راعي البلهـا
11-Nov-2007, 11:37 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله والصلاه والسلام علا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد:-
كل إنسان يتوهم أنه خُلق عبثاً ، ليس عليه إلا أن يجرب طمس عينيه ليرى العبث الذي خلقتا من أجله .. أو يحاول سد أذنيه ليعرف الحكمة من وجودهما .. أو يقطع أصابعه ، ليرى العبث الذي خلقت الأصابع من أجله ..
وإذا سألت ما الحكمة من وجود أي جزء في الإنسان ؟ أجاب المختصون بقولهم : القيام بوظيفة لصالح الكيان الإنساني بأكمله ، فالفم يأكل للجسم كله ، والقلب يضخ الدماء للجسم كله وهكذا ..
وإذا كان كل جزء في الإنسان قد خلق لحكمة ، وهذه الحكمة هي من أجل خدمة الكيان بأجمعه . فهل يخطر على فكر عاقل بعد هذا أن الإنسان قد خلق عبثاً ؟! [1].
وإذا كان العاقل منا يتـنزه عن أن يعمل شيئاً عبثاً فمن باب أولى خالق العقل والعقلاء ومهندس الأرض والسماء ، لا شك أنه منزه عن كل العبث سبحانه وتعالى .. ولكي لا تُحار طويلاً أيها الإنسان في معرفة وظيفتك على هذه الأرض ، فقد أرسل الخالق سبحانه وتعالى للناس في كل أمة رسولاً منهم ، يخبرهم عن ذاته المباركة وصفاته ، ومقاصده فيهم ، وأن هناك حياة أخرى تنتظرهم من بعد الموت ، وأنهم مجزون فيها بدون شك على كل ما اكتسبوه في الدنيا من خير وشر : " رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا " [ النساء : 165 ]
ولكي لا يكذب أحد رسل الله ، ولكي لا يدعي كاذب النبوة والرسالة ، أيد الله رسله ببينات تشهد لهم أنهم رسله ، وتميزهم عن غيرهم ، وتقوم بهذه البينات والدلائل الحجة على الناس .
وأنه اذا كان على المدعي - أي مدع - أن يثبت دعواه ، ويقدم الدليل على صدقها وصحتها ، فإن رسالة رسول الإسلام قد قدمت الشواهد القاطعة ، التي تُكون بمجموعها البرهان القاطع على صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
أولاً : إقرار الله تعالى له ولدعوته :
لقد بدأ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوته بمكة معلناً للناس أنه رسول مرسل من الخالق سبحانه وتعالى، وَأَنَّهُ قد أُنْزِلَ عليه كتاباً عظيماً اسمه القرآن الكريم ، فأخذ عليه الصلاة والسلام يُسْمِعُ قومه ما قد أوحاه الله إليه من هذا الكتاب ، فكان مما قرأه عليهم وهو في مكة هو قوله سبحانه وتعالى من سورة الانعام المكية : " قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". ( الأنعام : 19 )
أي قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بنبوتك، فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى الذي تكلمت أنت باسمه مدعياً النبوة ، فهو سبحانه الشهيد بينك وبينهم في هذه القضية. [2]
ولقد تحققت شهادته سبحانه وتعالى لهذا النبي العظيم بالحق والصدق، إذ قد سمح له بعمل المعجزات ، واستجاب له الدعوات ، وحقق له النبوءات ، ولم يتوفاه حتى أكمل رسالته ، وسمح له في النهاية أن ينتصر على كل من وقف في وجه دعوته ، وأن يؤسس لدولته ويثبت اركانها ، فصارت له الحُجَّة وكتب له النصر، بعد أن كان ضعيفاً وهم أقوياء وكان فقيراً وهم أغنياء وكان وحيداً وهم ذوو عدد ...
وكأنه سبحانه وتعالى يقول لنا من خلال هذه المظاهر : صدق عبدي ونبيي فيما يرويه عني ، وأنا الذي بعثته نبياً رسولاًَ.
وحاشاه سبحانه وتعالى أن يسمح لهذه المظاهر أن تجتمع فيمن يدعي النبوة كذباً ونفاقاً ، ليضل الناس، بل هي بمقام الإقرار الواضح و التصديق منه سبحانه وتعالى لنبوة رسوله الكريم.
يروى أن سهيل بن عمرو قام على باب الكعبة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاح بالناس فاجتمعوا إليه فكان مما قال : " كنت اعلم ان هذا الدين سيمتد من طلوع الشمس إلى غروبها. فقالوا له ومن أين علمت ؟ قال : إني رأيت رجلاً وحيداً لا مال له ولا عز - يقصد النبي صلى الله عليه وسلم - قام في ظل هذا البيت فقال : إني رسول الله ، وإني سأظهر ، فكنا بين ضاحك وهازل وراجم ومستجهل ، فما زال أمره ينمي ويصعد حتى دِنّا له طوعاً وكرهاً ، والله لو كان من عند غير الله لكان كالكسرة في أيدي أي فتى من فتيان قريش .." [3]
والآن لنتناول - أخي القارىء - ما قد قلناه بشيء من الشرح والتفصيل :
فعن سماح الله له بصنع المعجزات فالأمثلة كثيرة وأعظم هذه المعجزات وأدومها هي معجزة القرآن الكريم ، والتي تميزت عن معجزات سائر الأنبياء ببقائها حتى قيام الساعة ، وقد أظهرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجراها ( باسم الله ) تبارك وتعالى ، فنقول وبالله التوفيق :
لما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته بين قوم قد أحبوا الكلمة ، وتفاخروا بها فيما بينهم ، شعراً و نثراً و خطابةً [4] ، أخذ - عليه الصلاة والسلام - يسمعهم آيات القرآن الكريم ، معلناً لهم أن الله هو الذي بعثه للناس نبياً ورسولاً ، وان هذا القرآن الذي يسمعونه منه ، ليس كلامه ، ولا كلام مخلوق آخر ، إنما هو كلام الله ، أوحى به إليه ، وانه سبحانه يُخبرهم على وجه التحدي ، بأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، لما استطاعوا ذلك : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ". [ الإسراء : 88 ]
لقد كان تحدياً صارخاً وفي نفس الوقت متناسباً منسجماً مع ما مَهَرَ به القوم ، وذلك لكي يفهموا معناه ويلتـفـتوا إليه ، وتتم به الحجة عليهم ...
وعلى الرغم من أن هذا التحدي قد أُعيد عليهم بقوالب مختلفة من اللفظ والأسلوب - كما سنرى - وقد تم إنهاضهم إليه بالتقريع والتحمس ومختلف أشكال التحدي ، وهم ما هم عليه من أنفة ، وفيهم ما فيهم من الشعراء والخطباء وفرسان الكلام ، ومع حرصهم الشديد على إبطال دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ قد سفه أصنامهم وعاب طريقتهم في الدين ، وجعل القرآن الكريم موجباً لطاعته والانقياد له ، إلا أنهم قد وقفوا أمامه موقف العاجز المهزوم ، ولم يستطع أحداً منهم المواجهة ...
لذلك صار هذا التحدي الذي أعلنه النبي ( باسم الله ) والذي نتج عنه عجز العرب وهزيمتهم أمامه ، صار تصديقاً وتأييداً من الله لرسوله الكريم ، وشهادة منه على صدق نبوته كما مر معنا .
آيات التحدي القرآنية :
في مكة عندما كان مشركوا قريش يسرحون في اوج قدرتهم، بينما كان المسلمون مستضعفين ويشكلون قلة قليلة بينهم نزلت آيات التحدي للمشركين المرتابين تطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن :
فقال لهم متحدياً كما في سورة الطور : 33 وهي سورة مكية : " أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ".
والمعنى : إن كانوا صادقين في زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد تقول القرآن الكريم من تلقاء نفسه ، فإنهم لن يعجزوا عن الإتيان بحديث مثله ، لأن محمد يتكلم اللغة العربية وهم مثله في العربية وأشد تمرناً منه في النظم والعبارة ..
وقال لهم متحدياً كما في سورة هود : 13 وهي سورة مكية : " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".
والمعنى : إن كانوا صادقين في زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن ، فإنهم لن يعجزوا عن تأليف العشر سور ، لأنهم مثله في العربية ، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، ولهم أن يستعينوا بمن يستطيعون ليساعدوهم على تأليف العشر سور .
ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله إمعاناً في تعجيزهم وتحديهم فقال لهم كما في سورة يونس : 38 وهي مكية : " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".
والمعنى إن كان الأمر كما يقولون فليأتوا بسورة مثله أي في البلاغة وحسن الصياغة وقوة المعنى - على وجه الافتراء - فإنهم أقدر على تأليف الكلم واختلاقه منه صلى الله عليه وسلم ، لأنهم قد مارسوا مبادىء ذلك من الخطب والأشعار وزاولوا أساليب النظم والنثر ، ولهم أن يستعينوا بمن يستطيعون ليساعدوهم على تأليف السورة .
وكان قبل كل ذلك تحداهم في اسلوب عام يتناولهم ويتناول غيرهم من الانس والجن ، فقال لهم في نفي قاطع وصريح كما في سورة الاسراء : 88 وهي سورة مكية : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ".
وهنا نسأل : كيف لعربي في بداية دعوته أن يصدر هذا الحكم المتضمن لهذا النفي القاطع والصريح وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب مفتوح على مصراعيه وأن الفصاحة والبلاغة مثبوتة في رجالهم ونسائهم وقبائلهم؟!
يقول الإمام ابن تيمية : هذا لا يقدم عليه من يطلب من الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك ، إذ لو كان عنده شك في ذلك ، لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر ، فيفسد عليه قصده [5].
هذا وبعد أن أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم بالهجرة إلى المدينة المنورة ، هناك أعاد المولى تبارك وتعالى التحدي للمشركين وكفار أهل الكتاب في آيتين من سورة البقرة ، وهي من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة في وقت لم تظهر للإسلام فيه القوة ولا المنعة بعد ، فقال تعالى : " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ". [ البقرة : 23 ]
ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى حكماً مؤبداً فقال : " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ".
يصف محمد الصادق عرجون آيتي سورة البقرة بأنهما أقوى ما جاء في التحدي ، لما فيهما من القطع بعجز المتحدين مع التقريع والتهديد بالوعيد ، البالغ حداً لا يبقى معه شيء من ساكن العداوة إلا تحرك ، ولا عامل من عوامل المعارضة - لو كانت ممكنة - إلا هاج وأرعد ، ولا بقية من نخوة الانتصار للنفس والمعتقد إلا ثارت وغبرت [6].
نتيجة التحدي :
لقد عجزوا عن الإتيان بالمطلوب ، فلم يأتوا بحديث مثل القرآن ، ولم يأتوا بعشر سور مثله ، ولم يأتوا بسورة من مثله ، وكان المؤمنون في ذلك الوقت يسمعون آيات التحدي ويقرأونها ولو ظهرت أي معارضة فعلية للقرآن لأهتزت قضية الدين عندهم، ولضاع الدين وانتهى وهو في بداية ظهوره ولما آمن بهذا القرآن أحد ، ولأنطفأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم واختل حاله بين العرب ، إلا ان أمره صلى الله عليه وسلم كان يعلوا شيئاً فشيئاً وأتباعه يتزايدون حالاً فحالا ...
ولو صح من العرب انهم قبلوا التحدي فعارضوا القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لترتب عليه سقوط دعوته بعد ظهور هزيمته وانهيار حجته و بطلان معجزته ، فما كان لهذا القرآن ان يدخل في نفوس الناس في بدايات الدعوة في مكة والمدينة ، باذلين من اجله النفس والمال والولد ، يوم لم تكن للإسلام القوة والمنعة بعد ، وثمة معارضون للقرآن من العرب الاقحاح ، يأتون بمثله للناس مظهرين فساد دعوى التحدي في تلك الآيات .. فتأمل !
قال الجاحظ : لو تكلف بعضهم ذلك - يريد المعارضة - فجاء بأمر فيه أدني شبهة ، لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب .. ولكثر القيل والقال ، وان سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أسرع في تفريق أتباعه [7]. وتبعه الباقلاني فذكر أنهم لو كانوا عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره ، وتكذيب قوله ، وتفريق جمعه ، وتشتيت أسبابه ، وكان من صدق به يرجع على أعقابه ويعود في مذهب أصحابه .. ورأى صاحب المغني : أن المعارضة لو وقعت لكان فيها اضطراب لنفوس أصحابه [8].
ولما لم يكن شيئاً من هذا قد حدث فإننا على يقين تام بأن العرب قد وقفوا أمام هذا التحدي موقف العاجز المهزوم ، وقد دفع هذا العجز بأهل الاستكبار منهم أن يصفوا هذا القرآن الكريم بقولهم : { هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } كما في سورة الزخرف المكية آية : 30 ، وبقولهم : { إِنْ هَذَا إلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } كما في سورة المدثر المكية آية : 24 ، وذهبوا ينعتون هذا الرسول الذي جاءهم بما أعجزهم بقولهم : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } كما في سورة يونس المكية آية : 2 ، وكذلك قولهم : { هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } كما في سورة ص المكية آية : 4 ، وليس كل ذلك إلا لهزيمتهم وقصور قرائحهم أمام القرآن الكريم ، ومدى تأثيره العجيب في نفوسهم . . وقد ذهبوا يتواصون على عدم سماع القرآن والمشاغبة والتشويش عليه قائلين فيما بينهم : { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .. } فصلت : 26 ، ونلاحظ من هذه الآية الكريمة انهم أرادوا الغلبة من خلال عدم السماع لهذا القرآن ، وليس من خلال قبولهم التحدي لأنهم قد فهموا حقيقته وانه خارج عن مقدرتهم ، ولذلك لما قال البعض منهم على سبيل الكذب والوقاحة : { لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } كان هو قول منهم بلا فعل ..
