ابن جدعــان
05-Nov-2003, 01:22 PM
خطبة لفضيلة الشيخ محمد العثيمين- رحمه الله – في التحذير مِن الإرهاب والتفجير:
هذه خطبة لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ألقاها على إثر حادث تفجير الخبر الآثم، وقد بيَّن - رحمه الله – الموقف الصحيح مِن هذا التفجير الآثم, وغيره مِن أعمال القتل والإرهاب. قال فضيلته:
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده, وترك أمته على بيضاءَ نقية, لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلوات الله وسلامه عليه, وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فـ (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102].
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) [النساء: 1].
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) [الأحزاب: 70-71].
عباد الله.. إن دين الإسلام الذي ارتضاه الله لكم وبعث به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم إنه لدين الوفاء، دين الأمانة، دين العدل، دين الصدق، دين البر، دين الصلة، قال الله عز وجل: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) [الإسراء: 34].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) [المائدة: 1].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون) [الأنفال: 27].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا) - أي لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل – (اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) [المائدة: 8].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119].
وقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) [النساء: 36].
وقال تعالى: (والذين يصِلون ما أمر الله به أن يوصل) [الرعد: 21].
وإن دين الإسلام كما يأمر بالأخلاق الفاضلة والآداب العادلة، فإنه يحارب الغدر والخيانة والجور والكذب والعقوق والقطيعة، قال النبيُ صلى الله عليه وسلم محذراً من الأخلاق السيئة: (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خَصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدَعَها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراكُ بالله وعقوق الوالدين).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع). يعني قاطع رحم. فالإسلام دين الفضيلة، دين الأخلاق، إنه يحارب الرذيلة.
عباد الله إن الوفاء بالعهد من أخلاق الإسلام الفاضلة التي أمر الله بها وحثَّ عليها ومدح عليها، وإن الغدر والخيانة من الأخلاق الذميمة التي حرَّمتها الشرائع وتنفرُ منها الطبائع، وإن من أعظم الغدر قتل النفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحق، وليست النفس المحرمة هي نفس المؤمن فقط، بل النفوس التي حرَّمها الله عز وجل، وحرَّم قتلها، أربع أنفس: نفس المسلم، ونفس الكافر الذمي، ونفس الكافر المعاهَد، ونفس الكافر المستأمِن.
هذه أنفس كلها محترمة، كلها حرام كما سنذكره إن شاء الله، أما نفس المسلم فظاهرٌ احترامها لكل إنسان, وهو مِن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، فمن أظهر لنا إسلامه فنفسه محرَّمة, وإنْ عمل ما عمل من المعاصي التي لم يدل القرآن والسُنة على أنها تبيح قتله.
وأما الذمي والمعاهَد فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت عنه أنه قال: (من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) [رواه البخاري في صحيحه].
وروى البخاري أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمنُ في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
وقد علمتم الدماء المحرمة وأنها أربعة أصناف, هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يزالَ المؤمن في فسحة في دينه ما لم يُصب دماً حراماً) قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورَطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها, سفك الدم الحرام بغير حله) أخرجه البخاري أيضاً.
ولقد صدق ابن عمر رضي الله عنهما أن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها أن يسفك الإنسان الدم الحرام بغير حله, وإن دم المعاهَد حرامٌ وسفكه من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن مَن قتله لم يرح رائحة الجنة، وكل ذنب توعد الله عليه في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته, فإنه من كبائر الذنوب.
وأما المستأمِن, فقد قال الله عز وجل في كتابه: (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) [التوبة: 6]. أي أجعله في حماية منك حتى يبلغ المكانَ الآمن في بلده.
وفي صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم, فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل).
ومعنى الحديث أن الإنسان المسلم إذا أمَّن إنساناً, وجعله في عهده, فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً, من أخفرها وغدر بها الذي أعطي الأمان من مسلم, فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله وملائكته, وأنه لا يُقبل منه صرف ولا عدل.
