عبدالرحمن الهيلوم
29-Feb-2008, 02:18 PM
الكفاءة في التزويج
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
لقد بين الله عزَّ وجل أن الكرامة في الدنيا والآخرة في بني آدم إنما تكون بالتقوى لا غير، فقال سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات.
فلم يجعل الله جلَّ جلاله التفاضل بين الناس بالجنس أو اللون أو اللغة أو القبيلة ، فهذه الأمور لا تقدم ولا تؤخر في ميزان الله ، إن لم يكن هناك إيمان وتقوى، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة.
فالتقوى هي ميزان التفاضل عند الله يوم القيامة، وإن افتقدنا هذا الميزان في الدنيا في بعض الأحيان، لانتكاس الفطر، حتى أصبح الرويبضة يتكلم في أمر العامة، وأصبح أهل الفن والدعارة هم الوجهاء الذين يُستقبلون، وأهل الغنى والجاه والمنصب، هم الذين يتصدرون المجالس، وإن كانوا من أفسق الفساق، فانقلب الميزان عند بعض الناس، ولا حول ولا قوة إلا بـالله.
وبهذا الميزان الرباني يجب أن نزن الناس (ميزان التقوى والصلاح) لا بمقياس الماديات التي يتفاخر بها البشر، ولا بأهوائنا وشهواتنا.
وقد بيَّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الكفاءة في التزويج إنما تكون بالدين والخلق لا بغيرهمـا من التفاخـر في متع الحياة الدنيا الزائلة، أو في الأحساب والأنساب، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) قالـوا يا رسول الله: وإن كان فيه، قال: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ) ثلاث مرات، وفي رواية أخرى: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ) الترمذي.
قال الإمـام المباركفوري رحمه الله تعالى: [قوله: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ) أي: طلب منكم أن تزوجوه من أولادكم وأقاربكم (مَنْ تَرْضَوْنَ) أي: تستحسنون (دِينَهُ) أي: ديانته (وَخُلُقَهُ) أي: معاشرته (فَزَوِّجُوهُ) أي: إياها (إِلاَّ تَفْعَلُوا) أي: إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه وترغبوا في مجرد الحسب والجمال أو المال (وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) أي: ذو عرض أي: كبير، وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جـاه ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج، وأكثر رجالكم بلا نساء فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عار، فتهيج الفتن والفساد ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: 4/173.
قلت: الصحيح أن الكفـاءة لا تُشْتَرَط إلا بالدين والخلق، وهذا ما نطقت به الأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وإليك بيان ذلك.
الأدلة من القرءان الكريم:
الأول: قال الله سبحانه وتعالـى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات.
قال الإمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: [فأكرمهم، لا أكثرهم قرابة وقوماً، ولا أشرفهم نسباً، ولكن الله عليم خبير يعلم منهم من يقوم بتقوى الله ظاهراً وباطناً، ممن لا يقومون بذلك ظاهراً ولا باطناً، فيجازي كلاً بما يستحق] تفسير ابن سعدي: 2/722.
قلت: ولا أعلاهم رياسة، ولا أكثرهم أموالاً ووجاهة، ولا أحسنهم صنعة، ولا أجملهم وجهاً وشكلاً، فـالله عزَّ وجل لم يجعل التفاضل بين الناس في هذه الأمور التي يتفاخرون بهـا في هذه الحياة الدنيا الدنيا، فهذه الأمور لاحظ لها عند الله في الآخرة، إن لم يكـن معها دين وخلق يتقرب بهما العبد إلى خالقه ومولاه، فالأكرم عند الله هو الأتقى للَّه، وإن لم يكـن معروفاً عند الناس في الدنيا، وما يضيره ذلك إذا كان معروفـاً عند الله في الملأ الأعلى.
الثاني: وقوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات.
قال الإمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: [ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض مما يحصل به التآلف والتوادد والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض] تفسير ابن سعدي: 2/720.
قلت: فكيف تتحقق الأخوة الإيمانية، ويحصل التآلف والتوادد وهو يترفع عن تزويجه، بحجج وعادات ما أنزل الله بها من سلطان؟.
الثالث: قوله تعالى:
{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} النور.
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: [وكل طيب من الرجال والنساء، والكلمات، والأفعال، مناسب للطيب وموافق له، ومقترن به ومشاكل له] تفسير ابن سعدي: 2/152.
فكل مؤمنة طيبة للمؤمن، وكل مؤمن طيب للمؤمنة، فالإيمان والتقوى هما ميزان التفاضل بين الناس، وميزان الموالاة والمعاداة والحب والبغض.
فالمؤمنة لها الحق أن تتزوج من شاءت من الرجال إذا رضيت هي ووليها خلقه ودينه، من أي جنس أو لون أو لغة، فهو طيب لأنه مؤمن، وللمؤمن أن يتزوج من شاء من النساء إذا رضي خلقها ودينها، من أي جنس أو لون أو لغة، فهي طيبة لأنها مؤمنة، فالمؤمن طيب، والكافر والفاجر خبيثان، وإن حَسُنَ مظهرهما وعـلا نسبهمـا، وكَثُرَ مالهمـا، والمؤمنة طيبة، والكافـرة والفاجـرة خبيثتان وإن حَسُنَ مظهرهما، وعـلا نسبهما، وكَثُرَ مالهما.