هذا ولقد كانت آيات التحدي تُقرأ في قوالب مختلفة من اللفظ والأسلوب - كما رأينا – ولو لم تكن تلك الآيات حقيقة واقعة في حياته - صلى الله عليه وسلم - لسارع كبار الصحابة من بعده والمؤمنون به وكتاب الوحي وكبار الحفظة القراء وقت جمع القرآن الكريم إلى إنكارها ورفضها ، كيف لا ، وقد ضحوا بأموالهم وأنفسهم شرقاً وغرباً في سبيل نشر هذا الكتاب الذي جاءهم به - صلى الله عليه وسلم - إذ لا مصلحة في تحمل الأذى في سبيل دين باطل يكذب عليهم ...
ولقد كان هذا التحدي سبباً في إسلام الكثيرين، لأن القرآن الكريم بهذه الاستثارة للعقول والألباب والقلوب يدعو للتفكر في القرآن بشكل أكبر ، ويجعل الإنسان الشاك يتدبر أكثر و أكثر ، حتى يصل إلى النهاية المحمودة إذا كان ممن يبحث الحق متجرداً من الهوى [9].
وبجانب معجزة القرآن الكريم - أخي القارىء - هناك الكثير من المعجزات والآيات الحسية قد أظهرها الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إليها القرآن الكريم بكل وضوح كما في قوله تعالى في سورة الصافات الآية رقم 14 : " وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ .. وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ " وقوله في سورة القمر الآية رقم 2 : " وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ " وقوله في سورة الانعام الآية 25 : " وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ..".
ففي هذه الآيات الكريمات نجد أن الـتعبير بـ ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً ) يدل بوضوح على انهم شاهدوا معجزة أو معاجز للنبي صلى الله عليه وسلم ، الأمر الذي اجمع عليه كافة علماء المسلمين المعتبرين في العالم ودلت عليه الروايات المتواترة أيضا . ومن المسلم به ان الآيات القرآنية سمعية وليست بصرية, وعليه لا يمكن ان يكون قوله تعالى : (( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً )) عائد للآيات القرآنية , بالإضافة إلى ذلك فان التعبير بـ : (( سِحْرٌ مُبِينٌ و سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ )) يتناسب تماماً مع المعجزات وخوارق العادات , والواقع ان اتهامهم نبي الإسلام بالسحر , وترويجهم لهذه المسألة بشكل واسع يدل على انهم رأوا منه خوارق عادات ومعجزات . هذا ولو لم تكن تلك المعجزات حقيقة واقعة في حياته صلى الله عليه وسلم لتشكك المؤمنون في ذلك الوقت بالقرآن الكريم ولقالوا كيف يشير القرآن إلى معجزات لم نشاهدها وكيف نصدق ما لم يقع ؟ [10]
.................................................. .
.................................
..............
وأما عن استجابة الله له الدعوات فذلك معلوم بالتواتر من سيرته وأخباره وأحواله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك على سبيل المثال :
يقول الله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ". [ الأحزاب : 9 ]
فلقد تجمع الأحزاب - جماعات - من المشركين لقتال النبي ، وكان عددهم نحواً من عشرة آلاف ، مقابل ثلاثة آلآف مسلم فقط ، وتحالفوا مع اليهود القاطنين في شرق المدينة على حرب النبي وأصحابه ، وأشتد الحال على المسلمين الذين حفروا خندقاً بينهم وبين الكفار ، واستمر الكفار قريباً من شهر وهم يحاصرون المسلمين في المدينة .
فدعا النبي ربه أن ينصره على المتمالئين على الإسلام فقال : " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ". [11].
فاستجاب الله دعاء رسوله وأرسل على الأحزاب ريحاً شديدةً اقضّت مضاجعهم ، وجنوداً زلزلتهم مع ما ألقى الله بينهم من التخاذل فأجمعوا أمرهم على الرحيل وترك المدينة النبوية. وظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته يسبح بحمد ربه ، فيقول في جل المناسبات : " لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ". وعلمنا أن نردد ذلك في كل موطن .... إلى غير ذلك من الأدعية الكثيرة جدا، التي استجاب الله له فيها دعائه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لا يمكن أن يتيسر لكاذب، بل لا يكون إلا لصادق مؤيد من الله .
هذا ولو لم تكن تلك الحادثة قد وقعت لتشكك المسلمون آن ذاك في القرآن ، وربما ارتدوا عن دينهم، وقالوا : كيف نصدق ما لم يقع؟! إلا ان أمره صلى الله عليه وسلم كان يعلوا شيئاً فشيئاً وأتباعه يتزايدون حالاً فحالا ...
وانظر أخى القارىء كيف تمنن عليهم بعد ذلك بقوله : " وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ". ( الاحزاب : 25 ) إذ قد صرف عنهم هؤلاء الاحزاب بالريح وكفاهم قتالهم ، وما نال المسلمين من الريح أذى مع قرب المسافة ، ولو لم تكن تلك الحادثة قد وقعت لما امتن بها عليهم ولا احتج بها والوليّ والعدو يسمع ، ولكان الأمر باعثا لتكذيب اتباعه له، وهذا لا يفعله عاقل فكيف بمن يدعي النبوة. صلى الله عليه وسلم .
وأما عن قولنا بأن الله حقق له النبوءات فالشواهد عليه ستأتي في الكلام عن الدليل الثاني.
وأما قولنا بأن الله لم يتوفاه حتى أكمل – عليه الصلاة والسلام – دعوته وختم رسالته ، وانتصر على كل من عانده ، فدليل ذلك ما يعرفه القاصي والداني من عاقبة أمره صلى الله عليه وسلم وكيف نال النصر والظفر والفتح والتمكين في الأرض ، وقال مخبراً عن ربه : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً " [ المائدة : 3 ] .
والمدهش انه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر عن ربه وهو في مكة عندما كان يواجه الأذى من قومه في سبيل تبليغ رسالة الله للناس بأن النصر و العاقبة ستكون له ، أخبر عن ذلك على سبيل الجزم والقطع والمسلمون قلة قليلة آن ذاك ، فنجد في الآية التاسعة والأربعين من سورة هود المكية : " تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ " .
هذه الآية جاءت تعقيباً على قصة نوح عليه السلام مع قومه ، التي انتهت بإغراق الكافرين بالطوفان ، وإنجاء نوح وأتباعه المؤمنين في السفينة ، ثم إنزالهم الأرض بعد الطوفان ، لاستئناف الحياة من جديد. فجاء التعقيب على ذلك بقوله تعالى : " تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ " .
يقول الله لرسوله محمد : " فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ " أي : فاصبر يا محمد على أذاهم ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة . والفاء في قوله : " فاصبر " لتفريع ما قبلها لما بعدها . قال السعدي رحمه الله " : فستكون لك العاقبة على قومك، كما كانت لنوح على قومه. وهو ما تم بالفعل .
والأدهش من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قد خاطب قومه أيضاً من خلال القرآن الكريم وهو في مكة قبل الهجرة بأنه لو كان كاذباً على الله في دعواه النبوة فسوف لن يدعه الله بل سيقصمه ويهلكه ، فنجد في سورة الحاقة المكية النزول : " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ". [ الحاقة : 44 - 45 ] وعلى الرغم من انه - صلى الله عليه وسلم - قد تعرض بسبب دعوته الإسلامية إلى كثير من المواقف الحرجة جداً التي أصبحت فيها حياته قاب قوسين أو أدنى من القتل والموت ، إلا أنه يخرج منها سالماً وكأن الله سبحانه وتعالى وبإصرار شديد لا يريد لمدعي النبوة هذا إلا أن يكمل دعوته ويختم رسالته !
خذ على سبيل المثال الموقف المميت الذي تعرض له في معركة أحد .. وقبل ذلك إجماع المشركين على قتله ليلة الهجرة ، ثم تعقبهم له إلى الغار .. وموقفه البطولي يوم حنين .. وكلها شواهد تاريخية مشهورة معروفة .. فلا مناص اذن من القول ان محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يعمل فى ظل حماية الله و رعايته ..
وأرى أنه من الروعة أن نقارن كل ذلك مع الوعود التي أخبر عنها النبي عن ربه وهو في مكة يوم لم تكن للإسلام القوة والمنعة بعد ، والمتمثلة في قوله تعالى : " وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ". ( الاسراء : 60 ) قال الطبري في تفسيره : " يقول جل ثناؤه : واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة , فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته , ونحن مانعوك منهم , فلا تتهيب منهم أحدا ". وأيضاً قوله سبحانه وتعالى : " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ". ( الطور : 48 ) أي انك بمرأى منا نراك ونحفظك. وقوله سبحانه تعالى : " أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ". ( الزمر : 36 )
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } وَهَذَا حَضّ مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى تَبْلِيغ رِسَالَته , وَإِعْلَام مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ إِلَيْهِ الْقَوْل بِأَنَّهُ سَيَمْنَعُهُ مِنْ كُلّ مَنْ بَغَاهُ سُوءًا وَهَلَاكًا , يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّد إِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ قُدْرَة , فَهُمْ فِي قَبْضَته لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوج مِنْ مَشِيئَته , وَنَحْنُ مَانِعُوك مِنْهُمْ , فَلَا تَتَهَيَّب مِنْهُمْ أَحَدًا , وَامْضِ لِمَا أَمَرْنَاك بِهِ مِنْ تَبْلِيغ رِسَالَتنَا . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ , قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 16913 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثْنِي , قَالَ : ثنا عَبْد الصَّمَد , قَالَ : ثنا شُعْبَة , عَنْ أَبِي رَجَاء , قَالَ : سَمِعْت الْحَسَن يَقُول : أَحَاطَ بِالنَّاسِ , عَصَمَك مِنْ النَّاس . * - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ : ثنا أَبُو بَكْر الْهُذَلِيّ , عَنْ الْحَسَن { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : يَقُول : أَحَطْت لَك بِالْعَرَبِ أَنْ لَا يَقْتُلُوك , فَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُقْتَل . 16914 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد { أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : فَهُمْ فِي قَبْضَته . * - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثني حَجَّاج , عَنْ اِبْن جُرَيْج , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . 16915 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا أَبُو سُفْيَان , عَنْ مَعْمَر , عَنْ الزُّهْرِيّ , عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر قَوْله { أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : مَنَعَك مِنْ النَّاس . قَالَ مَعْمَر , قَالَ قَتَادَة , مِثْله . 16916 - حَدَّثَنَا اِبْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا اِبْن ثَوْر , عَنْ مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة , قَوْله { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : مَنَعَك مِنْ النَّاس . * - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } أَيْ مَنَعَك مِنْ النَّاس حَتَّى تُبَلِّغ رِسَالَة رَبّك .
" name=hidtafseer0 والحق ان دليل إقرار الله له ولدعوته - صلى الله عليه وسلم - هو دليل عقلي يخاطب العقول إن كانت تَعِي !
ثانياً: وعوده المستقبلية الصادقة :
لقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بكتاب يُخبر فيه عن الله بوعود مستقبلية ستـقع ، وبالفعل تحققت هذه الوعود وسمح الله لها أن تقع تصديقاً وتأييداً لنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن هذه الوعود ما تحقق في حياته صلى الله عليه وسلم .
ومنها ما تحقق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .
وقد جاءت هذه الوعود لتعلن عن أخبار مستقبلية وتجزم بأحداث قادمة كما يلي :
الوعد الجازم بنصرة الله للرسول والتمكين له :
لقد كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يتوعد قريشاً قبل هجرته وهو بمكة، والمسلمون آن ذاك قلة قليلة بينهم، يتوعدهم بنصر الله له وظهوره عليهم، فكان يتلـو عليهم من القرآن الكريم، ما أنزل الله بالأمم السابقة، أمة أمة، إلى أن قال لهم كما في سورة القمر المكية : " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ، أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ". ( القمر : 43 )
وتلا عليهم من سورة هود المكية ما جاء من قصة نوح عليه السلام مع قومه ، وكيف أن العاقبة كانت له ، فجاء التعقيب على ذلك بقوله سبحانه وتعالى : " تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ". ( هود : 49 ) أي فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة.
وتلا عليهم من سورة ابراهيم المكية فقال : " أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ... إلى قوله : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ .. " ( ابراهيم : 9 )
وتلا عليهم من سورة الانعام المكية قول الله سبحانه وتعالى : " فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ". ( الانعام : 5 ) أي ان هذا الحق الذي كذبوه واستهزءوا به - والمراد به هنا النبي وما اوحي اليه - ستأتيهم أخباره عندما ينتصر الاسلام ويعلوا أمره.
وتلا عليهم من سورة الانعام المكية قول الله سبحانه وتعالى : " وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ ". ( الانعام : 34 )
وفي هذه الآية تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن كذبه من قومه، وفيها وعد ضمني بالنصر له كما انتصر اولئك الرسل ، ولهذا قال : " وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ " قال ابن عباس : أي لمواعيد الله، وفي هذا تقوية للوعد. وقوله : " وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ " أي ولقد جاءك بعض أخبار المرسلين الذين كُذّبوا وأُوذوا كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم فتسلَّ ولا تحزن فإِن الله ناصرك كما نصرهم .
هذا وبعد أن هاجر عليه الصلاة والسلام الى المدينه المنورة ، أعاد هناك توعده أيضاً لكفار أهل الكتاب وغيرهم من مشركي العرب بنصر الله له وظهوره عليهم ، فقرأ عليهم من سورة آل عمران قول الله سبحانه وتعالى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ". ( آل عمران : 12 ) أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من اليهود وغيرهم ستغلبون أي في الدنيا وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد.
وقرأ عليهم من سورة الانفال متوعداً ومنذراً : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ..". ( الانفال : 36 )
ثم أخبر عليه الصلاة والسلام عن أولئك المتربصين له من يهود ونصارى وغيرهم من مشركي العرب بأنهم مهما فعلوا فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور دعوته الربانية ، فقرأ من سورة الصف قول الله سبحانه وتعالى : " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ". ( الصف : 8 )
ولقد صدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه ، إذ قد انتصر في النهاية على كل من وقف في وجه دعوته ، فعاد إلي مكة فاتحاً منتصراً كما يعلم الجميع ، فصارت له الكلمة وكانت له العقبى كما قال و أخبر ... فلك اللهم ربنا الحمد على هذه المواعيد الصادقة.
