عتيبه ربعي
30-Nov-2007, 05:46 AM
التربية، مصدرها، ومتى تبدأ؟
كنوز القرآن والسنة أصول تربوية كبيرة الفائدة عظيمة الأثر، وحين يكون الحديث عن الطفولة فإن هذه المرحلة كالبذرة الصغيرة والنبتة الضعيفة إذا أردنا لها النمو والقوة والاشتداد فعلينا بمنبع الإسلام الصافي، لنربي أبناءنا على منهج كتاب الله ووفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنحرص على هذه التربية منذ نعومة أظفارهم، حيث مرحلة التنشئة، فالأطفال كالنبتة الصغيرة تحتاج إلى رعاية تامة من ماء وهواء وشمس حتى تكبر وتشتد والأطفال بحاجة إلى متابعة وتوجيه ما داموا في هذه المرحلة من العمر حتى إذا اشتد عودهم وصاروا كبارا كانوا على خير بإذن الله تعالى أما إذا نشأوا مهملين فيصعب عند الكبر توجيههم وإصلاحهم.
نجد في وقتنا الحاضر كثيرا من الأمهات يشتكين من أبنائهن بعدم أداء صلاة الفجر في جماعة بسبب عدم تعودهم عليها منذ الصغر، تحكي إحدى الأخوات أن طفلها منذ أن كان في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي كان لا يترك الصلاة مع الجماعة في كل وقت حتى صلاة الفجر فكان في ليالي الشتاء الباردة يلبس الملابس الثقيلة ويخرج مع أبيه إلى المسجد وفي إحدى الليالي قال أحد جماعة المسجد لوالده لا تخرج به في مثل هذا الوقت لبرودة الجو وعدم تحمل الطفل له، لكن الأب استمر على الذهاب بابنه إلى المسجد في كل الأوقات لأنه ليس هناك فرق بين ذهابه إلى المسجد وموعد المدرسة- أي بين صلاة الفجر وموعد الدراسة سوى ساعة واحدة تقريبا- فلماذا نهتم بأمر الدنيا أكثر من الاهتمام بأمر الله والدار الآخرة، واستمر هذا الابن على المحافظة على الصلاة في المسجد في كل وقت وقد بلغ قرابة العشرين من عمره وهو مثال في المحافظة على الصلاة جماعة في الفجر وغيره لأن من شب على شيء شاب عليه.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- يذكر عنه أنه يقول كنا نعيش في بغداد وكان والدي قد توفي وكنت أعيش مع أمي فإذا كان قبل الفجر أيقظتني وسخنت لي الماء ثم توضأت. وكان عمره آنذاك عشر سنين- يقول وجلسنا نصلي حتى يؤذن الفجر- هو وأمه رحمهما الله- وعند الأذان تصحبه أمه إلى المسجد وتنتظره حتى تنتهي الصلاة لأن الأسواق حينئذ مظلمة وقد تكون فيها السباع والهوام ثم يعودان إلى البيت بعد أداء الصلاة، وعندما كبر أرسلته أمه لطلب العلم ويقول أحد العلماء: إن لأم الإمام أحمد من الأجر مثل ما لابنها لأنها هي التي دلته على الخير.
نعمة الذرية:
إن نعمة الذرية نعمة جليلة لا يقدر قيمتها إلا من فقدها، والنعمة تستحق الشكر للمنعم، ومن أجل مظاهر شكرها حسن تربيتها ورعايتها الرعاية الشرعية الصحيحة، فكيف تكون هذه التربية وتلك الرعاية؟
هذا التساؤل هو ما سنحاول الإجابة عليه قدر المستطاع في هذه الكلمات بإذن الله، إن هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا وزين بها بيوتنا ثم أوكل إلينا حق رعايتها وإصلاحها والعناية بها جديرة بالدراسة والتخطيط والمتابعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته إلى أن قال والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده" الحديث متفق عليه. فما هي تلك الرعاية؟
تبدأ الرعاية في الإسلام قبل عقد الزوجية حيث أوصى الإسلام باختيار الزوجة الصالحة لما لها من أثر في صلاح الذرية فحكمة الإسلام البدء بصلاح الأم وحسن اختيارها وهذا هو صريح وصية الرسول عليه الصلاة والسلام "فاظفر بذات الدين تربت يداك ". فالأم الصالحة مثل الأرض الصالحة للزراعة، ثم يأتي- بعد الزواج- التوجيه النبوي الكريم إلى ما يكون سببا في صلاح الأبناء قبل تكوينهم في أرحام أمهاتهم حيث ورد قوله صلى الله عليه وسلم:" لو أن أحدكم إذ أتى أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقنا، فقضي بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا". والحديث متفق عليه. تسمية ودعاء، وهذا دليل على بركة التسمية وأهميتها وأهمية الدعاء، وفي ذلك اعتصام بذكر الله وتبرك باسمه واستشعار بأن الله تعالى هو الميسر والمعين، وفيه إشارة إلى أن ذكر الله سبحانه وتعالى يطرد الشياطين.
وأمر آخر مما يدل على عناية الإسلام بالرعاية الطيبة للأبناء هو الدعاء لهم فدعاء الله سبحانه وتعالى هو نهج الأنبياء والصالحين في كل حال من أحوالهم، فهذا زكريا عليه السلام يدعو الله سبحانه وتعالى قبل أن يرزق الذرية قال تعالى: {)هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ] [آل عمران:38]. فلننظر إلى قوله ذرية طيبة لأنه لا يريد أية ذرية ويحدثنا القرآن الكريم أيضا عن امرأة عمران- أم مريم عليها السلام . ودعائها ربها حين الحمل وبعد الولادة يقول تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:34- 36]
الله أكبر تدعو لابنتها ولذريتها، فهل لفت انتباهنا- نحن المربون- هذا الدعاء ودعونا به.
كانت إحدى الأخوات حاملاً وعند آلام الوضع تذكرت دعاء أم مريم لابنتها مريم عليها السلام بعد ولادتها لها وتقول لقد ألهمني الله أن أدعوا الله بهذا الدعاء بعد ولادتي طفلتي: "اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
تقول هذه الأخت لقد رأيت على هذه البنت صفة الهدوء والراحة في تربيتها ما لم أجده فيمن قبلها من أخوتها ولله الحمد ونسأل الله أن يديم عليها ويجعلها قرة عين لوالديها وذخرا للإسلام والمسلمين.