فالمؤمنة لا ينكحها كافر ولا فاجر، لقوله تعالى:
{لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الممتحنة.
والمؤمن لا ينكـح كافـرة ولا فاجـرة، لقـوله تعالى:
{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} النور.
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: [هذا بيان لرذيلة الزنا وأنه يدنس عـرض صاحبه، وعـرض من قارنه ومازجـه ما لا يفعلـه بقية الذنوب، فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء إلا أنثى زانية تناسب حاله حالها أو مشركة بـالله، لا تؤمن ببعث ولا جزاء، ولا تلتزم أمر الله.
والزانية كذلك، لا يَنكِحُهـا إلا زان أو مشرك:
{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
أي: حرم عليهم أن يُنكِحوا زانياً، أو أن يَنكَحوا زانية.
ومعنـى الآية: أن من اتصـف بالزنا، من رجل أو امرأة، ولم يتب من ذلك، أن المقدم على نكاحه، مع تحريـم الله لذلك، لا يخلو: إما أن لا يكون ملتزماً لحكم الله ورسوله، فذلك لا يكون إلا مشركاً وإما أن يكون ملتزماً لحكم الله ورسوله فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه، فإن هذا النكاح زنا والناكح زان مسافح، فلو كان مؤمناً بـالله حقاً، لم يقدم على ذلك، وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك نكاح الزاني حتى يتوب، فإن مقارنة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها أشد الاقترانات والازدواجات.
وقد قال تعالى:
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}
أي: قرناءهم، فحرم الله ذلك لما فيه من الشر العظيم، وفيه من قلة الغيرة وإلحاق الأولاد الذين ليسوا من الزوج، وكون الزاني لا يعفها بـسبب اشتغاله بغيرها، مما بعضه كاف في التحريم، وفي هذا دليل على أن الزاني ليس مؤمناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فهـو وإن لـم يكن مشركاً، فلا يطلق عليه اسم المدح الذي هو الإيمان المطلق] 2/143.
قلـت: لكـن الله سبحانه أباح للمؤمن أن يتزوج من نساء أهل الكتاب ممن جاء وصفهن بالقـرءان الكريم، بقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} المائدة.
أي: العفيفات، غير الزواني، ولا المتخذات أصدقاء في السر.
قال الإمام ابن سعدي رحمه الله تعالى: [وأما الفاجرات غير العفيفات عن الزنا فلا يباح نكاحهن سواء كن مسلمات أو كتابيات حتى يتبن، لقوله تعالى:
{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}] تيسير الكريم الرحمن 1/421.
وفي الحديـث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) البخاري.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين في هذا الحديث أن مقاصد النكاح لدى الناس تختلف، فمنهم من يتزوج لأجل المال، ومنهم من يتزوج لمجرد الحسب والنسب، وآخر يتزوج حباً في الجمال، وعشقاً للصور، وآخر يتزوج بحثاً عن الدين والخلق، أو أن مراده صلى الله عليه وسلم أن الأسباب الداعية لنكاح المرأة هذه الأمـور الأربعة، فإن اجتمعت فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإلا فلا يُقَدَّم على ذات الدين والخلـق شيء لقوله صلى الله عليه وسلم: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) ظَفِرَ بالشيء: فاز به وحصّله.
فالاقتران بذات الدين فوز وأي فوز، فهي الزوجة الوفية المطيعة أم الرجال ومربية الأبطال، والحافظة للزوج في نفسها وماله في غيبته، والراعية لحقوقه، ومؤنسته في وحدته وفراشه، وهي جنة الدنيا ومتاعهـا، وبهجة الحياة وأُنْسهـا، لا تستقيم المسيرة إلا بها، ولا تكتمل إلا معها، وهي شقيقة الرجل وسكنه، يَسْعدُ بجانبها، ويرتاح بقربها، فكم من عظيم كانت وراءه امرأة أو تربى في حجرها، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) النسائي وأحمد، والمرأة الصالحة، هي التي وصفها الله عزَّ وجل بقوله:
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} النساء: من الآية/34.
ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خَيرُ النِّسـاء مَن تُسِرُّكَ إذا أبصَرْتَ وتُطيعكَ إذا أمَرْتَ وتَحفَظُ غيبَتَكَ في نَفسِها ومالِكَ) صحيح الجامع/3299، وهذه الصفات لا تكون غالباً إلا في المرأة المؤمنة التقية النقية، فعليك بها وإن كانت قليلة المال، متواضعة الجمال، لم ترتفع بالنسب والآل.
قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: [قوله: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) في حديث جابر: (فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ) والمعنى: أن اللائق بذي الدين والمـروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لاسيما فيمن تطول صحبته – كالزوجة والإخوان – فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل صاحبة الدين، الذي هو غاية البغية] فتح الباري 9/168.
