المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تغريبة بني هلال ..كاملة


شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:06 PM
http://www.bni-3amer.com/up/bni-3amer/wh_35323805.jpg

’’تغريبة بني هلال’’,تغريبة شهيرة لقبيلة شهيرة ,, أحدا قبائل هوازن ,التي نالت مكان كبيرة في الأدب و الشعر العربي ,, ونالت احدا القصص الشعبية ,, وظهر في تغريبة بني هلال,كثير من الفرسان و السادة ,,والكلام يطول في قبيلة بني هلال الصيت و الفخر ,,

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:07 PM
مفلرج على ذلك الاهتمام وجلس معهم يباسطهم بالكلام ثم تركهم ورجع الى فراشه ونام، وهم ناموا الى طلوع النهار فركبوا مطايهم وقصدوا جوانب الفقار.

ولما اقتربوا من وادي سلامة سمعوا صياحا وضجيجا مثل يوم القيامة فتقدموا على الاثر ليكشفوا حقيقة الخبر ولما ساروا في ذلك المكان وجدوا جمهورا من الرجال والشبان والنساء والصبيان يصيحون من قلب وجوع من شدة الجوع فتقدم الامير حسن اليهم وقد اشفق عليهم فطيب خاطرهم بالكلام وفرق عليهم جوائز الانعام ثم سارو الى المضاب والخيام واستدعي اليه سادات القبيلة و اكابر الجماعة وجعلوا يتفاوضون في امر المجاعة، فاتفق رايهم بوجه الاجمال على ان يرحلوا من تلك الاطلال بالاهل و العيال،وان يذهب ابو زيد الى بلاد الغرب وتلك الديار فيجس الاحوال، ويأتيهم بحقيقة الاخبار، ثم يرحلون بأولادهم واثقالهم الى تلك الاقطارفقال ابو زيد للأمير حسن، لا يخفاك أطال الله عمرك وأبقاك، أن المسافة، بعيدة طويلة فيلزم أاان يكون معي جماعة من ساادات القبيلة، فقال دياب هذا الامر من اسهل الامور فخذ معك من تريد من الجمهور فقال ابو زيد متى طلع النهار يوفق الله من يشاء ويختار ثم عاد الى الخيام في قلق و اهتمام فقامت له زوجته على الاقدام وقالت له بكلام الدلال مالي اراك منقبض الوجه يا ابا الابطال،فاعلمها بوافعة الحال وكيف اتفق رايهم على ارساله لتونس ولا يوجد من يعتمد عليه لياخذه على سبيل المعاونة و المؤانسة، واني قد رهنت لساني مع القوم على ان اذهب ثاني يوم فقالت له ارشدك على حيلة تتخلص بها من هذه السفرة الطويلة، وهو انك عند الصباح تدخل على الامير حسن وسادات القبيلة وتقول بانك مستعد ان تذهب الى تونس بشرط ان يرسلوا معك مرعي ويحيي ويونس، فأنهم من ابناء الاعيان ولا تسمح بهم اهلهم ان يتغربوا عن الاوطان، وبهذه الوسيلة يكون عذرك واضحا عند سادات القبيلة، فاستصوب منها هذا الكلام وفي ثاني الايام ذهب الى عند الامير حسن فالتقاه بالاكرام وقال، هل استعديت على الرحيل فقال انني في غاية الاستعداد للذهاب الى تلك البلاد ن غير اني اريد ان يكون معي رفقاء و اصحاب من سادات الاعراب لان المسافة بعيدة ومشقات الطريق شديدة، فقال الامير حسن خذ معك من تريد من الفرسان الصناديد فقال، اريد ان اخذ معي يونس و يحيي و مرعي لانهم يعاونونني في الطريق عند كل شدة وضيق، وبهم يحصل النجاح و التوفيق واعود اليكم سريعا بلا تعويق ن فاستعضم الامير حسن هذا الطلب خوفا عليهم من العطب، وكان يظن بان ابا زيد يطلب غيرهم من فرسان العرب، و لكنه سمح له اخيرا بعد ان حدثهم بذلك الخبر، و في اليوم الثالث تجهزوا للسفر و ركب الامير حسن بن سرحان في سادات القبيلة و اكابر الاعيان وساروا لوداعهم مدة ثلاثة ايام على التمام، ولما عزموا على الرجوع الى الاطلال و الربوع بكوا من فؤاد متبول و اشار ابو زيد يقول:

يقول ابو زيد الهلالي سلامة
ونيران قلبي زايدت اللهايب
وعيني من كثر البكا قل شوفها
جري دمعها فوق خدي سكايب
اسمع كلامي يا امير ابو على
وكن لقولي فاهما ثم حاسب
غدونا بعون الله جل جلاله
نرود دروب الغرب يم المغارب
وفي صحبيتي مرعي ويحيي ويونس
من اجلهم ذا النجع باكي وناحيب
وعليا عيوني يا عرب في حيكم
و صبرا وريا طويلات الذوايب
يا ابو على بالك عليهم من العدا
اذا هاجت الفرسان بين المضارب
اودعتكم لله ربي وخالقي
ومن يلتجي لله ما راح خايب


فلما فرغ ابو زيد من شعره ونظامه، وفهم الامير حسن وباقي الامراء معاني كلامه، تقدم حسن امام قواده وجعل يوصي ابو زيد بالاولاد ثم بكي وقال:

يقول الفتي حسن الهلالي ابو على
دمعي جري فقوق خدي سكايب
ونيران قلبي كلما اقول تنطفي
يزبد لها بين الضلوع لهايب
لفرقة مرعي صار قلبي ذائبا
اصبحت كالسكران للخمر شارب
ويحيي ويونس نور عيني وضوها
على بعدهم دمعات عيني سكايب
فارقتهم ما كان قصدي فراقهم
ولكن احوجتني لذاك مطالب
ايا هل تري مرعي اراه بناظري
وتزول ايام العنا والمتاعب
ايا دهر يا غدار ما لك غدرتني
ففارقت خلاني وكل الحبايب
اودعتكم لله ربي وخالقي
ومن اودع الرحمن ما راح خايب
اوصيكم المزح لا تمزحونه
فانه باكثر الاوقات غير صائب
واذا اردتم تدخلون مدينه
فيونس تراه يشتري ويحاسب
واذا جادلتم عالما بطريقكم
فمرعي على ذاك الجدال يجاوب
وابقوا ليحيي حارسا لجمالكم
فانه سيحميها من الاغارب
ومن يم عليا منور عيني ومهجتي
وصبرا وريا اعز كل الحبايب
هذي وصايا احفظوها جميعا
فان كلامي كله قول صائب
وهذه مقالات الامير ابو على
فقلبي ذاب من هول المصائب



فلما فرغ الامير حسن من هذا الشعر و النظام، بكى كل من كان حاضر ثم تقدمت امراته الست نافلة، اخت الامير دياب وهي في بكاء و انتحاب وجعلت توصي الامير ابو زيد بولدها مرعي وتقول:

تقول فتاة الحي نافلة النسا
بكيت على الفرقا وما قد جرا لها
ابوزيد لا تترك لمرعي وحده
فان غاب مرعي غاب عقلي وزالها
وحافظ عليه في الصباح وفي المسا
وداريه من الاخطار وامنع وبالها
فكم يوما من نجد لبلاد تونس
فاعلمني حتي اعد ليالها
فيا ليت نجد ارضها ما امحلت
و لا راح مرعي للمغارب جالها



فلما فرغت الاميرة نفالة من كلامها، تقدم الامراء فودعوهم ثم رجعوا الى بلادهم وسار الامير ابو زيد يقطع البراري و الفقار و يوصل سير الليل بسير النهار، قاصدا ولتك الديار، واما الامير حسن فانه قال مرادي اكتب تاريخ هذه الزيارة حتي تبقي ذكررا للجميع، فاستدعي الامير زيد بن مانع وكان كاتم اسراره وكاتب الوقائع فلما حضر امره بتسجيل بعض الابيات.

فلم انتهي الامير حسن من هذه الابيلت و سمعها السادات الكرام استحسنوها غاية الاستحسان، وسجلها زيد بن مانع في الديوان لتبقى لهم ذكري في طول الزمان، وكانت جميع النساء والبنات و الامراء و السادات تدعة لرب السماوات في اكثر الاوقات وتطلب منه نجاح ابة زيد في تونس ورجوعه سالما مع مرعي ويخيي ويونس، هذا ما كان من امر القبيلة و الامير حسن. واما ما كان من ابو زيد فانه بعد رحيله من الوطن مازال مجا في المسير حتي اشرف على بلاد حزوة و النير، وهي بلاد كثيرة الخيرات واسعة الاراضى والجهات وكان الحاكم عليها في ذلك الزمان ملك عظيم الشان صاحب ابطال وفرسان اسمه الدبيسي بن مزيد، فقصده ابو زيد وسلم عليه وتمثل بين يديه ووقف مرعي ويحيي ويونس حوليه، فقال ابو زيد اطال الله عمرك و رفع مقامك فانك وحيد العصر و اولى بالمديح والشكر، فلما سمع منه هذا الكلام قال له من أي بلاد انت. قال نحن شعراء حجازية نقصد الامراء الاجاويد ونمدح الملوك الاماجيد فناخذ عطاهم وننقل ثناهم، فقصدناك الان لنمدحك دون غيركم ونشكر فضلك وجزيل خيرك، لاننا سمنعا بجودك وكرمك ومن التفاق الغريب و الامر العجيب اننا مررنا على نجد وتلك الاوطان، مدحنا اميرها حسن بن سرحان فاجازنا بالجوائز السنية وخلع علينا الخلع الملوكية، وتلك البلاد الان في غلية الضيق من شدة المحن وعدم وجود القوت و الدقيق، ثم ان ابو زيد بعد هذا الخطاب عدل الرباب واشار يمدح الدبيسي ويعلمه عن احوال نجد بانشاد الوان القصيد.

قال الراوي فلما سمع الدبسيي منهم الشعر و النضام اكرمهم غاية الاكرام، وقال لهم مرحبا يا وجوه العرب ثم انزلهم في احسن الخيام و اقاموا عنده عشرة ايام، وكان ابو زيد في هذه المدة قد عرف احوال البلاد و وما فيها من عساكر واجناد، وميز مراكزها وجميع ضواحيها وبعد ذلك ودع الدبيسي ورحل من ذلك البلد وهو قاصد بلاد المغارب، وقد جدوا بالمسير و سابقوا بجنودهم الطير وما زالوا يقطعون البراري و الاجام مدة تسعة ايام، وكانوا يستريحون بالنهار ويقطعون الفلاو تحت ظلام الاعتكار، حتى وصلوا الى بلاد العمق وهي بلاد الامير مغامس، وكان دخولهم في الليل الدامس، ولما اقتربوا من الابيات سمعوا اصوات المولدات ودق طبول وزمور تدل على فرح وسرور، فقال ابو زيد لاصحابه ابشروا بالخير فان اهل الخير مشغولون بعرس لهم ومن الصواب ان نقصدهم ونصرف هذا اليوم عندهم( قال الراوي وكان السبب في ذلك انه كان اخاني اميران من اكابر الاعيان اسم الواحد عامر و الثاني ابو الجود و كان للامير عامر ولد اسمه مغامس جميل المنظر وكان لابي الجود بنت اسمها شاة الريم وكانت في الحسن على جانب عظيم، فأتفق ابو الجود على اب يجوزها لمغامس ابن اخيه لانه يحبه وهكذا تم الاتفاق و صار تقديم المهر و الصداق، وكان لهاذين الاميريين عدو من ملوك العربان يقال له نبهان، فغار بجنوده ذات يوم على هولاء، فالتقاه ابو الجود و الامير عامر بالابطال و العساكر وجرت بينهم حروب تشيب رؤوس الاطفال، انجرح فيها الامير عامر وقتل ابو الجود وكان للامير عامر عبد من الشجعان الصناديد يقال له سعيد كان يرعى الجمال بين الروابى و التلال، فلما راي تلك الخال وما خصل بمولاه من الوبال، ركب ظهر الحصان وهجم على نبهان وتبعته الابطال و الفرسان، بقلوب اقوي من الصوان ولم يكن غير ساعة من الزمان حتي طعنه بالمح بين بزيه، فالقاه على الارض يتخبط بعضه ببعض ثم انصب على جيش الاعداء فهزمه في تلك البيداء و بعد ذلك رجع الى القبيله بغائم جزيله فالتقته النساء بالنشائد و المدح الرائد وشكرته الرجال على تلك القتال و اكرموه غاية الاكرام، وفي اليوم الثالث اشتد على الامير عامر الالم حتى صار في حال العدم، فاستقر رايه على ان يقيم عبد سعيدا مكانه لبينما يكبر ابنه مغامس ويرتفع بين الناس قدره وشانه، فجمع اكابر الديوان وقواد الفرسان واعلمهم بذلك الشان ثم احضر سعيدا وقال له بحضور السادات الاماجيد، اعلم ايها الفارس الصنديد، اني قد اقمتك مكاني كلكا على هذه الاقليم بينما يكبر ابني مغامس فتزوجه بابنته عمه شاه الريم ويصير هو الامير وتكون انت له من جمله الوزراء و الاعيان.( قال الراوي) فلما انتهى عامر من كلامه بكى كل من كان حضرا من السادات الكرام وقال سعيد لمولاه سافعل ما امرت به اني عبدك وفي نعمتك قد انتشيت وكبرت ثم تفرقت العرب الى المضارب و الخيام وبعد ثلاثة ايام شرب كاس الحمام فغسلوه ودفنوه بالوقار و الاحترام، وبكي عليه الخاص و العام. وفي اليوم الثاني جلس سعبد على الكرسي مكان مولاه الامير عامر واطاعته الاكابر والاصاغر، فمان يحكم في القبيلة ويفعل ما يريد ولا يعترضه احد حتى تمكن غاية التمكين وصار من جملة الملوك المعظمين، فلما اشتهر امره وانتشر بين الناس ذكره داحله الطمع على اختلاس المملكة والقاء ابن مولاه مغامس في مهاوي التهلكة، فجمع الاعيان والابطال وقال لهم على رؤوس الاشهاد اعلموا ايها السادة الامجاد اني صممت الان على طرد مغامس من الاوطان وارساله الى ابعد مكان، فلا عدتم من الان تساعدوه وتعاملوه بشيء مهما كان، وكل من خالف ولم يمتثل لاحكامي قطعت راسه وخمدت انفاسه، فماذا تقولون: فقالوا سمعا والف طاعة فما عدنا نعامله ولا نتكلم معه من هذه الساعة، لانك انت ملكنا وميرنا وحامي بلادنا واوطاننا فبينما هم في الحديث والكلام واذا بالامير مغامس قد دخل عليهم فحياهم فلم يجسر احد ان يرد الجواب خوفا من القصاص والعقاب، فتاثر من ذلك الامر واحترق قلبه بلهيب الجمر، وعلم ان العبد مراده يمتلك على القبيلة بالقوة الجبرية فارتد رالجعا على الاثر واعلم امه بذلك الخبر ثم بكى وتنهد وانشد شعرا.