وفي صحيح البخاري أن أم هانيء بنت أبي طالب رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فسلمتْ عليه، فقال: (من هذه) فقالت: أنا أم هانيء بنت أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بأم هانيء). فقالت: يا رسول الله, زعم ابن أمي عليٌ - تعني علي بن أبي طالب - أنه قاتِلٌ رجلاً قد أجَرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانيء) فأجاز النبيُ صلى الله عليه وسلم أمان المرأة, وجعل أمانها عاصماً لدم المشرك، وعلى هذا فمن كان عندنا من الكفار بأمان فهو محترم، محرَّم الدم، وبذلك نعرف خطأ عملية التفجير التي وقعت في الخبر, في مكانٍ آهلٍ بالسكان المعصومين في دمائهم وأموالهم، ليلة الأربعاء العاشر من هذا الشهر شهر صفر عام سبعة عشر وأربعمائة وألف، الذي حصل من جرائه أكثر من ثمانية عشر قتيلاً وثلاثمائة وستة وثمانون مصاباً، منهم المسلمون والأطفال والنساء والشيوخ والكهول والشباب، وتلف من جراء ذلك أموالٌ, ومساكن كثيرة, ولاشك أن هذه العملية, لا يقرها شرعٌ ولا عقلٌ ولا فطرة.
أما الشرع فقد استمعتم إلى النصوص القرآنية والنبوية الدالة على وجوب احترام المسلمين في دمائهم وأموالهم، وكذلك الكفار الذين لهم ذمة أو عهد أو أمان، وأن احترام هؤلاء المعاهَدين والمستأمِنين والذميين, احترامهم من محاسن الدين الإسلامي، ولا يلزم من احترامهم بمقتضى عهودهم, لا يلزم من ذلك محبة ولا ولاء ومناصرة، ولكنه الوفاء بالعهد, إن العهد كان مسؤولاً.
وأما العقل فلأن الإنسان العاقل لن يتصرف أبداً في شيء محرَّم, لأنه يعلم سوء النتيجة والعاقبة، وإن الإنسان العاقل لن يتصرَّف في شيء مباح, حتى يتبين له ما نتيجته، وماذا يترتب عليه، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمُت) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم من مقتضيات الإيمان وكماله أن لا يقول الإنسان إلا خيراً أو يسكت.
فكذلك يقال: إن مِن مقتضيات الإيمان وكماله أن لا يفعل الإنسان إلا خيراً أو ليُمسك، ولا شك أن هذه الفعلة الشنيعة يترتبُ عليها من المفاسد ما سنذكرُ ما تيسر منه إن شاء الله.
وأما مخالفة هذه الفِعلة الشنيعة للفطرة، فإن كل ذي فطرة سليمة يكرهُ العدوان على الغير ويراه من المُنكر، فما ذنب المُصابين بهذا الحادث من المسلمين؟ ما ذنب الآمنين على فرشهم في بيوتهم أن يصابوا بهذا الحادث المؤلم؟
ما ذنب المصابين من المعاهَدين والمستأمِنين؟
ما ذنب الأطفال والشيوخ والعجائز؟
إنه لحادث منكر لا مبرر له!!
أما المفاسد، فأولاً: مِن مفاسد ذلك: أنه معصية لله ورسوله وانتهاك لحرمات الله وتعرضٌ للعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأن لا يُقبل من فاعله صرفٌ ولا عدلٌ.
ثانياً: من مفاسده تشويه سمعة الإسلام، فإن أعداء الإسلام سوف يستغلون مثل هذا الحدث, بتشويه سمعة الإسلام وتنفير الناس عنه, مع أن الإسلام بريء من ذلك، فأخلاق الإسلام صدق وبر ووفاء، والدين الإسلامي يُحذر من هذا وأمثاله أشدَّ التحذير.