الوعد الجازم باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض :
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً وقد جاء هذا الوعد في وقت كان المؤمنون فيه قلقين خائفين لا يبيتون إلا بالسلاح كما سيأتي ، فأنزل الله وعده العظيم لهم بقوله كما في سورة النور آية : 55 : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ".
عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة ، فكانوا لايبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى؟! فنزل قول الله سبحانه وتعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض .. ".
وهو ما تم بالفعل ، فقد استخلف الله المسلمين ، ومكن لهم دينهم ، وأبدلهم بالخوف أمناً ، فأيةُ آية أو نبوة أصح وأبين من هذه؟!
ومما يدلك - أخي القارىء - على أن هذا الوعد قد نزل والصحابة غير متمكنين وانهم كانوا خائفين هو قوله : " وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ". فلا يجوز أن يخبرهم بما لم يكونوا عليه ويمتن عليهم بذلك والعدو والوليّ يسمعه وهو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذبهم ، ثم يؤكد هذا بأن يقول هذا قول الله لكم ، ووعد الله لا وعدي ..
وانظر كيف جاء تأويل الآية على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله ( مِنْكُمْ ) فبدلوا من بعد خوفهم أمناً لا خوف فيه ، واستخلفوا في أقطار الأرض ... فسبحان من أنزل هذه المواعيد الصادقة.
وللمزيد من هذه الوعود الصادقة فليرجع القارىء الكريم إلى مقال : ( الأخبار المستقبلية في القرآن ودلالتها على مصدره الرباني ) الموجود على الموقع.
ثالثاً : الحقائق العلمية :
بالرغم من أن محمداً - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عاش في بيئة وزمن عُرف بندرة العلم وندرة الأدوات العلمية ، إلا أنه جاء بكتاب قد حفل بالكثير من الحقائق العلمية التي لم يكتشفها العلم إلا في العصر الحديث ، وليرجع القارىء الكريم إلى مقال ( الحقائق العلمية في القرآن الكريم ودلالتها على مصدره الرباني ) الموجود على الموقع.
رابعاً : نشأته في بيئة أمية وإتيانه بعلوم إلهية :
فإذا أضفنا إلى كل ما سبق أن هذا القرآن بما احتواه من علوم ومعارف مختلفة : إلهية - علمية - تشريعية - تربوية - اقتصادية .. الخ قد أتى به رجل نشأ كما يعرف القاصي والداني مع بني قومه في اواسط جزيرة العرب ، في بيئة بدوية من الأعراب ، اتصفت بالأمية ، قبل 1400 عام .. فنحن إذن أمام معجزة حقيقية لا يجادل فيها إلا مكابر معاند مستغلق المشاعر ... فإن كنت - أخي القارىء - في شك من ذلك فالتبحر التفكير بعقلك إلى ذلك الزمن متخيلاً نفسك في تلك البادية متحرياً حال البدويين. لتخرج بفائدة عظيمة ألا وهي ان هذا الكتاب بما احتواه من علوم ومعارف لا يمكن أن يكون نتاج تلك البيئة إلا بوحي إلهي ..
خامساً: هل يعقــل ؟!! :
محمد صلى الله عليه وسلم رجل أثارت دعوته إلى التوحيد حفيظة المشركين وحميتهم بحيث شكلوا خطراً حقيقياً على حياته منذ اللحظة الأولى التي جهر فيها بدعوته، وكلنا يتذكر الاضطهاد والأذى اللذان تعرض لهما فترة إقامته بمكة، وكذلك إجماع المشركين على قتله ليلة الهجرة، كما لم تكن حياته، صلوات الله وسلامه عليه، في المدينة المُنورة بعد الهجرة أكثرُ أمناً ولا أرغد عيشاً فقد أثارت دعوته حقد اليهود ومكرهم، حيثُ تشابكت أيدي اليهود والمشركين فشكلوا خطرا مُزدوجاً على حياة هذا النبي الكريم، وكثُرت المؤامرات الهادفة إلى اغتياله كتلك التي حاول اليهود فيها إلقاء صخرة عليه وهو في زيارة لحيَهم ، كما حاولوا تسميمه عن طريق إطعامه بعضاً من شاة مسمومة أثناء زيارته لخيبر، ولا ننسى غزوة الأحزاب التي اتحد فيها المشركون واليهود لمحاربة الإسلام واستئصاله، وغيره كثير من المؤامرات الهادفة للقضاء عليه وعلى دعوته.
لا يُمكن لعاقل أن يُصدق أن رجل مثل محمد، صلى الله عليه وسلم، والذي انشغل بدعوة الناس دعوة عملية .. وانشغل بأعدائه ... وانشغل بتأسيس الدولة الإسلامية ... وانشغل بفتوحاته المقدسة ... رجل عانا في حياته الخاصة، لا يُمكن لعاقل ان يُصدق أن هذا الرجل استطاع في ظل هذه المحن والمشاغل أن يأتي بكتاب يتناول فيه جوانب مختلفة من العلوم والمعارف البلاغية والأدبية ، والتربوية ، والتشريعية ، والعلمية ، وغير ذلك. لا يمكن لعاقل أن يتخيل أن كل هذا من نتاج فكر رجل عاش حياة كتلك التي عاشها محمد صلى الله عليه وسلم ... لقد كانت حياته مليئة بالمحن والمشاغل التي تتطلب انشغال الذهن بأمور بعيده كل البعد عن الإخبار عن حقائق علمية أو التأسيس لمناهج تربوية ... لكنه الله سبحانه وتعالى الذي علم رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأوحى إليه ما أوحى ..
سادساً : مخالفة القرآن لطبع الرسول ، وعتابه له :
ان من أدلة صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نجده من مخالفة القرآن الكريم لطبع الرسول ، و عتابه له في المسائل المباحة ، وأخرى كان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه ؛ فيخطئه في الرأي يراه ، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه كقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ". [التحريم:1] وقوله تعالى : " وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ". [ الأحزاب : 37 ] وقوله : " عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ". [التوبة : 43 ] وقوله : " عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى " [ عبس :5-10 ] .
أيُعقل أن يؤلف محمد - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ثم يوجه العتاب إلى نفسه ؟
ألم يكن له في السكوت عنها استبقاء لحرمة آرائه ؟ بل إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه , لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئاً من ذلك الوجدان ، و لو كان كاتماً شيئاً لكتم أمثال هذه الآيات ، و لكنه الوحي لا يستطيع كتمانه { وما هو على الغيب بضنين } [ التكوير الآية : 24 ] .
وقد أقر بهذا الدليل بعض المستشرقين ، مثل المستشرق (ليتنر) حيث قال : مرة أوحى الله إلى النبي وحيا شديد المؤاخذة ؛ لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلا غنيا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذبا - كما يقول أغبياء النصارى بحقه - لما كان لذلك الوحي من وجود [12].
سابعاً: مآثر لا يمكن أن تجتمع إلا لنبي مؤيد من الله :
لقد اجتمعت في النبي - صلى الله عليه وسلم - مآثر عظيمة مجموعها يدلك على صدق نبوته ، وهي كالآتي :
- كان نبياً يتنبأ كما مر معنا في الدليل الثاني.
- وسياسياً ناجحاً بنى أساس أمة و دولة من لا شيء ، من قبائل و شراذم متفرقة لا تعرف إلا الثأر و التفاخر بالاحساب و الأنساب.
- ومشرعاً وضع قانوناً يشمل الأحوال الشخصية والعقوبة الجنائية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
- وقائداً عسكرياً ناجحاً وهو ما اقر به خصومه إذ يقول القس يوسف درة الحداد و هو من اعتي خصوم الإسلام : " كان محمد عبقرية عسكرية و من أعظم قواد العالم العسكريين فى التصميم و التنفيذ .. و هو يقود الغزوات و الحملات بذاته يعرف كيف يهيىء الحملة و كيف يقودها و كيف يعود منها غالبا و كيف ينقلب مغلوبا , و التصرف في حال الهزيمة ابرع من نشوة الظفر , يتوسع بالجهاد كلما ازداد قوة , و لا يعلن عن أهدافه إلا متى حان وقتها. يعرف كيف يستشير و كيف يأخذ برأي صائب , و كيف يفرض رأيه في الظرف الحاسم و لو خالف رأى زعماء الصحابة كما حدث في أسرى بدر و صلح الحديبية و غزو تبوك و يكون هو بذاته الأسوة الحسنة في المعركة ، فلولا موقفه البطولي في هزيمة أُحد [13] , وحصار المدينة [14] لقضي على الإسلام , و لولا موقفه الجريء في معركة حنين لخسر فتح مكة و نصر الإسلام " .
- وكان صلى الله عليه وسلم إدارياً موفقاً [15] .
- ومُعلماً دينياً.
- وربانياً عابداً [16].
- ولُقب بالأمين فكان مثلاً أعلى في الخلق الكريم [17].
- وفوق هذا و ذاك هو صاحب معجزة عقلية بيانية ألا وهي القرآن الكريم كما مر معنا في الدليل الأول .
من ذا يسامى هذه المآثر أو يظفر بمثل هذه المنزلة ؟
لقد كان الاسكندر فاتحا عسكرياً مظفراً , و تتلمذ على يد أعجوبة البشرية أرسطو و لكنه لم يكن المشرع و لم يكن النبي ..
و كان أعجوبة البشرية أرسطو فريداً في الفلسفة و المنطق و الآداب و العلوم , و لكنه لم يكن رجل الدولة و لا رجل الدين و لا القائد العسكري . و كان قيصر رجل دولة و رجل سياسة و آداب و قائداً منتصراً , و لكنه لم يكن رجل الدين أو المشرع ... وكان نابليون رجل دولة و رجل سياسة و قائداً عسكرياً و مشرعاً , و لكنه لم يكن صاحب الدين أو رجل اللغة و الأدب أو المثل الأعلى في الأخلاق .
و كان كل من شكسبير و جوته علما من أعلام الأدب و الشعر و المسرح و لكنهما كانا أصفاراً في السياسة و التشريع و القيادة العسكرية أو الرسالة الدينية .
أين كل هؤلاء الآن وما هو تأثيرهم وأين نبي الله محمد ومدى تأثيره !!!!!
ان الشخصية الباهرة غير العادية للرسول قد فرضت نفسها .. و كل هذا يصدر من عربي .. فإذا لم يكن هذا وحياً و إذا لم يكن محمد نبياً فان البديل الوحيد هو أن يكون محمد كما كان يرى اليونان و الرومان إلهاً أو نصف اله ! [18]
ثامناً : عاش بين أصحابه وأهله وزوجاته :
لقد عاش محمد بين أصحابه وأهله وزوجاته ، لذلك لم تكن تصرفاته تخفى على أحد ، فكان كالكتاب المفتوح بينهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ..
وقد تنبه لذلك ( الكاتب الإنكليزي هـ. ج ويلز ) حين قال : ان من أدفع الأدلة على صدق محمد كون أهله واقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لتركوا الإيمان به. قلت : ولتركوا التضحية بالموت من أجل دعوته. خصوصا وانهم عاشوا معه فترات كان الإسلام فيها ضعيفاً ، لم يكن له مال يبذله لهم ولا سيف يخيفهم به.
يقول ( ميخائيل طعمه ) : لو لم يكن خلق محمد عظيماً لأنقلب عليه محيطه ، ولو لم يكن خلق محمد عظيماً لضعف أمام ما اعترضه من العقبات ، .. ولما قوي على إحداث ما أوجده من الانقلاب العظيم ، فبدل الضلال بالهدى ، والجهل بالعلم والهمجية بالمدنية [19] .
ولقد عايش الصحابة رضوان الله عليهم صفة الصدق فيه - صلى الله عليه وسلم - فلولا صدقه - صلى الله عليه وسلم - لما استمر الصحابة رضوان الله عليهم في دعوته باذلين من أجلها المال والنفس والتضحية .
تاسعاً : يوم الفرقان يوم التقى الجمعان :
غزوة بدر الكبرى ....هي تلكم الغزوة العظيمة التي وقعت بين الحق والباطل ، في يوم الفرقان ، وهو السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة ، وقد بلغ من شرف هذه الغزوة وعظم شأنها ، أن سمى الله يومها يوم الفرقان لأنه سبحانه فرق فيه بين الحق والباطل : " ... وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ". ( الأنفال : 41 )
كان جيش المشركين فيه أضعاف جيش المؤمنين عدداً وعدة ، ألف مشرك مقابل 300 مسلم ... سبعون فرس مقابل فرسين اثنين للمسلمين .... كل المقاييس العملية تؤكد هزيمة المسلمين - فئة قليلة بسلاح قليل - إلا أن المعركة انتهت بنصر مؤزر للحق وهزيمة منكرة للباطل ، وكافأ الله فيها المؤمنين على صدقهم وثباتهم ، وجازى الكافرين على عتوهم وكفرهم ، ولقى صناديدهم مصرعهم ، وعلى رأسهم أبو جهل .
وبهذه النتيجة تبين للجميع أن الحق مع محمد - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه إذ كيف ينتصر الأقلون المستضعفون على الأكثرين المتجبرين ؟ يقول الله سبحانه وتعالى ممتناً ومذكراً : " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ " أي بقلة العدد والسلاح : " فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ". ( آل عمران : 123 )
ومما يزيد من روعة هذا النصر انه جاء نتيجة وعد سابق أعلنه النبي عن ربه ، إذ تقول الآية السابعة من سورة الانفال ، في المؤمنين من أهل بدر : " وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ". [ الأنفال : 7 ] والمعنى كما قال الطبري رحمه الله : " واذكروا أيها القوم" إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ " يعني إحدى الفرقتين : { أَنَّهَا لَكُمْ } أي إن ما معهم غنيمة لكم.
ولو لم يكن هذا الوعد قد صدر فعلاً ، لأعترض المؤمنون آن ذاك من أهل بدر على الآية الكريمة، ولقالوا : كيف يُخبر القرآن عن وعود نحن لم نأخذها؟ ولاتهموا النبي بالكذب ... ولضاع الدين وانتهى .... فتأمل.