عناية السلف بالتربية
يحكى أن رجلاً ذهب إلى أحد العلماء يسأله- كيف تكون التربية؟ فسأله العالم كم عمر ابنك الآن؟ قال أربعة أشهر، فقال العالم لقد فاتتك التربية! لأن التربية يبدأ بها منذ اختيار الزوجة، ومن هنا نعلم أن التربية لا تبدأ مع ولادة الطفل أو بعد مضي سنوات عمره الأولى، بل نلاحظ هنا أن التربية تسبق الإقدام على الزواج، وذلك بالتروي في اختيار الزوجة الصالحة لأنها هي المدرسة الأولى للطفل في حمله وبعد ولادته والأم هي الفاعل الأساس في العملية التربوية، وهي المربي الأسبق قبل الأب وذلك لالتصاقها بالطفل- ولأن الطفل قطعة منها ولأن عاطفة الأم أقوى من عاطفة الأب والأم المسلمة هي نواة البيت المسلم لأنها تعيش مع الابن أكثر سنوات حياته أهمية، وهي مرحلة ما قبل المدرسة التي تحدد شخصية الطفل، وهي مرحلة أساسية في حياته وكلما دعمت بالرعاية والإشراف والتوجيه كان ذلك أثبت للطفل أمام الهزات المستقبلية التي ستعترض الطفل في مستقبل أيامه، وكلما أخذت التربية منا جهدا أكبر أثمرت أطيب، فمن يرد إنشاء بيت محكم فليتقن التأسيس ليكون ذلك أقوى له وأشد صلابة في مواجهة دواعي السقوط والانهيار، وهكذا تنبغي العناية بتأسيس الأبناء.
وهناك أشارة إلى أن التربية الإسلامية التي عليها الأساس القوي هي تربية الروح فتنمية فطرة الطفل السليمة على الخير وربط صلته بالله تعالى بالذكر والدعاء في كل حين وفي كل عمل، وبيان نعمة الله على هذا الطفل في خلقه ومأكله ومشربه ولبسه مطلب أهم من العناية بالأكل والشرب واللباس مجردة من استشعار فضل الله فيها فهذه الحاجات الظاهرية من السهولة إصلاحها ومتابعتها وتحققيها للطفل، إذن فالمهم من الذي هيأها وأنعم بها علينا.
لنقرأ قول الله تعالى في سورة لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
المتأمل في هذه الآيات يدرك كثيرا من الركائز التربوية القرآنية التي يريدها ربنا سبحانه وتعالى لنا ولأبنائنا ومن أهم تلك الركائز:
1- القدوة في المربي الأب ومثله الأم.
2- أسلوب الحكمة في الموعظة واللين والرفق في التربية.
3- الركن الأول في التربية والتعليم، وهو ترسيخ العقيدة "يا بني لا تشرك بالله ".
4- إحياء عاطفة الأبوة وبيان واجب الولد نحو والديه وتنمية جانب المحبة والتقدير بين الآباء والأمهات والأبناء.
5- ربط السلوك بالعقيدة "يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير".
ليدرك الطفل هذه الحبة الصغيرة وأنها لا تخفى عن علم الله في ملكوته الواسع بل يأت بها الله لأنه عليم بصير لطيف لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهكذا عناية المربي كما يصورها القرآن الكريم على لسان لقمان لتكون دستورا ومنهاجا لكل المربين عبر العصور.
وسجل التاريخ حافل بالعبر في مجال عناية السلف بالتربية وسيرة الأمهات الصالحات تعطر صفحاته بمداد من ذهب والمتصفح لذلك السجل يتبين له ما كان عليه نساء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرون الإسلام المفضلة من حرص تام على تنشئة جيل رباني متمسك بعقيدته عامل عالم بشريعة الله مطبق لأحكامها في مسلكه في هذه الحياة.
وفي الأسطر التالية إضاءة سريعة على بعض تلك الملامح لعلها تكون نبراسا للسير على ذلك المنهج في حياتنا المعاصرة.
* أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أم عبد الله ابن الزبير ذلك الصحابي الجليل الذي لم يكن يخرج عن رأي أمه، ولم يكن يستشعر الاستغناء عنها، وطلب مشورتها، ونهج سبيلها مهما تطاول به العمر وأخصبت رأيه التجارب، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه شبابنا اليوم فالقرب منهم وبذل المشورة لهم مطلب هام، لكن لابد من تهيئتهم لذلك، فقد دخل عبد الله بن الزبير على أمه يستشيرها في أمر صراعه مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وكان ابن الزبير رجلاً مسنا لكنه تربى بقرب أمه ونهل من معينها- وهذا هو الشاهد من هذه الحادثة- فأشارت عليه بما رأته مناسبا لحاله: "الله الله يا بني إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فأمض عليه.... وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك ".
* أم سليم بنت ملحان آمنت بالله، وبايعت على مرضاته، ورأت أن أول واجباتها تبليغ هذا الدين إلى أقرب الناس إليها فعرضت الإسلام على زوجها مالك بن النضر والد أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى ثم تدرك هذه الصحابية الجليلة دورها ومسؤوليتها تجاه ابنها أنس لإعداده إعدادا سليما فأخذت تلقنه الشهادة وتقول له: قل أشهد أن لا إله إلا الله. قل أشهد أن محمدا رسول الله، وفعل الطفل ذلك.
وسمع زوجها فقال لها: لا تفسدي علي ابني، فأجابته: إني لا أفسده.
وهي بذلك رسمت واحدة من مسؤوليات الأم في البيت وهي أن تعلم طفلها وتؤدبه وتربيه، كما يلاحظ أن أمر تلقين العقيدة من أوليات الأمور التي ينبغي أن تهتم بها الأم عند تربية ولدها الصغير.