(فقال الراوي) فلما انتهى مغامس من شعره ومقاله ورثت امه لحاله وقالت اني خائفة من غدر هذا العبد فانه نكر الجميل والمعروف، وبادانا بالشر بعدما كان راعي جمالنا وعبدنا وخادمنا، فلما انتهت من هذا الكلام حتى اقبل عليها بعض الخدام يخبرها ان تذهب بابنها من تلك الديار، وقد ارسل اليك هذه الناقة الجربانة وهذه الشاة في سبيل الاحسان والصدقة فاذهبي في الحال قبل حلول الوبال فبكت ام مغامس من هذا الكلام، وتذكرت ايام زوجها وما اكنت فيه من العز والانعام وعلو الجاه ورفعة المقام، ولكنها اجابت بالسمع والطاعة ورحلت بابنها، وفي الطريق نصبا خيمة من القش واغصان الشجر لتقيهما من حرارة الشمس وضوء القمر، وجلسا في ذلك المكام تحت مشئية الرحمن(قال الراوي) هذا ما كان من امرهما واما سعيد العبد الخائن اللئيم فانه قد ارسل يطلب شاة الريم واامر امها ان تجهزها تلك الليلة وتصلح حالها حتى يدخل بها، فلما سمعت شاة الريم ذلك الكلام كان عليه اشد من ضرب الحسام، وجعلت تبكي مع امها على مغامس ابن عمها، لانها كانت تحبه ولما زاد عليها الحال انشدت تقولمن فؤاد متبول:

تقول شاة الريم من قلب حزين
ودمع عيني فوق وجناتي غزير
من بعد ابي وعمي قبله
صار راعينا على راس السرير
يارب سعيد العبد اعدمه الحياه
و اكتب نصيبي في مغامس يانصير



فلما انتهت من كلامها وفهمت امها فحوي شعرها ونضامها قالت لها، اعلمي يا بنت ان الصب مفتاح الفرج ولا بد ان نجد لهذا الضيق من مجرج، فاصبري على حكم الله وعلى قدره وقضاه، بان هذا العبد سعيد جبار عنيد وشيطان مريد، و قد ذلت له الفرسان الصناديد وابن عمك مغامس فقير الحال ليس له مال و رجال، وان خالفنا له امر اخذك غصبيا و قهرا، فمن الواجب ان نسمع كلامه ونمتثل اوامره واحكامه، فلما سمعت شاة الريم من امها هذا الكلام صبرت على احكام رب الانام، وكان العبد سيعيد قد صنع في تلك الليله وليمه لها قدرا وقيمة، جمع فيها بعض الاعيان واكابر الديوان، فدقت الطبول ونفخت الزمور وقام في القبيلة الفرحة والسرور، ودقت المولدات بالدفوف ولعبت الفرسان بالرماح والسيوف، فلما سمع مغامس اصوات الطبول وصهيل الخيول قصد الحي تحت ظلام الليل، فعندما وقف على خقيقة الخبر، طار من عينيه الشررؤ من شدة الوجد و الغرام وزواج ابنه عمه بدر التمام بذلك العبد ابن اللئام، فرجع واعلم امه بذلك فبكت شفقة عليه وجعلت تتلطف بخاطره وتقول، الله كريم فلا بد ان تكون من نصيبك شاة الريم، وكان في هذه اللحظة مرور ابو زيد ومن معه فسمع قولهما وبكائهما فنزل اليهما يستفهم عن سبب بكائهما فاعلامه بما جرى من العبد سعيد، فقال في سره لابد ان انصرهما وجلس عندهما فقام مغامس وذبح ناقته التي ليس له غيرها وقدمها لهم فاكلوا وشربوا و اخذ ابو زيد يغني على الرباب وكان راع لسعيد العبد مارا من هناك، فسمع غناء ابو زيد عند مغامس وامه، فذهب واخبر العبد سعيد بما راه، وهذا ارسل في طلبهم فحظروا الى العبد سعيد، فوجدوا عنده جماعة من السادات والاماجيد، وهو متكيء على طهره كانه فحل جاموس ومنتظر قدوم العروس، فسلم ابو زيد عليه ولا اكترث بكلامه، ولكنه قال لهم كيف تكونون من شعراء العرب واصحاب الفضل والادب وتتركون زيارة الامير وتقصدون عجوزا لا قدر لها ولا شأن، فقال ابو زيد اطال الله عمرك وزاد في مقامك وقدرك اننا ما اتينا الى هذه القبيلة الا لنمدح جنابك ونتشرف بساحة اعتابك غير ان وصولنا كان في الظلام وكنا نريد ان نزور حضرتك في ثاني الايام، الى ان ارسلت في طلبنا مع الغلمان، فحضرنا حالا لامرك العالي فلا زالت ايامك في فرح وسرور وافراح مدى الايام والليالي، فلما انتهى ابو زيد من مقاله جلس على يمينه وجلس مرعي يحيى ويونس على شماله، وكان عند جلوسه القى ساعده على فخذ سعيد، بقوة وعزم شديد، فتالم سعيد من تلك الحركة وقال: لا مرحبا بك ولا حلت علينا البركة، قاتل الله اباك وامك فما اثقل دمك، فقال ابو زيد لا تؤاخذنا كثر الله خيرك ومعروفك ثم انشد هذه الابيات:

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:08 PM
يقول الحجازي والحجازي سلامة
ارى الدهر بندر بالملوك الفاضل
يا حيف اهل العز ول زمانهم
ومن بعدهم حكمت اولاد الرذال
يا لهف قلبي على ملوك قد مضوا
حكم بعدهم في الناس خدام عاطل
انا ناصر الايتام بالسيف والقنا
وطاعن الاعادي فوق ظهر الصايل
انا منصف المظلوم جابر خاطره
انا فارس الفرسان ارد الجحافل
انا زوج الزينات لابناء عمهم
وابعد عنهم كل خبيث مماطل
فلا خير في عبد علا فوق سيده
ولا خير في من يغدر اهل الفضائل
فلا تحسب ان الدهر يصفو لظالم
ولا بد ما اريك طعن الذوابل




( قال الراوي ):

فلما انتهى ابو زيد من هذه القصة اغتاظ منه سعيد وقال له: ما هذا الكلام الغليظ الشديد، يا اخس العبيد، فلولا سواد لونك كنت قطعت راسك، واخمدت انفاسك، فاجلس مكانك واكفنا شرك ولسانك، ودع غيرك يطربنا يا ابن اللئام، فعند ذلك التفت مرعي وقال له: لا تؤاخذه ولا تغضب عليه، فنه من جملة العبيد الذين لايعرفون مقام الملوك ولا لهم خبرة بحسن التصرف والسلوك، فان كنت تريد غنيتك الان بقصيد يستحق الانعام ومزيد الاكرام فتزيل اكدارك وتربح افكارك فقال سعيد هات ما عنك فانشد شعرا اسوا من شعر ابو زيد فلما فرغ من كلامه وشعره ونظامه اغتاظ سعيد الغيظ الشديد، وصاح على الجلاد ان يقطع راسه ويخمد انفاسه فمنذ ذلك اعتذر اليه يحى امام الحاضرين وكبار السادات المقدمين، وقال لا تؤاخذهما من هذا القبيل ايها الملك الجليل، فانهما من اناس بهاليل لا يعرفون مضمون الكلام ولا يميزون بين النور والظلام فانا امدحك بابيات حسان ما سمعها احد الا وزال عنه الهم والاحزان لانها تشرح الصدور وتجلب السرور، فقال هات ما عندك لعن الله اباك وجدك فاجاب يحيى بشعر اسوأ من شعر مرعي، فلما فرغ يحيى من شعره ونظامه وفهم سعيد فحوى كلامه، زاد عليه الحال واستعظم المقال وصاح على الجلاد ان يقطع رأس الثلاثة قصاصا لهم على ذلك الإفتراء، فنهض يونس على الأقدام واعتذر اليه بالكلام، وقال ان هؤلاء الشعراء من اوباش العربان لأنهم تكلموا بحضرتك بما لايليق من الكلام، فان اردت انشدك ابياتا ما سمعها قط انسان الا استحسنها، فقال بارك الله فيك انشد وخذ مني ما يرضيك، فان صدري ضاق وقلبي يحدثني بالفراق فاتشد يونس شعرا اسوا من شعر يحيى.

فلما فرغ يونس من شعره ونظامه وفهم سعيد فحوى كلامه، عظم عليه الامر وتوقد قلبه بلهيب الجمر وقال لهم لهم احضرناكم يا لئام. حتى تطربونا بالشعر والنظام وتاخذون الجوائز والانعام، ولكنكم اساتم الادب وخرجتم عن سنة العرب، وتكلمتم بما لا يليق امامس ولا اعتبرتم قدري ومقامي، فلا بد من قتلكم على كلام الزور والنفاق، فلما انتهى من هذا المقال التقاه ابو زيد مثل سبع الآجام وضربه على رأسه بالحسام فقتله في الحال وأورثه الخبال ثم هجم على باقي العبيد وتيعه مرعي ويحيى ويونس الفرسان الصناديد، ولم تكن إلاّ لحظة من الزمان حتى انزلوا بهم الهوان، ومسحوهم بالسيف الهندوان، وبعد ذلك جمع أبو زيد سادات القبيلة والوجوه الكبار، وقال لهم: ها قد قتلت هذا العبد الغدار وجماعته الأشرار، لأنهم قد طغوا وتجبروا فلا رحم الله العبد اللئيم والوغد الذميم، لأن مرادي استخلاص المملكة من مغامس اليتيم، وأخذ ابنه عمه شاة الريم، فمرادي الآن أن أقيمه أميرا مقام أبيه فما هو رأيكم وماذا تقولون فيه: قالوا هو ابن مولانا وقد رضيناه علينا أميرا ونح عبيده وطوع يديه ولا نبخل بأرواحنا عليه، فعند ذلك ركب أبو زيد الحصان وركبت معه الأبطال والفرسان والسادات والأعيان، وقصدوا الأمير مغامس ومعهم الطبول والزمور، حتى وصلوا اليه فسلموا عليه وتمثلوا بين يديه، وأعلمه أبو زيد بواقعة الحال وكيف أنه قتل ذلك العبد المحتال، ففرح مغامس بهذا الخبر وزال عنه القلق والضجر، ثم أحضره الى الحلة مع أمه بموكب عظيم وزفوا عليه ابنة عمه شاة الريم، واجلسه على الكرسي مكان أبيه وصارت العرب تمدحه وتهاديه، لأنه تخلص من أيدي اولئك العبيد الأوباش، فشكروا أبو زيد ومرعي ويونس على ذلك الصنيع واراد ان يمنعهم عن السفر الى تونس، وان يبقوا عنده فيزيد فرحه ويستانس بهم. فقال أبو زيد ثلاثة ايام في فرح وسرور وغبطة وحبور، وبعد ذلك ودع الأمير مغامس وسار مرعي ويحيى ويونس، قاصدين مدينة تونس وهم يجدون في قطع الروابي والتلال، فوصلوا الى مكة المشرفة وقلوبهم على زيارة المصطفى متلهفة، وبعد ان زاروا المقام وادوا واجبات الوقار والاحترام، اجتمعوا في بيت شكر الشريف بن هاشم وهو زوج الجازية اخت الأمير حسن، واعلموهم بخروجهم من الوطن فترحب بهم وأكرمهم بمشاهدة أبو زيد ومرعي ويحيى ويونس، ثم أنهم ركبوا وساروا يقطون البراري والآكام حتى اشرفوا الى بلاد العجم، فدخلوا عليها وداروا في اسواقها وبعد ذلك رحلوا من تلك الديار، وواصلوا سير الليل بسير النهار حتى وصلوا الى بلاد التركمان، فدخلوا على ملكها الغضبان ومدحوه بالقصائد الحسان، فاكرمهم غاية الاكرام واجازهم بنفائس الانعام، ثم ركبوا الخيول وجدوا في قطع البراري والسهول الى ان وصلوا الى عند السلام الخفاجي عامر حاكم بلاد العراق، فدخلوا وسلموا عليه فرد السلام عليهم واكرمهم غاية الاكرام ثم ان أبو زيد أخذ يمدح الخفاجي عامر، وطلب ان يمن عليه بانعامه.