ثالثاً: من مفاسده أن الأصابع في الداخل والخارج سوف تشير إلى أن هذا من صنع الملتزمين بالإسلام, مع أننا نعلمُ علم اليقين أن الملتزمين بشريعة الله حقيقة لن يقبلوا مثلَ ذلك، ولن يرضوا به أبداً، بل يتبرءون منه, وينكرونه أعظم إنكار, لأن الملتزم بدين الله حقيقة هو الذي يقوم بدين الله على ما يريد الله, لا على ما تهواه نفسه, ويملي عليه ذوقه المبني على العاطفة الهوجاء, والمنهج المنحرف, وهذا - أعني الالتزام الموافق للشريعة - كثير في شبابنا ولله الحمد.
رابعاً: من مفاسده أن كثيراً من العامة الجاهلين بحقيقة الالتزام بدين الله, سوف ينظرون إلى كثير من الملتزمين البرءاء من هذا الصنيع نظرة عداءٍ وتخوفٍ وحذر وتحذير, كما سمعنا عن بعض جهال العوام من تحذير أبنائهم من الالتزام, لاسيما بعد أن شاهدوا صور الذين حُكِمَ عليهم في قضية تفجير المتفجرات في الرياض.
وإنني أيها الإخوة بهذه المناسبة, لأعجبُ من أقوامٍ أطلقوا ألسنتهم بشأن الحكم فيهم مع أن هذا الحكم صادرٌ بأقوى طرق الحكم، فقد صدر من عدد من قضاة المحكمة الذين يؤتمنون على دماء الناس وأموالهم وفروجهم, وأُيدَ الحكمُ بموافقة هيئة التمييز, ثم بموافقة المجلس الأعلى للقضاء, ثم جرى تنفيذه من قِبل ولي أمر هذه البلاد.
أفبعد هذا يمكن أن يطلق المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته, أن يطلق لسانه في هذا الحكم, ويقول ما هو أقرب منه إلى الإثم من السلامة، وإذا كان الإنسان يقول في هذا الحكم الصادر بأقوى أدوات الحكم وطرقه, يقول ما يقول, فإنه يمكن أن يقول فيما دونه ما يقول، ومن المعلوم للخاصة والعامة أن بلادنا ولله الحمد أقوى بلاد العالم الآن في الحكم بما أنزل الله عز وجل, يشهد بذلك القاصي والداني, وإني لأظن أنه لو كان على أحدٍ من أهله ضرر من هذا التفجير لم يقل ما قال، وإذا تنزلنا جدلاً لما يقولُ هؤلاء, فإن الحاكم الذي حكم بذلك مغفور له, مأجور بأجر واحد, كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، والحكم الصادر نكال لمن حاول الفساد والإفساد في هذه البلاد, والمحكوم عليهم قضوا ما قدَّر لهم من حياة، ويثابون على ما حصل لهم من فوات، ولكن لا شك أننا في بلادنا واثقون بما صدر من حكامنا القاضين والمنفذين. نسأل الله تعالى أن يسددهم في أقوالهم وأعمالهم.
خامساً: من مفاسد هذه الفعلة القبيحة - أعني التفجير في الخبر - أنها توجب الفوضى في هذه البلاد التي ينبغي أن تكون أقوى بلاد العالم في الأمن والاستقرار، لأنها تشمل بيت الله الذي جعله مثابة للناس وأمناً، ولأن فيها الكعبة البيت الحرام التي جعلها الله قياماً للناس, تقوم بها مصالح دينهم ودنياهم، قال الله عز وجل: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً) [البقرة: 125].
وقال تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) [المائدة: 97].
ومن المعلوم أن الناس لن يصِلوا إلى هذا البيت إلا عن طريق المرور بهذه البلاد جميعها من إحدى الجهات.
