تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سنة من الإسلام ومن العثمنة وما بعدها عند الألبان


علوم النشاما
15-Oct-2007, 11:34 AM
سنة من الإسلام ومن العثمنة وما بعدها عند الألبان ...في أسرة واحدة
محمد م. الارناؤوط



الجامع الازرق في اسطنبول: من آثار المعمار محمد آغا الصداف
في ايلول (سبتمبر) الماضي عقدت في برشتينا عاصمة كوسوفو ندوة دولية بمناسبة مرور 600 سنة على اعتناق الألبان الإسلام، وما يعنيه ذلك بالنسبة الى السياق السياسي والثقافي في المنطقة على اعتبار ان الألبان هم من الشعوب الأوروبية العريقة في المنطقة، ويعدون الآن أكبر تجمع مسلم في أوروبا (5.5 مليون من أصل 7.5 مليون ينتشرون في البانيا وكوسوفو ومكدونيا وصربيا والجبل الأسود واليونان).

ومع ما أثارته هذه الندوة من اهتمام بالحالة الألبانية، التي يختلط فيها الاسلام مع العثمنة والقومية، لدينا هنا صورة مصغرة عن ذلك تتمثل في تاريخ ومصير أسرة بيتشاكو Bicaku التي تعتبر من أعرق الأسر الألبانية والتي قدمت شخصيات بارزة على مدى الـ600 سنة الاخيرة في مختلف المجالات : منذ اعتناق الاسلام بعد 1385م والى نهاية الحكم الشيوعي في 1990.

من المعروف ان الجيش العثماني وصل ألبانيا في الربع الأخير للقرن الرابع عشر، وتمكن بسهولة من إخضاع الإمارات الألبانية المتنافسة في ما بينها بعد معركة سافرا Savra في 1385م. وقد حرصت الإدارة العثمانية الجديدة على اجتذاب أبناء الأسر الألبانية البارزة الى الاسلام، الذي كان يعني آنذاك فتح الطريق أمامهم للوصول الى أعلى المناصب في الدولة العثمانية.

ومن هذه الأسر لدينا أسرة بيتشاكو المعروفة في ألبانيا الوسطى والتي تعود في أصولها الموثقة الى أكثر من 600 سنة، الى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي وبداية الفتح العثماني لألبانيا. وبهذا يمكن القول ان آل بيتشاكو كانوا من الجيل الألباني الأول الذي اعتنق الاسلام وساهموا بشخصيات معروفة في الدولة العثمانية.

ومن أبرز هذه الشخصيات كان سنان باشا الاول (1400-1470م)، الذي ارتقى بسرعة في الهرم العثماني حتى أصبح من قواد السلطان مراد الثاني (1421-1451م) والسلطان محمد الثاني (1451-1481م). ويمثل سنان باشا الجيل الأول من أسلمة الألبان، حيث انه بعد صعوده السريع في الهرم العثماني عاد الى مسقط رأسه ليشيد في مدينة البسان Elbasan (كما اشتهرت بعدما بنى فيها السلطان محمد الفاتح قلعة ضخمة في 1466م) جامعاً وتكية للطريقة الخلوتية.

ومن الجيل اللاحق لدينا سنان باشا الثاني (1453-؟) الذي كان معلماً للسلطان محمد الفاتح ثم وزيراً ومستشاراً له. وقد عمل فترة في القضاء في «سفري حصار» الى أن استدعاه السلطان الجديد بيازيد الثاني(1481-1512م) الى العاصمة أدرنة.

الى جانب ذلك قدمت أسرة بيتشاكو بعد ان انخرطت في الأسلمة والعثمنة شخصيات معروفة على صعيد الدولة العثمانية في مجالات أخرى كالأدب والعمارة. ومن أهم هذه الشخصيات المعمار محمد آغا الصداف (1570-1629) الذي أصبح يعتبر من أشهر المعماريين في الدولة العثمانية. ويكفي هنا ان يقال عنه انه هو الذي بنى الجامع الأزرق في استنبول. وكغيره من الشخصيات كان محمد أغا لا ينسى مسقط رأسه بطبيعة الحال. وإذا ما أخذنا في الاعتبار مبالغات الرحالة العثماني المعروف أوليا جلبي نجده يقول ان محمد آغا بنى في مسقط رأسه (الباسان) أربعين سبيلاً للماء.

ومن قرن الى آخر كان إسهام هذه الآسرة لا يقتصر في المجالات السياسة والإدارية والعسكرية والفنية العثمانية، بل أخذت تساهم أيضاً في الحركة القومية الألبانية الجديدة الطامحة الى الاستقلال عن الدولة العثمانية. وفي هذا السياق نجد ان النخبة الألبانية المسلمة (ومنهم آل بيتشاكو) التي انخرطت في العثمنة أخذت تصحو على مستجدات العصر وتتفاهم مع النخبة الألبانية المسيحية على برنامج قومي يطالب في حده الأدنى بالحقوق القومية للألبان ضمن الدولة العثمانية (ولاية واحدة للالبان ذات حكم ذاتي) ثم خارج الدولة العثمانية (دولة قومية ألبانية).

ومن أبرز الشخصيات المخضرمة التي جمعت بين العثمنة والقومية الألبانية لدينا عاكف باشا بيتشاكو (1860–1926). وكان عاكف درس الحقوق في جامعة استنبول وانضم الى النخبة الألبانية الموجودة في عاصمة الدولة (حسن تحسين وشمس الدين سامي فراشري وغيرهما) التي كان لها دور كبير في الحركة القومية الالبانية الجديدة. وفي هذا السياق كان لعاكف باشا دوره في اعلان الاستقلال الألباني عن الدولة العثمانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1912، وكان من الشخصيات القريبة الى اسماعيل كمال رئيس أول حكومة ألبانية بعد الاستقلال. ولكن ألبانيا الوليدة سرعان ما انفرطت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وما صاحبها من معاهدات سرية قسمت ألبانيا بين الدول الطامعة بها (صربيا و اليونان وايطاليا).