ومن الملاحظ أن الطفل يفهم من أمه ويقبل منها ما لا يفهمه ولا يقبله من غيرها، وهذا يحتم على الأم أن تعي دورها ولنتأمل قول أم أنس حين قتل زوجها: قالت: "لا جرم لا أفطم أنسا حتى يدع الثدي حيا ولا أتزوج حتى يأمرني أنس ".
هذه صورة من صور الرعاية الحانية الواعية من هذه الأم لولدها.
من ثمار التربية الحسنة
يذكر أن طفلة في السنة الخامسة الابتدائية كانت تؤدي سنة الضحى قبل ذهابها إلى المدرسة، وفي اليوم الذي يضيق فيه الوقت ولا تتمكن من أداء السنة في البيت قبل الخروج تقول أشعر بضيق ينتابني في المدرسة في ذلك اليوم عندما أتذكر أني خرجت قبل أداء هذه السنة.
إن المرحلة الأولى من حياة الطفل- السنوات الست الأولى- من أخطر المراحل وهي من أهمها حيث أن لها أبلغ الأثر في تكوين شخصيته فكلما يطبع في ذهن الطفل في هذه المرحلة تظهر آثاره بوضوح على شخصيته عندما يصبح راشدا.
إن الطفل في هذه السن كالورقة البيضاء مستعد لأن يكتب فيه أي شيء من خير أو شر لذا يجب على المربين أن يهتموا كثيرا بالتربية في هذه المرحلة، وينبغي الاهتمام أكثر من جانب الأمهات فعليهن منح الطفل ما يحتاجه من حب وحنان، وهذا ضروري لتعليم الطفل محبة الآخرين، والمحبة غريزة طبيعية في كل طفل، ولذا ينبغي صرفها في البداية إلى محبة الله سبحانه وتعالى ثم إلى محبة رسوله عليه الصلاة والسلام- فمثلاً إذا أهدى أحد إلى الطفل قطعة من الحلوى أو لعبة أو غيرها، فسنجد أن هذا الطفل يحب ذلك المهدي فما بالكم إذا ذكر الطفل بنعم الله عليه من المآكل والمشارب والملابس والصحة والعافية- بين فترة وأخرى- ولفت انتباهه إلى أن هذا من رزق الله فبإذن الله تعالى ستنغرس في قلب هذا الطفل محبة الله سبحانه وتعالى.
دخل الأب يوما إلى المنزل وقد أحضر معه أنواعا من الفاكهة فجلست الطفلة ذات الأربع سنوات تنظر إلى هذه النعم بينما الأم والأب منشغلان في حديث ما، فإذا بالطفلة تقطع حديثهما قائلة: أنا أحب ربي وعندما سئلت لماذا؟ قالت: انظروا ماذا أعطانا، تشير إلى الفاكهة، فقد يغفل الوالدان، والطفل يذكرهم بنعم الله.
بعض الأولياء أو الوالدين قد يستعجل ثمرة التربية أو يرى انحرافا بسيطا في سلوك الابن أو البنت وهم في سن الثانية عشرة إلى السابعة عشرة، فيصاب بشيء من الإحباط أو تحطم الآمال، ويظن أو يتيقن فشله في التربية.
ولكني أقول ليطمئن الوالدان فهذا لا يدل على الفشل، فليستمروا في المتابعة والتوجيه باللطف واللين والتشجيع على الخير والدعاء مع الإخلاص وسوف يرون الثمرة الطيبة بإذن الله ولو بعد حين، لأنهم بذروا بذرة طيبة وغذيت وسقيت بالطيب من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يعلم صدقة نية العبد وحرصه على أبنائه ولن يخيب له أملاً.
تذكر إحدى الأمهات حرصها على ابنتها منذ الصغر ومتابعتها لها حتى كبرت وتقول هذه الأم أن ابنتها كانت أحيانا تسخر منها ومع هذا استمرت وصبرت وصابرت في تربيتها، وأملها كبير بالله تعالى تقول هذه الأم إن ابنتها عرفت لوالدتها فضلها واعترفت لوالدتها بذلك فكانت تقول لم أكن أبالي بما تقولين لي من توجيهات وعندما يحصل لي موقف من المواقف أتذكر كلامك ويبدأ صداه يرن في أذني، وهي الآن من حفظة كتاب الله ومِن مَن يساهم في مجال الدعوة إلى الله قدر استطاعتها.
وفتاة أخرى كانت تردد أمها عليها وعلى أخواتها أن يسألوا الله الرفقة الصالحة، وفي أحد الأيام حصل لهذه الفتاة موقف في مدرستها عرفت بعده أهمية الرفقة الصالحة، وأدركت ما تعنيه أمها بذلك التوجيه، حيث وقعت مخالفة من عدد من الطالبات في المدرسة ولم يتبين المخطئة من المصيبة فوجهت المديرة جميع الطالبات وحذرتهم من هذه المخالفات وكان هذا الموقف على مرأى من هذه الفتاة وبعد عودتها من المدرسة قالت لأمها ما حدث وأنها أدركت فضل الرفيق الصالح، وأهمية البعد عن مواطن الريبة والخطأ، كما نستفيد من هذا أهمية رعاية وتوجيه النشأ، وغرس البذرة الطيبة بالقول الطيب وعدم استعجال الثمرة. يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [إبراهيم: 24- 25].
ومن أهم ما ينبغي التنبيه إليه العناية بالابن الأول أو البنت الأولى، لأنهما سيكونان القدوة لمن يأتي بعدهم من الأولاد، ويكونان عونا لأبويهما في مجال التربية وسيخف العبء على الوالدين خاصة عند كبرهما، وكثرة مشاغلهما وارتباطاتهما.
القدوة والتربية في حفظ اللسان:
الوصية الغالية للمربين والمربيات بحفظ اللسان عن الكلام البذيء، وترك السب والشتم واللعن عند أتفه الأسباب، فبدلاً من أن تدعو الأم على ولدها بالموت كما تفعل بعض الأمهات الجاهلات أو تدعو عليه بالمرض والشقاء، لماذا لا تدعو له بالصلاح والهداية ويتم لا تقدر الأم بأنه لو أصيب ابنها أو ابنتها بالمرض الذي دعت عليه به كالعمى مثلاً أنه لن يحزن عليه أحد مثل حزنها هي.