الأدلة من السنة النبوية:
الأول: عن أبـي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) الترمذي وابن ماجه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لـم يجعل كفاءة التزويج إلا في الخلق والدين، ولو كان هناك أمر آخر لبينه صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم تأخيـر البيان عن وقت الحاجة – وذلك أنه نشأ في زمن كان الناس يتفاخرون فيه بالأحساب، ويطعنون بالأنساب – قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة.
قال الإمام ابن سعدي رحمه الله تعالى: [هذا أمر من الله لرسـوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها، وهو: التبليغ لما أنزل الله إليه ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والأعمال والأقوال والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية.
فبلّغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليـغ، ودعا وأنذر، وبشّر ويسّر، وعلّـم الجهـال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين.
وبلّـغ بقـوله، وفعله، وكتبه، ورسله، فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرهـا عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين، ورجال المسلمين] تفسير ابن سعدي 1/461.
قلت: ولم يصلنـا من التبليغ فيمـا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل كفاءة التزويج في غير الخلق والدين:
{قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} البقرة.
الثاني: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَـا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ) قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال محقق زاد المعاد الشيخ شعيب الأرنؤوط: أخرجه الإمام أحمد، وإسناده صحيح: 5/158.
الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَـا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}) الترمذي وأبو داود وأحمد.
الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أوليائي يوم القيامة المتقون وإن كان نسب أقرب من نسب فلا يأتيني الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، فتقولون يا محمد! فأقول هكذا وهكذا: لا) وأعرض في كِلاَ عِطفيه، الأدب المفرد للبخاري /897.
الخامس: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: (أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِي يَعْنِي فُلاَنًا لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) البخاري ومسلم.
السادس: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا) قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال ثم سكت، فمر رجل من فقـراء المسلمين، فقال: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا) قالوا: حري إن خطب أن لا ينكـح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) أخرجه البخاري.
السابع: وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَالَ أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ ... الحديث) أخرجه مسلم .
قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى: [وقوله: (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير، لأن كل إنسـان يقـال (له): فِعْـلُك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضـب، إذ إنه لا أحـد يرضـى أن يوصـف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية، فالغرض من الإضافة هنا أمران:
1- التنفير.
2- بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان، إذ ليست أهلاً بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها، فالذي يعتني بها جاهل.
إلى أن قال رحمه الله: قوله: (الْفَخْرُ بالأَحْسَابِ) الفخر: التعالي والتعاظم والباء للسببية، أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه.
والحسب: ما يحتسبه الإنسان مـن شرف وسؤدد، كأن يكـون مـن بنـي هاشم، فيفتخـر بذلك أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخـر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هـو الذي كلما ازدادت نِعم الله عليه ازداد تواضعاً للحق والخلق، وإذا كان الفخـر بالحسب من فعل الجاهلية، فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الأحزاب.
واعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية، فهو مذموم ومنهي عنه.
قوله: (وَالطَّعْـنُ فِـي الأَنْسَـابِ) الطعن: العيب، لأنه وخز معنوي، كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سُمِّي العيب طعناً.
والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه، كأن يقول أنت ابن الدباغ أو أنت ابن مقطعة البظور – وهي شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء –] القول المفيد على كتاب التوحيد 2/21.
الثامن: وعن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلاَ تَكْنُوا) أحمد.
أي: من انتسب إلى آبائه وقبيلته على جهة الاستعلاء والافتخار بهـم علـى غيرهم، كما كان يفعل أهل الجاهلية الأولى، فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا، أي: قولـوا له اعضض (أير) أبيك، وفي رواية: (فأمصوه) أي: قولـوا له أمصـص (أير) أبيك، فإن الافتخار إنما يكون بتقوى الله والأعمال الصالحة لا غير.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالـى: [أي: قولوا له: اعضض (بأير) أبيك، ولا تكنـوا عن (الأير) بالهن تنكيلاً له وتأديباً] الأدب المفرد/346.
التاسع: وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكـمْ بَنُو آدَمَ وآدَمَ خُلِقَ منْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهيَنَّ قوْمٌ يَفتَخِرُونَ بآبائِهِمْ أوْ لَيَكُونُنَّ أهوَنَ على اللَّه منَ الجُعْلانِ) صحيح الجامع/4568.
آثار الصحابة رضي الله عنهم:
الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {لا أرى أحداً يعمل بهذه الآية:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}
حتى بلـغ:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
فيقول الرجل للرجل: أنا أكـرم منك! فليس أحد أكـرم من أحد إلا بتقوى الله} الأدب المفرد للبخاري/ 898، و/ 899 للأثر الذي يليه.
الثاني: وعنه رضي الله عنهما قال: {ما تعدُّون الكرم؟ وقد بيَّن الله الكرم: فأكرمكم عند الله اتقاكم، ما تعدُّون الحَسبَ؟ أفضلكم حسباً: أحسنكم خلقاً}.
الثالث: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم وهو هاشمي، ابنتيه بعثمان بن عفان رضي الله عنه وهو قرشي.
الرابع: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنهـا وهي أسديه بزيد بن حارثة رضي الله عنه وهو مولى.
الخامس: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو مولى بفاطمة بنت قيس وهي قرشية.