فلما انتهى أبو زيد من شعره ونظامه وفهم الخفاجي عامر فحوى كلامه، اجازهم بالجوائز الحسان ثم قدم لهم الطعام، فشكروه على هذا الاهتمام واقاموا عنده ثلاثة ايام في عز واكرام ثم ودعوه وجدوا في قطع البراري والآكام الى ان وصلوا الى الشهباء، وكانوا قد تعبوا من السفر، فنزلوا عن خيولهم واستظلوا تحت اغصان الشجر، وكان أمير المدينة رجلا عالي المقام اسمه الأمير بدريس وله وزير عاقل خبير اسمع الخزاعي، وهو صاحب رأي وتدبير فاتفق انه خرج في جماعة من القوم قاصدا الصيد والقنص، فرأى أبو زيد ومن معه فسلم عليه وسالهم عن احوالهم فنهض أبو زيد وحياه، وانشده فاكرمه الأمير واعطاه.

فلما انتهى أبو زيد من هذا الشعر والنظام شكره الخزاعي وقال لهم اعلموا يا شعار العرب واصحاب الفضل والادب، اني الخزاعي وزير بدريس أمير حلب فاقصدوني الى المدينة وانا اخلع عليكم الخلع الثمينة، فيزول عنكم العنا وتنالوا القصد والمنى، ثم تركهم وسار فارسل أبو زيد الأمير يونس الى البلد لياتيهم بالماكل والمشرب لأنهم كانوا في غاية الجوع، فسار بالعجل وجعل يدور فيها ويتامل في اسواقها وحسن مبانيها ثم رجع واخذ يشرح لأبي زيد عن حسن المدينة وعما شاهد فيها من القلاع الحصينة، وبعد ذلك ركب مع جماعته مرعي ويحيى ويونس وجدوا في قطع البراري والآكام ومروا بحماة وحمص وطرابلس حتى اشرفوا على مدينة الشام، وكان الحاكم عليها في ذلك الزمان ملك عظيم الشأن إسمه شبيب التبعي ابن مالك حسان، وساروا ولو كان أجنحة لطاروا الى ان وصلوا الى القدس الشريف، فاقاموا بها يومين ومنها ساروا الى غزة ودخلوا على حاكمها الشركسي ابن نازب، فمدحوه بنفائس الأشعار واعتبرهم غاية الإعتبار، واقاموا عنده عشرة ايام، ثم جدوا في السير حتى وصلوا الى مصر العدية وتلك الأراضي البهية، فقصدوا الفرمند بن متوج ودخلوا عليه ومدحوه بنفائس الأشعار فالتقاهم بالترحيب والوقار، واقاموا عنده ثلاثة ايام وساروا قاصدين بلاد الصعيد وبلاد المغارب حتى وصلوا الى عند القاضي بن مقرب، ودخلوا عليه ومدحوه بالأشعار فاعتبرهم غاية الاعتبار وقاموا عنده في اعزاز واكرام، وكان هذا الرجل من اعلى الناس بكرم الضيوف ويجود بالالوف وهو الذي ذكره المؤرخ الشهير ابن خلدون في كتابه العبر، ثم تأهب أبو زيد للسفر فودع الماضي وسار مع جماعته.


( قال الراوي ):

واتفق ان جماعة من الشعراء العربان كانوا قصدوا بلاد نجد ومدحوا الأمير حسن بن سرحان بالأشعار الحسان كما جرت العادة في ذلك الزمان، فاجازهم بالعطايا الجميلة والمواهب الجزيلة، وكانت من جملتها جارية من بنات الحي تسمى مي، فشكروه على هذا الجميل والاحسان ثم ساروا قاصدين بلاد العرب وتلك الأوطان، حتى وصلوا الى تونس الخضراء ومدحوا الزناتي خليفة والوزراء، فاحسنوا اليهم وانعموا عليهم ثم باعوا تلك الجارية الظريفة الى سعدة بنت الزناتي خليفة، وكانت سعدة من اجمل البنات، لطيفة الذات، قد اتصفت بالأنس والمحاسن، وشاع ذكرها في جميع الأماكن، تجالس الأدباء وتنادم الملوك والأمراء ذات أدب وفضل لها معرفة بضرب الرمل، فاتفق انها سالت تلك الجارية ذات يوم عن سبب وقوعها في ايدي اولئك القوم، فاخبرتها بالقصة وكيف أن الأمير حسن اوهبها لهم على سبيل الهدية، فقالت وهل يوجد نظيري بين نساء العرب في الحسن والأدب؟ فقالت لها يا صاحبة الجود والكرم انه يوجد بين الأمم من يشبهك في الظرف والجمال ومكارم الشيم وحسن الخصال، وهو بطل الأبطال وزينة الرجال الأمير مرعي ابن مولاي حسن أمير بني هلال، فلما سمعت سعداء هذا الكلام تعلق قلبها بمرعي وهام، لأن الإنسان قد يعشق بسمع الآذان قبل المشاهدة والعيان، فقالت سعدة: اذا كان كلامك هو حقيق فاوصفيه لي على التحقيق فاشارت مي تقول:


لو تنظري يا ست مرعي بنظرة
فنظرة في مرعي تزيل المصايب
له وجه مثل البدر عند اكتماله
وخدود تشبه ساطعات الكواكب
له خد احمر والعيون نواعس
وكالسيف ماضي قفلة الحواجب
وطوله كعود الزان ان كان مايل
خلى نار قلبي تزيد اللهايب



فقالت لها سعداء قومي بنا الى البستان وانا اضرب هناك الرمل، وانظر احوال الذين ذكرتهم الآن، فان قلبي تعلق بهم غاية التعليق ومرادي ان اعرف اخبارهم على التحقيق، ثم اخذتها معها الى البستان وكان من احسن النزهات فضربت الرمل وولدت البنات من الأمهات، فتاكد لها ذلك الخبر وعرفت الأمورالتي سوف تجري، وبينما هما في الحديث اقبل عليهما العلام ابن الزناتي خليفة ونائبه في معاطاة الأحكام، صاحب معرفة وفضل وعقل من خبر الناس في ضرب الرمل، وكان يتردد على سعدة في اغلب الأيام لأنه من جملة الأهل و بني الأعمام،فسلم عليها فردت السلام واستقبلته بالترحاب والاكرام، فجلس بقربها وكان قد عرف ما في قلبها لأنه ضرب الرمل في ذلك النهار وظهرت له الأخبار، فاعلمها بافكاره وكشف لها اسراره فطلبت منه ان يكتم ذلك الخبر ولا يبيح به لأحد من البشر، خوفا عليها من الضرر وقالت له اريد منك يا ابن عمي ان تعلمني متى حضر هؤلاء القوم لأني بانتظارهم، فاجابها الى ذلك الطلب ووعدها بالمساعدة على بلوغ الأرب، ودعها وسار طالب الصيد والقنص.



( قال الراوي ):

هذا ما كان من سعدة وابن عمها العلام، واما ما كان من البطل الهمام والأسد الدرغام أبو زيد فارس الصدام ومن معه من السادات الكرام، فانهم كانوا قد جدوا في قطع الروابي والآكام، مدة عشرة أيام حتى وصلوا الى تونس وقت الظلام، فباتوا خارج المدينة وفي اليوم التالي صاروا يتأملون في مبانيها فوجدوها متينة وأبراجها حصينة كثيرة القلاع قوية الدفاع، وانهارها غزيرة وخيراتها كثيرة، فجعلوا يدورون حواليها يتبصرون كيف يكون الهجوم عليها، ثم دخلوا الى بستان واستمروا تحت أغصان الشجر وكانوا يقطفون ويأكلون الثمر، فبينما هم على تلك الحال إذا اقبل عليهم جماعة من الأبطال أرسلهم الزناتي ليقبضوا عليهم ويقيدوهم بالأغلال حيث بلغه خبرهم من بعض الفرسان بأنهم في ذلك البستان، فداروا بهم من اليمين والشمال فلما نظر أبو زيد تلك الفعال استعد للحرب والقتال، وهجم عليهم كالسبع وضرب بالسيف في ذلك الجمع فقتل منهم عدة رجال ومددهم على الرمال، ثم تكاثرت العساكر والجنود أحاطوا بهم، وقبضوا على مرعي ويحيى ويونس أوثقوهم بالقيود والأغلال ولم يقدروا على أبو زيد في الحرب والقتال، فعند ذلك تقدم إليه العلام على انفراد وقال له من تكون من العباد وما هو سبب مجيئكم الى هذه البلاد. فقال أبو زيد أننا شعراء من بلاد الشرق وعادتنا ان نمدح الأمراء وسمعنا بكرم الزناتي خليفة وما خصه الله من الشمائل اللطيفة، فقصدناه لأجل هذه الغاية الوحيدة، وكان وصولنا مساء فبتنا في هذا المكان حيث أننا غرباء لا نعرف احدا، الى ان أشرفتم بجمعكم علينا أوصلتم أذاكم إلينا. وأنا اسمي محمود واسم جماعتي شداد وحماد ومسعود، فقال العلام لقد كذبت في المقال وتكلمت بكلام المحال، ما أنت الا الأمير أبو زيد صاحب المكر والكيد، واما رفقاؤك فهم مرعي ويحيى ويونس، وقد أتيتم الى بلادنا لتعرفوا أحوالنا وقواتنا ثم تهجمون علينا وتحتلون بلادنا، ثم قال امسكوه ولا تؤذوه فانطبقت الفرسان على أبي زيد من اليمين والشمال، حتى قبضوا عليه أخذوه مع باقي أصحابه الى الزناتي، ولما دخلوا عليه تمثلوا بين يديه، وقالوا اعلم يا مولانا ان هذا العبد حاربنا ودهانا، وقتل منا أبطالا وفرسانا، فاغتاظ الزناتي وتكدر من هذا الخبر،وقال لأبي زيد من تكون من العربان يا أخس السودان، قال نحن شعراء نقصد الملوك والأمراء فنمدحهم ونأخذ الأنعام ونحصل على بلوغ المرام، فسمعنا بكرمك فقصدناك من بلاد العرب، طمعا بالفضة والذهب، وحيث أننا من الأعراب وليس لنا في هذه الناحية أصدقاء ولا أحباب، فدخلنا الى ذلك البستان لنأخذ لأنفسنا راحة يا ملك الزمان، ثم نقصد جناحك العالي وباقي السادات والموالي، فأحاطت بنا العساكر مع الأهالي وغاروا علينا قاصدين قتلنا واذانا، فاقتضى الحال أننا دافعنا عن أنفسنا بقدر الإمكان الى ان وقعنا في الأسر والهوان، فأمر بما تشاء وتريد أيها الملك السعيد، فلما سمع الزناتي هذا الكلام أبدى الضحك والابتسام، وقال لهم يا مناحيس ما أنت الا جواسيس، أتيتم لتردوا البلاد وتعرفوا أحوال العباد، ثم تذهبون وتأتون بالعساكر والجمع الوفير، فتملكون بلادنا واراضينا، وتتحكمون بجموعكم فينا، هذا هو السبب الذي قادكم إلينا وحملكم على القدوم والهجوم علينا، فلا بد من قتلكم يا أوغاد على روؤس الأشهاد.


( قال الراوي ):

وكان الزناتي قد وقف على الخبر اليقين من المنجمين، وبعد مفاوضات طويلة مع ارباب المجلس استقر الراي على شنق أبي زيد ومرعي ويحيى ويونس، فاخذهم العسكر ومروا بهم من تحت قصر الأميرة سعداء فلما سمعت ضجيج العسكر قامت جاريتها لتعلم ما الخبر فطلت راسها من الشباك وامعنت النظر فيهم فاعتراها الكدر، وقالت لمولاتها اعلمي يا زينة الدنيا ان هؤلاء الثلاثة هم مرعي ويحيى ويونس واما هذا العبد الرابع فهو ليث الوقائع الأمير أبو زيد فارس المعامع، فلما سمعت سعداء هذا الكلام، تبدل نهارها بالظلام لأنها كانت تعلقت بحب مرعي دون الأنام، فصاحت على الجلادين والعساكر والمحافظين وقالت لهم ارجعوا الى ابي بهؤلاء العرب واياكم ان تقتلوهم فيحل بكم العطب، واني ساتبعكم لأقف على حقيقة الخبر، فلما سمعوا رجعوا في الحال، وذلك لما يعهدون من علو منزلتها ونفوذ كلمتها، ثم ان سعدا لبست افخر الثياب وذهبت تخبر اباها بما فعلت ونصحته بعدم قتلهم لعدم ثبوت جرمهم واقترحت عليه حبسهم في قصرها، فاجابها الى طلبها.