وإليك أيها المربي قصة هذه المرأة حيث تتحدث عن قصتها مع ولدها والدموع تذرف من عينيها وفيها من الحزن ما لا يعلمه إلا الله تقول:
عزمنا على السفر إلى مدينة الرياض وعند ركوب السيارة جرى خلاف بينها وبين أحد أبنائها حول لبس الشماغ حيث طلبت منه إحضاره فرفض فكانت المشادة بينهما وانتهت بدعائها عليه بقوله: "اذهب لا ردك الله " تقول هذه الأم الحزينة وسافرنا إلى الرياض وكانت المصيبة في أحد الشوارع في الرياض حيث كنت أسير معه فإذا بسيارة تتجه نحوه وتصدمه، فيسقط يصارع الموت ولم يلبث سوى ساعات ثم يموت، وأعود إلى بلدي بعد هذا السفر بدونه، هكذا كانت النهاية الأليمة أجاب الله دعاءها وذهب ابنها.
وصورة أخرى للدعاء في هذه القصة تذكر إحدى الأمهات أنه في أحد الأيام، وقبل أذان المغرب بقليل أراد أحد أبنائها السفر فحاولت أن يؤجله إلى الغد ليكون سفره نهارا، ولكن الولد أصر على السفر، وبالفعل سافر، وتقول والدته: لقد قلقت عليه أشد القلق، فما كان مني إلا أن فزعت إلى الصلاة وذلك في الساعة الثامنة مساءا، وتضرعت إلى الله وسألته أن يحفظ ابني، وقدمت مبلغا يسيرا صدقة لوجه الله، وما هي إلا ساعات، ويتصل ابني بالهاتف يطمئنني على وصوله سالما، وقال لي: هل دعوت الله لي؟ فسألته: لماذا تسأل؟
قال في الساعة الثامنة تقريبا، وبينما أنا أسير بسيارتي مسرعا، وإذا بي أرى زجاج السيارة الأمامي، وقد أصبح عليه ظل أسود جعلني لا أرى أمامي فأصابني الخوف فحاولت إيقاف السيارة وإذا بها واقفة فوضعت رأسي على مقود السيارة لحظات، ولما رفعت رأسي إذا بالذي كان أمامي قد ذهب، ويبدو لي والله أعلم أنه كان جملاً وبعد هذا الموقف سارت السيارة، ولم أصب بأذى ولله الحمد، وما كان ذلك إلا بفضل الله ثم بفضل وبركة دعاء والدته.
ولنقارن بين هاتين الحادثتين والفرق بين الدعاء بالخير والدعاء بالشر.
الحذر من سماع الأغاني والأطفال:
ولا يخفى ما للنشأة الطيبة والتربية الإيمانية من أثر مباشرة وقوي، ليس على سلوك الطفل فحسب بل يتعدى هذا الأثر إلى أقرانه وهذه القصة تبين هذا القول.
تذكر إحدى الأمهات أنها كانت ممن ابتلوا بسماع الغناء المحرم، وكانت لها طفلة في الروضة، وحدث أن هذه الطفلة أخذت تردد أبياتا من إحدى الأغنيات، وكان لهذه الطفلة صديقة في الروضة سمعتها وهي تغني فقالت لها: الغناء حرام فأثر هذا القول! في هذه الطفلة، ولما عادت إلى بيتها قالت لأمها: يا أمي الغناء حرام. فتقول هذه الأم: لقد نصحت عدة مرات عن ترك السماع ولم امتثل واستجب لنصح الناصحين، لكني في هذه المرة وبعد مقالة ابنتي خجلت من نفسي وتركت سماع الغناء ولله الحمد بسبب تلك الطفلة الصالحة التي نصحت ابنتي.
استغلال المواقف في التربية:
إن استغلال المواقف التي تمر بالأبناء في مسيرة حياتهم لربطهم بطرق الخير ووسائله وتحذيرهم من مسالك الشر وحبائل الشيطان أمر هام وفن لابد من التدرب عليه، كما أن ربط العمل الصالح بثوابه المترتب عليه والعمل السيئ بعقابه أمر له شأنه العظيم في تصحيح مسار حياة الأبناء ذكورهم وإناثهم أطفالاً أو شبابا. والمواقف التي تمر بالأبناء لا تتعدى أمرين إما خيرا فيشجعون عليه أو شرا فينفرون منه، ومن الشر في الظاهر ما يحتاج إلى صبر كالبلاء أو توبة كالمعصية، وهكذا فدور المربي هنا اتخاذ الموقف الملائم تجاه هذه الصور التي تتكرر في حياة الأبناء والبنات.
وهذه قصة شاب كانت أمه صالحة تذكره بسبل الخير وتحثه على الصدقة وتقول له إن الصدقة بركة تبارك في مالك قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]
وكان هذا الشاب يقول لأمه: كيف تقنعينني بأن المال يزيد بالصدقة وأنا أرى أني إذا أنفقت منه نقص. فكانت تذكره بأن الله يبارك لك فيما بقي ويخلف عليك في الدنيا والآخرة، فحدث له في أحد الأيام الموقف التالي.
- احتاجت إحدى النساء الفقيرات مبلغا من المال فوقفت معها أم هذا الشاب وجمعت لها المبلغ المطلوب، وحثت ابنها على مساعدتها، وقد فعل وقضى للمرأة حاجتها برحابة صدر، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخرج هذا الشاب بسيارته في نفس اليوم الذي ساعد فيه المرأة الفقيرة، فحدث له حادث في سيارته ولم يصب هو بأذى وعندما عاد إلى البيت قال لأمه: لقد قلت لك أكثر من مرة كيف يكون الإنفاق زيادة في المال وقد ذكرت لي أن الصدقة يبارك لي فيها، وتكون سببا في دفع المكاره، وها أنذا اليوم بعدما تصدقت حصل لي هذا الحادث، فألهم الله الأم الجواب السديد حيث قالت لأبنها: يا بني احمد الله ربما- والله أعلم- أنك لو لم تدفع الصدقة لكان الأمر أشد والحمد لله أن الحادث كان بهذه الصورة ولم يكن أعظم، فتذكر الأم أنه منذ أن قالت له ذلك لاحظت عليه الرغبة في الصدقة والاقتناع بأهميتها وأثرها المبارك.