ومما يزيد من روعة هذا الوعد هو انه قد صدر في وقت كان المسلمون فيه قلة قليلة أمام الاكثرية المتجبرة ، حتى انه - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم قوله سبحانه ممتناً ومذكراً : " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ " أي بقلة العدد والسلاح : " فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ". ( آل عمران : 123 )
وتلا عليهم قوله سبحانه : " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ .. " ( الانفال : 9 )
فانظر أيها القارىء الكريم كيف يصف استغاثتهم وما كان قد وعدهم به من الظفر بإحدى الطائفتين قبل اللقاء وما نصرهم به على ذلك التفصيل. ولا يجوز أن يقول لهم : قد كنت وعدتكم وقد كنتم خائفين مستضعفين ، فأزلت خوفكم ، وطيبت نفوسكم ، وأنزلت عليكم الماء ، وغشيتكم بالنعاس أمنةً منـي ، ونصرتكم بالملائكة . وهو يعلم أنهم يعلمون أنه كاذب ، وأن ذلك لم يكن ، وهذا القول يسمعه العدو والوليُّ ، وهو يمتن به على الصحابة وأتباعه ، ويحتج به على العدو والوليّ ، هذا لا يقع من عاقل ، ولا يتوهمه عاقل تدبر وفكر ، فكيف بمن يدعي النبوة والصدق ، ويريد من كل أحد سمع قوله أن يتبعه ويعتقد ذلك منه ويطيعه. وهؤلاء الذين اتبعوه وأطاعوه وبذلوا أموالهم ودماءهم ، إنما فعلوا ذلك لما اعتقدوه من نبوته ، وعرفوه من صدقه ، وتحققوه من قوله.
عاشراً : لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم :
يقول الله سبحانه وتعالى : " هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ". ( الانفال : 63 )
قوله تعالى : { وألَّف بين قلوبهم } يعني: الأوس والخزرج، وهم الأنصار، سكان المدينة المنورة التي هاجر اليها النبي صلى الله عليه وسلم ، صاروا أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعواناً يقاتلون عنه ويحمونه بعد أن كانت العداوة بينهم في الجاهلية شديدة ، فألَّف الله بينهم بالإسلام ، وحصلت المحبة والألفة ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ... ولا يتيسر لنبي كاذب .. وصار ذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة باهرة دالة على صدقه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ .. " ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : " وَلَكِنَّ اللَّه أَلَّفَ بَيْنهمْ إِنَّهُ عَزِيز حَكِيم ".
الحادي عشر : استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه :
يقول الله سبحانه وتعالى : " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ". ( آل عمران : 59 )
والمعنى : فمن جادلك يا محمد في شأن عيسى بغير حق ، من بعد ما جاءك من الوحي والخبر بحقيقة الأمر، فقل لهم : هلموا لنجتمع جميعاً مع الأولاد والنساء ، ثم ندعو الله خاشعين ، ونقول : اللهم العن الكاذب في شأن عيسى عليه السلام .
وهنا تتجلى - أخي القارىء - ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاملة في دينه ومن أرسله جل وعلا، إذ من كان في قلبه أدنى شك في معتـقده لا يمكن أن يقدم على مثل هذا المهلكة إلا أن يعتقد اعتقاداً جازما في صدق ما يقول ، ولذلك عندما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - اساقفة نجران أن يبتهلوا وهو معهم إلى الله سبحانه وتعالى كي ينزل لعنته على الكاذب في شأن المسيح عيسى - عليه السلام - فإنهم احجموا وأبوا ، إذ أن مثل هذا الموقف لن يُقبل عليه الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لا بد ان يرجع عنها.
الثاني عشر : دليل الإلزام :
نريد أن نسأل اليهود : كيف آمنتم برسولكم موسى عليه السلام ؟
فإن قالوا : بسبب معجزاته ، أو أخلاقه ، أو تشريعه ، أو تأييد الله له ونصرته ، أو استجابة دعائه ، أو عدم رغبته في المصلحة الذاتية ، أو غير ذلك من الأدلة .
قلنا : كل ما ذكرتموه هو موجود في النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك النصارى نسألهم هل هم يؤمنون بنبوة موسى عليه السلام ؟، فإن الجواب سيكون :نعم . قلنا: كيف استدللتم على نبوته ؟ . فإن قالوا: لأنه قد ذكره لنا عيسى.
قلنا : هل هناك دليل آخر؟ .
إن قالوا : لا يوجد دليل آخر على نبوة موسى عليه السلام . قلنا: إذن أنتم صَحَّحْتم مذهب مَن كفر بموسى عليه السلام من قومه ؛ حيث إن موسى عليه السلام لم يأت بدليل على رسالته ، ولم ينزل عيسى عليه السلام في ذلك الوقت ، وأثبتم لمن آمن به أنه آمن بغير بينة ولا علم ولا دليل ، وأن رسالة موسى علقت عن التصحيح قرونا متطاولة حتى بعث الله عيسى عليه السلام .
فإن قالوا : نعم، هناك أدلة أخرى على رسالة موسى عليه السلام.
قلنا : كل دليل استدللتم به على نبوة موسى عليه السلام هو موجود في محمد صلى الله عليه وسلم.
فلا حجة إذن لرجل يهودي أو نصراني لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن صدق الله إذ يقول :
{ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] [20]
الثالث عشر : قالوا عنه صلى الله عليه وسلم :
- السير تشارلس ارمان البريطاني المتوفي 1940 : " لم تنتج بلاد العرب قبله ولا بعده فرداً أثر في مجموع تاريخ العالم ..". [21]
- المستر جون ديفد لبوت مستشرق بريطاني توفي 1902 : " هل بالإمكان إنكار فضل محمد نبي العرب الذي قام بإصلاحات غريبة وعظيمة ، فكانت خالدة لبلاده ، فقد جعل أهلها يعبدون الله ، ويهجرون عبادة الاصنام، وهو الذي منع قتل الموءودة ، وحرم شرب الخمر ، وفعل الميسر ، وترك لأمته مبدأ لا يزال، وعليه يعمل الملايين ". [22]
- الفرنسي لوزن في كتابه ( الله والسماء ) ، توفي 1937 : " ليس محمد نبي العرب وحدهم ، بل هو أفضل نبي قال بوحدانية الله ، وان دين موسى وإن كان من الأديان التي أساسها الوحدانية إلا أنه كان قومياً محضاً ، وخاصاً ببني إسرائيل ، وأما محمد فقد أعلنه لعموم البشرية في أنحاء المسكونة..". [23]
- كارل ماركس الألماني المتوفى 1883 : " إن الرجل العربي الذي أدرك خطايا المسيحية واليهودية ، وقام بمهمة لا تخلو من الخطر بين أقوام مشركين ، يعبدون الأصنام ، يدعوهم إلى التوحيد ، ويزرع فيهم أبدية الروح ، ليس من حقه أن يُعد بين صفوف رجال التاريخ العظام فقط ، بل جدير بنا أن نعترف بنبوته ، وأنه رسول السماء إلى الأرض ". [24]
- راما كريشنا راو في كتابه ( محمد النبي ) : " لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً ". [25]
- لامارتان : " هذا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الفيلسوف ، الخطيب ، النبي ، المشرع ، المحارب ، قاهر الأهواء .. هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض ، وإمبراطورية روحانية واحدة. إذا التـفتـنا إلى كل المستويات التي يمكن أن تقاس بها العظمة الإنسانية فإننا نتساءل بحق هل يوجد من هو أعظم منه ؟ [26]
- مايكل هارت : " إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي ... إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخوّله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية ". [27]
- فيليب حتى : " إذا نحن نظرنا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - من خلال الأعمال التي حققها ، فإن محمداً الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد ، يبدو لنا بكل وضوح واحداً من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ ، لقد نشر ديناً هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة ، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية ، وأقام أمه هي الأمة العربية، وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر ". [28]
أخي القارىء :
قلي بربك .... أيمكن لرجل أن يغامر و يزعم أنه نبي و يؤمن بجميع الأنبياء من قبله من أول آدم مرورا بموسى و عيسى عليهما السلام و يجعل الكفر بواحد منهم كالكفر بالجميع ثم يتحدى أهل الكتاب من اليهود و النصارى الموجودين في عهده – بل إلى قيام الساعة – و يناقشهم في أخص أمور دينهم بل و يفضحهم و يواجههم بتحريفهم لكتب أنبيائهم حتى أنه لما هاجر توجه إلى أحد معاقل اليهود في الجزيرة العربية و هي يثرب -و كان يمكنه أن يهاجر إلى أرض ليس بها أهل كتاب؟ ما الذي دعاه إلى ذلك لو كان من الكاذبين؟
قل لي بربك .... لو كان هذا الدين من عند نفسه و ليس من عند الله فما حاجته للإيمان بالأنبياء السابقين و يدخل في هذه المواجهات مع اليهود و النصارى بل و يعلن أن إلـهه و إلـههم واحد و لكنهم هم الذين غيروا شريعته و بدلوا و حرفوا. [29].
الرابع عشر : علامات الساعة :
وإخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - بغيب علامات الساعة قبل 1400 عام ، التي لم تظهر أماراتها إلا في زماننا ، يشهد له بصدق الرسالة ، كما يشهد بأن الساعة حق. وستلاحظ - أخي القارىء - كيف ان الحديث عن هذه العلامات قد ورد على سبيل الجزم والقطع ، لا الظن والحدس .
ومن العلامات التي ظهرت ما يلي :
1 - كثرة الكتابة :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إن بين يدي الساعة ـ وذكر منها ـ ظهور القلم } [ رواه أحمد ح (3860) ، والبخاري في الأدب المفرد ح (1049)، وصححه الحاكم (4/110)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (647). ]
وعن عمرو بن تغلب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن من أشراط الساعة : أن يكثر التجار ، ويظهر القلم } [ رواه ابو داود الطيالسي في مسنده ]
2 - تطاول الحفاة العراة رعاء الشاء في البنيان :
ومن هذه الأخبار العجيبة الباهرة إخباره صلى الله عليه وسلم بتطاول هذا الصنف من الناس في البنيان ، ففي صحيح مسلم بعد أن سُأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة، قال صلى الله عليه وسلم : { .. أن ترى الحفاة العراة العالةَ رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان } أي أنهم سيتركون هذا الذي هو لهم، ويتجهون للتطاول في البنيان .
3 – زخرفة البيوت :
روى البخاري في الادب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : { لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشُّونها وشي المراحيل.} ومعنى « يوشونها » ينقشونها ويصبغونها بأنواع الالوان المختلفة كما تنقش الثياب والفرش ومعنى: « المراحيل » الثياب المنقوشة بنقوش تشبه رحال الابل.
4 – تقارب الزمان و الاسواق :
قال رسول صلى الله عليه وسلم : { لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة } [ رواه أحمد واسناده صحيح على شرط مسلم ]
وقال صلى الله عليه وسلم : { لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الكذب وتتقارب الأسواق ويتقارب الزمان ويكثر الهرج، قيل وما الهرج، قال : القتل. } [ رواه الإمام أحمد ، ورواته ثقات ].
ان تقارب الزمان المذكور في الحديث يفسر بما وقع في هذا العصر من تقارب ما بين المدن والأقاليم وقصر المسافة بينها بسبب اختراع الطائرات والسيارة والإذاعة وما إلى ذلك والله أعلم .
وأما تقارب الأسواق ، فقد جاء تفسيره في حديث ضعيف بأنه كسادها وقلة أرباحها ، والظاهر – والله أعلم – أن تقارب الأسواق إشارة إلى ما وقع في زماننا من تقارب أهل الأرض بسبب وسائل النقل والكتابة السريعة التي صارت أسواق الأرض متقاربة بسببها ، فلا يكون تغيير في الأسعار في قطر من الأقطار إلا ويعلم به التجار في جميع أرجاء الأرض ، ويذهب التاجر في السيارات إلى أسواق المدائن التي تبعد عنه مسيرة أيام ، فيقضي حاجته منها ، ثم يرجع في يوم أو بعض يوم ، ويذهب في الطائرات إلى أسواق المدائن التي تبعد عنه مسيرة شهر فأكثر ، فيقضي حاجته منها ، ويرجع في يوم أو بعض يوم . [ أشراط الساعة - يوسف الوابل - بتصرف ]
ولو طبقت – أخي القارىء - ما في هذا الحديث من تقارب الزمان وتقارب الأسواق لوجدته مطابقاً لما في الإنترنت خصوصاً إذا علمنا أن بعض المواقع تحوي (300 ألف) سلعة تستطيع أن تطلع عليها جميعاً بمجرد كتابة عنوان ذلك الموقع والاتصال عليه .
5 – فشو التجارة :
روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تشارك المرأة زوجها في التجارة }.
6 - تسمية الخمور بغير اسمها :
قال صلى الله عليه وسلم : { ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها } [ رواه أحمد والنسائي وابن ماجة ] وقد صدق الصادق المصدوق فقد أطلق على الخمر أسماء كثيرة كالعرق ونحوه ، و تسمى في زماننا بالمشروبات الروحية !!
وقد سمعنا عن من يشرب الخمر ويقول هذه بيرة ليست خمراً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
7 – المرأة تنكح وسط الطريق :
قال عليه الصلاة والسلام : { لا تقوم الساعة حتى توجد المرأة نهاراً تنكح وسط الطريق، لا ينكر ذلك أحدٌ، فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول لو نحيتها عن الطريق قليلاً } [ رواه الحاكم عن ابي هريرة ].
وهذا الأمر مشاهد في أمريكا وأوروبا أعاذنا الله من ذلك . وقال عليه الصلاة والسلام : { لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس تسافد البهائم في الطرق } . [ رواه الطبراني عن ابن عمر ]
8 - ظهور أمراء يقولون ولا ينكر عليهم أحد :
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { تكون أمراء يقولون ولا يرد عليهم يتهافتون في النار يتبع بعضهم بعضاً } [ رواه أبو يعلى والطبراني عن معاوية : وهو في صحيح الجامع رقم (2990) ، والصحيحة (1790) ]
9 - ظهور الكاسيات العاريات المائلات المميلات :
<sp
الحمد لله والصلاه والسلام علا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد:-
كل إنسان يتوهم أنه خُلق عبثاً ، ليس عليه إلا أن يجرب طمس عينيه ليرى العبث الذي خلقتا من أجله .. أو يحاول سد أذنيه ليعرف الحكمة من وجودهما .. أو يقطع أصابعه ، ليرى العبث الذي خلقت الأصابع من أجله ..