سادساً: ومن مفاسد هذه الفعلة الشنيعة ما حصل بها من تلف النفوس والأموال, وتضرر شيء منها, كما شاهد الناس ذلك في وسائل الإعلام؛ شاهد الناس في وسائل الإعلام ما شاهدوا منها، وإن القلوب لتتفجر, والأكباد لتتفتت، والدموع لتذرف حين يشاهِدُ الإنسانُ الأطفال على سرر التمريض ما بين مصاب بعينه أو بأذنه أو يده أو رجله أو أي شيء من أجزاء بدنه, تدور أعينهم فيمن يعودهم, لا يملكون رفعاً لما وقع, ولا دفعاً لما يتوقع, فهل أحد يقرُّ ذلك أو يرضى به؟
هل ضمير لا يتحرك لمثل هذه الفواجع؟ ولا أدري ماذا يراد من هذه الفعلة، أيراد الإصلاح؟
فالإصلاح لا يأتي بمثل هذا، إن السيئة لا تأتي بحسنة ولن تكون الوسائل السيئة طرقاً لإصلاح أبداً، فكيف يُطهَرُّ القذر بما هو أقذر منه، وإننا وغيرنا من ذوي الخبرة والإنصاف ليعلمُ أن بلادنا ولله الحمد, خيرُ بلاد المسلمين اليوم في الحكم بما أنزل الله، وفي اجتناب سفاسف الأمور, ودمار الأخلاق, ليس في بلادنا ولله الحمد قبورٌ يُطافُ بها وتعبد، وليس فيها خمور تباع علناً وتشرب، وليس فيها كنائس ظاهرة يُعبد فيها غير الله عز وجل، وليس فيها مما هو معلوم في كثيرٍ من بلاد المسلمين اليوم، فهل يليق بناصح لله ورسوله والمؤمنين، هل يليق به أن ينقل الفتن إلى بلادنا؟ ألا فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً وليفعلوا فعلاً حميداً.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا بانتظار فريضة من فرائضك أن تقضي على الفساد والمفسدين، اللهم اقض على الفساد والمفسدين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم, وتدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تقيَ بلادنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا شرور أنفسنا وشرور عبادك، وأدِم على بلادنا أمنها وزدها صلاحاً وإصلاحاً، إنك على كل شيء قدير.. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم...ا.هـ.
مِن شريط: الحادث العجيب في البلد الحبيب, خطبة لفضيلة الشيخ: محمد العثيمين
هذه خطبة لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ألقاها على إثر حادث تفجير الخبر الآثم، وقد بيَّن - رحمه الله – الموقف الصحيح مِن هذا التفجير الآثم, وغيره مِن أعمال القتل والإرهاب. قال فضيلته:
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده, وترك أمته على بيضاءَ نقية, لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلوات الله وسلامه عليه, وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فـ (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102].
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) [النساء: 1].
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) [الأحزاب: 70-71].
عباد الله.. إن دين الإسلام الذي ارتضاه الله لكم وبعث به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم إنه لدين الوفاء، دين الأمانة، دين العدل، دين الصدق، دين البر، دين الصلة، قال الله عز وجل: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) [الإسراء: 34].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) [المائدة: 1].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون) [الأنفال: 27].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا) - أي لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل – (اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) [المائدة: 8].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119].
وقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) [النساء: 36].
وقال تعالى: (والذين يصِلون ما أمر الله به أن يوصل) [الرعد: 21].
وإن دين الإسلام كما يأمر بالأخلاق الفاضلة والآداب العادلة، فإنه يحارب الغدر والخيانة والجور والكذب والعقوق والقطيعة، قال النبيُ صلى الله عليه وسلم محذراً من الأخلاق السيئة: (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خَصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدَعَها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراكُ بالله وعقوق الوالدين).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع). يعني قاطع رحم. فالإسلام دين الفضيلة، دين الأخلاق، إنه يحارب الرذيلة.
عباد الله إن الوفاء بالعهد من أخلاق الإسلام الفاضلة التي أمر الله بها وحثَّ عليها ومدح عليها، وإن الغدر والخيانة من الأخلاق الذميمة التي حرَّمتها الشرائع وتنفرُ منها الطبائع، وإن من أعظم الغدر قتل النفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحق، وليست النفس المحرمة هي نفس المؤمن فقط، بل النفوس التي حرَّمها الله عز وجل، وحرَّم قتلها، أربع أنفس: نفس المسلم، ونفس الكافر الذمي، ونفس الكافر المعاهَد، ونفس الكافر المستأمِن.