كنوز القرآن والسنة أصول تربوية كبيرة الفائدة عظيمة الأثر، وحين يكون الحديث عن الطفولة فإن هذه المرحلة كالبذرة الصغيرة والنبتة الضعيفة إذا أردنا لها النمو والقوة والاشتداد فعلينا بمنبع الإسلام الصافي، لنربي أبناءنا على منهج كتاب الله ووفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنحرص على هذه التربية منذ نعومة أظفارهم، حيث مرحلة التنشئة، فالأطفال كالنبتة الصغيرة تحتاج إلى رعاية تامة من ماء وهواء وشمس حتى تكبر وتشتد والأطفال بحاجة إلى متابعة وتوجيه ما داموا في هذه المرحلة من العمر حتى إذا اشتد عودهم وصاروا كبارا كانوا على خير بإذن الله تعالى أما إذا نشأوا مهملين فيصعب عند الكبر توجيههم وإصلاحهم.
نجد في وقتنا الحاضر كثيرا من الأمهات يشتكين من أبنائهن بعدم أداء صلاة الفجر في جماعة بسبب عدم تعودهم عليها منذ الصغر، تحكي إحدى الأخوات أن طفلها منذ أن كان في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي كان لا يترك الصلاة مع الجماعة في كل وقت حتى صلاة الفجر فكان في ليالي الشتاء الباردة يلبس الملابس الثقيلة ويخرج مع أبيه إلى المسجد وفي إحدى الليالي قال أحد جماعة المسجد لوالده لا تخرج به في مثل هذا الوقت لبرودة الجو وعدم تحمل الطفل له، لكن الأب استمر على الذهاب بابنه إلى المسجد في كل الأوقات لأنه ليس هناك فرق بين ذهابه إلى المسجد وموعد المدرسة- أي بين صلاة الفجر وموعد الدراسة سوى ساعة واحدة تقريبا- فلماذا نهتم بأمر الدنيا أكثر من الاهتمام بأمر الله والدار الآخرة، واستمر هذا الابن على المحافظة على الصلاة في المسجد في كل وقت وقد بلغ قرابة العشرين من عمره وهو مثال في المحافظة على الصلاة جماعة في الفجر وغيره لأن من شب على شيء شاب عليه.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- يذكر عنه أنه يقول كنا نعيش في بغداد وكان والدي قد توفي وكنت أعيش مع أمي فإذا كان قبل الفجر أيقظتني وسخنت لي الماء ثم توضأت. وكان عمره آنذاك عشر سنين- يقول وجلسنا نصلي حتى يؤذن الفجر- هو وأمه رحمهما الله- وعند الأذان تصحبه أمه إلى المسجد وتنتظره حتى تنتهي الصلاة لأن الأسواق حينئذ مظلمة وقد تكون فيها السباع والهوام ثم يعودان إلى البيت بعد أداء الصلاة، وعندما كبر أرسلته أمه لطلب العلم ويقول أحد العلماء: إن لأم الإمام أحمد من الأجر مثل ما لابنها لأنها هي التي دلته على الخير.
نعمة الذرية:
إن نعمة الذرية نعمة جليلة لا يقدر قيمتها إلا من فقدها، والنعمة تستحق الشكر للمنعم، ومن أجل مظاهر شكرها حسن تربيتها ورعايتها الرعاية الشرعية الصحيحة، فكيف تكون هذه التربية وتلك الرعاية؟
هذا التساؤل هو ما سنحاول الإجابة عليه قدر المستطاع في هذه الكلمات بإذن الله، إن هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا وزين بها بيوتنا ثم أوكل إلينا حق رعايتها وإصلاحها والعناية بها جديرة بالدراسة والتخطيط والمتابعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته إلى أن قال والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده" الحديث متفق عليه. فما هي تلك الرعاية؟
تبدأ الرعاية في الإسلام قبل عقد الزوجية حيث أوصى الإسلام باختيار الزوجة الصالحة لما لها من أثر في صلاح الذرية فحكمة الإسلام البدء بصلاح الأم وحسن اختيارها وهذا هو صريح وصية الرسول عليه الصلاة والسلام "فاظفر بذات الدين تربت يداك ". فالأم الصالحة مثل الأرض الصالحة للزراعة، ثم يأتي- بعد الزواج- التوجيه النبوي الكريم إلى ما يكون سببا في صلاح الأبناء قبل تكوينهم في أرحام أمهاتهم حيث ورد قوله صلى الله عليه وسلم:" لو أن أحدكم إذ أتى أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقنا، فقضي بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا". والحديث متفق عليه. تسمية ودعاء، وهذا دليل على بركة التسمية وأهميتها وأهمية الدعاء، وفي ذلك اعتصام بذكر الله وتبرك باسمه واستشعار بأن الله تعالى هو الميسر والمعين، وفيه إشارة إلى أن ذكر الله سبحانه وتعالى يطرد الشياطين.
وأمر آخر مما يدل على عناية الإسلام بالرعاية الطيبة للأبناء هو الدعاء لهم فدعاء الله سبحانه وتعالى هو نهج الأنبياء والصالحين في كل حال من أحوالهم، فهذا زكريا عليه السلام يدعو الله سبحانه وتعالى قبل أن يرزق الذرية قال تعالى: {)هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ] [آل عمران:38]. فلننظر إلى قوله ذرية طيبة لأنه لا يريد أية ذرية ويحدثنا القرآن الكريم أيضا عن امرأة عمران- أم مريم عليها السلام . ودعائها ربها حين الحمل وبعد الولادة يقول تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:34- 36]
الله أكبر تدعو لابنتها ولذريتها، فهل لفت انتباهنا- نحن المربون- هذا الدعاء ودعونا به.
كانت إحدى الأخوات حاملاً وعند آلام الوضع تذكرت دعاء أم مريم لابنتها مريم عليها السلام بعد ولادتها لها وتقول لقد ألهمني الله أن أدعوا الله بهذا الدعاء بعد ولادتي طفلتي: "اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ".