فاخذت الأربعة انفار وحبستهم عندها في الدار، ثم اخذت من الطعام ما يكفيهم ونزلت اليهم فاجتمعت بمرعي في اول الأمر وقالت له: كل ولا تخبر احدا بل احفظ ذلك بالسر ثم فعلت هكذا بيحيى ويونس وقالت ليونس ان يرسل لها ابو زيد فلما حضر قدمت له شيئا من الطعام فشكرها على هذا الاهتمام، ثم انه قسمه على سبعة اقسا فسالته عن سبب ذلك فقال لها اعلمي يا زينة الممالك وبدر الليل الحالك، انني انا وجماعتي اربعة وانت والجارية اثنان على التمام، والحصة السابعة ساحزمها بحزام وارسلها الى ابنة عمي عاليا، فقالت له سعدا لماذا لا تتغذى وحدك، فتنهد من فؤاد متبول وانشد يقول:



اذا اكلت انا وجاعت جماعتي
فلا عشت عمري لسكب الصفائح
واذا جعت انا واكلت جماعتي
احمد ربي وهو كريم مسامح
ايا ست زاد اثنين يكفي ثلاثة
ويكفي اربعة يا ست والكل رايح
ويكفي خمسة من اجاويد حينا
ويكفي لستة من هلال السمائح



فضحكت سعدة من كلامه واعجبها فحوى شعره ونظامه، ثم انها اخرجتهم من الحبس واحضرتهم الى عندها وقدمت لهم الطعام واخذت تحادثهم بالكلام وتسالهم عن احوالهم وعن بلادهم فقال ابو زيد: نحن من جملة الشعراء نقصد الملوك والأمراء فنمدحهم بنفائس الأشعار ونرجع الى الديار بالدرهم والدينار، فقالت انكم لم تعلموني على التحقيق مع انني عارفة باحوالكم فاخذت تعلمهم بسفرهم وما جرى لهم في الطريق والسبب في قدومهم الى تلك الديار شعرا.

فلما فرغت سعدة من كلامها شكرها الأمير ابو زيد على اهتمامها، وباتوا تلك الليلة في سرور وانشراح، ولما اصبح الصباح امر الزناتي باحضارهم، فلما حضروا قال للأبو زيد اذا اطلقناك الى ان تاتي جماعتكم من الأوطان، فكم يوم تغيب عنا وماذا تجيب لنا، فقال اغيب ثلاثة شهور واجيب لك اربع مية الف مدرع مشهور، فقال وما هو مرادك من المدرع ايها البطل الصميدع، فاخرج الأمير ابو زيد من جيبه قطعة من الفضة الخاص وقال: هذا هو المدرع، ففرح الزناتي بذلك وقال اذهب بأمان، فقال اعطني عدة حرب وحصان لأن الطريق مخطرة، فاعطاه ما طلب فودع الزناتي وذهب، وجعل يدور البلاد ويطوف المدائن، حتى اشرف على وادي الغباين وتلك الأماكن، فوجدها كثيرة المياه والنبات متسعة البراري والفلوات تصلح للحرب والقتال، ومرعي النوق والحمال، ثم سار من هناك الى فابس ومنها الى عين دورس فوجدها احسن محل لإمتلاك تونس، وقد تعجب من خيرات البلاد وكثرة ما فيها من الايراد، ثم طاف جميع البلاد وعرف السهول والوهاد ورجه ليرى احوال البلاد، ولما دخل الى قصر سعدا فرآه مطليا بالرصاص وكان الوقت نصف الليل فارعدت الدنيا وابرقت، حتى قام الأولاد من نومهم وعادوا يذكرون بلادهم وصار مرعي ينشد الشعر ممزوجا بالبخيبة.

فلما فرغ مرعي من شعره كان ابو زد واقفا تحت القصر يسمع، ثم رآه الطواشي ففتح له ودخل عندهم وسلم عليهم، فقالوا له اين كنت يا ابا زيد الى الآن، انت في تونس ونحن نقاسي اشد الضيق، فقال انني تهت عن الطريق وقد صممت الآن على السفر واتيت لوداعكم، ثم تندم وودعهم واوصى سعدا بهم بكى بكاء شديدا وتقدم الأمير مرعي يودعه.

فلما فرغ الأمير من كلامه قال ابو زيد، لا يكون لك ادنى فكر لأنني سابذل الجهد في تخليصكم، ثم ودعهم وسار وعيناه تذرف بالدموع، وسار يقطع البراري والقفار مدة عشرين يوما حتى اقبل الى ارض الصعيد، فدخل على القاضي بن مقرب واخبره بما جرى له من الأول الى الآخر، فبكى القاضي بكاء شديدا، ثم انه بقي بضيافته نحو يومين وبعد ذلك ودعهم وسار يقطع البراري القفار عدة ايام حتى وصل نواحي حلب فجلس في ظل شجرة هناك أخذ راحة، فبينما هو جالس اقبل عليه تاجر قاصد بلاد المغرب، فقال له هل تعرف الأمير علام؟ فقال له: من اعز اصحابي واعظم احبابي فقال له ابو زيد ارغب ان اعطيك كتابا توصله اليه فقال اكتب ما بدا لك فعند ذلك اخذ ابو زيد يكتب للعلام يقول:


يقول ابو زيد الهلالي سلامة
فمن كان شقي لاتسعده الأيام
نعم انا ايها الغادي وحامل كتابنا
تجد السرى في واسع الآكام
اذا جيت تونس وقابس وارضها
فسلم على الفتى المسمى العلام
اوصيك في مرعي ويحيى ويونس
اولاد اختي من فروع كرام
فلا بد ما ارجع اعود وانثني
ولا بد ما آني بقوم لزام
باربع تسعينات الوف عدادهم
تشبه جرادا منتشر بغمام
ولابد من لطمة على باب تونس
ويبقى الدما فوق الثرى عوام
ولابد من قتل الهيدي بصارمي
وابقى الزناتي بالقبور ينام
واهلك بلاد الغرب بحد صارمي
واملكك في الغرب يا علام



فلما فرغ ابو زيد من كلامه طوى الكتاب فاخذه التاجر وسار يقطع البراري والقفارحتى اشرف الى تونس وتلك الديار فاخذ المكتوب وسلمه الى العلام، ففضه وقراه وعرف حقيقة فحواه، واما الأمير ابوزيد فانه ما زاال يجد في المسير مدة خمسين يوما حتى اقبل الى نجد، وحين دخوله الى نجع بني هلال التقاه الكبار والصغار حتى اقبل الى صيوان الأمير حسن فدخل وسلم عليه وعلى الذين حواليه فلما رآه الأمير حسن والأمير دياب والقاضي بدير والأمير زيدان تقدموا اليه وقبلوه بين عينيه واجلسه الأمير حسن بجنبه ودارت البشائر في بلاد نجد بان الأمير ابو زيد حضر من بلاد الغرب، فاجتمعت الفرسان من كل جانب ومكان حتى احتبك الديوان، وحينئذ سالوه عن مرعي ويحيى ويونس، فعند ذلك بكى الأمير ابو زيد بكاء شديدا واشار يخبرهم عما جرى له بقصيدة انشدها امامهم.

فلما فرغ ابو زيد من الشعر بكى الأمير حسن ومن حضر من السادات الكرام لاسيما اهل الاولاد، فقد تفطرت منهم الأكباد وقالوا لأبو زيد اعلم يا فارس الفرسان اننا لانفك عنك ولا نعرف اولادنا الا منك، فقال كونوا براحة بال فاني كما اخذتهم من الطلال سارجعهم وهم على احسن حال وانعم بال، فالتفت الأمير حسن الى الحاضرين وقال لهم مرادي الرحيل الى بلاد الغرب واقيم هناك الحرب واخلص الأمراء بالطعن والضرب، فاستحسنوا هذا الخطاب وقال ابو زيد هذا هو الراي الصواب، ولكن قبل الرحيل من هذه الأطلال بالفرسان والأبطال والنساء والعيال، يجب ان تاتوا بالجازية لتركب امام ظعون بني هلال مع الست ريما والست عدلا والست ريا وسعد الرجا وبدر النعام وجوهرة العقول ونجمة السحور وزين الدار والست عليا لأنه اذا اشتعلت نيران الحرب ووقع الطعن والضرب تكون الجازية وباقي السيدات امام الأبطال في العماريات لأن الجازية من النساء المشاهير ذات راي وتدبير، وهكذا تم الراي بين الأمراء والأعيان وارسلوا اربعة وعشرين فارسا من الشجعان للرحيل بنساء القبيلة، وتاهبوا للطعن والضرب والسير الى تونس الغرب، وامر الأمير حسن بدق طبل الرجوج فدق الطبل في الحال واجتمعت الفرسان والابطال، وسارت الرجال ودخلوا على الأمير حسن بن سرحان وهو في الديوان، فاخبرهم بما جرى وقال لهم استقر راينا ان نرحل من الأوطان ونقصد بلاد الغرب بعد ستة ايام فكونوا في الاستعداد التام لن ارضنا قد امحلت ووقع بنا الغلا واولادنا في اسر الزناتي خليفة يقاسون العنا.



( قال الراوي ):
وفي اليوم السابع تهجز الابطال للمسير والارتحال فهدت المضارب والخيام وانتشرت الرايات والاعلام ودقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيول، واعتقلوا بالسيوف والنصول وركبت الحريم والعيال والاولاد والاطفال ونساء الامراء والجازية ام محمد وكان الامير ابو زيد في مقدمة الفرسان، وساروا عدة ايام حتى اشرفوا على بلاد حزوة والنير فنزلوا هناك ونصبوا المضارب والخيام وكان الحاكم عليها الدبيسي بن مزيد وكان من صناديد الابطال.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:09 PM
قصة الدبيسي بن مزيد( الجزء الثالث )



لايقدر العواقب ولا يخشى حلول المصائب، وكان في الشجاعة والفروسية في طبقة علية يفتخر بنفسه ويفضل ذاته على جميع الفرسان في ساحة الميدان ويقول انه اذا ركب الجواد لا يوجد من يقاومه في الحرب والطراد، ولو كان ابو الفوارس عنترة بن شداد، وكان له اربعة وزراء يركن اليهم ويعتقد في اموره عليهم، وهم مقلد وهمام وراشد وسلام وله ولد اسمه مزيد قد سماه على اسم جده وكان يحبه كثيرا، ومن شدة محبته فيه اراد ان يزوجه بابنة اخيه فجمع وزراءه واخبرهم بما قد صمم عليه فاجابو على ذلك المرام ما عدا الوزير همام، فانه كان صاحب راي وتدبير فنهاه عن ذلك في الوقت الحاضر، واعلمه بقدوم بني هلال الى تلك البلاد بالجيوش والعساكر، فانذهل الدبيسي وحار في امره وبينما هو مجلسه دخل عليه الرعيان واخبروه بقدوم بني هلال وانهم ملأوا الأرض بجيشهم فاستشار الدبيسي وزراءه فاشاروا عليه بان يرسل من يستطلع عددهم، فارسل العبد راشد الى مضارب بني هلال، فانذهل مما راى من كثرة الرجال والابطال والفرسان ورجع الى الدبيسي واخبره بما راى فزاد خوفه وفزعه فاستدعى اليه الوزراء واخبرهم بذلك، فلم يجبه احد بكلام، فقال لهم ما بالكم لا ترون الجواب فقال الوزير راشد انه من الواجب ان ترسل لهم كتابا تامرهم بدفع عشر المال مع النوق والجمال، فان امتنعوا عن ذلك نقاتلهم في الحال ونشتتهم في البراري والتلال، فاكتب لهم بهذا الصدد وانا آخذه اليهم وآتيك بالجواب، فاستصوب الملك رايه وكتب لهم كتابا يقول فيه:

يقول الدبيسي والدبيسي مزيد
بدمع جرى فوق الخدود بدود
الا ياغاديا على متن ضامر
تشابه غزالا بالفلاة شرود
اذا جيت عند الهلالي ابو علي
اعطيه مكتوبي تنال سعود
الا يا حسن اسمع كلامي واعتبر
وافهم مني غاية المقصود
فان كان قصدك تجوز بلادنا
فارسل لنا عشر مالك ترود
ارسل لنا الفين حمرة سليلة
والف جواد يامير هدود
والفين سيف يا أمير مسقطة
والف درع من عمل داود
وارسل لنا الجازية ام محمد
مع الست عليا بغية المقصود
وارسل لنا معها بنات امارتك
واحذر تخالف ولا تكون حقود
وان كنت لا تدفع لنا ما ذكرته
فارجع لأرضك واياك تعود



ثم ختم الكتاب واعطاه للوزير راشد، فاذه وسار حتى اشرف على بني هلال فنزل من على الحصان فسلم على السلطان، وعلى باقي الأمراء فردوا عليه السلام والتقوه بالترحاب والاكرام، وامر له بالجلوس فجلس بقربه وسال عن اسمه وعربه فاعلمه بواقعة الحال وعن سبب حضوره الى تلك الاطلال ثم اعطاه الكتاب، فاخذه الأمير وقراه، ولما وقف على حقيقة فحواه غضب الغضب الشديد لكنه اخفى الكمد واظهر الجلد، ثم امر الغلمان ان ياخذوا الوزير الى دار الضيافة، ولما خرج من الديوان التفت اللا الأمراء والأعيان واطلعهم على خطاب الدبيسي الذي طلب فيه عشر المال، فقال ابو زيد انه من الصواب ان تقول للدبيسي ان يمهلنا عشرة ايام ونحن نرسل له طلبه بالتمام ومتى انقضت المدة ولح في الطلب تقول له ليس عندنا مال ولا ذهب سوى الحرب والقتال في ساحة المجال، وبهذه الحال تكون فرساننا قد استراحت من تعب الطريق.