وإذا سألت ما الحكمة من وجود أي جزء في الإنسان ؟ أجاب المختصون بقولهم : القيام بوظيفة لصالح الكيان الإنساني بأكمله ، فالفم يأكل للجسم كله ، والقلب يضخ الدماء للجسم كله وهكذا ..
وإذا كان كل جزء في الإنسان قد خلق لحكمة ، وهذه الحكمة هي من أجل خدمة الكيان بأجمعه . فهل يخطر على فكر عاقل بعد هذا أن الإنسان قد خلق عبثاً ؟! [1].
وإذا كان العاقل منا يتـنزه عن أن يعمل شيئاً عبثاً فمن باب أولى خالق العقل والعقلاء ومهندس الأرض والسماء ، لا شك أنه منزه عن كل العبث سبحانه وتعالى .. ولكي لا تُحار طويلاً أيها الإنسان في معرفة وظيفتك على هذه الأرض ، فقد أرسل الخالق سبحانه وتعالى للناس في كل أمة رسولاً منهم ، يخبرهم عن ذاته المباركة وصفاته ، ومقاصده فيهم ، وأن هناك حياة أخرى تنتظرهم من بعد الموت ، وأنهم مجزون فيها بدون شك على كل ما اكتسبوه في الدنيا من خير وشر : " رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا " [ النساء : 165 ]
ولكي لا يكذب أحد رسل الله ، ولكي لا يدعي كاذب النبوة والرسالة ، أيد الله رسله ببينات تشهد لهم أنهم رسله ، وتميزهم عن غيرهم ، وتقوم بهذه البينات والدلائل الحجة على الناس .
وأنه اذا كان على المدعي - أي مدع - أن يثبت دعواه ، ويقدم الدليل على صدقها وصحتها ، فإن رسالة رسول الإسلام قد قدمت الشواهد القاطعة ، التي تُكون بمجموعها البرهان القاطع على صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
أولاً : إقرار الله تعالى له ولدعوته :
لقد بدأ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوته بمكة معلناً للناس أنه رسول مرسل من الخالق سبحانه وتعالى، وَأَنَّهُ قد أُنْزِلَ عليه كتاباً عظيماً اسمه القرآن الكريم ، فأخذ عليه الصلاة والسلام يُسْمِعُ قومه ما قد أوحاه الله إليه من هذا الكتاب ، فكان مما قرأه عليهم وهو في مكة هو قوله سبحانه وتعالى من سورة الانعام المكية : " قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". ( الأنعام : 19 )
أي قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بنبوتك، فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى الذي تكلمت أنت باسمه مدعياً النبوة ، فهو سبحانه الشهيد بينك وبينهم في هذه القضية. [2]
ولقد تحققت شهادته سبحانه وتعالى لهذا النبي العظيم بالحق والصدق، إذ قد سمح له بعمل المعجزات ، واستجاب له الدعوات ، وحقق له النبوءات ، ولم يتوفاه حتى أكمل رسالته ، وسمح له في النهاية أن ينتصر على كل من وقف في وجه دعوته ، وأن يؤسس لدولته ويثبت اركانها ، فصارت له الحُجَّة وكتب له النصر، بعد أن كان ضعيفاً وهم أقوياء وكان فقيراً وهم أغنياء وكان وحيداً وهم ذوو عدد ...
وكأنه سبحانه وتعالى يقول لنا من خلال هذه المظاهر : صدق عبدي ونبيي فيما يرويه عني ، وأنا الذي بعثته نبياً رسولاًَ.
وحاشاه سبحانه وتعالى أن يسمح لهذه المظاهر أن تجتمع فيمن يدعي النبوة كذباً ونفاقاً ، ليضل الناس، بل هي بمقام الإقرار الواضح و التصديق منه سبحانه وتعالى لنبوة رسوله الكريم.
يروى أن سهيل بن عمرو قام على باب الكعبة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاح بالناس فاجتمعوا إليه فكان مما قال : " كنت اعلم ان هذا الدين سيمتد من طلوع الشمس إلى غروبها. فقالوا له ومن أين علمت ؟ قال : إني رأيت رجلاً وحيداً لا مال له ولا عز - يقصد النبي صلى الله عليه وسلم - قام في ظل هذا البيت فقال : إني رسول الله ، وإني سأظهر ، فكنا بين ضاحك وهازل وراجم ومستجهل ، فما زال أمره ينمي ويصعد حتى دِنّا له طوعاً وكرهاً ، والله لو كان من عند غير الله لكان كالكسرة في أيدي أي فتى من فتيان قريش .." [3]
والآن لنتناول - أخي القارىء - ما قد قلناه بشيء من الشرح والتفصيل :
فعن سماح الله له بصنع المعجزات فالأمثلة كثيرة وأعظم هذه المعجزات وأدومها هي معجزة القرآن الكريم ، والتي تميزت عن معجزات سائر الأنبياء ببقائها حتى قيام الساعة ، وقد أظهرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجراها ( باسم الله ) تبارك وتعالى ، فنقول وبالله التوفيق :
لما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته بين قوم قد أحبوا الكلمة ، وتفاخروا بها فيما بينهم ، شعراً و نثراً و خطابةً [4] ، أخذ - عليه الصلاة والسلام - يسمعهم آيات القرآن الكريم ، معلناً لهم أن الله هو الذي بعثه للناس نبياً ورسولاً ، وان هذا القرآن الذي يسمعونه منه ، ليس كلامه ، ولا كلام مخلوق آخر ، إنما هو كلام الله ، أوحى به إليه ، وانه سبحانه يُخبرهم على وجه التحدي ، بأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، لما استطاعوا ذلك : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ". [ الإسراء : 88 ]
لقد كان تحدياً صارخاً وفي نفس الوقت متناسباً منسجماً مع ما مَهَرَ به القوم ، وذلك لكي يفهموا معناه ويلتـفـتوا إليه ، وتتم به الحجة عليهم ...
وعلى الرغم من أن هذا التحدي قد أُعيد عليهم بقوالب مختلفة من اللفظ والأسلوب - كما سنرى - وقد تم إنهاضهم إليه بالتقريع والتحمس ومختلف أشكال التحدي ، وهم ما هم عليه من أنفة ، وفيهم ما فيهم من الشعراء والخطباء وفرسان الكلام ، ومع حرصهم الشديد على إبطال دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ قد سفه أصنامهم وعاب طريقتهم في الدين ، وجعل القرآن الكريم موجباً لطاعته والانقياد له ، إلا أنهم قد وقفوا أمامه موقف العاجز المهزوم ، ولم يستطع أحداً منهم المواجهة ...
لذلك صار هذا التحدي الذي أعلنه النبي ( باسم الله ) والذي نتج عنه عجز العرب وهزيمتهم أمامه ، صار تصديقاً وتأييداً من الله لرسوله الكريم ، وشهادة منه على صدق نبوته كما مر معنا .
آيات التحدي القرآنية :
في مكة عندما كان مشركوا قريش يسرحون في اوج قدرتهم، بينما كان المسلمون مستضعفين ويشكلون قلة قليلة بينهم نزلت آيات التحدي للمشركين المرتابين تطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن :
فقال لهم متحدياً كما في سورة الطور : 33 وهي سورة مكية : " أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ".
والمعنى : إن كانوا صادقين في زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد تقول القرآن الكريم من تلقاء نفسه ، فإنهم لن يعجزوا عن الإتيان بحديث مثله ، لأن محمد يتكلم اللغة العربية وهم مثله في العربية وأشد تمرناً منه في النظم والعبارة ..
وقال لهم متحدياً كما في سورة هود : 13 وهي سورة مكية : " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".
والمعنى : إن كانوا صادقين في زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن ، فإنهم لن يعجزوا عن تأليف العشر سور ، لأنهم مثله في العربية ، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، ولهم أن يستعينوا بمن يستطيعون ليساعدوهم على تأليف العشر سور .
ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله إمعاناً في تعجيزهم وتحديهم فقال لهم كما في سورة يونس : 38 وهي مكية : " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".
والمعنى إن كان الأمر كما يقولون فليأتوا بسورة مثله أي في البلاغة وحسن الصياغة وقوة المعنى - على وجه الافتراء - فإنهم أقدر على تأليف الكلم واختلاقه منه صلى الله عليه وسلم ، لأنهم قد مارسوا مبادىء ذلك من الخطب والأشعار وزاولوا أساليب النظم والنثر ، ولهم أن يستعينوا بمن يستطيعون ليساعدوهم على تأليف السورة .
وكان قبل كل ذلك تحداهم في اسلوب عام يتناولهم ويتناول غيرهم من الانس والجن ، فقال لهم في نفي قاطع وصريح كما في سورة الاسراء : 88 وهي سورة مكية : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ".
وهنا نسأل : كيف لعربي في بداية دعوته أن يصدر هذا الحكم المتضمن لهذا النفي القاطع والصريح وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب مفتوح على مصراعيه وأن الفصاحة والبلاغة مثبوتة في رجالهم ونسائهم وقبائلهم؟!
يقول الإمام ابن تيمية : هذا لا يقدم عليه من يطلب من الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك ، إذ لو كان عنده شك في ذلك ، لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر ، فيفسد عليه قصده [5].
هذا وبعد أن أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم بالهجرة إلى المدينة المنورة ، هناك أعاد المولى تبارك وتعالى التحدي للمشركين وكفار أهل الكتاب في آيتين من سورة البقرة ، وهي من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة في وقت لم تظهر للإسلام فيه القوة ولا المنعة بعد ، فقال تعالى : " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ". [ البقرة : 23 ]
ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى حكماً مؤبداً فقال : " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ".
يصف محمد الصادق عرجون آيتي سورة البقرة بأنهما أقوى ما جاء في التحدي ، لما فيهما من القطع بعجز المتحدين مع التقريع والتهديد بالوعيد ، البالغ حداً لا يبقى معه شيء من ساكن العداوة إلا تحرك ، ولا عامل من عوامل المعارضة - لو كانت ممكنة - إلا هاج وأرعد ، ولا بقية من نخوة الانتصار للنفس والمعتقد إلا ثارت وغبرت [6].
نتيجة التحدي :
لقد عجزوا عن الإتيان بالمطلوب ، فلم يأتوا بحديث مثل القرآن ، ولم يأتوا بعشر سور مثله ، ولم يأتوا بسورة من مثله ، وكان المؤمنون في ذلك الوقت يسمعون آيات التحدي ويقرأونها ولو ظهرت أي معارضة فعلية للقرآن لأهتزت قضية الدين عندهم، ولضاع الدين وانتهى وهو في بداية ظهوره ولما آمن بهذا القرآن أحد ، ولأنطفأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم واختل حاله بين العرب ، إلا ان أمره صلى الله عليه وسلم كان يعلوا شيئاً فشيئاً وأتباعه يتزايدون حالاً فحالا ...
ولو صح من العرب انهم قبلوا التحدي فعارضوا القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لترتب عليه سقوط دعوته بعد ظهور هزيمته وانهيار حجته و بطلان معجزته ، فما كان لهذا القرآن ان يدخل في نفوس الناس في بدايات الدعوة في مكة والمدينة ، باذلين من اجله النفس والمال والولد ، يوم لم تكن للإسلام القوة والمنعة بعد ، وثمة معارضون للقرآن من العرب الاقحاح ، يأتون بمثله للناس مظهرين فساد دعوى التحدي في تلك الآيات .. فتأمل !
قال الجاحظ : لو تكلف بعضهم ذلك - يريد المعارضة - فجاء بأمر فيه أدني شبهة ، لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب .. ولكثر القيل والقال ، وان سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أسرع في تفريق أتباعه [7]. وتبعه الباقلاني فذكر أنهم لو كانوا عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره ، وتكذيب قوله ، وتفريق جمعه ، وتشتيت أسبابه ، وكان من صدق به يرجع على أعقابه ويعود في مذهب أصحابه .. ورأى صاحب المغني : أن المعارضة لو وقعت لكان فيها اضطراب لنفوس أصحابه [8].
ولما لم يكن شيئاً من هذا قد حدث فإننا على يقين تام بأن العرب قد وقفوا أمام هذا التحدي موقف العاجز المهزوم ، وقد دفع هذا العجز بأهل الاستكبار منهم أن يصفوا هذا القرآن الكريم بقولهم : { هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } كما في سورة الزخرف المكية آية : 30 ، وبقولهم : { إِنْ هَذَا إلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } كما في سورة المدثر المكية آية : 24 ، وذهبوا ينعتون هذا الرسول الذي جاءهم بما أعجزهم بقولهم : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } كما في سورة يونس المكية آية : 2 ، وكذلك قولهم : { هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } كما في سورة ص المكية آية : 4 ، وليس كل ذلك إلا لهزيمتهم وقصور قرائحهم أمام القرآن الكريم ، ومدى تأثيره العجيب في نفوسهم . . وقد ذهبوا يتواصون على عدم سماع القرآن والمشاغبة والتشويش عليه قائلين فيما بينهم : { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .. } فصلت : 26 ، ونلاحظ من هذه الآية الكريمة انهم أرادوا الغلبة من خلال عدم السماع لهذا القرآن ، وليس من خلال قبولهم التحدي لأنهم قد فهموا حقيقته وانه خارج عن مقدرتهم ، ولذلك لما قال البعض منهم على سبيل الكذب والوقاحة : { لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } كان هو قول منهم بلا فعل ..
