلفاء، الى جانب محاولته في إثبات عدم ولائه للقوى الاجنبية، انقاذا لموقفه المحزن بين المسلمين وعلى حد قول فيصل، واعتمادا على برقية والده، ان الاخير، انما أراد من اتصالاته بالكماليين، لسبر غورهم، والتعرف على ما ينطوي عليه موقفهم .
وآخر ما يمكن إيراده بصدد العلاقات الحجازية الكمالية، اللقاء المباشر الذي تم بين وفدي كلتا الدولتين في مؤتمر (لوزان) والذي اظهر تعاطفهما بشكل اكثر وضوحا من السابق، فقد ابلغ عصمت باشا وزير خارجية تركيا ورئيس وفدها للمؤتمر، الدكتور ناجي الاصيل رئيس الوفد الحجازي (ان يبرق الى جلالته الهاشمية بصفته الرئيس الاعالى للامم العربية بان عصمت باشا مخول السطلة التامة من حكومة أنقرة ليعلن ان تركيا لا تضمر أي عداء نحو العرب... وان تركيا على العكس اعترفت بالاستقلال التام للبلاد العربية وان ذلك لايقتصر على الحجاز وحده بل يتناول سوريا وفلسطين والعراق واضاف عصمت باشا الى ذلك ان هذا التصريح صادر منه رسميا بصفته وزير الخارجية واضاف انه سواء امضت تركيا معاهدة الصلح مع الحلفاء او لم تمضها فإنها تعترف اعترافا صريحا بالاستقلال التام للبلاد التي ذكرتها) . وقد اعربت وزارة خارجية الحجاز عن مشاعرها الودية تجاه الموقف الاخير في برقية بعثت بها للاصيل بهذا الشأن، وبرقية اخرى مماثلة الى وزارة خارجية تركيا تشكر فيها اعتراف الحكومة التركية الرسمي باستقلال العرب التام واعتزاز الحكومة الهاشمية واهتمامها (لانه لاغاية للعرب الا استقلالهم في حدود بلادهم المعروفة، ويمدون ايدي وفائهم وامتنانهم لكل من يعترف لهم بذلك...) .
ومع ذلك فلم تسفر محاولات التفاهم بين الجانبين الحجازي والتركي آنذاك عن نتائج ايجابية واقعية، وساد الصمت هذه العلاقة حتى نهاية المملكة سنة 1925.