لكن الألبان هبوا مطلع 1920 وعقدوا مؤتمراً قومياً في مدينة لوشنيا خلال كانون الثاني (يناير) 1920، الذي ترأسه عاكف باشا وتمخض عن بعث دولة الاستقلال من جديد. وتقديراً للدور الذي قام به عاكف باشا فقد انتخب عضواً في المجلس الأعلى للدولة، الذي أصبح يقوم بمهام رئاسة الدولة، ثم رئيساً له. وانتخب عاكف باشا في نهاية 1923 عضواً في المجلي التأسيسي لوضع دستور جديد للبلاد يحدد نظام الحكم، لكن مرضه أرغمه على الانسحاب من الحياة السياسية حتى وفاته في 1926.

وفي غضون ذلك (1925) انتخب أحمد زوغو أول رئيس لجمهورية ألبانيا، كان على قرابة وصلة وثيقة بآل بتشاكو. فقد كانت أخت أحمد زوغو (هديه Hedije) والدة درويش بيتشاكو (1874–1952) أحد أبرز الشخصيات الألبانية في عهد الاستقلال، وبالتحديد في عهد أحمد زوغو الذي أصبح ملكاً على ألبانيا خلال 1928–1939. وكان درويش بيتشاكو من الشخصيات المخضرمة التي ساهمت في الحركة القومية الألبانية في السنوات الاخيرة للدولة العثمانية وفي تجربة التحديث على النمط الغربي خلال عهد زوغو، حيث انتخب عضواً في البرلمان الألباني لدورات عدة. ولكن حياة هذا السياسي المثقف انتهت في بيروت، حيث انه لم يسلم بوصول الحزب الشيوعي الى السلطة في خريف 1944 وفضل كغيره مغادرة ألبانيا الى المنفى، حيث اختار بيروت وبقى فيها حتى وفاته في 1952.

لكن هذه الوفاة في المنفى ليست بشيء اذا ما قورنت مع مصير آخر رمز من هذه الأسرة العريقة الا وهو إبراهيم بيتشاكو (1905-1977) ابن عاكف باشا رأس الدولة الألبانية بعد الاستقلال. وقد تخرج إبراهيم بيتشاكو من «الأكاديمية التجارية» في فيينا واشتغل فترة في إدارة أملاك الأسرة الكبيرة، وأسس شركة الدخان «فلورا» التي عمل في أحد أكشاكها أنور خوجا قبل أن يصبح سكرتيراً للحزب الشيوعي في 1941. لكن إبراهيم انخرط في الحياة السياسية بعد انتخابه عضواً في البرلمان الألباني في 1937، وبرز اسمه في شكل خاص بعد استسلام إيطاليا في ايلول 1943( التي كانت قد ضمت البانيا اليها بعد احتلالها في نيسان 1939) وسيطرة القوات الألمانية على ألبانيا، حين بادر مع مجموعة من الشخصيات القومية الألبانية (بدري بياني وابراهيم بيتشاكو وجعفر ديفا وجلال متروفيتسا ووهبي فراشري وغيرهم) الى توقيع إعلان استقلال ألبانيا في 14 ايلول 1943و تشكيل «اللجنة التنفيذية الموقتة» التي عدت بمثابة حكومة موقتة الى حين إجراء انتخابات برلمانية وتشكيل حكومة أصيلة. وقد انتخب إبراهيم عضواً في البرلمان الألباني الجديد، وقبل في ظروف صعبة ان يتولى رئاسة الحكومة في 6 ايلول 1944. ونظراً لاقتراب قوات الحزب الشيوعي من العاصمة تيرانا اضطر الى تقديم استقالته في 25 تشرين الأول 1944.

وعلى حين فضل الكثير من السياسيين ترك البلاد الى المنفى (إيطاليا والشرق الأوسط) لمتابعة الكفاح من هناك ضد الحكم الشيوعي، أصر البعض على البقاء لمواجهة مصيرهم بشجاعة. ومن هؤلاء إبراهيم بيتشاكو، الذي اعتقل فوراً وحكم عليه بالإعدام باعتباره من «الخونة». ولكن تدخل عمة إبراهيم، التي كان أنور خوجا صديقاً لابنها أيام الدراسة الثانوية، أدى الى تخفيض الحكم الى السجن المؤبد في نيسان 1945. وعندما أطلق سراح إبراهيم 1962 حكم عليه بما هو أقسى: العمل كمنظف مراحيض في مدينة الباسان التي شهدت مجد هذه الأسرة منذ تأسيسها الى ان توفي في عام 1970.

من هذه الأسرة بقي البيت الكبير الذي يمثل العمارة الألبانية خلال الحكم العثماني، والذي صادرته سلطات الحزب الشيوعي في عام 1945 وحولته الى متحف للتاريخ، والذي تمت استعادته بعد نهاية الحكم الشيوعي في 1990 ليتحول الى استراحة لطيفة تسمح باسترجاع الذاكرة التاريخية لـ600 سنة من تاريخ الألبان منذ اعتناقهم الإسلام والى قيامهم على الحكم الشيوعي.


أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة آل البيت/ الأردن

فهد النفيعي
19-Oct-2007, 12:44 AM
طرح راقي

لاحرمنا منك يالغالي

دام العطاء