تقول هذه الأخت لقد رأيت على هذه البنت صفة الهدوء والراحة في تربيتها ما لم أجده فيمن قبلها من أخوتها ولله الحمد ونسأل الله أن يديم عليها ويجعلها قرة عين لوالديها وذخرا للإسلام والمسلمين.
عناية السلف بالتربية
يحكى أن رجلاً ذهب إلى أحد العلماء يسأله- كيف تكون التربية؟ فسأله العالم كم عمر ابنك الآن؟ قال أربعة أشهر، فقال العالم لقد فاتتك التربية! لأن التربية يبدأ بها منذ اختيار الزوجة، ومن هنا نعلم أن التربية لا تبدأ مع ولادة الطفل أو بعد مضي سنوات عمره الأولى، بل نلاحظ هنا أن التربية تسبق الإقدام على الزواج، وذلك بالتروي في اختيار الزوجة الصالحة لأنها هي المدرسة الأولى للطفل في حمله وبعد ولادته والأم هي الفاعل الأساس في العملية التربوية، وهي المربي الأسبق قبل الأب وذلك لالتصاقها بالطفل- ولأن الطفل قطعة منها ولأن عاطفة الأم أقوى من عاطفة الأب والأم المسلمة هي نواة البيت المسلم لأنها تعيش مع الابن أكثر سنوات حياته أهمية، وهي مرحلة ما قبل المدرسة التي تحدد شخصية الطفل، وهي مرحلة أساسية في حياته وكلما دعمت بالرعاية والإشراف والتوجيه كان ذلك أثبت للطفل أمام الهزات المستقبلية التي ستعترض الطفل في مستقبل أيامه، وكلما أخذت التربية منا جهدا أكبر أثمرت أطيب، فمن يرد إنشاء بيت محكم فليتقن التأسيس ليكون ذلك أقوى له وأشد صلابة في مواجهة دواعي السقوط والانهيار، وهكذا تنبغي العناية بتأسيس الأبناء.
وهناك أشارة إلى أن التربية الإسلامية التي عليها الأساس القوي هي تربية الروح فتنمية فطرة الطفل السليمة على الخير وربط صلته بالله تعالى بالذكر والدعاء في كل حين وفي كل عمل، وبيان نعمة الله على هذا الطفل في خلقه ومأكله ومشربه ولبسه مطلب أهم من العناية بالأكل والشرب واللباس مجردة من استشعار فضل الله فيها فهذه الحاجات الظاهرية من السهولة إصلاحها ومتابعتها وتحققيها للطفل، إذن فالمهم من الذي هيأها وأنعم بها علينا.
لنقرأ قول الله تعالى في سورة لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
المتأمل في هذه الآيات يدرك كثيرا من الركائز التربوية القرآنية التي يريدها ربنا سبحانه وتعالى لنا ولأبنائنا ومن أهم تلك الركائز:
1- القدوة في المربي الأب ومثله الأم.
2- أسلوب الحكمة في الموعظة واللين والرفق في التربية.
3- الركن الأول في التربية والتعليم، وهو ترسيخ العقيدة "يا بني لا تشرك بالله ".
4- إحياء عاطفة الأبوة وبيان واجب الولد نحو والديه وتنمية جانب المحبة والتقدير بين الآباء والأمهات والأبناء.
5- ربط السلوك بالعقيدة "يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير".
ليدرك الطفل هذه الحبة الصغيرة وأنها لا تخفى عن علم الله في ملكوته الواسع بل يأت بها الله لأنه عليم بصير لطيف لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهكذا عناية المربي كما يصورها القرآن الكريم على لسان لقمان لتكون دستورا ومنهاجا لكل المربين عبر العصور.
وسجل التاريخ حافل بالعبر في مجال عناية السلف بالتربية وسيرة الأمهات الصالحات تعطر صفحاته بمداد من ذهب والمتصفح لذلك السجل يتبين له ما كان عليه نساء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرون الإسلام المفضلة من حرص تام على تنشئة جيل رباني متمسك بعقيدته عامل عالم بشريعة الله مطبق لأحكامها في مسلكه في هذه الحياة.
وفي الأسطر التالية إضاءة سريعة على بعض تلك الملامح لعلها تكون نبراسا للسير على ذلك المنهج في حياتنا المعاصرة.
* أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أم عبد الله ابن الزبير ذلك الصحابي الجليل الذي لم يكن يخرج عن رأي أمه، ولم يكن يستشعر الاستغناء عنها، وطلب مشورتها، ونهج سبيلها مهما تطاول به العمر وأخصبت رأيه التجارب، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه شبابنا اليوم فالقرب منهم وبذل المشورة لهم مطلب هام، لكن لابد من تهيئتهم لذلك، فقد دخل عبد الله بن الزبير على أمه يستشيرها في أمر صراعه مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وكان ابن الزبير رجلاً مسنا لكنه تربى بقرب أمه ونهل من معينها- وهذا هو الشاهد من هذه الحادثة- فأشارت عليه بما رأته مناسبا لحاله: "الله الله يا بني إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فأمض عليه.... وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك ".
* أم سليم بنت ملحان آمنت بالله، وبايعت على مرضاته، ورأت أن أول واجباتها تبليغ هذا الدين إلى أقرب الناس إليها فعرضت الإسلام على زوجها مالك بن النضر والد أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى ثم تدرك هذه الصحابية الجليلة دورها ومسؤوليتها تجاه ابنها أنس لإعداده إعدادا سليما فأخذت تلقنه الشهادة وتقول له: قل أشهد أن لا إله إلا الله. قل أشهد أن محمدا رسول الله، وفعل الطفل ذلك.
وسمع زوجها فقال لها: لا تفسدي علي ابني، فأجابته: إني لا أفسده.
وهي بذلك رسمت واحدة من مسؤوليات الأم في البيت وهي أن تعلم طفلها وتؤدبه وتربيه، كما يلاحظ أن أمر تلقين العقيدة من أوليات الأمور التي ينبغي أن تهتم بها الأم عند تربية ولدها الصغير.
ومن الملاحظ أن الطفل يفهم من أمه ويقبل منها ما لا يفهمه ولا يقبله من غيرها، وهذا يحتم على الأم أن تعي دورها ولنتأمل قول أم أنس حين قتل زوجها: قالت: "لا جرم لا أفطم أنسا حتى يدع الثدي حيا ولا أتزوج حتى يأمرني أنس ".