وتبادل الدبيسي وحسن الحوار شعرا، ثم ان حسن طوى الكتاب وختمه في الحال وسلمه الى الوزير فاوصله الوزير الى الدبيسي ودخل وسلم عليه واعطاه الكتاب ففتحه وقراه وعرف ما حواه ففرح واستبشر وايقن بالنجاح وبلوغ الوطر، ولما انتهت العشرة ايام لم ترسل بنو هلال الموال، قال الدبيسي للوزير ها قد مضت المدة المعينة ولم نقف على افادة ولا وردت الأموال، فيجب ان تسير اليه وتطلب منهم ان يبادروا بارسالها في الحال والا حاربناهم وانزلنا بهم الوبال فامتثل الوزير امره وسار الى صيوان الأمير حسن ودخل وسلم عليه، ثم جلس قليلا وبعد ذلك طالبه بالمال، ولامه على ذلك الاهمال، فقالت السادات ارجع الى مولاك وقل له ليس عندنا مال ولا نوق ولا جمال، غير ضرب السيف وطعن النصال، فاغتاظ الوزير من هذا الكلام ورجع الى مولاه واخبره بما سمعه من القوم فزاد غيظ الدبيسي، وامر الرؤساء والقادة بجمع العساكر والاجنا، فعند ذلك دقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيل واعتقلت بالرماح وخفقت الرايات وركبت الابطال باربع مائة الف مقاتل.


( قال الراوي ):
فلما ركب الدبيسي ومعه العسار والاجناد، طالبا ديار بني هلال، اقترب منهم فالتقوا به ودنو من بعضهم، فبرز من فرسان الدبيسي فارس كانه الاسد الكاسر اسمه الامير خاطر، فبرز اليه دياب فقال له: من تكون من بني هلال؟

فقال: انا دياب المصادم وصاح فيه؛ وهجم عليه فالتقاه الفارس كالاسد الكاسر، وجرى بينهما حروب واهوال تشيب رؤوس الاطفال وبعد ذلك اختلف بينهما ضربتان قاطعتان، وكان السابق الأمير دياب لأنه اعلم في اصول الحرب واخبر في مواقع الطعن والضرب، فوقعت الضربة على هامه فقدته نصفين، ثم سال وجال وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه فارس آخر فقتله وثان جندله وثالث عجل الى المقابر مرتحله، وما زال يبارز الفرسان والابطال ويمددها على وجه الرمال الى وقت الزوال، دقت طبول الانفصال وبات الفريقين يتحارسان تحت مشيئة الرحمن، ولما اصبح الصباح واشرق بنوره ولاح، برز الأمير دياب الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه الوزير راشد، فالتقاه الأمير دياب بقلب كالحديد، ثم التقى البطلان كانهما جبلان او اسدان كاسران، وحان عليهما الحين وغنى على راسيهما غراب البين ولم تكن الا ساعة من الزمان، حتى استطال عليه دياب في الميدان وطعنه بالرمح في صدره، خرج يلمع من ظهره فوقع على الارض قتيلا وفي دمه جديلا، فلما قتل الوزير راشد هجمت جموع الدبيسي بقلب واحد فتلقتهم بنو هلال بقلوب كالجبال واشتد بين العسكرين القتال، وعظمت الاهوال، فما كنت ترى الا وقع السيوف على السيوف وقتال يشيب الاطفال، وما زال القوم على تلك الحال وهم في اشد القتال الى وقت الزوال، فعد ذلك دقت طبول الانفصال فتاخرت عساكر الدبيسي خاسرة ورجعت بنو هلال ظافرة، وفي ثاني الايام دقت طبول الحرب والكفاح، فركبت الفرسان واعتقلت بالسيوف والرماح وبرز الأمير دياب فصال وجال في ساحة المجال، وطلب مبارزة الأبطال فبرز اليه الوزير محمود فالتقاه الأمير دياب بقلب شديد.

ثم ان الوزير هم على دياب فالتقاه دياب بقلب شديد وهجم عليه هجوم الصناديد، واشتد بينهما القتال في ساحة المجال، فاختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الوزير محمود، فغطس دياب تحت الخضرا فراحت الضربة خائبة، ثم انتصب الأمير دياب وهجم عليه سبع الغب فضربه بالسيف عل هامه، فقطعه نصفين وكان له اخ يدعى الهداف، فلما راى اخاه قد مات زادت عليه الحسرات فهجم على الأمير دياب لياخذ بثأر اخيه فالتقاه الأمير دياب في الميدان بقلب اقوى من الصوان، وجرى بينهما حروب واهوال تشيب رؤوس الاطفال، واستمرا على تلك الحال وهما في اشد القتال، الى ان ولى النهار واقبل الليل، فوقفا عن القتال وباتت العساكر في البطاح، ولما اصبح الصباح دقت طبول الحرب والكفاح وبرز الهداف الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه دياب وصدمه كليث الغاب، فالتقاه الهداف وهجم عليه الاسد الرئبال، وما زالا في اشد قتال وطعان يذهل العقول الشجعان، الى ان انتصف النهار وكان ان استظهر عليه دياب وضربه على عنقه بالسيف البتار فقطعه نصفين والقاه في ساحة المجال، فلما رات جموع الدبيسي ما حل بوزيرها، هجمت على دياب، فعند ذلك هجمت بنو هلال من اليمين والشمال، والتقت الرجال بالرجال، وجرى الدم وسال من شدة الحرب والقتال، وما زالوا على تلك الحال الى وقت الزوال، فدقت طبول الانفصال وباتت بنو هلال في سرور، وبات الدبيسي في قلق وضجر لأنه قد قتل الشجعان الملك الدبيسي، فصال وجال في ساحة المجال ونادى اين فرسان بني هلال، فلتبرز الآن الى ساحة القتال، فما تم كلامه حتى صار الأمير دياب قدامه وانشد شعرا يهدد به الدبيسي فاغتاظ الدبيسي منه، ورد عليه فاغتاظ دياب بدوره وانطبق عله، وفعل الدبيسي مثل ما فعل واخذا في الحرب والقتال وجرى بينهما عجائب واهوال، الى ان ولى النهار واقبل الليل بالاعتكار، فافترقا عن بعضهما البعض وعند رجوع الأمير دياب من معركة الصدام التقاه الأمير حسن باعزاز واكرام وشكره على ما فعل، وقال له لا تنزل غدا الى الميدان لأن لك عدة ايام في الحرب والصدام والدبيسي مرتاح ثم ختم الكلام بهذا الشعر والنظام:

قال الفتى حسن الهلالي ابو علي
الدمع من فوق الخدود سيولا
يامرحبا بك يا دياب الغانم
يا فارس الفرسان يوم الهولا
يا فارس الفرسان يا ليث العدا
يا ليت عمرك يا امير يطولا
يا امير انك قد قتلت لراشد
وسلام اضحى ميتا مقتولا
اما الفتى محمود ولى وانمحى
واخوه هدافا غدا مجدولا
فقهرتهم يوم الوغى حتى غدوا
قتلى بحد الصارم المصقولا
واليوم قد نزل الدبيسي صادمك
في حومة الميدان مثل الغولا
يا امير دع غيرك في غدا ينازله
فاسمع كلامي وافهم المنقولا
اخاف توقع يا دياب بغدره
تضحى صريعا في الفلا مقتولا





( قال الرواي ):

فلما فرغ الأمير حسن من شعره ونظامه وفهم دياب فحوى كلامه، توقف عن رد الجواب فقال له حسن علامك يا دياب لا ترد الجواب فقال ارجو ايها الهمام ان لا تمنعني عن هذا الطلب وان قتلت فروحي فداك فاني لااخشى الموت في قتال اعدائك فشكره حسن وقبله في صدره وقال له: انا ما تفوهت بهذا الكلام الا لما وجدتك تعبان وما دام الامر كذلك فابرز نهار غد وقاتل خصمك واتكل على الله.

ثم باتوا تلك الليلة في سرور وانشراح ولما اقبل الصبح واشرق بنوره ولاح، دقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيول واعتقلوا بالرماح والنصول، وتقدموا الى ساحة الميدان وكان اسبقهم الأمير دياب، ولما صار في معركة القتال طلب الدبيسي، فانحدر اليه فالتقاه كسبع الآجام، واخذ معه في الحرب والصدام واشتد بين البطلين القتال وعظمت الأهوال، وكانا تارة يتقدمان وتارة يتاخران وكانت عيون الفرسان شاخصة اليهما ومازا على تلك الحال الى وقت الزوال، فدقت طبول الانفصال فافترقا على سلام ورجعا الى الخيام، ولما اصبح الصباح ركب الأمير دياب فتقدمت اليه ابنته وطفا وهي تبكي بدموع غزار، فتعجب من ذلك وقال لها اعلميني بما اصابك قالت مرادي ان تتوقف هذا اليوم عن قتال القوم فقد رايت حلما في المنام اصبحت منه في اوهام وقصت خكاية حلمها شعرا، فقال لها: لا تخافي من هذا المنام فانه اضغاث احلام، فلا بد لي من الحرب والصدام فاذهبي الى خيامك ولا تخافي، فرجعت الى الخيام وتقدم دياب الى معركة الصدام فوجد الدبيسي بانتظاره، فصالا وجالا في ساحة الميدان واخذا بالضرب والطعن حتى حيرا الأذهان، فاختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان، وكان السابق الأمير دياب فابطلها الدبيسي بمعرفته ثم هجم على دياب كسبع الغاب وطعنه بالرمح طعنة قوية فجاء الرمح في فخذه فسالت دماء ويئس من الحياة، واراد الدبيسي ان يعجل فناه، واذا بفارس من بني هلال قد اقبل كانه قطعة من جبل وهو يهدر كالأسد، فخلص دياب من يد الدبيسي واعاده الى المضارب، ثم اقتحم الصفوف والمواكب، وهو يصيح وينادي اتاكم أبو زيد ليث الأعادي، وجعل ينخى بني هلال على الحرب والقتال فحملوا على جيش العدا من كل جانب، فعند ذلك حملت العساكر على العساكر وتقاتلوا بالسيوف والخناجر وحمل حسن بن سرحان وتبعه السادات والأعيان، ولم تكن ساعة من الزمان حتى اشتدت الأهوال وتمددت الأبطال على وجه الرمال وما زالوا في أشد قتال الى وقت الزوال، وكانت عساكر الدبيسي قد استظهرت في ذلك النهار واسرت عشرين فارسا من بني هلال الأخيار من جملتهم الامير عرندس والرياشي ومفرج والهدار، فلما شاهد حسن تلك الأهوال خاف على بني هلال من الهلاك والوبال فلما نزل في المضارب جمع قادة المواكب واخذ يستشيرهم بالقصيد.

فرد عليه ابو زيد وفهم الامير حسن فحوى مرامه فاستحسنه مع جميع السادات. هذا ما كان من بني هلال واما الدبيسي فانه عند رجوعه من القتال، كبرت في نفسه واحضر الاسرى بين يديه وتهددهم بالقتل والدمار، فوجدهم لا يبالون بالاخطار فارسلهم الى الحبس بعد ان شفى منهم غليل النفس، ولما اصبح الصباح واشرق بنوره ولاح،برز القاضي بدير الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه فارس يقال له جاسر فحمل على بعضهما البعض وتجاول في الطول والعرض وتضاربا بالسيوف وتطاعنا بالرماح ولم يزالا في حرب وقتل وطعن الى قرب الزوال.