هذه أنفس كلها محترمة، كلها حرام كما سنذكره إن شاء الله، أما نفس المسلم فظاهرٌ احترامها لكل إنسان, وهو مِن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، فمن أظهر لنا إسلامه فنفسه محرَّمة, وإنْ عمل ما عمل من المعاصي التي لم يدل القرآن والسُنة على أنها تبيح قتله.
وأما الذمي والمعاهَد فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت عنه أنه قال: (من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) [رواه البخاري في صحيحه].
وروى البخاري أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمنُ في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
وقد علمتم الدماء المحرمة وأنها أربعة أصناف, هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يزالَ المؤمن في فسحة في دينه ما لم يُصب دماً حراماً) قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورَطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها, سفك الدم الحرام بغير حله) أخرجه البخاري أيضاً.
ولقد صدق ابن عمر رضي الله عنهما أن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها أن يسفك الإنسان الدم الحرام بغير حله, وإن دم المعاهَد حرامٌ وسفكه من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن مَن قتله لم يرح رائحة الجنة، وكل ذنب توعد الله عليه في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته, فإنه من كبائر الذنوب.
وأما المستأمِن, فقد قال الله عز وجل في كتابه: (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) [التوبة: 6]. أي أجعله في حماية منك حتى يبلغ المكانَ الآمن في بلده.
وفي صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم, فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل).
ومعنى الحديث أن الإنسان المسلم إذا أمَّن إنساناً, وجعله في عهده, فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً, من أخفرها وغدر بها الذي أعطي الأمان من مسلم, فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله وملائكته, وأنه لا يُقبل منه صرف ولا عدل.
وفي صحيح البخاري أن أم هانيء بنت أبي طالب رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فسلمتْ عليه، فقال: (من هذه) فقالت: أنا أم هانيء بنت أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بأم هانيء). فقالت: يا رسول الله, زعم ابن أمي عليٌ - تعني علي بن أبي طالب - أنه قاتِلٌ رجلاً قد أجَرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانيء) فأجاز النبيُ صلى الله عليه وسلم أمان المرأة, وجعل أمانها عاصماً لدم المشرك، وعلى هذا فمن كان عندنا من الكفار بأمان فهو محترم، محرَّم الدم، وبذلك نعرف خطأ عملية التفجير التي وقعت في الخبر, في مكانٍ آهلٍ بالسكان المعصومين في دمائهم وأموالهم، ليلة الأربعاء العاشر من هذا الشهر شهر صفر عام سبعة عشر وأربعمائة وألف، الذي حصل من جرائه أكثر من ثمانية عشر قتيلاً وثلاثمائة وستة وثمانون مصاباً، منهم المسلمون والأطفال والنساء والشيوخ والكهول والشباب، وتلف من جراء ذلك أموالٌ, ومساكن كثيرة, ولاشك أن هذه العملية, لا يقرها شرعٌ ولا عقلٌ ولا فطرة.
أما الشرع فقد استمعتم إلى النصوص القرآنية والنبوية الدالة على وجوب احترام المسلمين في دمائهم وأموالهم، وكذلك الكفار الذين لهم ذمة أو عهد أو أمان، وأن احترام هؤلاء المعاهَدين والمستأمِنين والذميين, احترامهم من محاسن الدين الإسلامي، ولا يلزم من احترامهم بمقتضى عهودهم, لا يلزم من ذلك محبة ولا ولاء ومناصرة، ولكنه الوفاء بالعهد, إن العهد كان مسؤولاً.