هذه صورة من صور الرعاية الحانية الواعية من هذه الأم لولدها.
من ثمار التربية الحسنة
يذكر أن طفلة في السنة الخامسة الابتدائية كانت تؤدي سنة الضحى قبل ذهابها إلى المدرسة، وفي اليوم الذي يضيق فيه الوقت ولا تتمكن من أداء السنة في البيت قبل الخروج تقول أشعر بضيق ينتابني في المدرسة في ذلك اليوم عندما أتذكر أني خرجت قبل أداء هذه السنة.
إن المرحلة الأولى من حياة الطفل- السنوات الست الأولى- من أخطر المراحل وهي من أهمها حيث أن لها أبلغ الأثر في تكوين شخصيته فكلما يطبع في ذهن الطفل في هذه المرحلة تظهر آثاره بوضوح على شخصيته عندما يصبح راشدا.
إن الطفل في هذه السن كالورقة البيضاء مستعد لأن يكتب فيه أي شيء من خير أو شر لذا يجب على المربين أن يهتموا كثيرا بالتربية في هذه المرحلة، وينبغي الاهتمام أكثر من جانب الأمهات فعليهن منح الطفل ما يحتاجه من حب وحنان، وهذا ضروري لتعليم الطفل محبة الآخرين، والمحبة غريزة طبيعية في كل طفل، ولذا ينبغي صرفها في البداية إلى محبة الله سبحانه وتعالى ثم إلى محبة رسوله عليه الصلاة والسلام- فمثلاً إذا أهدى أحد إلى الطفل قطعة من الحلوى أو لعبة أو غيرها، فسنجد أن هذا الطفل يحب ذلك المهدي فما بالكم إذا ذكر الطفل بنعم الله عليه من المآكل والمشارب والملابس والصحة والعافية- بين فترة وأخرى- ولفت انتباهه إلى أن هذا من رزق الله فبإذن الله تعالى ستنغرس في قلب هذا الطفل محبة الله سبحانه وتعالى.
دخل الأب يوما إلى المنزل وقد أحضر معه أنواعا من الفاكهة فجلست الطفلة ذات الأربع سنوات تنظر إلى هذه النعم بينما الأم والأب منشغلان في حديث ما، فإذا بالطفلة تقطع حديثهما قائلة: أنا أحب ربي وعندما سئلت لماذا؟ قالت: انظروا ماذا أعطانا، تشير إلى الفاكهة، فقد يغفل الوالدان، والطفل يذكرهم بنعم الله.
بعض الأولياء أو الوالدين قد يستعجل ثمرة التربية أو يرى انحرافا بسيطا في سلوك الابن أو البنت وهم في سن الثانية عشرة إلى السابعة عشرة، فيصاب بشيء من الإحباط أو تحطم الآمال، ويظن أو يتيقن فشله في التربية.
ولكني أقول ليطمئن الوالدان فهذا لا يدل على الفشل، فليستمروا في المتابعة والتوجيه باللطف واللين والتشجيع على الخير والدعاء مع الإخلاص وسوف يرون الثمرة الطيبة بإذن الله ولو بعد حين، لأنهم بذروا بذرة طيبة وغذيت وسقيت بالطيب من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يعلم صدقة نية العبد وحرصه على أبنائه ولن يخيب له أملاً.
تذكر إحدى الأمهات حرصها على ابنتها منذ الصغر ومتابعتها لها حتى كبرت وتقول هذه الأم أن ابنتها كانت أحيانا تسخر منها ومع هذا استمرت وصبرت وصابرت في تربيتها، وأملها كبير بالله تعالى تقول هذه الأم إن ابنتها عرفت لوالدتها فضلها واعترفت لوالدتها بذلك فكانت تقول لم أكن أبالي بما تقولين لي من توجيهات وعندما يحصل لي موقف من المواقف أتذكر كلامك ويبدأ صداه يرن في أذني، وهي الآن من حفظة كتاب الله ومِن مَن يساهم في مجال الدعوة إلى الله قدر استطاعتها.
وفتاة أخرى كانت تردد أمها عليها وعلى أخواتها أن يسألوا الله الرفقة الصالحة، وفي أحد الأيام حصل لهذه الفتاة موقف في مدرستها عرفت بعده أهمية الرفقة الصالحة، وأدركت ما تعنيه أمها بذلك التوجيه، حيث وقعت مخالفة من عدد من الطالبات في المدرسة ولم يتبين المخطئة من المصيبة فوجهت المديرة جميع الطالبات وحذرتهم من هذه المخالفات وكان هذا الموقف على مرأى من هذه الفتاة وبعد عودتها من المدرسة قالت لأمها ما حدث وأنها أدركت فضل الرفيق الصالح، وأهمية البعد عن مواطن الريبة والخطأ، كما نستفيد من هذا أهمية رعاية وتوجيه النشأ، وغرس البذرة الطيبة بالقول الطيب وعدم استعجال الثمرة. يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [إبراهيم: 24- 25].
ومن أهم ما ينبغي التنبيه إليه العناية بالابن الأول أو البنت الأولى، لأنهما سيكونان القدوة لمن يأتي بعدهم من الأولاد، ويكونان عونا لأبويهما في مجال التربية وسيخف العبء على الوالدين خاصة عند كبرهما، وكثرة مشاغلهما وارتباطاتهما.
القدوة والتربية في حفظ اللسان:
الوصية الغالية للمربين والمربيات بحفظ اللسان عن الكلام البذيء، وترك السب والشتم واللعن عند أتفه الأسباب، فبدلاً من أن تدعو الأم على ولدها بالموت كما تفعل بعض الأمهات الجاهلات أو تدعو عليه بالمرض والشقاء، لماذا لا تدعو له بالصلاح والهداية ويتم لا تقدر الأم بأنه لو أصيب ابنها أو ابنتها بالمرض الذي دعت عليه به كالعمى مثلاً أنه لن يحزن عليه أحد مثل حزنها هي.