السادس: تزوج المقداد بن الأسود رضي الله عنه وكان من حلفاء قريش ولم يكن قرشياً بضباعة بنت الزبير رضي الله عنها وهي هاشمية أرفع منه نسباً.
السابع: تزوج سالم مولـى أبي حذيفة رضي الله عنه بهند بنت الوليد بن عتبة رضي الله عنها وهي قرشية، وهو مولى.
الثامن: تزوج بلال رضي الله عنه أخت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
التاسع: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بني بياضة بإنكاح أبي هند رضي الله عنه، وقد كان حجاماً.
[فهكذا كان شأن التزويج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُعَّرِج أحد منهم على الكفاءة في النسب، بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استشارته فاطمة بنت قيس في معاوية وأبي جهم أمرها أن تنكح أسامة] عودة الحجاب 2/245.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: [ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث] فتح الباري 9/164.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} الأحزاب :36، :
[في هذه الآية دليل، بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب، وإنما تعتبر في الأديان، خلافـاً لمالك والشافعـي والمغيرة وسحنون، وذلك أن الموالـي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوج أبو حذيفة سالماً من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف، وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع] الجامع لأحكام القرءان 14/182، تراجع الآية:221 من سورة البقرة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: [فالذي يقتضيه حُكمُه صلى الله عليه وسلم اعتبـار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك فإنه حرَّم على المسلمة نكاح الزانـي الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعةً، ولا غنىً ولا حريَّةً، فجوَّز للعبد القِنِّ نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات] زاد المعاد 5/159.
قال الشيخ الإمـام الأمير محمـد بن إسماعيـل الصنعانـي اليمانـي الهاشمـي رحمه الله تعالى: [وقد اختلف العلماء في المعتبر من الكفاءة اختلافاً كثيراً، والذي يقوى هو: ما ذهب إليه زيد بن علي ومالك، ويروى عن عمر وابن مسعود وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وهـو أحد قولي الناصر، أن المعتبر الدين، لقوله:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
ولحديث: (وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ) وتمامه (وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ) أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة وليس فيه لفظ كلهم (والناس كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى) أخرجه ابن لال بلفـظ قريب من لفـظ حديـث سهـل بن سعـد.
وأشار البخاري إلى نصرة هذا القول حيث قال: باب الأكفاء في الدين، وقوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً} الآية
فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم ثم أردفه بإنكاح أبي حذيفة من سالم بابنة أخيه هند ابنة الوليد بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى لامرأة من الأنصار، وقد تقدم حديث (فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ).
وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّـةَ الْجَاهِلِيَّـةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ)، قال الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يكون أكرم الناس فليتق اللَّه).
فجعل صلى الله عليه وسلم الالتفـات إلى الأنساب من عُبِّيَّة الجاهلية وتكبرهـا فكيف يعتبرها المؤمن ويبني عليها حكماً شرعياً؟
وفي الحديث: (قَالَ أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ)، ثم ذكر منها: (الْفَخْرُ بالأَنْسَابِ) أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس، وفي الأحاديث شيء كثير من ذم الالتفـات إلى الترفع بها وقد أمر صلى الله عليه وسلم بني بياضة بإنكاح أبي هند الحجام، وقال: (إنما هو امرؤ من المسلمين).
فنبه على الوجه المقتضي لمساواتهم، وهو الاتفاق في وصف الإسلام، وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع، ولا إله إلا الله.
كم حرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء واستعظامهم أنفسهم، اللهـم إنا نبرأ إليك من شرط وَلَّدَه الهوى، ورباه الكبرياء ولقد منعت الفاطميات في جهة اليمن ما أحل الله لهن من النكاح لقول بعض أهل مذهب الهادوية: إنه يحرم نكاح الفاطمية إلا من فاطمي من غير دليل ذكروه، وليس مذهباً لإمام المذهب الهادي
عليه السلام، بل زوج بناته من الطبريين، وإنما نشأ هذا القول من بعده في أيام الإمام أحمد بن سليمان، وتبعهم بيت رياستها، فقالوا بلسان الحال: تحرم شرائفهم على الفاطميين إلا من مثلهم، وكل ذلك من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، بل ثبت خلاف ما قالوه عن سيد البشر صاى الله عليه وسلم كما دل له .....] سبل السلام 3/203، ثم ساق الأحاديث في ذلك من أن كفاءة التزويج إنما تكون بالخلق والدين، فليراجع فإنه مهم.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى: [ولكن يجب أن يعلم أن الكفاءة إنما هي في الدين والخلُق فقط] سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/57.
ملحوظة:
أما إذا كان هذا الزواج يسبب مشاكل أسرية كبيرة ، وقطيعة للأرحام، وقد تصل في بعض الأحيان إلى القتل، فتركه أولى، لا لحرمة هذا الزواج، ولكن لتطبيق قاعدة: (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)
من وجد خطأ فليبصرني به ، فالمؤمن مرآة أخيه المؤمن
وجزاه الله كل خير
والله أعلم
راجع في هذا المبحث كتاب جامع أحكام النساء [3/257 – 290] وكذلك كتاب عودة الحجاب [2/242 – 248] ورسالة العصبية القبلية من المنظور الإسلامي.
والسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
لقد بين الله عزَّ وجل أن الكرامة في الدنيا والآخرة في بني آدم إنما تكون بالتقوى لا غير، فقال سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات.
فلم يجعل الله جلَّ جلاله التفاضل بين الناس بالجنس أو اللون أو اللغة أو القبيلة ، فهذه الأمور لا تقدم ولا تؤخر في ميزان الله ، إن لم يكن هناك إيمان وتقوى، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة.
فالتقوى هي ميزان التفاضل عند الله يوم القيامة، وإن افتقدنا هذا الميزان في الدنيا في بعض الأحيان، لانتكاس الفطر، حتى أصبح الرويبضة يتكلم في أمر العامة، وأصبح أهل الفن والدعارة هم الوجهاء الذين يُستقبلون، وأهل الغنى والجاه والمنصب، هم الذين يتصدرون المجالس، وإن كانوا من أفسق الفساق، فانقلب الميزان عند بعض الناس، ولا حول ولا قوة إلا بـالله.
وبهذا الميزان الرباني يجب أن نزن الناس (ميزان التقوى والصلاح) لا بمقياس الماديات التي يتفاخر بها البشر، ولا بأهوائنا وشهواتنا.
وقد بيَّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الكفاءة في التزويج إنما تكون بالدين والخلق لا بغيرهمـا من التفاخـر في متع الحياة الدنيا الزائلة، أو في الأحساب والأنساب، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) قالـوا يا رسول الله: وإن كان فيه، قال: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ) ثلاث مرات، وفي رواية أخرى: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ) الترمذي.
قال الإمـام المباركفوري رحمه الله تعالى: [قوله: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ) أي: طلب منكم أن تزوجوه من أولادكم وأقاربكم (مَنْ تَرْضَوْنَ) أي: تستحسنون (دِينَهُ) أي: ديانته (وَخُلُقَهُ) أي: معاشرته (فَزَوِّجُوهُ) أي: إياها (إِلاَّ تَفْعَلُوا) أي: إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه وترغبوا في مجرد الحسب والجمال أو المال (وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) أي: ذو عرض أي: كبير، وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جـاه ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج، وأكثر رجالكم بلا نساء فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عار، فتهيج الفتن والفساد ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: 4/173.
قلت: الصحيح أن الكفـاءة لا تُشْتَرَط إلا بالدين والخلق، وهذا ما نطقت به الأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وإليك بيان ذلك.
الأدلة من القرءان الكريم:
الأول: قال الله سبحانه وتعالـى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات.
قال الإمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: [فأكرمهم، لا أكثرهم قرابة وقوماً، ولا أشرفهم نسباً، ولكن الله عليم خبير يعلم منهم من يقوم بتقوى الله ظاهراً وباطناً، ممن لا يقومون بذلك ظاهراً ولا باطناً، فيجازي كلاً بما يستحق] تفسير ابن سعدي: 2/722.
قلت: ولا أعلاهم رياسة، ولا أكثرهم أموالاً ووجاهة، ولا أحسنهم صنعة، ولا أجملهم وجهاً وشكلاً، فـالله عزَّ وجل لم يجعل التفاضل بين الناس في هذه الأمور التي يتفاخرون بهـا في هذه الحياة الدنيا الدنيا، فهذه الأمور لاحظ لها عند الله في الآخرة، إن لم يكـن معها دين وخلق يتقرب بهما العبد إلى خالقه ومولاه، فالأكرم عند الله هو الأتقى للَّه، وإن لم يكـن معروفاً عند الناس في الدنيا، وما يضيره ذلك إذا كان معروفـاً عند الله في الملأ الأعلى.
الثاني: وقوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات.
قال الإمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: [ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض مما يحصل به التآلف والتوادد والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض] تفسير ابن سعدي: 2/720.
قلت: فكيف تتحقق الأخوة الإيمانية، ويحصل التآلف والتوادد وهو يترفع عن تزويجه، بحجج وعادات ما أنزل الله بها من سلطان؟.
الثالث: قوله تعالى:
{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} النور.
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: [وكل طيب من الرجال والنساء، والكلمات، والأفعال، مناسب للطيب وموافق له، ومقترن به ومشاكل له] تفسير ابن سعدي: 2/152.
فكل مؤمنة طيبة للمؤمن، وكل مؤمن طيب للمؤمنة، فالإيمان والتقوى هما ميزان التفاضل بين الناس، وميزان الموالاة والمعاداة والحب والبغض.
فالمؤمنة لها الحق أن تتزوج من شاءت من الرجال إذا رضيت هي ووليها خلقه ودينه، من أي جنس أو لون أو لغة، فهو طيب لأنه مؤمن، وللمؤمن أن يتزوج من شاء من النساء إذا رضي خلقها ودينها، من أي جنس أو لون أو لغة، فهي طيبة لأنها مؤمنة، فالمؤمن طيب، والكافر والفاجر خبيثان، وإن حَسُنَ مظهرهما وعـلا نسبهمـا، وكَثُرَ مالهمـا، والمؤمنة طيبة، والكافـرة والفاجـرة خبيثتان وإن حَسُنَ مظهرهما، وعـلا نسبهما، وكَثُرَ مالهما.