وكان القاضي قد استظهر على جاسر وهجم عليه كالاسد الكاسر وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع على الارض يتخبط بعضه ببعض ثم هجم آخر فقتله وعجل من الدنيا مرتحله، فعند ذلك دقت طبول الانفصال فرجع القاضي من معركة القتال فالتقته بنو هلال بالاكرام والاجلال وهنأته بالسلامة من الوبال، وباتوا تلك الليلة الى أن اصبح الصباح فتواثبوا الى الحرب والكفاح، فبرز من قوم الدبيسي فارس يقال له تميم، وطلب فتال الفرسان فبرز اليه الامير عقيل وهو اخو ابو زيد، فصدمه تميم صدمة جبار واشار يقول شعرا، فرد عليه عقيل، ولما فرغ من شعره حمل عليه واخذا في الصدام والعراك واشتبكا اشد اشتباك، وما زالا على تلك الحال وهما في اشد قتال، وكان عقيل قد استظهر على خصمه اشد الاستظهار، فضربه على عنقه بالسيف البتار وذا براسه قد طار، وكان له اخ اسمه ناصر فلما رأى ما حل باخيه هجم على عقيل هجمة الاسود، فالتقاه عقيل بقلب كالجبل والتحم بينهما القتال، وكان عقيل يريد سرعة الانجاز فلاصقه وضايقه وضربه بالحسام على رأسه فشقه ووقع على الفلاة وعدم الحياة، وكان الوقت قريب لزوال فدقت طبول الانفصال ورجع عقيل الى بني هلال، فالتقاه قومه بالكرامة وهنأوه بالسلامة وشكروه على فعاله وزادوا في اكرامه واجلاله، واما الدبيسي بن مزيد فقد تنغص عيشه وتنكد. فاجتمعت الاكابر والعمد ودخلوا على اميرهم وتمثلوا بين يديه وقالوا الى متى هذا الحال،فقد قتل منا عدة ابطال، فجعل يوعدهم في الانتصار، وثاني الايام برز الدبيسي الى الميدان وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه غنيم ابن مفلح، وكان غلاما جميلا فقال له الدبيسي من تكون يا غلام حتى تبرز في معركة الصدام، ثم صدمه بقوة واهتمام، وما زالوا في قتال شديد فمد الدبيسي يده واقتلعه مثل العصفور وسلمه الى اصحابه فاوثقوه بالكتاف، ثم صال الدبيسي وجال وطلب مبارزة الابطال، فبرز اليه زيدان وصدمه بقلب اقوى من الصوان، فالتقاه الدبيسي كالاسد الغضبان وأخذا يتضاربان ويتحاربان واستمرا على ذلك الشأن نحو ثلاث ساعات، ثم افترقا بالسلامة والامان، وبينما كان الامير زيدان راجعا من الميدان، ضرب الدبيسي حصانه فرماه على الارض، فانقضت عليه جموع الدبيسي فأخذوه واوثقوه، فهاج بنو هلال النساء والرجال واستعظموا تلك الاحوال وذهبت منهم جماعة من الاعيان الى عند أبي زيد فارس الفرسان، فوقعوا عليه وطلبوا منه ان يسعى لتخليص الفرسان والابطال من الاسر والاعتقال، فطيب قلوبهم ووعدهم بأنه سيبذل المجهود، ثم انه غير زيه وتنكر ولبس حلة من الحرير الاخضر ووضع طيلسانا على رأسه حتى لم يعد يعرفه احد، وقصد الملك الدبيسي ودعا له بالعز والانعام، وكان كلامه معه باللغة الفارسية فلما رآه الدبيسي على تلك الصفة ظن بانه من دراويش الاعجام فاحترمه غاية الاحترام وقال له: من اين أتيت يا ابن الاجواد؟ قال من مدينة بغداد واني فقير من فقراء عبد القادر رب الفضائل والمآثر، فقال ادعو لنا يا درويش الاعجام بالنجاح والانتصار، وان يرزقنا الله بأبي زيد المخادع الماكر حتى نقتله على رؤوس الاشهاد، لانه هو السبب في قدوم بني هلال الى هذه المنازل واطلال فاذا استجاب الله طلبك بلغناك اربك، فقال له الله يبلغك المرام بجاه مولاك عبد القادر وباقي الاولياء العظام، وما دام كذلك اريد منك ان تأمر لي بالذهاب الى البلد حتى انام في جامع عبد الصمد، فسمح له بالذهاب وامر الحجاب ان يفتحوا له الابواب.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:11 PM
الجزء الرابع: من تغريبة بني هلال



وعند دخوله الى البلد قصد المكان الذي كانت مسجونة فيه فرسان بني هلال، فوجد العبيد يطوفون من خلف وقدام، فسلم عليهم فردوا السلام وقالوا من انت وما تريد، فقال قد أرسلني الدبيسي لادعو له في جامع عبد الصمد بأن الله يبلغه المراد وينتصر على ابو زيد، وانتم من تكونون؟ فقالوا نحن الحراس نحافظ على اسرى بيت هلال خوفا من الاعداء. ثم ان ابا زيد اخرج من جيبه شمعة مبنجة فاضاءها بعد ان فرك منخريه بضد البنج. فلما اشتعلت فاحت منها رائحة زكية ولم تكن إلا برهة يسيرة حتى وقعت الحراس كالاموات من ذلك البنج. وبعد ذلك اخرج المغناطيس ووضعه على الاقفال فتساقطت في الحال، فرأى فرسان بني هلال في القيود والاغلال وهم يقاسون الاهوال، فاعلمهم بالامر وفكهم من الاسر واعطاهم اسلحة الجماعة وقال لهم اتبعوني بعد ساعة، فلما وصل الى الباب وجد الحراس جالسين وفي ايديهم السيوف والحراب فسلم عليهم فردوا السلام، وقاموا له على الاقدام واجلسوه بجانبهم، وجعلوا يخاطبونه ويخاطبهم، وكان يمد يده الى جرابه ويأخذ قطعا من السكر ويأكلها امامهم فقالوا له ما هذا الذي تأكله يا شلبي، فقال هذا ملبس حلبي فقالوا له اطعمنا ونحن ندعو لك بالتوفيق والخير، فاعطاهم قبضة كبيرة وكانت مبنجة فأكلوها فلما استقرت في بطونهم تبنجوا وفي تلك الساعة اقبلت الاسرى وخرجوا وجدوا في قطع البراري والبطاح، فوصلوا لاهلهم عند الصباح فقامت الافراح وكثر الصياح، وشكروا أبا زيد على تلك الفعال. وأهل البلد حل عليهم الويل والنكد لما رأوا الحراس راقدين والاسرى مطلوقين، ولما بلغ الدبيسي هذا الخبر طار من عينيه الشرر، وتأكد عنده بعد التحقيق والتفتيش ان البلاء من ذلك الدرويش، وما هو الا ابو زيد صاحب المكر والكيد، ولكنه اخفى الكمد واظهر الجلد، وزحف بالعساكر والابطال لقتال بني هلال، وبرز للميدان وكان اول من برز الى الدبيسي سرور بن فايد فالتقاه الدبيسي بقلب كالصوان، واخذه اسيرا، وبرز اليه نعيم الزحلان وكان من صناديد الشجعان، فاسره في الحال وما زال يأسر الفرسان والابطال حتى اسر خمسين فارسا من بني هلال وفقد منها عدة ابطال وقد اشرفت على الوبال من هول القتال، فلما كان اليوم الرابع هجم الدبيسي بجيوشه قاصدا قتال بني هلال وانطبق عليهم من اليمين والشمال وقاتلهم اشد قتال، فكانت واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها في الأيام، فكثر الصياح وجرى الدم وساح، فما كانت ترى الا رؤسا طائرة ودماء فائرة وفرسانا غائرة ودارت على بني هلال الدائرة، واستمر القتال على هذا المنوال حتى كثرت الاهوال على بني هلال فلم يعد لهم ثبات، فتاخروا الى الوراء وقد قتل من الفريقين نحو عشرين الف بطل كرار، ولما اظلم الظلام واجتمعت بنو هلال في الخيام وهم بحالة الذل والانكسار، عقدوا ديوانا مع الأمير حسن وطلبوا منه ان يمدهم برايه فاخذ يحمسهم بالمقال ويشجعهم على الحرب والقتال، ثم قال من الواجب ان تركب الجازية مع العمارية ونحمل عليهم في الصباح بالكتائب والمواكب، والا حلت بنا النوائب، فاشتدت عزائمهم على الحرب والصدام واجابوه على فرد لسان، اننا سنقاتل نهار غد بالسيف والسنان، حتى لا يبقى منا انسان، ولما اصبح الصباح واضاء بنوره ولاح، دقت طبول الحرب والكفاح، فركبت العساكر وهجمت على عساكر الدبيسي بقلب كالحديد، والتقت الرجال بالرجال والابطال بالابطال واشتدت الاهوال وارتجت السهول والجبال ومازالوا على تلك الحال حتى تضعضعت من الدبيسي الاحوال، فعند ذلك مالوا على عليهم من اليمين والشمال وتفرقت جموعهم بين الروابي والتلال، هذا والدبيسي ينخى الابطال ويقول انا الفارس المؤيد المدعو الدبيسي ابن مزيد، فلا يبرز لي الا أبو زيد صاحب المكر والكيد، الذي اتى الينا واحتال علينا، فما اتم كلامه حتى صار ابو زيد امامه وصدمه صدمة تزعزع الجبال والتقيا في ساحة المجال، واصطدما كانهما بحران وتزاحما كانهما اسدان حتى حان عليهما الحين وزعق فوق راسيهما غراب البين، واستمرا على تلك الحال الى نصف النهار، واما ابو زيد فاستظهر على خصمه وضايقه وسد عليه طرقه وطرائقه وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع عى الارض قتيلا، ولما رات قومه ما حل به خافت من الهلاك والبوار فولوا طالبين الفرار، وقصدوا المدينة وقد انقطع منهم الامل فتبعهم ابو زيد وبنو زحلان والأمير دياب والأمير حسن وباقي الفرسان ودخلوا المدينة وراءهم وضربوا فيهم بالسيف حتى جرت الدماء في الأسواق وبليت قوم الدبيسي بما لايطاق، وعلا بينهم الصياح والبكاء والنواح، ثم هجمت بنو هلال على الحصون والقلاع وخلصوا اسراهم من الاعتقال، ورجعوا من ساحة القتال وثيابهم كشقائق الارجوان من ادمية الفرسان،ونزلوا في المضارب والخيام وقد بلغوا غاية المرام،فخلعوا الحديد ولبسوا الاطاليس والحرير ودارت القهوة والشراب على الامراء والسادات، ثم نهض وزير الدبيسي همام واخذ مزيد بن الدبيسي وامه بدر، وسار بهما عند الأمير حسن فدخل وسلم عليه وبكى وطلب منه العفو والأمان وان يعاملهما بالطيب والاحسان، ثم تقدمت الأميرة بدر هيوالأمير مزيد والوزير همام اى الأمير حسن وقالوا له العفو يا امير الزمان، فقد نصحنا الدبيسي وحذرناه من عواقب الامور فلم يسمع كلامنا الى ان نفذ به الامر المقدر، فاجابهم الى ما طلبوا واكرمهم غاية الاكرام وخلع عليهم الخلع الفاخرة ونادى بالامان وزالت الاكدار والاحزان، وكان مزيد خاطب ابنة عمه هند وكانت من النساء المحسنات، فاعلم الوزير الامير حسن بذلك وطلب منه ان يزفها عليه فاجابه الى ذلك، وفي الحال ذبحوا النوق والاغنام ودارت الافراح سبعة ايام، وبعد تمام الافراح ولى الامير حسن مزيد مكان ابيه على البلاد، وطاعته جميع العباد لأنه كان يحب العدل والانصاف ويكره الجور والاسراف، وبعد تمام العرس امر الامير حسن بهذه المضارب والخيام وجمع المكاسب والاغنام وبالرحيل الى بلاد الغرب، فاجتمعت الفرسان من كل جانب ومكان فركب الامير دياب والقاضي بدير وزيدان شيخ الشباب، بستين الف من الشبان وركبت الجازية مع البنات وحينئذ ركبت الفرسان ظهور الخيل وانتشرت البيارق وكانت الفرسان تهوج وتموج مثل ايام ياجوج وماجوج، وجدوا في قطع البراري والقفار والسهول والاوعار، يوصلون سير الليل بالنهار، حتى وصلوا الى بلاد الاعجام، فنزلوا في مرج واسع كثير المياه فنصبوا المضارب والخيام.

حرب بني هلال مع الاعجام وسبي المارية




( قال الراوي ):

وكان الحاكم على بلاد الأعجام في تلك الأيام سبعة ملوك عظام وهم(خرمند)( و علي شاه )( و الصتصيل )( والمغل )( و بندر )( و النعمان).