هذا ولقد كانت آيات التحدي تُقرأ في قوالب مختلفة من اللفظ والأسلوب - كما رأينا – ولو لم تكن تلك الآيات حقيقة واقعة في حياته - صلى الله عليه وسلم - لسارع كبار الصحابة من بعده والمؤمنون به وكتاب الوحي وكبار الحفظة القراء وقت جمع القرآن الكريم إلى إنكارها ورفضها ، كيف لا ، وقد ضحوا بأموالهم وأنفسهم شرقاً وغرباً في سبيل نشر هذا الكتاب الذي جاءهم به - صلى الله عليه وسلم - إذ لا مصلحة في تحمل الأذى في سبيل دين باطل يكذب عليهم ...
ولقد كان هذا التحدي سبباً في إسلام الكثيرين، لأن القرآن الكريم بهذه الاستثارة للعقول والألباب والقلوب يدعو للتفكر في القرآن بشكل أكبر ، ويجعل الإنسان الشاك يتدبر أكثر و أكثر ، حتى يصل إلى النهاية المحمودة إذا كان ممن يبحث الحق متجرداً من الهوى [9].
وبجانب معجزة القرآن الكريم - أخي القارىء - هناك الكثير من المعجزات والآيات الحسية قد أظهرها الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إليها القرآن الكريم بكل وضوح كما في قوله تعالى في سورة الصافات الآية رقم 14 : " وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ .. وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ " وقوله في سورة القمر الآية رقم 2 : " وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ " وقوله في سورة الانعام الآية 25 : " وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ..".
ففي هذه الآيات الكريمات نجد أن الـتعبير بـ ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً ) يدل بوضوح على انهم شاهدوا معجزة أو معاجز للنبي صلى الله عليه وسلم ، الأمر الذي اجمع عليه كافة علماء المسلمين المعتبرين في العالم ودلت عليه الروايات المتواترة أيضا . ومن المسلم به ان الآيات القرآنية سمعية وليست بصرية, وعليه لا يمكن ان يكون قوله تعالى : (( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً )) عائد للآيات القرآنية , بالإضافة إلى ذلك فان التعبير بـ : (( سِحْرٌ مُبِينٌ و سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ )) يتناسب تماماً مع المعجزات وخوارق العادات , والواقع ان اتهامهم نبي الإسلام بالسحر , وترويجهم لهذه المسألة بشكل واسع يدل على انهم رأوا منه خوارق عادات ومعجزات . هذا ولو لم تكن تلك المعجزات حقيقة واقعة في حياته صلى الله عليه وسلم لتشكك المؤمنون في ذلك الوقت بالقرآن الكريم ولقالوا كيف يشير القرآن إلى معجزات لم نشاهدها وكيف نصدق ما لم يقع ؟ [10]
.................................................. .
.................................
..............
وأما عن استجابة الله له الدعوات فذلك معلوم بالتواتر من سيرته وأخباره وأحواله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك على سبيل المثال :
يقول الله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ". [ الأحزاب : 9 ]
فلقد تجمع الأحزاب - جماعات - من المشركين لقتال النبي ، وكان عددهم نحواً من عشرة آلاف ، مقابل ثلاثة آلآف مسلم فقط ، وتحالفوا مع اليهود القاطنين في شرق المدينة على حرب النبي وأصحابه ، وأشتد الحال على المسلمين الذين حفروا خندقاً بينهم وبين الكفار ، واستمر الكفار قريباً من شهر وهم يحاصرون المسلمين في المدينة .
فدعا النبي ربه أن ينصره على المتمالئين على الإسلام فقال : " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ". [11].
فاستجاب الله دعاء رسوله وأرسل على الأحزاب ريحاً شديدةً اقضّت مضاجعهم ، وجنوداً زلزلتهم مع ما ألقى الله بينهم من التخاذل فأجمعوا أمرهم على الرحيل وترك المدينة النبوية. وظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته يسبح بحمد ربه ، فيقول في جل المناسبات : " لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ". وعلمنا أن نردد ذلك في كل موطن .... إلى غير ذلك من الأدعية الكثيرة جدا، التي استجاب الله له فيها دعائه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لا يمكن أن يتيسر لكاذب، بل لا يكون إلا لصادق مؤيد من الله .
هذا ولو لم تكن تلك الحادثة قد وقعت لتشكك المسلمون آن ذاك في القرآن ، وربما ارتدوا عن دينهم، وقالوا : كيف نصدق ما لم يقع؟! إلا ان أمره صلى الله عليه وسلم كان يعلوا شيئاً فشيئاً وأتباعه يتزايدون حالاً فحالا ...
وانظر أخى القارىء كيف تمنن عليهم بعد ذلك بقوله : " وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ". ( الاحزاب : 25 ) إذ قد صرف عنهم هؤلاء الاحزاب بالريح وكفاهم قتالهم ، وما نال المسلمين من الريح أذى مع قرب المسافة ، ولو لم تكن تلك الحادثة قد وقعت لما امتن بها عليهم ولا احتج بها والوليّ والعدو يسمع ، ولكان الأمر باعثا لتكذيب اتباعه له، وهذا لا يفعله عاقل فكيف بمن يدعي النبوة. صلى الله عليه وسلم .
وأما عن قولنا بأن الله حقق له النبوءات فالشواهد عليه ستأتي في الكلام عن الدليل الثاني.
وأما قولنا بأن الله لم يتوفاه حتى أكمل – عليه الصلاة والسلام – دعوته وختم رسالته ، وانتصر على كل من عانده ، فدليل ذلك ما يعرفه القاصي والداني من عاقبة أمره صلى الله عليه وسلم وكيف نال النصر والظفر والفتح والتمكين في الأرض ، وقال مخبراً عن ربه : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً " [ المائدة : 3 ] .
والمدهش انه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر عن ربه وهو في مكة عندما كان يواجه الأذى من قومه في سبيل تبليغ رسالة الله للناس بأن النصر و العاقبة ستكون له ، أخبر عن ذلك على سبيل الجزم والقطع والمسلمون قلة قليلة آن ذاك ، فنجد في الآية التاسعة والأربعين من سورة هود المكية : " تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ " .
هذه الآية جاءت تعقيباً على قصة نوح عليه السلام مع قومه ، التي انتهت بإغراق الكافرين بالطوفان ، وإنجاء نوح وأتباعه المؤمنين في السفينة ، ثم إنزالهم الأرض بعد الطوفان ، لاستئناف الحياة من جديد. فجاء التعقيب على ذلك بقوله تعالى : " تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ " .
يقول الله لرسوله محمد : " فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ " أي : فاصبر يا محمد على أذاهم ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة . والفاء في قوله : " فاصبر " لتفريع ما قبلها لما بعدها . قال السعدي رحمه الله " : فستكون لك العاقبة على قومك، كما كانت لنوح على قومه. وهو ما تم بالفعل .
والأدهش من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قد خاطب قومه أيضاً من خلال القرآن الكريم وهو في مكة قبل الهجرة بأنه لو كان كاذباً على الله في دعواه النبوة فسوف لن يدعه الله بل سيقصمه ويهلكه ، فنجد في سورة الحاقة المكية النزول : " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ". [ الحاقة : 44 - 45 ] وعلى الرغم من انه - صلى الله عليه وسلم - قد تعرض بسبب دعوته الإسلامية إلى كثير من المواقف الحرجة جداً التي أصبحت فيها حياته قاب قوسين أو أدنى من القتل والموت ، إلا أنه يخرج منها سالماً وكأن الله سبحانه وتعالى وبإصرار شديد لا يريد لمدعي النبوة هذا إلا أن يكمل دعوته ويختم رسالته !
خذ على سبيل المثال الموقف المميت الذي تعرض له في معركة أحد .. وقبل ذلك إجماع المشركين على قتله ليلة الهجرة ، ثم تعقبهم له إلى الغار .. وموقفه البطولي يوم حنين .. وكلها شواهد تاريخية مشهورة معروفة .. فلا مناص اذن من القول ان محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يعمل فى ظل حماية الله و رعايته ..
وأرى أنه من الروعة أن نقارن كل ذلك مع الوعود التي أخبر عنها النبي عن ربه وهو في مكة يوم لم تكن للإسلام القوة والمنعة بعد ، والمتمثلة في قوله تعالى : " وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ". ( الاسراء : 60 ) قال الطبري في تفسيره : " يقول جل ثناؤه : واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة , فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته , ونحن مانعوك منهم , فلا تتهيب منهم أحدا ". وأيضاً قوله سبحانه وتعالى : " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ". ( الطور : 48 ) أي انك بمرأى منا نراك ونحفظك. وقوله سبحانه تعالى : " أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ". ( الزمر : 36 )
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } وَهَذَا حَضّ مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى تَبْلِيغ رِسَالَته , وَإِعْلَام مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ إِلَيْهِ الْقَوْل بِأَنَّهُ سَيَمْنَعُهُ مِنْ كُلّ مَنْ بَغَاهُ سُوءًا وَهَلَاكًا , يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّد إِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ قُدْرَة , فَهُمْ فِي قَبْضَته لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوج مِنْ مَشِيئَته , وَنَحْنُ مَانِعُوك مِنْهُمْ , فَلَا تَتَهَيَّب مِنْهُمْ أَحَدًا , وَامْضِ لِمَا أَمَرْنَاك بِهِ مِنْ تَبْلِيغ رِسَالَتنَا . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ , قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 16913 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثْنِي , قَالَ : ثنا عَبْد الصَّمَد , قَالَ : ثنا شُعْبَة , عَنْ أَبِي رَجَاء , قَالَ : سَمِعْت الْحَسَن يَقُول : أَحَاطَ بِالنَّاسِ , عَصَمَك مِنْ النَّاس . * - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ : ثنا أَبُو بَكْر الْهُذَلِيّ , عَنْ الْحَسَن { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : يَقُول : أَحَطْت لَك بِالْعَرَبِ أَنْ لَا يَقْتُلُوك , فَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يُقْتَل . 16914 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد { أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : فَهُمْ فِي قَبْضَته . * - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثني حَجَّاج , عَنْ اِبْن جُرَيْج , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . 16915 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا أَبُو سُفْيَان , عَنْ مَعْمَر , عَنْ الزُّهْرِيّ , عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر قَوْله { أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : مَنَعَك مِنْ النَّاس . قَالَ مَعْمَر , قَالَ قَتَادَة , مِثْله . 16916 - حَدَّثَنَا اِبْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا اِبْن ثَوْر , عَنْ مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة , قَوْله { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } قَالَ : مَنَعَك مِنْ النَّاس . * - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة { وَإِذْ قُلْنَا لَك إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ } أَيْ مَنَعَك مِنْ النَّاس حَتَّى تُبَلِّغ رِسَالَة رَبّك .
" name=hidtafseer0 والحق ان دليل إقرار الله له ولدعوته - صلى الله عليه وسلم - هو دليل عقلي يخاطب العقول إن كانت تَعِي !
ثانياً: وعوده المستقبلية الصادقة :
لقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بكتاب يُخبر فيه عن الله بوعود مستقبلية ستـقع ، وبالفعل تحققت هذه الوعود وسمح الله لها أن تقع تصديقاً وتأييداً لنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن هذه الوعود ما تحقق في حياته صلى الله عليه وسلم .
ومنها ما تحقق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .
وقد جاءت هذه الوعود لتعلن عن أخبار مستقبلية وتجزم بأحداث قادمة كما يلي :
الوعد الجازم بنصرة الله للرسول والتمكين له :
لقد كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يتوعد قريشاً قبل هجرته وهو بمكة، والمسلمون آن ذاك قلة قليلة بينهم، يتوعدهم بنصر الله له وظهوره عليهم، فكان يتلـو عليهم من القرآن الكريم، ما أنزل الله بالأمم السابقة، أمة أمة، إلى أن قال لهم كما في سورة القمر المكية : " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ، أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ". ( القمر : 43 )
وتلا عليهم من سورة هود المكية ما جاء من قصة نوح عليه السلام مع قومه ، وكيف أن العاقبة كانت له ، فجاء التعقيب على ذلك بقوله سبحانه وتعالى : " تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ". ( هود : 49 ) أي فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة.
وتلا عليهم من سورة ابراهيم المكية فقال : " أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ... إلى قوله : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ .. " ( ابراهيم : 9 )
وتلا عليهم من سورة الانعام المكية قول الله سبحانه وتعالى : " فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ". ( الانعام : 5 ) أي ان هذا الحق الذي كذبوه واستهزءوا به - والمراد به هنا النبي وما اوحي اليه - ستأتيهم أخباره عندما ينتصر الاسلام ويعلوا أمره.
وتلا عليهم من سورة الانعام المكية قول الله سبحانه وتعالى : " وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ ". ( الانعام : 34 )
وفي هذه الآية تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن كذبه من قومه، وفيها وعد ضمني بالنصر له كما انتصر اولئك الرسل ، ولهذا قال : " وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ " قال ابن عباس : أي لمواعيد الله، وفي هذا تقوية للوعد. وقوله : " وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ " أي ولقد جاءك بعض أخبار المرسلين الذين كُذّبوا وأُوذوا كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم فتسلَّ ولا تحزن فإِن الله ناصرك كما نصرهم .
هذا وبعد أن هاجر عليه الصلاة والسلام الى المدينه المنورة ، أعاد هناك توعده أيضاً لكفار أهل الكتاب وغيرهم من مشركي العرب بنصر الله له وظهوره عليهم ، فقرأ عليهم من سورة آل عمران قول الله سبحانه وتعالى : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ". ( آل عمران : 12 ) أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من اليهود وغيرهم ستغلبون أي في الدنيا وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد.
وقرأ عليهم من سورة الانفال متوعداً ومنذراً : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ..". ( الانفال : 36 )
ثم أخبر عليه الصلاة والسلام عن أولئك المتربصين له من يهود ونصارى وغيرهم من مشركي العرب بأنهم مهما فعلوا فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور دعوته الربانية ، فقرأ من سورة الصف قول الله سبحانه وتعالى : " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ". ( الصف : 8 )
ولقد صدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه ، إذ قد انتصر في النهاية على كل من وقف في وجه دعوته ، فعاد إلي مكة فاتحاً منتصراً كما يعلم الجميع ، فصارت له الكلمة وكانت له العقبى كما قال و أخبر ... فلك اللهم ربنا الحمد على هذه المواعيد الصادقة.