فالمؤمنة لا ينكحها كافر ولا فاجر، لقوله تعالى:
{لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الممتحنة.
والمؤمن لا ينكـح كافـرة ولا فاجـرة، لقـوله تعالى:
{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} النور.
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: [هذا بيان لرذيلة الزنا وأنه يدنس عـرض صاحبه، وعـرض من قارنه ومازجـه ما لا يفعلـه بقية الذنوب، فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء إلا أنثى زانية تناسب حاله حالها أو مشركة بـالله، لا تؤمن ببعث ولا جزاء، ولا تلتزم أمر الله.
والزانية كذلك، لا يَنكِحُهـا إلا زان أو مشرك:
{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
أي: حرم عليهم أن يُنكِحوا زانياً، أو أن يَنكَحوا زانية.
ومعنـى الآية: أن من اتصـف بالزنا، من رجل أو امرأة، ولم يتب من ذلك، أن المقدم على نكاحه، مع تحريـم الله لذلك، لا يخلو: إما أن لا يكون ملتزماً لحكم الله ورسوله، فذلك لا يكون إلا مشركاً وإما أن يكون ملتزماً لحكم الله ورسوله فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه، فإن هذا النكاح زنا والناكح زان مسافح، فلو كان مؤمناً بـالله حقاً، لم يقدم على ذلك، وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك نكاح الزاني حتى يتوب، فإن مقارنة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها أشد الاقترانات والازدواجات.
وقد قال تعالى:
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}
أي: قرناءهم، فحرم الله ذلك لما فيه من الشر العظيم، وفيه من قلة الغيرة وإلحاق الأولاد الذين ليسوا من الزوج، وكون الزاني لا يعفها بـسبب اشتغاله بغيرها، مما بعضه كاف في التحريم، وفي هذا دليل على أن الزاني ليس مؤمناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فهـو وإن لـم يكن مشركاً، فلا يطلق عليه اسم المدح الذي هو الإيمان المطلق] 2/143.
قلـت: لكـن الله سبحانه أباح للمؤمن أن يتزوج من نساء أهل الكتاب ممن جاء وصفهن بالقـرءان الكريم، بقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} المائدة.
أي: العفيفات، غير الزواني، ولا المتخذات أصدقاء في السر.
قال الإمام ابن سعدي رحمه الله تعالى: [وأما الفاجرات غير العفيفات عن الزنا فلا يباح نكاحهن سواء كن مسلمات أو كتابيات حتى يتبن، لقوله تعالى:
{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}] تيسير الكريم الرحمن 1/421.
وفي الحديـث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) البخاري.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين في هذا الحديث أن مقاصد النكاح لدى الناس تختلف، فمنهم من يتزوج لأجل المال، ومنهم من يتزوج لمجرد الحسب والنسب، وآخر يتزوج حباً في الجمال، وعشقاً للصور، وآخر يتزوج بحثاً عن الدين والخلق، أو أن مراده صلى الله عليه وسلم أن الأسباب الداعية لنكاح المرأة هذه الأمـور الأربعة، فإن اجتمعت فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإلا فلا يُقَدَّم على ذات الدين والخلـق شيء لقوله صلى الله عليه وسلم: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) ظَفِرَ بالشيء: فاز به وحصّله.
فالاقتران بذات الدين فوز وأي فوز، فهي الزوجة الوفية المطيعة أم الرجال ومربية الأبطال، والحافظة للزوج في نفسها وماله في غيبته، والراعية لحقوقه، ومؤنسته في وحدته وفراشه، وهي جنة الدنيا ومتاعهـا، وبهجة الحياة وأُنْسهـا، لا تستقيم المسيرة إلا بها، ولا تكتمل إلا معها، وهي شقيقة الرجل وسكنه، يَسْعدُ بجانبها، ويرتاح بقربها، فكم من عظيم كانت وراءه امرأة أو تربى في حجرها، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) النسائي وأحمد، والمرأة الصالحة، هي التي وصفها الله عزَّ وجل بقوله:
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} النساء: من الآية/34.
ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خَيرُ النِّسـاء مَن تُسِرُّكَ إذا أبصَرْتَ وتُطيعكَ إذا أمَرْتَ وتَحفَظُ غيبَتَكَ في نَفسِها ومالِكَ) صحيح الجامع/3299، وهذه الصفات لا تكون غالباً إلا في المرأة المؤمنة التقية النقية، فعليك بها وإن كانت قليلة المال، متواضعة الجمال، لم ترتفع بالنسب والآل.
قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: [قوله: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) في حديث جابر: (فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ) والمعنى: أن اللائق بذي الدين والمـروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لاسيما فيمن تطول صحبته – كالزوجة والإخوان – فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحصيل صاحبة الدين، الذي هو غاية البغية] فتح الباري 9/168.
الأدلة من السنة النبوية:
الأول: عن أبـي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) الترمذي وابن ماجه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لـم يجعل كفاءة التزويج إلا في الخلق والدين، ولو كان هناك أمر آخر لبينه صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم تأخيـر البيان عن وقت الحاجة – وذلك أنه نشأ في زمن كان الناس يتفاخرون فيه بالأحساب، ويطعنون بالأنساب – قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة.