ولما نزلت بنو هلال في ذلك المكان أطلقوا مواشيهم في المراعي فأكلت العشب والأشجار والبساتين والأثمار، وبعد أن أخذوا الراحة أمنوا نوائب رجع الأمير حسن والقاضي بدير إلى نجد مع بعض الاجناد لتحديد البلاد، وبرجوع الامير حسن والقاضي بدير الى نجد، اجتمعت ملوك الاعجام عند الخرمند، وجعلوا يتداولون في امر نزول بني هلال في ذلك البر فقال الخرنمد، اعلموا ايها السادات ان بني هلال قدموا البلاد، وهم كل يوم في ازدياد فقال الراي عندنا ان نبادرهم بالقتال ونسبي حريمهم والعيال وننهب نوقهم والجمال قبل ان تكثر جموعهم وتصل اذيتهم الينا. وكان المك النعمان حاضرا في الديوان، فصعب عليه ذلك الأمر لأن أصله من بلاد العرب، فقال للملك الخرمند إن كان لا بد من حرب مع بني هلال طمعا بالغنائم والأموال فأرسل أطلب عشر المال، فإن امتثلوا أمرك تكون قد بلغت منهم المرغوب، وإن امتنعوا عنه فحينئذ تبادرهم بالقتال وتنهب أموالهم وتطفي آثارهم، فلما سمع منه هذا الخطاب رآه عين الصواب، فكتب إلى بني هلال يطلب منهم عشر المال أو يرحلوا من بلاده، ثم طوى الكتاب وأعطاه للنجاب وأمره أن يسير إلى بنى هلال ويدفع الكتاب إلى نائب السلطان، ويرجع إليه من غير تولن، فامتثل النجاب أمره وسار حتى وصل تلك الديار، فدخل على أبي زيد وأعطاه الكتاب وطلب منه الجواب، فلما فتحه وقرأه مزقه ورماه وكتب إلى الخرمند يهدده بقصيدة شعرية.
ولما وقف الخرمند على هذا الشعر والنظام، صار الضياء في عينيه كالظلام، وقال هل يبلغ من قدر بني هلال أن يخاطبوني بمثل هذا المقال وأنا ملك العجم، وذكري في جميع الأمم؟؟ ثن أنه استدعى قواد العساكر ومن يعتمد عليهم في الحروب والمخاطر، وأمرهم أن يستعدوا للقتال ويجهزوا الفرسان والأبطال، فاجتمع خمسمائة ألف عنان، وأرسل إلى بلاد خراسان تمده بالجيوش والعساكر. ثم ركب في ثاني الأيام للحرب والصدام، ولما بلغ أبو زيد هذا الخبر ركب في جموع بني هلال واشتبك بين الفريقين القتال، فقتل من العرب والعجم من قتل، إلى أن مات غنيم البطل، وأخذوا مارية سبية، فلما سمع أبو زيد هذا الخبر طار من عينيه الشرر، فكتب إلىة الأمير دياب يعلمه بواقعة الحال ويطلب منه المعونة في القتال، وأرسل الكتاب مع عشرة أبطال.

فلما وصل الكتاب إلى الأمير دياب وقف على ما تضمنه من الخطاب فامتنع عن الحضور وقال هو أولى بحماية الجمهور، فلما وقف إلى الأمير حسن بن سرحان والقاضي بدير يعلمهم بما جرى بينه وبين الأعاجم.

فلما فرغ الأمير أبو زيد من الكتاب سلمه للنجاب وأمره أن يجد مسيره إلى بلاد نجد ويسلمه إلى الأمير حسن ويرجع بالجواب.


( قال الراوي ):

ومن الإتفاق الغريب أن القاضي بدير رأى تلك الليلة حلما هو أنه كان قابضا على حمامة بيضاء وإذا بعقاب أسود قد هبط من الجو فخطفها وطار، فاستيقظ من المنام وهو في قلق عظيم وسار عند الأمير حسن وقص عليه الرؤيا. فقال:
يا ابن العم ان هذا الحلم يدل على ضيق وغم، وان ابنتك مارية قد خطفها الأعجام، فلما سمع هذا الكلام صار الضيا في عينيه كالظلام وقال مادام الأمر كذلك فيجب أن نركب حالا ونجد في قطع القفار ونكشف خبر قومنا في تلك الديار، فأجابه الأمير حسن إلى هذا المرام وركبا ومعهما فرسان الصدام قاصدين بني هلال، ولكنهما لم يصادفا النجاب الذي أخذ الكتاب، وعند وصولهما بالعساكر والأبطال إلى أول نجوع بني هلال رأيا العبد سعيد، فسأله القاضي عن الأحوال فقال لقد تغلب علينا الأعجام، وسبوا مارية، فقال القاضي خيّبك الله على هذه البشارة، ثم مرا على الأمير دياب فطلب منهما أن ينزلا عنده، فأبى حسن وقال له علامك يا أمير ما ركبت مع أبي زيد على قالت الأعجام، أتسبى العيال وتنهب الجمال وأنت جالس في الخيام بدون فكر ولا اهتمام؟! قال الذي منعني يا ملك الزمان هو الخوف من هجوم العدا إلى هذا المكان فتنهب الأغنام، ثم ركب دياب مع القاضي والأمير حسن وركبت معه الأبطال والفرسان، وما زالوا يجدون السير عند أبي زيد، فالتقاهم بالتعظيم والاحترام وذبح لهم الأغنام فامتنع الأمير حسن عن الأكل وهو مغتاظ زعلان، فسأله أبو زيد عن سبب ذلك فقال إني مغتاظ لفقد مارية من بين يديك فأجابه أبو زيد يقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
بدمع جرى من مقلة العين نابع
ياأبو علي إسمع كلامي وافهمه
وأنت يا قاضي فكن لقولي سامع
أتونا بوي الأعجام من كل جانب
سبعة ملوك من غير التوابع
فصحنا عليهم هاجمين بقوة
قتلنا منهم ألفين ماعدا التوابع
فكانت فتاة الحي مارية المها
غدت فعاد القوم فيها طوامع
جفل بكرها فيها وأنا مارأيتها
وقلبي لأجل مارية عاد واجع
ونادت بعال الصوت يا آل عامر
وتومي بأيديها وتلوي الأصابع
أتى نحوها المدعو غنيم بن مفلح
وقاتلهم بقلب شديد وسط المعامع
طهنه الملك صنصيل بالرمح صبابة
بحربة نورها كالشمس ساطع
وحال ظلام الليل بيني وبينهم
وعاد العجم بعد هذه الوقائع
وحق الله والبيت والحجر
فلا بد لي من حربهم أن أسارع
ولابد أن أجيب المارية
وأهدم الكوفة وأرتد راجع



فلما فرغ الأمير أبو زيد من كلامه قال له الأمير دياب، والله يا أبا زيد لو كنت حاضرا قتال الأعجام، ما كنت تركتهم يسبون المارية ويسطون على الحريم، بل كنت قاتلت اشد قتال أو أموت موت الأبطال، فلما سمع أبو زيد ذلك الكلام قال له صدقت يا أمير دياب وبما أنك قادر على كسر الأعجام فلماذا لم تحضر إلى الميدان عندما أرسلت خلفك عشرة فرسان لتحارب معي الأعجام وحينئذ ترينا شجاعتك في معركة الصدام.


( قال الراوي ):

أما الأعجام فإنهم لما رجعوا إلى أوطانهم تنازع ملوكهم على المارية بنت القاضي بدير، وكان كل واحد يريد أن يأخذها لنفسه وذلك لما فيها من الحسن والجمال والبهاء والكمال، فاتفق رأيهم على إعطائها للشاه خرمند، وأنهم يركبون على بني هلال مرة ثانية وكل من يكسب إمرأة تكون له، وفي ثاني يوم ركبت الأعجام على بني هلال فركب الأمير حسن واستقبلهم في ساحة الميدان، ما عدا أبو زيد، فإنه لم يركب معهم لقتال القوم وجعل نفسه مريضا في ذلك اليوم، ولما نشب القتال وعظمت بين الفريقين الأهوال هجمت الأعجام على بني هلال مثل أسود الآجام، وقاتلت أشد قتال وجعلت ترميهم بالنشاب وتطعنهم بالحراب، فلما رأت بنو هلال تلك الأحوالوهجوم العجم عليها من اليمين والشمال ارتدوا إلى الخلف وانهزموا، وتبعهم فرسان العجم حتى دخلوا إلى الخيام وبدأو ينهبون البيوت ويسبون النساء والبنات، فارتفع البكاء والنواح وزادوا في الصياح، فلما سمع أبو زيد النساء والبنات، عويل النساء والأصوات هجم مع الفرسان والأبطال بالسيوف والرماح فالتقى بعسكر الأعجام وحكم برقابهم ضرب الحسام، فردهم عن المال والحريم، فارتدوا منهزمين إلى الكوفة وقومه وراهم مثل الشواهين إلى أن بلغ منهم المراد وقتل عددا كثيرا من الأجناد، ثم ارتد منتصرا فالتقاه الأمير حسن وشكره على تلك الفعال وقال له مثلك تكون الأبطال يا زينة الرجال فلولاك لكنا في أسوأ حال وصرنا بين سائر العربان على طول الزمان، وكذلك القاضي بدير أثنى عليه وكان متأسفا على فقد ابنته مارية، فقال له أبو زيد لابد لي من خلاص ابنتك أيها القاضي الجليل وأشفي من عساكر العجم الغليل، ثم أن أبا زيد صبر إلى وقت الظلام وتزيا بزي الأعجام وسار إلى مدينة الكوفة وفي صحبته عبده أبو القمصان وبدر بن غانم، وعند وصولهم أليها وجدوا أبوابها مغلقة فدار أبو زيد من جميع الجهات فلم يجد منفذا، فبينما هو يتفرج ويتأمل رأى دهليزا صغيرا فنزل فيه فأوصله إلى البلد فترك رفيقه بإنتظاره، وأخذ يطوف من زقاق إلى زقاق يجول بين الحارات والأسواق، ويقف على الأخبار، وكان كلما نظر إليه إنسان يكلمه في لغة الأعجام، ورأى بناء عظيم البنيان ذا أربعة عمدان وفوقه قصر جميل الهندام من الرخام وشبابيكه مصفحة من الذهب، وإذا به يسمع آلات الطرب، فقال أبو زيد في نفسه هذا الملك خرمند لا محال لما عليه من الهيبة والجمال، ورأى شجرة من السرو وأصلة أغصانها لشباك القصر، فصعد عليها حتى وصل إلى أغصانها، ولما صار عند الشباك وجه نظره إلى تلك الغرفة، فوجدها من أحسن الغرف مزينة بالفرش الفاخر، ووجد سبعة ملوك من العجم جالسين على كراس من الذهب ومارية جالسة بينهم كأنها القمر، وكانت ملوك الأعجام تشرب المدام والمغاني تغني لهم بأنواع الأنغام، فقدم الخرمند إلى ماريا كاسا وقال لها خذي وإشربي يا بنت الكرام وغني حتى يزيد إنشراحنا ويكمل سرورنا، فامتنعت عن الشراب وزادت في البكاء والإنتحاب، فتأثر الملك النعمان ونهض من وسط الديوان، وكان الملك خرمند متزوجا بابنته هند، فقال دعوها ولا تكلموها فانها من بيت كبير وأبوها قاض وأمير، ولكن الغناء ليس فيه عيب، ثم التمس منها أن تغني فلما سمعت هذا الكلام أشارت تغني قصيدة مطلعها:

تقول فتاة الحي مارية من المها
فنار الضنى والشوق يكوي ضميرها





( قال الراوي ):

فطربت ملوك الأعجام وشرب خرمند كأس المدام، ثم أعطاه إلى الساقي وقال له:
املأ كأس المدام وناوله إلى مارية بدر التمام حتى تفرح وتطرب ويزول عنها الحزن والكرب، فخجلت مارية وقالت للنعمان أني لاأشرب من هذا الشراب لأنك تعلم أيها السيد بأن مشروبنا هو حليب النوق والغنم ولانشرب غيره من المشروبات، فإن ذلك عندنا من أعظم العار. فاعتذر النعمان عنها إلى خرمند وقال له اعفها من هذا الكأس لأنها غير معتادة، فتناول الخرمند الكأس وتذكر حسنها وجمالها وشربه حتى الثمالة، أما الساقي فراح ينشد بدوره.

فلما فرغ من إنشاده قال له الخرمند أحسنت بما فعلت. فعند ذلك نهض النعمان وأراد أن يأخذ المارية إلى بيته، فاعترضه الصنصيل وقال أني كسوتها بالثياب الفاخرة والحلل الباهرة، وأنا أحق بها من كل أحد، فقال له النعمان أن لاأمكنك من ذلك حتى نرى كيف ينتهي الحال بيننا وبين بني هلال، وأنا من رأيي أن نطلق سبيلها فتذهب إلى أهلها خوفا من القيل والقال، فقال الصنصيل هذا لا يكون وأنا مرادي أن أنشد الشعر وه تجيبيني عليه ولا نريد منها غير ذلك، ثم أشار يقول:


قال الملك صنصيل يا مارية غني لي
وارفعي المنديل عن وجنتك الحمرا
يا مارية بحياتك قومي اشربي كاساتك
وبيني شاماتك وريقك زي الخمرا
قومي تعالي لقربي لأذوقك من شربي
وقربي لجنبي حتى تطيب السكرا
صنصيل قلل كلامك بنت العرب قدامك
إذا يصير هزامك من سباع القفرا
يامارية ارتدي برجالك لاتعتدي
بالحرب ماهم قدي إذا دمهم يجري
غدا يجيك سلامة أسمر طويل القامة سيفه يزيل الهامة
في كل ضرب عشرا سلامي ذاك راحي
إن أتى لكفاحي أقتله فوق الصخرا
إذا يجيك الغالي أمير بتخته عالي
حسن كبير هلالي قومه كموج البحر





( قال الراوي ):

وكانت جالسة أخت الملك خرمند، وكان اسمها تاج بخت، فلما سمعت أن مارية هانت عمهاالصنصيل في شعرها، لطمتها بين عينيها فآلمتها وسال الدم من جبينها، فلما شاهد أبو زيد تلك الحال غضب ولولا وجود الحديد بالشباك لدخل عليهم وأورثهم الدمار وأما الملك النعمان فإنه استعظم الأمر ونهض على الأقدام وسل بكفه الحسام وجعل يتوعد.