الوعد الجازم باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض :
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً وقد جاء هذا الوعد في وقت كان المؤمنون فيه قلقين خائفين لا يبيتون إلا بالسلاح كما سيأتي ، فأنزل الله وعده العظيم لهم بقوله كما في سورة النور آية : 55 : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ".
عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة ، فكانوا لايبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى؟! فنزل قول الله سبحانه وتعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض .. ".
وهو ما تم بالفعل ، فقد استخلف الله المسلمين ، ومكن لهم دينهم ، وأبدلهم بالخوف أمناً ، فأيةُ آية أو نبوة أصح وأبين من هذه؟!
ومما يدلك - أخي القارىء - على أن هذا الوعد قد نزل والصحابة غير متمكنين وانهم كانوا خائفين هو قوله : " وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ". فلا يجوز أن يخبرهم بما لم يكونوا عليه ويمتن عليهم بذلك والعدو والوليّ يسمعه وهو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذبهم ، ثم يؤكد هذا بأن يقول هذا قول الله لكم ، ووعد الله لا وعدي ..
وانظر كيف جاء تأويل الآية على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله ( مِنْكُمْ ) فبدلوا من بعد خوفهم أمناً لا خوف فيه ، واستخلفوا في أقطار الأرض ... فسبحان من أنزل هذه المواعيد الصادقة.
وللمزيد من هذه الوعود الصادقة فليرجع القارىء الكريم إلى مقال : ( الأخبار المستقبلية في القرآن ودلالتها على مصدره الرباني ) الموجود على الموقع.
ثالثاً : الحقائق العلمية :
بالرغم من أن محمداً - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عاش في بيئة وزمن عُرف بندرة العلم وندرة الأدوات العلمية ، إلا أنه جاء بكتاب قد حفل بالكثير من الحقائق العلمية التي لم يكتشفها العلم إلا في العصر الحديث ، وليرجع القارىء الكريم إلى مقال ( الحقائق العلمية في القرآن الكريم ودلالتها على مصدره الرباني ) الموجود على الموقع.
رابعاً : نشأته في بيئة أمية وإتيانه بعلوم إلهية :
فإذا أضفنا إلى كل ما سبق أن هذا القرآن بما احتواه من علوم ومعارف مختلفة : إلهية - علمية - تشريعية - تربوية - اقتصادية .. الخ قد أتى به رجل نشأ كما يعرف القاصي والداني مع بني قومه في اواسط جزيرة العرب ، في بيئة بدوية من الأعراب ، اتصفت بالأمية ، قبل 1400 عام .. فنحن إذن أمام معجزة حقيقية لا يجادل فيها إلا مكابر معاند مستغلق المشاعر ... فإن كنت - أخي القارىء - في شك من ذلك فالتبحر التفكير بعقلك إلى ذلك الزمن متخيلاً نفسك في تلك البادية متحرياً حال البدويين. لتخرج بفائدة عظيمة ألا وهي ان هذا الكتاب بما احتواه من علوم ومعارف لا يمكن أن يكون نتاج تلك البيئة إلا بوحي إلهي ..
خامساً: هل يعقــل ؟!! :
محمد صلى الله عليه وسلم رجل أثارت دعوته إلى التوحيد حفيظة المشركين وحميتهم بحيث شكلوا خطراً حقيقياً على حياته منذ اللحظة الأولى التي جهر فيها بدعوته، وكلنا يتذكر الاضطهاد والأذى اللذان تعرض لهما فترة إقامته بمكة، وكذلك إجماع المشركين على قتله ليلة الهجرة، كما لم تكن حياته، صلوات الله وسلامه عليه، في المدينة المُنورة بعد الهجرة أكثرُ أمناً ولا أرغد عيشاً فقد أثارت دعوته حقد اليهود ومكرهم، حيثُ تشابكت أيدي اليهود والمشركين فشكلوا خطرا مُزدوجاً على حياة هذا النبي الكريم، وكثُرت المؤامرات الهادفة إلى اغتياله كتلك التي حاول اليهود فيها إلقاء صخرة عليه وهو في زيارة لحيَهم ، كما حاولوا تسميمه عن طريق إطعامه بعضاً من شاة مسمومة أثناء زيارته لخيبر، ولا ننسى غزوة الأحزاب التي اتحد فيها المشركون واليهود لمحاربة الإسلام واستئصاله، وغيره كثير من المؤامرات الهادفة للقضاء عليه وعلى دعوته.
لا يُمكن لعاقل أن يُصدق أن رجل مثل محمد، صلى الله عليه وسلم، والذي انشغل بدعوة الناس دعوة عملية .. وانشغل بأعدائه ... وانشغل بتأسيس الدولة الإسلامية ... وانشغل بفتوحاته المقدسة ... رجل عانا في حياته الخاصة، لا يُمكن لعاقل ان يُصدق أن هذا الرجل استطاع في ظل هذه المحن والمشاغل أن يأتي بكتاب يتناول فيه جوانب مختلفة من العلوم والمعارف البلاغية والأدبية ، والتربوية ، والتشريعية ، والعلمية ، وغير ذلك. لا يمكن لعاقل أن يتخيل أن كل هذا من نتاج فكر رجل عاش حياة كتلك التي عاشها محمد صلى الله عليه وسلم ... لقد كانت حياته مليئة بالمحن والمشاغل التي تتطلب انشغال الذهن بأمور بعيده كل البعد عن الإخبار عن حقائق علمية أو التأسيس لمناهج تربوية ... لكنه الله سبحانه وتعالى الذي علم رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأوحى إليه ما أوحى ..
سادساً : مخالفة القرآن لطبع الرسول ، وعتابه له :
ان من أدلة صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نجده من مخالفة القرآن الكريم لطبع الرسول ، و عتابه له في المسائل المباحة ، وأخرى كان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه ؛ فيخطئه في الرأي يراه ، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه كقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ". [التحريم:1] وقوله تعالى : " وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ". [ الأحزاب : 37 ] وقوله : " عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ". [التوبة : 43 ] وقوله : " عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى " [ عبس :5-10 ] .
أيُعقل أن يؤلف محمد - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ثم يوجه العتاب إلى نفسه ؟
ألم يكن له في السكوت عنها استبقاء لحرمة آرائه ؟ بل إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه , لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئاً من ذلك الوجدان ، و لو كان كاتماً شيئاً لكتم أمثال هذه الآيات ، و لكنه الوحي لا يستطيع كتمانه { وما هو على الغيب بضنين } [ التكوير الآية : 24 ] .
وقد أقر بهذا الدليل بعض المستشرقين ، مثل المستشرق (ليتنر) حيث قال : مرة أوحى الله إلى النبي وحيا شديد المؤاخذة ؛ لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلا غنيا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذبا - كما يقول أغبياء النصارى بحقه - لما كان لذلك الوحي من وجود [12].
سابعاً: مآثر لا يمكن أن تجتمع إلا لنبي مؤيد من الله :
لقد اجتمعت في النبي - صلى الله عليه وسلم - مآثر عظيمة مجموعها يدلك على صدق نبوته ، وهي كالآتي :
- كان نبياً يتنبأ كما مر معنا في الدليل الثاني.
- وسياسياً ناجحاً بنى أساس أمة و دولة من لا شيء ، من قبائل و شراذم متفرقة لا تعرف إلا الثأر و التفاخر بالاحساب و الأنساب.
- ومشرعاً وضع قانوناً يشمل الأحوال الشخصية والعقوبة الجنائية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
- وقائداً عسكرياً ناجحاً وهو ما اقر به خصومه إذ يقول القس يوسف درة الحداد و هو من اعتي خصوم الإسلام : " كان محمد عبقرية عسكرية و من أعظم قواد العالم العسكريين فى التصميم و التنفيذ .. و هو يقود الغزوات و الحملات بذاته يعرف كيف يهيىء الحملة و كيف يقودها و كيف يعود منها غالبا و كيف ينقلب مغلوبا , و التصرف في حال الهزيمة ابرع من نشوة الظفر , يتوسع بالجهاد كلما ازداد قوة , و لا يعلن عن أهدافه إلا متى حان وقتها. يعرف كيف يستشير و كيف يأخذ برأي صائب , و كيف يفرض رأيه في الظرف الحاسم و لو خالف رأى زعماء الصحابة كما حدث في أسرى بدر و صلح الحديبية و غزو تبوك و يكون هو بذاته الأسوة الحسنة في المعركة ، فلولا موقفه البطولي في هزيمة أُحد [13] , وحصار المدينة [14] لقضي على الإسلام , و لولا موقفه الجريء في معركة حنين لخسر فتح مكة و نصر الإسلام " .
- وكان صلى الله عليه وسلم إدارياً موفقاً [15] .
- ومُعلماً دينياً.
- وربانياً عابداً [16].
- ولُقب بالأمين فكان مثلاً أعلى في الخلق الكريم [17].
- وفوق هذا و ذاك هو صاحب معجزة عقلية بيانية ألا وهي القرآن الكريم كما مر معنا في الدليل الأول .
من ذا يسامى هذه المآثر أو يظفر بمثل هذه المنزلة ؟
لقد كان الاسكندر فاتحا عسكرياً مظفراً , و تتلمذ على يد أعجوبة البشرية أرسطو و لكنه لم يكن المشرع و لم يكن النبي ..
و كان أعجوبة البشرية أرسطو فريداً في الفلسفة و المنطق و الآداب و العلوم , و لكنه لم يكن رجل الدولة و لا رجل الدين و لا القائد العسكري . و كان قيصر رجل دولة و رجل سياسة و آداب و قائداً منتصراً , و لكنه لم يكن رجل الدين أو المشرع ... وكان نابليون رجل دولة و رجل سياسة و قائداً عسكرياً و مشرعاً , و لكنه لم يكن صاحب الدين أو رجل اللغة و الأدب أو المثل الأعلى في الأخلاق .
و كان كل من شكسبير و جوته علما من أعلام الأدب و الشعر و المسرح و لكنهما كانا أصفاراً في السياسة و التشريع و القيادة العسكرية أو الرسالة الدينية .
أين كل هؤلاء الآن وما هو تأثيرهم وأين نبي الله محمد ومدى تأثيره !!!!!
ان الشخصية الباهرة غير العادية للرسول قد فرضت نفسها .. و كل هذا يصدر من عربي .. فإذا لم يكن هذا وحياً و إذا لم يكن محمد نبياً فان البديل الوحيد هو أن يكون محمد كما كان يرى اليونان و الرومان إلهاً أو نصف اله ! [18]
ثامناً : عاش بين أصحابه وأهله وزوجاته :
لقد عاش محمد بين أصحابه وأهله وزوجاته ، لذلك لم تكن تصرفاته تخفى على أحد ، فكان كالكتاب المفتوح بينهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ..
وقد تنبه لذلك ( الكاتب الإنكليزي هـ. ج ويلز ) حين قال : ان من أدفع الأدلة على صدق محمد كون أهله واقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لتركوا الإيمان به. قلت : ولتركوا التضحية بالموت من أجل دعوته. خصوصا وانهم عاشوا معه فترات كان الإسلام فيها ضعيفاً ، لم يكن له مال يبذله لهم ولا سيف يخيفهم به.
يقول ( ميخائيل طعمه ) : لو لم يكن خلق محمد عظيماً لأنقلب عليه محيطه ، ولو لم يكن خلق محمد عظيماً لضعف أمام ما اعترضه من العقبات ، .. ولما قوي على إحداث ما أوجده من الانقلاب العظيم ، فبدل الضلال بالهدى ، والجهل بالعلم والهمجية بالمدنية [19] .
ولقد عايش الصحابة رضوان الله عليهم صفة الصدق فيه - صلى الله عليه وسلم - فلولا صدقه - صلى الله عليه وسلم - لما استمر الصحابة رضوان الله عليهم في دعوته باذلين من أجلها المال والنفس والتضحية .
تاسعاً : يوم الفرقان يوم التقى الجمعان :
غزوة بدر الكبرى ....هي تلكم الغزوة العظيمة التي وقعت بين الحق والباطل ، في يوم الفرقان ، وهو السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة ، وقد بلغ من شرف هذه الغزوة وعظم شأنها ، أن سمى الله يومها يوم الفرقان لأنه سبحانه فرق فيه بين الحق والباطل : " ... وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ". ( الأنفال : 41 )
كان جيش المشركين فيه أضعاف جيش المؤمنين عدداً وعدة ، ألف مشرك مقابل 300 مسلم ... سبعون فرس مقابل فرسين اثنين للمسلمين .... كل المقاييس العملية تؤكد هزيمة المسلمين - فئة قليلة بسلاح قليل - إلا أن المعركة انتهت بنصر مؤزر للحق وهزيمة منكرة للباطل ، وكافأ الله فيها المؤمنين على صدقهم وثباتهم ، وجازى الكافرين على عتوهم وكفرهم ، ولقى صناديدهم مصرعهم ، وعلى رأسهم أبو جهل .
وبهذه النتيجة تبين للجميع أن الحق مع محمد - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه إذ كيف ينتصر الأقلون المستضعفون على الأكثرين المتجبرين ؟ يقول الله سبحانه وتعالى ممتناً ومذكراً : " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ " أي بقلة العدد والسلاح : " فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ". ( آل عمران : 123 )
ومما يزيد من روعة هذا النصر انه جاء نتيجة وعد سابق أعلنه النبي عن ربه ، إذ تقول الآية السابعة من سورة الانفال ، في المؤمنين من أهل بدر : " وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ". [ الأنفال : 7 ] والمعنى كما قال الطبري رحمه الله : " واذكروا أيها القوم" إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ " يعني إحدى الفرقتين : { أَنَّهَا لَكُمْ } أي إن ما معهم غنيمة لكم.
ولو لم يكن هذا الوعد قد صدر فعلاً ، لأعترض المؤمنون آن ذاك من أهل بدر على الآية الكريمة، ولقالوا : كيف يُخبر القرآن عن وعود نحن لم نأخذها؟ ولاتهموا النبي بالكذب ... ولضاع الدين وانتهى .... فتأمل.