قال الإمام ابن سعدي رحمه الله تعالى: [هذا أمر من الله لرسـوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها، وهو: التبليغ لما أنزل الله إليه ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والأعمال والأقوال والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية.
فبلّغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليـغ، ودعا وأنذر، وبشّر ويسّر، وعلّـم الجهـال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين.
وبلّـغ بقـوله، وفعله، وكتبه، ورسله، فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرهـا عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين، ورجال المسلمين] تفسير ابن سعدي 1/461.
قلت: ولم يصلنـا من التبليغ فيمـا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل كفاءة التزويج في غير الخلق والدين:
{قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} البقرة.
الثاني: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَـا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ) قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال محقق زاد المعاد الشيخ شعيب الأرنؤوط: أخرجه الإمام أحمد، وإسناده صحيح: 5/158.
الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَـا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}) الترمذي وأبو داود وأحمد.
الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أوليائي يوم القيامة المتقون وإن كان نسب أقرب من نسب فلا يأتيني الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، فتقولون يا محمد! فأقول هكذا وهكذا: لا) وأعرض في كِلاَ عِطفيه، الأدب المفرد للبخاري /897.
الخامس: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: (أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِي يَعْنِي فُلاَنًا لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) البخاري ومسلم.
السادس: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا) قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال ثم سكت، فمر رجل من فقـراء المسلمين، فقال: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا) قالوا: حري إن خطب أن لا ينكـح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) أخرجه البخاري.
السابع: وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَالَ أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ ... الحديث) أخرجه مسلم .
قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى: [وقوله: (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير، لأن كل إنسـان يقـال (له): فِعْـلُك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضـب، إذ إنه لا أحـد يرضـى أن يوصـف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية، فالغرض من الإضافة هنا أمران:
1- التنفير.
2- بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان، إذ ليست أهلاً بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها، فالذي يعتني بها جاهل.
إلى أن قال رحمه الله: قوله: (الْفَخْرُ بالأَحْسَابِ) الفخر: التعالي والتعاظم والباء للسببية، أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه.
والحسب: ما يحتسبه الإنسان مـن شرف وسؤدد، كأن يكـون مـن بنـي هاشم، فيفتخـر بذلك أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخـر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هـو الذي كلما ازدادت نِعم الله عليه ازداد تواضعاً للحق والخلق، وإذا كان الفخـر بالحسب من فعل الجاهلية، فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الأحزاب.
واعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية، فهو مذموم ومنهي عنه.
قوله: (وَالطَّعْـنُ فِـي الأَنْسَـابِ) الطعن: العيب، لأنه وخز معنوي، كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سُمِّي العيب طعناً.
والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه، كأن يقول أنت ابن الدباغ أو أنت ابن مقطعة البظور – وهي شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء –] القول المفيد على كتاب التوحيد 2/21.
الثامن: وعن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلاَ تَكْنُوا) أحمد.
أي: من انتسب إلى آبائه وقبيلته على جهة الاستعلاء والافتخار بهـم علـى غيرهم، كما كان يفعل أهل الجاهلية الأولى، فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا، أي: قولـوا له اعضض (أير) أبيك، وفي رواية: (فأمصوه) أي: قولـوا له أمصـص (أير) أبيك، فإن الافتخار إنما يكون بتقوى الله والأعمال الصالحة لا غير.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالـى: [أي: قولوا له: اعضض (بأير) أبيك، ولا تكنـوا عن (الأير) بالهن تنكيلاً له وتأديباً] الأدب المفرد/346.
التاسع: وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكـمْ بَنُو آدَمَ وآدَمَ خُلِقَ منْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهيَنَّ قوْمٌ يَفتَخِرُونَ بآبائِهِمْ أوْ لَيَكُونُنَّ أهوَنَ على اللَّه منَ الجُعْلانِ) صحيح الجامع/4568.
آثار الصحابة رضي الله عنهم:
الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {لا أرى أحداً يعمل بهذه الآية:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}
حتى بلـغ:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
فيقول الرجل للرجل: أنا أكـرم منك! فليس أحد أكـرم من أحد إلا بتقوى الله} الأدب المفرد للبخاري/ 898، و/ 899 للأثر الذي يليه.
الثاني: وعنه رضي الله عنهما قال: {ما تعدُّون الكرم؟ وقد بيَّن الله الكرم: فأكرمكم عند الله اتقاكم، ما تعدُّون الحَسبَ؟ أفضلكم حسباً: أحسنكم خلقاً}.
الثالث: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم وهو هاشمي، ابنتيه بعثمان بن عفان رضي الله عنه وهو قرشي.
الرابع: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنهـا وهي أسديه بزيد بن حارثة رضي الله عنه وهو مولى.
الخامس: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو مولى بفاطمة بنت قيس وهي قرشية.