وأما العقل فلأن الإنسان العاقل لن يتصرف أبداً في شيء محرَّم, لأنه يعلم سوء النتيجة والعاقبة، وإن الإنسان العاقل لن يتصرَّف في شيء مباح, حتى يتبين له ما نتيجته، وماذا يترتب عليه، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمُت) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم من مقتضيات الإيمان وكماله أن لا يقول الإنسان إلا خيراً أو يسكت.
فكذلك يقال: إن مِن مقتضيات الإيمان وكماله أن لا يفعل الإنسان إلا خيراً أو ليُمسك، ولا شك أن هذه الفعلة الشنيعة يترتبُ عليها من المفاسد ما سنذكرُ ما تيسر منه إن شاء الله.
وأما مخالفة هذه الفِعلة الشنيعة للفطرة، فإن كل ذي فطرة سليمة يكرهُ العدوان على الغير ويراه من المُنكر، فما ذنب المُصابين بهذا الحادث من المسلمين؟ ما ذنب الآمنين على فرشهم في بيوتهم أن يصابوا بهذا الحادث المؤلم؟
ما ذنب المصابين من المعاهَدين والمستأمِنين؟
ما ذنب الأطفال والشيوخ والعجائز؟
إنه لحادث منكر لا مبرر له!!
أما المفاسد، فأولاً: مِن مفاسد ذلك: أنه معصية لله ورسوله وانتهاك لحرمات الله وتعرضٌ للعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأن لا يُقبل من فاعله صرفٌ ولا عدلٌ.
ثانياً: من مفاسده تشويه سمعة الإسلام، فإن أعداء الإسلام سوف يستغلون مثل هذا الحدث, بتشويه سمعة الإسلام وتنفير الناس عنه, مع أن الإسلام بريء من ذلك، فأخلاق الإسلام صدق وبر ووفاء، والدين الإسلامي يُحذر من هذا وأمثاله أشدَّ التحذير.
ثالثاً: من مفاسده أن الأصابع في الداخل والخارج سوف تشير إلى أن هذا من صنع الملتزمين بالإسلام, مع أننا نعلمُ علم اليقين أن الملتزمين بشريعة الله حقيقة لن يقبلوا مثلَ ذلك، ولن يرضوا به أبداً، بل يتبرءون منه, وينكرونه أعظم إنكار, لأن الملتزم بدين الله حقيقة هو الذي يقوم بدين الله على ما يريد الله, لا على ما تهواه نفسه, ويملي عليه ذوقه المبني على العاطفة الهوجاء, والمنهج المنحرف, وهذا - أعني الالتزام الموافق للشريعة - كثير في شبابنا ولله الحمد.
رابعاً: من مفاسده أن كثيراً من العامة الجاهلين بحقيقة الالتزام بدين الله, سوف ينظرون إلى كثير من الملتزمين البرءاء من هذا الصنيع نظرة عداءٍ وتخوفٍ وحذر وتحذير, كما سمعنا عن بعض جهال العوام من تحذير أبنائهم من الالتزام, لاسيما بعد أن شاهدوا صور الذين حُكِمَ عليهم في قضية تفجير المتفجرات في الرياض.
وإنني أيها الإخوة بهذه المناسبة, لأعجبُ من أقوامٍ أطلقوا ألسنتهم بشأن الحكم فيهم مع أن هذا الحكم صادرٌ بأقوى طرق الحكم، فقد صدر من عدد من قضاة المحكمة الذين يؤتمنون على دماء الناس وأموالهم وفروجهم, وأُيدَ الحكمُ بموافقة هيئة التمييز, ثم بموافقة المجلس الأعلى للقضاء, ثم جرى تنفيذه من قِبل ولي أمر هذه البلاد.