ومما يزيد من روعة هذا الوعد هو انه قد صدر في وقت كان المسلمون فيه قلة قليلة أمام الاكثرية المتجبرة ، حتى انه - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم قوله سبحانه ممتناً ومذكراً : " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ " أي بقلة العدد والسلاح : " فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ". ( آل عمران : 123 )
وتلا عليهم قوله سبحانه : " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ .. " ( الانفال : 9 )
فانظر أيها القارىء الكريم كيف يصف استغاثتهم وما كان قد وعدهم به من الظفر بإحدى الطائفتين قبل اللقاء وما نصرهم به على ذلك التفصيل. ولا يجوز أن يقول لهم : قد كنت وعدتكم وقد كنتم خائفين مستضعفين ، فأزلت خوفكم ، وطيبت نفوسكم ، وأنزلت عليكم الماء ، وغشيتكم بالنعاس أمنةً منـي ، ونصرتكم بالملائكة . وهو يعلم أنهم يعلمون أنه كاذب ، وأن ذلك لم يكن ، وهذا القول يسمعه العدو والوليُّ ، وهو يمتن به على الصحابة وأتباعه ، ويحتج به على العدو والوليّ ، هذا لا يقع من عاقل ، ولا يتوهمه عاقل تدبر وفكر ، فكيف بمن يدعي النبوة والصدق ، ويريد من كل أحد سمع قوله أن يتبعه ويعتقد ذلك منه ويطيعه. وهؤلاء الذين اتبعوه وأطاعوه وبذلوا أموالهم ودماءهم ، إنما فعلوا ذلك لما اعتقدوه من نبوته ، وعرفوه من صدقه ، وتحققوه من قوله.
عاشراً : لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم :
يقول الله سبحانه وتعالى : " هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ". ( الانفال : 63 )
قوله تعالى : { وألَّف بين قلوبهم } يعني: الأوس والخزرج، وهم الأنصار، سكان المدينة المنورة التي هاجر اليها النبي صلى الله عليه وسلم ، صاروا أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعواناً يقاتلون عنه ويحمونه بعد أن كانت العداوة بينهم في الجاهلية شديدة ، فألَّف الله بينهم بالإسلام ، وحصلت المحبة والألفة ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ... ولا يتيسر لنبي كاذب .. وصار ذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة باهرة دالة على صدقه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ .. " ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : " وَلَكِنَّ اللَّه أَلَّفَ بَيْنهمْ إِنَّهُ عَزِيز حَكِيم ".
الحادي عشر : استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه :
يقول الله سبحانه وتعالى : " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ". ( آل عمران : 59 )
والمعنى : فمن جادلك يا محمد في شأن عيسى بغير حق ، من بعد ما جاءك من الوحي والخبر بحقيقة الأمر، فقل لهم : هلموا لنجتمع جميعاً مع الأولاد والنساء ، ثم ندعو الله خاشعين ، ونقول : اللهم العن الكاذب في شأن عيسى عليه السلام .
وهنا تتجلى - أخي القارىء - ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاملة في دينه ومن أرسله جل وعلا، إذ من كان في قلبه أدنى شك في معتـقده لا يمكن أن يقدم على مثل هذا المهلكة إلا أن يعتقد اعتقاداً جازما في صدق ما يقول ، ولذلك عندما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - اساقفة نجران أن يبتهلوا وهو معهم إلى الله سبحانه وتعالى كي ينزل لعنته على الكاذب في شأن المسيح عيسى - عليه السلام - فإنهم احجموا وأبوا ، إذ أن مثل هذا الموقف لن يُقبل عليه الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لا بد ان يرجع عنها.
الثاني عشر : دليل الإلزام :
نريد أن نسأل اليهود : كيف آمنتم برسولكم موسى عليه السلام ؟
فإن قالوا : بسبب معجزاته ، أو أخلاقه ، أو تشريعه ، أو تأييد الله له ونصرته ، أو استجابة دعائه ، أو عدم رغبته في المصلحة الذاتية ، أو غير ذلك من الأدلة .
قلنا : كل ما ذكرتموه هو موجود في النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك النصارى نسألهم هل هم يؤمنون بنبوة موسى عليه السلام ؟، فإن الجواب سيكون :نعم . قلنا: كيف استدللتم على نبوته ؟ . فإن قالوا: لأنه قد ذكره لنا عيسى.
قلنا : هل هناك دليل آخر؟ .
إن قالوا : لا يوجد دليل آخر على نبوة موسى عليه السلام . قلنا: إذن أنتم صَحَّحْتم مذهب مَن كفر بموسى عليه السلام من قومه ؛ حيث إن موسى عليه السلام لم يأت بدليل على رسالته ، ولم ينزل عيسى عليه السلام في ذلك الوقت ، وأثبتم لمن آمن به أنه آمن بغير بينة ولا علم ولا دليل ، وأن رسالة موسى علقت عن التصحيح قرونا متطاولة حتى بعث الله عيسى عليه السلام .
فإن قالوا : نعم، هناك أدلة أخرى على رسالة موسى عليه السلام.
قلنا : كل دليل استدللتم به على نبوة موسى عليه السلام هو موجود في محمد صلى الله عليه وسلم.
فلا حجة إذن لرجل يهودي أو نصراني لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن صدق الله إذ يقول :
{ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] [20]
الثالث عشر : قالوا عنه صلى الله عليه وسلم :
- السير تشارلس ارمان البريطاني المتوفي 1940 : " لم تنتج بلاد العرب قبله ولا بعده فرداً أثر في مجموع تاريخ العالم ..". [21]
- المستر جون ديفد لبوت مستشرق بريطاني توفي 1902 : " هل بالإمكان إنكار فضل محمد نبي العرب الذي قام بإصلاحات غريبة وعظيمة ، فكانت خالدة لبلاده ، فقد جعل أهلها يعبدون الله ، ويهجرون عبادة الاصنام، وهو الذي منع قتل الموءودة ، وحرم شرب الخمر ، وفعل الميسر ، وترك لأمته مبدأ لا يزال، وعليه يعمل الملايين ". [22]
- الفرنسي لوزن في كتابه ( الله والسماء ) ، توفي 1937 : " ليس محمد نبي العرب وحدهم ، بل هو أفضل نبي قال بوحدانية الله ، وان دين موسى وإن كان من الأديان التي أساسها الوحدانية إلا أنه كان قومياً محضاً ، وخاصاً ببني إسرائيل ، وأما محمد فقد أعلنه لعموم البشرية في أنحاء المسكونة..". [23]
- كارل ماركس الألماني المتوفى 1883 : " إن الرجل العربي الذي أدرك خطايا المسيحية واليهودية ، وقام بمهمة لا تخلو من الخطر بين أقوام مشركين ، يعبدون الأصنام ، يدعوهم إلى التوحيد ، ويزرع فيهم أبدية الروح ، ليس من حقه أن يُعد بين صفوف رجال التاريخ العظام فقط ، بل جدير بنا أن نعترف بنبوته ، وأنه رسول السماء إلى الأرض ". [24]
- راما كريشنا راو في كتابه ( محمد النبي ) : " لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً ". [25]
- لامارتان : " هذا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الفيلسوف ، الخطيب ، النبي ، المشرع ، المحارب ، قاهر الأهواء .. هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض ، وإمبراطورية روحانية واحدة. إذا التـفتـنا إلى كل المستويات التي يمكن أن تقاس بها العظمة الإنسانية فإننا نتساءل بحق هل يوجد من هو أعظم منه ؟ [26]
- مايكل هارت : " إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي ... إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخوّله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية ". [27]
- فيليب حتى : " إذا نحن نظرنا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - من خلال الأعمال التي حققها ، فإن محمداً الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد ، يبدو لنا بكل وضوح واحداً من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ ، لقد نشر ديناً هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة ، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية ، وأقام أمه هي الأمة العربية، وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر ". [28]
أخي القارىء :
قلي بربك .... أيمكن لرجل أن يغامر و يزعم أنه نبي و يؤمن بجميع الأنبياء من قبله من أول آدم مرورا بموسى و عيسى عليهما السلام و يجعل الكفر بواحد منهم كالكفر بالجميع ثم يتحدى أهل الكتاب من اليهود و النصارى الموجودين في عهده – بل إلى قيام الساعة – و يناقشهم في أخص أمور دينهم بل و يفضحهم و يواجههم بتحريفهم لكتب أنبيائهم حتى أنه لما هاجر توجه إلى أحد معاقل اليهود في الجزيرة العربية و هي يثرب -و كان يمكنه أن يهاجر إلى أرض ليس بها أهل كتاب؟ ما الذي دعاه إلى ذلك لو كان من الكاذبين؟
قل لي بربك .... لو كان هذا الدين من عند نفسه و ليس من عند الله فما حاجته للإيمان بالأنبياء السابقين و يدخل في هذه المواجهات مع اليهود و النصارى بل و يعلن أن إلـهه و إلـههم واحد و لكنهم هم الذين غيروا شريعته و بدلوا و حرفوا. [29].
الرابع عشر : علامات الساعة :
وإخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - بغيب علامات الساعة قبل 1400 عام ، التي لم تظهر أماراتها إلا في زماننا ، يشهد له بصدق الرسالة ، كما يشهد بأن الساعة حق. وستلاحظ - أخي القارىء - كيف ان الحديث عن هذه العلامات قد ورد على سبيل الجزم والقطع ، لا الظن والحدس .
ومن العلامات التي ظهرت ما يلي :
1 - كثرة الكتابة :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إن بين يدي الساعة ـ وذكر منها ـ ظهور القلم } [ رواه أحمد ح (3860) ، والبخاري في الأدب المفرد ح (1049)، وصححه الحاكم (4/110)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (647). ]
وعن عمرو بن تغلب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن من أشراط الساعة : أن يكثر التجار ، ويظهر القلم } [ رواه ابو داود الطيالسي في مسنده ]
2 - تطاول الحفاة العراة رعاء الشاء في البنيان :
ومن هذه الأخبار العجيبة الباهرة إخباره صلى الله عليه وسلم بتطاول هذا الصنف من الناس في البنيان ، ففي صحيح مسلم بعد أن سُأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة، قال صلى الله عليه وسلم : { .. أن ترى الحفاة العراة العالةَ رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان } أي أنهم سيتركون هذا الذي هو لهم، ويتجهون للتطاول في البنيان .
3 – زخرفة البيوت :
روى البخاري في الادب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : { لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشُّونها وشي المراحيل.} ومعنى « يوشونها » ينقشونها ويصبغونها بأنواع الالوان المختلفة كما تنقش الثياب والفرش ومعنى: « المراحيل » الثياب المنقوشة بنقوش تشبه رحال الابل.
4 – تقارب الزمان و الاسواق :
قال رسول صلى الله عليه وسلم : { لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة } [ رواه أحمد واسناده صحيح على شرط مسلم ]
وقال صلى الله عليه وسلم : { لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الكذب وتتقارب الأسواق ويتقارب الزمان ويكثر الهرج، قيل وما الهرج، قال : القتل. } [ رواه الإمام أحمد ، ورواته ثقات ].
ان تقارب الزمان المذكور في الحديث يفسر بما وقع في هذا العصر من تقارب ما بين المدن والأقاليم وقصر المسافة بينها بسبب اختراع الطائرات والسيارة والإذاعة وما إلى ذلك والله أعلم .
وأما تقارب الأسواق ، فقد جاء تفسيره في حديث ضعيف بأنه كسادها وقلة أرباحها ، والظاهر – والله أعلم – أن تقارب الأسواق إشارة إلى ما وقع في زماننا من تقارب أهل الأرض بسبب وسائل النقل والكتابة السريعة التي صارت أسواق الأرض متقاربة بسببها ، فلا يكون تغيير في الأسعار في قطر من الأقطار إلا ويعلم به التجار في جميع أرجاء الأرض ، ويذهب التاجر في السيارات إلى أسواق المدائن التي تبعد عنه مسيرة أيام ، فيقضي حاجته منها ، ثم يرجع في يوم أو بعض يوم ، ويذهب في الطائرات إلى أسواق المدائن التي تبعد عنه مسيرة شهر فأكثر ، فيقضي حاجته منها ، ويرجع في يوم أو بعض يوم . [ أشراط الساعة - يوسف الوابل - بتصرف ]
ولو طبقت – أخي القارىء - ما في هذا الحديث من تقارب الزمان وتقارب الأسواق لوجدته مطابقاً لما في الإنترنت خصوصاً إذا علمنا أن بعض المواقع تحوي (300 ألف) سلعة تستطيع أن تطلع عليها جميعاً بمجرد كتابة عنوان ذلك الموقع والاتصال عليه .
5 – فشو التجارة :
روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تشارك المرأة زوجها في التجارة }.
6 - تسمية الخمور بغير اسمها :
قال صلى الله عليه وسلم : { ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها } [ رواه أحمد والنسائي وابن ماجة ] وقد صدق الصادق المصدوق فقد أطلق على الخمر أسماء كثيرة كالعرق ونحوه ، و تسمى في زماننا بالمشروبات الروحية !!
وقد سمعنا عن من يشرب الخمر ويقول هذه بيرة ليست خمراً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
7 – المرأة تنكح وسط الطريق :
قال عليه الصلاة والسلام : { لا تقوم الساعة حتى توجد المرأة نهاراً تنكح وسط الطريق، لا ينكر ذلك أحدٌ، فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول لو نحيتها عن الطريق قليلاً } [ رواه الحاكم عن ابي هريرة ].
وهذا الأمر مشاهد في أمريكا وأوروبا أعاذنا الله من ذلك . وقال عليه الصلاة والسلام : { لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس تسافد البهائم في الطرق } . [ رواه الطبراني عن ابن عمر ]
8 - ظهور أمراء يقولون ولا ينكر عليهم أحد :
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { تكون أمراء يقولون ولا يرد عليهم يتهافتون في النار يتبع بعضهم بعضاً } [ رواه أبو يعلى والطبراني عن معاوية : وهو في صحيح الجامع رقم (2990) ، والصحيحة (1790) ]
9 - ظهور الكاسيات العاريات المائلات المميلات :
<sp