السادس: تزوج المقداد بن الأسود رضي الله عنه وكان من حلفاء قريش ولم يكن قرشياً بضباعة بنت الزبير رضي الله عنها وهي هاشمية أرفع منه نسباً.
السابع: تزوج سالم مولـى أبي حذيفة رضي الله عنه بهند بنت الوليد بن عتبة رضي الله عنها وهي قرشية، وهو مولى.
الثامن: تزوج بلال رضي الله عنه أخت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
التاسع: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بني بياضة بإنكاح أبي هند رضي الله عنه، وقد كان حجاماً.
[فهكذا كان شأن التزويج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُعَّرِج أحد منهم على الكفاءة في النسب، بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استشارته فاطمة بنت قيس في معاوية وأبي جهم أمرها أن تنكح أسامة] عودة الحجاب 2/245.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: [ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث] فتح الباري 9/164.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} الأحزاب :36، :
[في هذه الآية دليل، بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب، وإنما تعتبر في الأديان، خلافـاً لمالك والشافعـي والمغيرة وسحنون، وذلك أن الموالـي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوج أبو حذيفة سالماً من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف، وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع] الجامع لأحكام القرءان 14/182، تراجع الآية:221 من سورة البقرة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: [فالذي يقتضيه حُكمُه صلى الله عليه وسلم اعتبـار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك فإنه حرَّم على المسلمة نكاح الزانـي الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعةً، ولا غنىً ولا حريَّةً، فجوَّز للعبد القِنِّ نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات] زاد المعاد 5/159.
قال الشيخ الإمـام الأمير محمـد بن إسماعيـل الصنعانـي اليمانـي الهاشمـي رحمه الله تعالى: [وقد اختلف العلماء في المعتبر من الكفاءة اختلافاً كثيراً، والذي يقوى هو: ما ذهب إليه زيد بن علي ومالك، ويروى عن عمر وابن مسعود وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وهـو أحد قولي الناصر، أن المعتبر الدين، لقوله:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
ولحديث: (وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ) وتمامه (وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ) أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة وليس فيه لفظ كلهم (والناس كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى) أخرجه ابن لال بلفـظ قريب من لفـظ حديـث سهـل بن سعـد.
وأشار البخاري إلى نصرة هذا القول حيث قال: باب الأكفاء في الدين، وقوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً} الآية
فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم ثم أردفه بإنكاح أبي حذيفة من سالم بابنة أخيه هند ابنة الوليد بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى لامرأة من الأنصار، وقد تقدم حديث (فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ).
وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّـةَ الْجَاهِلِيَّـةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ)، قال الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يكون أكرم الناس فليتق اللَّه).
فجعل صلى الله عليه وسلم الالتفـات إلى الأنساب من عُبِّيَّة الجاهلية وتكبرهـا فكيف يعتبرها المؤمن ويبني عليها حكماً شرعياً؟
وفي الحديث: (قَالَ أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ)، ثم ذكر منها: (الْفَخْرُ بالأَنْسَابِ) أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس، وفي الأحاديث شيء كثير من ذم الالتفـات إلى الترفع بها وقد أمر صلى الله عليه وسلم بني بياضة بإنكاح أبي هند الحجام، وقال: (إنما هو امرؤ من المسلمين).
فنبه على الوجه المقتضي لمساواتهم، وهو الاتفاق في وصف الإسلام، وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع، ولا إله إلا الله.
كم حرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء واستعظامهم أنفسهم، اللهـم إنا نبرأ إليك من شرط وَلَّدَه الهوى، ورباه الكبرياء ولقد منعت الفاطميات في جهة اليمن ما أحل الله لهن من النكاح لقول بعض أهل مذهب الهادوية: إنه يحرم نكاح الفاطمية إلا من فاطمي من غير دليل ذكروه، وليس مذهباً لإمام المذهب الهادي
عليه السلام، بل زوج بناته من الطبريين، وإنما نشأ هذا القول من بعده في أيام الإمام أحمد بن سليمان، وتبعهم بيت رياستها، فقالوا بلسان الحال: تحرم شرائفهم على الفاطميين إلا من مثلهم، وكل ذلك من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، بل ثبت خلاف ما قالوه عن سيد البشر صاى الله عليه وسلم كما دل له .....] سبل السلام 3/203، ثم ساق الأحاديث في ذلك من أن كفاءة التزويج إنما تكون بالخلق والدين، فليراجع فإنه مهم.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى: [ولكن يجب أن يعلم أن الكفاءة إنما هي في الدين والخلُق فقط] سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/57.
ملحوظة:
أما إذا كان هذا الزواج يسبب مشاكل أسرية كبيرة ، وقطيعة للأرحام، وقد تصل في بعض الأحيان إلى القتل، فتركه أولى، لا لحرمة هذا الزواج، ولكن لتطبيق قاعدة: (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)
من وجد خطأ فليبصرني به ، فالمؤمن مرآة أخيه المؤمن
وجزاه الله كل خير
والله أعلم
راجع في هذا المبحث كتاب جامع أحكام النساء [3/257 – 290] وكذلك كتاب عودة الحجاب [2/242 – 248] ورسالة العصبية القبلية من المنظور الإسلامي.
والسلام