أفبعد هذا يمكن أن يطلق المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته, أن يطلق لسانه في هذا الحكم, ويقول ما هو أقرب منه إلى الإثم من السلامة، وإذا كان الإنسان يقول في هذا الحكم الصادر بأقوى أدوات الحكم وطرقه, يقول ما يقول, فإنه يمكن أن يقول فيما دونه ما يقول، ومن المعلوم للخاصة والعامة أن بلادنا ولله الحمد أقوى بلاد العالم الآن في الحكم بما أنزل الله عز وجل, يشهد بذلك القاصي والداني, وإني لأظن أنه لو كان على أحدٍ من أهله ضرر من هذا التفجير لم يقل ما قال، وإذا تنزلنا جدلاً لما يقولُ هؤلاء, فإن الحاكم الذي حكم بذلك مغفور له, مأجور بأجر واحد, كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، والحكم الصادر نكال لمن حاول الفساد والإفساد في هذه البلاد, والمحكوم عليهم قضوا ما قدَّر لهم من حياة، ويثابون على ما حصل لهم من فوات، ولكن لا شك أننا في بلادنا واثقون بما صدر من حكامنا القاضين والمنفذين. نسأل الله تعالى أن يسددهم في أقوالهم وأعمالهم.
خامساً: من مفاسد هذه الفعلة القبيحة - أعني التفجير في الخبر - أنها توجب الفوضى في هذه البلاد التي ينبغي أن تكون أقوى بلاد العالم في الأمن والاستقرار، لأنها تشمل بيت الله الذي جعله مثابة للناس وأمناً، ولأن فيها الكعبة البيت الحرام التي جعلها الله قياماً للناس, تقوم بها مصالح دينهم ودنياهم، قال الله عز وجل: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً) [البقرة: 125].
وقال تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) [المائدة: 97].
ومن المعلوم أن الناس لن يصِلوا إلى هذا البيت إلا عن طريق المرور بهذه البلاد جميعها من إحدى الجهات.
سادساً: ومن مفاسد هذه الفعلة الشنيعة ما حصل بها من تلف النفوس والأموال, وتضرر شيء منها, كما شاهد الناس ذلك في وسائل الإعلام؛ شاهد الناس في وسائل الإعلام ما شاهدوا منها، وإن القلوب لتتفجر, والأكباد لتتفتت، والدموع لتذرف حين يشاهِدُ الإنسانُ الأطفال على سرر التمريض ما بين مصاب بعينه أو بأذنه أو يده أو رجله أو أي شيء من أجزاء بدنه, تدور أعينهم فيمن يعودهم, لا يملكون رفعاً لما وقع, ولا دفعاً لما يتوقع, فهل أحد يقرُّ ذلك أو يرضى به؟
هل ضمير لا يتحرك لمثل هذه الفواجع؟ ولا أدري ماذا يراد من هذه الفعلة، أيراد الإصلاح؟
فالإصلاح لا يأتي بمثل هذا، إن السيئة لا تأتي بحسنة ولن تكون الوسائل السيئة طرقاً لإصلاح أبداً، فكيف يُطهَرُّ القذر بما هو أقذر منه، وإننا وغيرنا من ذوي الخبرة والإنصاف ليعلمُ أن بلادنا ولله الحمد, خيرُ بلاد المسلمين اليوم في الحكم بما أنزل الله، وفي اجتناب سفاسف الأمور, ودمار الأخلاق, ليس في بلادنا ولله الحمد قبورٌ يُطافُ بها وتعبد، وليس فيها خمور تباع علناً وتشرب، وليس فيها كنائس ظاهرة يُعبد فيها غير الله عز وجل، وليس فيها مما هو معلوم في كثيرٍ من بلاد المسلمين اليوم، فهل يليق بناصح لله ورسوله والمؤمنين، هل يليق به أن ينقل الفتن إلى بلادنا؟ ألا فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً وليفعلوا فعلاً حميداً.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا بانتظار فريضة من فرائضك أن تقضي على الفساد والمفسدين، اللهم اقض على الفساد والمفسدين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم, وتدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تقيَ بلادنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا شرور أنفسنا وشرور عبادك، وأدِم على بلادنا أمنها وزدها صلاحاً وإصلاحاً، إنك على كل شيء قدير.. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم...ا.هـ.
مِن شريط: الحادث العجيب في البلد الحبيب, خطبة لفضيلة الشيخ: محمد العثيمين