وإليك أيها المربي قصة هذه المرأة حيث تتحدث عن قصتها مع ولدها والدموع تذرف من عينيها وفيها من الحزن ما لا يعلمه إلا الله تقول:
عزمنا على السفر إلى مدينة الرياض وعند ركوب السيارة جرى خلاف بينها وبين أحد أبنائها حول لبس الشماغ حيث طلبت منه إحضاره فرفض فكانت المشادة بينهما وانتهت بدعائها عليه بقوله: "اذهب لا ردك الله " تقول هذه الأم الحزينة وسافرنا إلى الرياض وكانت المصيبة في أحد الشوارع في الرياض حيث كنت أسير معه فإذا بسيارة تتجه نحوه وتصدمه، فيسقط يصارع الموت ولم يلبث سوى ساعات ثم يموت، وأعود إلى بلدي بعد هذا السفر بدونه، هكذا كانت النهاية الأليمة أجاب الله دعاءها وذهب ابنها.
وصورة أخرى للدعاء في هذه القصة تذكر إحدى الأمهات أنه في أحد الأيام، وقبل أذان المغرب بقليل أراد أحد أبنائها السفر فحاولت أن يؤجله إلى الغد ليكون سفره نهارا، ولكن الولد أصر على السفر، وبالفعل سافر، وتقول والدته: لقد قلقت عليه أشد القلق، فما كان مني إلا أن فزعت إلى الصلاة وذلك في الساعة الثامنة مساءا، وتضرعت إلى الله وسألته أن يحفظ ابني، وقدمت مبلغا يسيرا صدقة لوجه الله، وما هي إلا ساعات، ويتصل ابني بالهاتف يطمئنني على وصوله سالما، وقال لي: هل دعوت الله لي؟ فسألته: لماذا تسأل؟
قال في الساعة الثامنة تقريبا، وبينما أنا أسير بسيارتي مسرعا، وإذا بي أرى زجاج السيارة الأمامي، وقد أصبح عليه ظل أسود جعلني لا أرى أمامي فأصابني الخوف فحاولت إيقاف السيارة وإذا بها واقفة فوضعت رأسي على مقود السيارة لحظات، ولما رفعت رأسي إذا بالذي كان أمامي قد ذهب، ويبدو لي والله أعلم أنه كان جملاً وبعد هذا الموقف سارت السيارة، ولم أصب بأذى ولله الحمد، وما كان ذلك إلا بفضل الله ثم بفضل وبركة دعاء والدته.
ولنقارن بين هاتين الحادثتين والفرق بين الدعاء بالخير والدعاء بالشر.
الحذر من سماع الأغاني والأطفال:
ولا يخفى ما للنشأة الطيبة والتربية الإيمانية من أثر مباشرة وقوي، ليس على سلوك الطفل فحسب بل يتعدى هذا الأثر إلى أقرانه وهذه القصة تبين هذا القول.
تذكر إحدى الأمهات أنها كانت ممن ابتلوا بسماع الغناء المحرم، وكانت لها طفلة في الروضة، وحدث أن هذه الطفلة أخذت تردد أبياتا من إحدى الأغنيات، وكان لهذه الطفلة صديقة في الروضة سمعتها وهي تغني فقالت لها: الغناء حرام فأثر هذا القول! في هذه الطفلة، ولما عادت إلى بيتها قالت لأمها: يا أمي الغناء حرام. فتقول هذه الأم: لقد نصحت عدة مرات عن ترك السماع ولم امتثل واستجب لنصح الناصحين، لكني في هذه المرة وبعد مقالة ابنتي خجلت من نفسي وتركت سماع الغناء ولله الحمد بسبب تلك الطفلة الصالحة التي نصحت ابنتي.
استغلال المواقف في التربية:
إن استغلال المواقف التي تمر بالأبناء في مسيرة حياتهم لربطهم بطرق الخير ووسائله وتحذيرهم من مسالك الشر وحبائل الشيطان أمر هام وفن لابد من التدرب عليه، كما أن ربط العمل الصالح بثوابه المترتب عليه والعمل السيئ بعقابه أمر له شأنه العظيم في تصحيح مسار حياة الأبناء ذكورهم وإناثهم أطفالاً أو شبابا. والمواقف التي تمر بالأبناء لا تتعدى أمرين إما خيرا فيشجعون عليه أو شرا فينفرون منه، ومن الشر في الظاهر ما يحتاج إلى صبر كالبلاء أو توبة كالمعصية، وهكذا فدور المربي هنا اتخاذ الموقف الملائم تجاه هذه الصور التي تتكرر في حياة الأبناء والبنات.
وهذه قصة شاب كانت أمه صالحة تذكره بسبل الخير وتحثه على الصدقة وتقول له إن الصدقة بركة تبارك في مالك قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]
وكان هذا الشاب يقول لأمه: كيف تقنعينني بأن المال يزيد بالصدقة وأنا أرى أني إذا أنفقت منه نقص. فكانت تذكره بأن الله يبارك لك فيما بقي ويخلف عليك في الدنيا والآخرة، فحدث له في أحد الأيام الموقف التالي.
- احتاجت إحدى النساء الفقيرات مبلغا من المال فوقفت معها أم هذا الشاب وجمعت لها المبلغ المطلوب، وحثت ابنها على مساعدتها، وقد فعل وقضى للمرأة حاجتها برحابة صدر، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخرج هذا الشاب بسيارته في نفس اليوم الذي ساعد فيه المرأة الفقيرة، فحدث له حادث في سيارته ولم يصب هو بأذى وعندما عاد إلى البيت قال لأمه: لقد قلت لك أكثر من مرة كيف يكون الإنفاق زيادة في المال وقد ذكرت لي أن الصدقة يبارك لي فيها، وتكون سببا في دفع المكاره، وها أنذا اليوم بعدما تصدقت حصل لي هذا الحادث، فألهم الله الأم الجواب السديد حيث قالت لأبنها: يا بني احمد الله ربما- والله أعلم- أنك لو لم تدفع الصدقة لكان الأمر أشد والحمد لله أن الحادث كان بهذه الصورة ولم يكن أعظم، فتذكر الأم أنه منذ أن قالت له ذلك لاحظت عليه الرغبة في الصدقة والاقتناع بأهميتها وأثرها المبارك.