ولما فرغ النعمان من هذا الكلام وسمعته ملوك الأعجام، خافوا من الشرور وعواقب الأمور، فقال خرمند للنعمان خذ مارية إلى عندك هذه الليلة، لأنه يخشى من تواليها، فمتى ظفرنا بهؤلاء العرب فحينئذ نبلغ منها الأرب، فعند ذلك قال لها النعمان تعالي أيتها الأميرة إلى بيتي، فسارت معه ولم يعترض أحد بالكلام، فلما شاهد أبو زيد أفعال النعمان شكره في قلبه وقال إن هذا الرجل يستحق كل جميل، ثم نزل من أعلى الشجرة وتبع آثار النعمان حتى وصل إلى منزله فسمعه يقول لإبنته، خذي هذه الأميرة وافرشي لها غرفتك فإنها من بيت شريف، فترحبت بها وأكرمتها، ثم رجع النعمان ليصرف باقي ليلته عند الأعجام، ورجع أبو زيد لبني هلال، وعند وصوله إلى الخيام سمع أصوات البكاء والنواح لأنهم كانوا يظنون بأنه مات، فلما دخل على الأمير حسن وسلم عليه، فنهض وشكر الله على سلامته وكذلك فعلت باقي السادات، وسأله القاضي بدير عن المارية ابنته فأجابه يقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
الأيام والدنيا تسبب هوايل
وصلت إلى حلة الأعجام بلابطا
فدرت ميامنها ودرت الشمايل
إلى أن نظرت المارية في عيني
فقولي صحيح ليس فيه زلايل
في قصر خرمند يا قوم جالسة
ملوك العجم من حولها كالجمايل
والطاس داير والجنك والغنا
والنعمان بينهم وهوشهم فاضل
يمر عليها الكاس ما تذوقه
فتحسه مثل سم القواتل
فكانت تنادي الصوت يا آل عامر
وتضرب بأيدها يمين وشمايل
فقام الملك النعمان أتى بها
فخلصها منهم بضرب هائل
وأخذها في الحال إلى دار بنته
وأوصى بها بنته وكل الأهايل
فإن عانني الرحمن ربي أجيبها
وأهدم الكوفة ووحدي أقاتل



( قال الراوي ):
فلما فرغ الأمير أبو زيد من كلامه وسمع الحاضرون فحوى شعره ونظامه، قال الأمير حسن مرادي الآن أكتب كتابا إلى ملوك الأعجام وأطلب من الخرمند أن يرسل المارية الآن عند الملك النعمان، فماذا تقول في ذلك؟ فقال أبو زيد لابأس، فلعلهم يتأثرون من كتابك ويرسلونها، فعند ذلك كتب يقول:

قال الفتى حسن الهلالي أو علي
النار في قلبي تهب وتشتعل
يا ملك خرمند اسمع قصتي
أبعث لنا المارية ولاتتمهل
انك ان أرسلتها لبيوتنا
فترى العساكر ودياب ترحل
حتى اذا خالفت في ارسالها
نهجم عليكم في الصباح وتقتل



فلما فرغ الأمير حسن من هذا الشعر والنظام، أرسله من نجاب ليعطيه إلى الملك ويأتيه بالجواب، فامتثل حتى وصل إلى الملك الخرمند وسلمه الكتاب، ففتحه وقرأه ولما عرف معناه مزقه في الحال وأمر العساكر أن تستعد للقتال، وخرج بجيوش الأعجام لقتال بني هلال وكان نجاب السلطان حسن قد أوصل هذا الخبر لبني هلال، فاستعدوا للحرب وفي أوائلهم الأمير أبو زيد والأمير دياب وغيرهم من الفرسان والتقوا بالأعجام، قاتلوا أشد قتال وفعل أبو زيد أفعالا تشيب الأطفال، ولله در الأمير دياب! فإنه قاتل في ذلك اليوم حتى وصل إلى الملك القمقام وضربه بالسيف على عاتقه خرج يلمع من علائقه ثم مال على القوم وقتل منهم عدة رجال.

فلما رأت عساكر الأعجام تلك الأحوال ارتدوا راجعين في تلك الصحراء وقطع دياب رأس القمقام وسار به إلى الأمير حسن وباقي السادات وألقاه أمامهم فشكروه ثم رجع بنو هلال بالعز والانتصار، وكان أول من برز إلى القتال أبو زيد الفارس المفضال، فبرز إليه الملك المنذر فالتقاه أبو زيد وانطبق عليه كسبع الآجام، ولم تكن ساعة من الزمن حتى ضربه أبو زيد بالسيف على هامة قده نصفين فوقع على الأرض يتخبط بعضه ببعض.

فبرز أخوه الأمير بندر ليأخذ بثأر أخيه فالتقاه أبو زيد بقلب كالحديد، ثم هجم عليه وضربه بالسيف فالحقه بأخيه، فهجمت الأعجام فالتقتهم بنو هلال وحكمت فيهم ضرب السيوف، وقتلت منهم عشرة آلاف من صناديد الأبطال، فانهزمت إلى ورائها وفي اليوم الثاني دقت الأعجام طبولها وركبت خيولها وبرزت إلى القتال طالبة أخذ الثأر فبرز إلى الميدان الأمير أبو زيد فبرز إليه المغل وأخذا يتضاربان ويتطاعنان، وكان المغل المذكرو من أفرس الفرسان قوي الجنان، فقاتل أبو زيد أشد قتال وضربه ضربة صامدة فاستلقاها أبو زيد في الترس فقطعته نصفين، ونزلت على رقبة الجواد فأبرتها كما يبري الكاتب القلم، فوقع أبو زيد على الأرض فأراد المغل أن يكمل عليه فبادر إليه الأمير دياب وخلصه، وفي الحال أتوه بجواد فركبه وهجم هو ودياب على صفوف الأعجام وتبعهم باقي أبطال بني هلال من اليمين والشمال، وكانت موقعة مهولة قتل فيها خلايق كثيرة وكان من جملة المقتولين المغل وغيره من سادات العجم والمقدمين، وانهزمت العجم أقبح هزيمة وثبت الملك الصنصيل وهو راكب على جواد فبرز إليه دياب وهو راكب على الخضرا، فالتقاه الصنصيل واشتد بين الفارسين القتال وعظمت الأهوال، وما زالا على تلك الحال إلى وقت الظهر، وكان الصنصيل قد اعتراه التعب فولى وطلب لنفسه الهرب، فلما رأت عساكر العجم بأن سيدها قد انهزم، خافت من العواقب فارتدت إلى الحلة فدخلت إليها وأغلقت الأبواب، فجمع الملك خرمند ملوك قومه وقال لهم مرادي إذا أن أخرج إلى قتال بني هلال فأريد أن تهجموا وتقاتلوا وإلا صرنا معيرة وفضيحة عند الملوك، فوعدوه بأنهم سيبذلون غاية المجهود ويقاتلون قتال الأسود، ولما أصبح الصباح ركب الملك خرمند وجيوشه وخرج يريد القتال فالتقاه في الحال جميع الفرسان والأبطال وتقاتل الجمعان، فالتقى أبو زيد بالملك الخرمند فتطاعنا بالرماح وبالسيوف، وما زالا على تلك الحال من الصباح إلى وقت الزوال، ولم يقدر أحد على خصمه فافترقا عن بعضهما البعض وبات كل فريق في ناحية من الأرض.

وفي الصباح برز الملك الخرمند إلى معركة الكفاح وطلب أن يبرز له السلطان حسن فبرز إليه السلطان حسن وقال له أيها الملك إذا أرت أن تنتهي الحرب بيننا فرد لنا المارية حتى ننهي الحرب ونرحل عن بلادكم في الحال، فقال لله كيف أسلمكم المارية وقد قتل أكثر أبطالنا من أجلها، ولكن دونك والقتال وحمل عليه فالتقاه السلطان حسن بهمة وحمية واشتبك بينهما القتال، وكان السلطان حسن أبرع من الخرمند، فلاصقه وضايقه وضربه بالسيف على رأسه شقه إلى تكة لباسه، فلما قتل الخرمند ولت الأعجام وطلبت الفرار، فتبعتها بنو هلال وحكمت فيها السيوف، فلما نظر الملك النعمان ما حل بالأعجام من الذل والهوان، سار إلى السلطان حسن وسلمه المفاتيح وطلب منه أن يكفوا عن القتال فأجابه إلى طلبه، وأمر بوقف القتال فاجتمع الأمراء عند السلطان حسن ورحبوا بالملك النعمان، فسار بهم إلى الحلة وأدخلهم قصر الخرمند فرأوا به الشيء الكثير من التحف الثمينة، فجمعها السلطان حسن ونقلها إلى المضارب والخيام، ثم دخلوا إلى قصر النعمان فوجدوا فيه المارية معززة مكرمة فأخذوها باحتفال عظيم، ثم نادى السلطان حسن بالأعجام وقال لهم لقد أقمت عليكم الملك النعمان وهو ملك عادل فأطيعوه ولا تخالفوه لأنه نائبي في هذه البلاد وسيدفع لنا الجزية في كل عام، فقالوا سمعا وطاعة أيها الملك العظيم.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:11 PM
الجزء الخامس من قصة الملك الغضبان





( قال الراوي ):

كان حاكم بلاد التركمان رجل عظيم الشأن إسمه( الغطريف ) ويلقب بالغضبان، وله عدة وزراء وأعوان ومن جملتهم الوزير النعمان، وهو صاحب معرفة وتدبير في أمور السياسة خبير، وله ابن أخت وكان ولي عده ونائبه نمر الجارح. وكان الملك الغضبان يركن إليه، ولما وصلت جموع بني هلال وخيمت في تلك الأطلال وبلغ الغضبان هذا الخبر تطاير من عينيه الشرر، فاجتمع بوزرائه وباقي الأعوان وعقد معهم مجلسا في هذا الشأن، فقال له الوزير النعان الرأي عندي أن ترسل لملكهم تطلب منه المال، فأجاب الملك أن أرسل الطلب بلغنا القصد والأرب، وان أبى وامتنع ركبنا عليه بكل فارس صميدع، فننهب أموالهم ونسبي حريمهم وعيالهم ونقتل شبابهم ورجالهم، فاستحسن الغضبان هذا الرأي وكتب اليهم بمعناه.

ثم ختم الرسالة وسلمها إلى عبده رشيد وأمر أن يسير بدون إمهال ويسلمها إلى الأمير حسن سيد بني هلال، فامتثل أمره وركب على ناقة وسار حتى أشرف إلى نجع بني هلال، فنزل من على ناقته ودخل على الأمير حسن فسلم عليه وقبل يديه ثم ناوله الكتاب ووقف ينتظر الجواب، فلما فتحه وقرأه واطلع على ما حواه انسغل باله وتغيرت أحواله، فقال له أبو زيد علامك يا أمير حسن فإني أراك في غم وتكدير، فناوله الكتاب فلما قرأ الكتاب قال أنا أرد الجواب.

ثم طوى الكتاب وأعطاه إلى الحاجب، فأخذه وجد حتى وصل إلى مولاه وأعطاه الكتاب فلما فتحه وعرف فحواه مزقه ورماه، واغتاظ الغيظ الشديد، وفي الحال أمر ابن أخته ووزيره نمر الجارح وابن عمه النعمان، أن يجمعا العساكر والأبطال لمحاربة بني هلال، فدقت طبول الحرب واجتمعت العساكر من كل جهة ومكان، وكانوا نحو مائة ألف بطل فركبوا بالعجل وهم معتقلون بالسلاح وفي أيديهم الرماح، وركب نمر الجارح في مقدمة العساكر وجدوا بالمسير قاصدين بني هلال، فلما علمت بنو هلال بقدومهم، استعدوا لحربهم فدقوا طبولهم بالعجل، فاجتمع الفرسان ودخلوا على أميرهم حسن، وهو جالس في الديوان وأعلموه بما جرى فأمرهم أن يسيروا للقتال، فركبوا وفي مقدمتهم الأمير أبو زيد فالتقت العساكر ببعضها البعض، وهجمت بنو هلال بقلوب كالصوان، وانقضوا على عساكر الغضبان، فاشتد القتال وفعل أبو زيد في ذلك النهار فعالا تذكر على مدى الإعصار، وكذلك فعل الأمير دياب وباقي الفرسان، فانهم ثبتوا وقاتلوا وما قصروا، وكان الأمير دياب قد التقى بالأمير نمر الجارح وهو ينخى رجاله، فتقدم دياب يريد قتاله، فصدمه نمر في الحال بقلب أقوى من الصوان واشتد بينهما القتال، وكان نمر قد طعن خصمه بالسنان وقال خذها من يد فارس الفرسان، فغطس دياب تحت بطن الخضرا فأخطأته الضربة، وهجم على خصمه هجوم القضاء المنزل وضربه بالدبوس على الخوذة فتألم وارتد راجعا الى الوراء وندم على ما جرى، وفي الحال هجمت بنو هلال على الأعداء من اليمين والشمال وأذاقوهم الأهوال وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكان النهار قد مضى وزال وأقبل الليل بالإنسدال، فانفصلت العساكر عن بعضها البعض ونزلت كل طائفة في ناحية من الأرض.

ورجع الأمير دياب من ساحة الميدان ودخل على الأمير حسن وهو فرحان فالتقاه بالبشاشة والإكرام، وقال له كيف وجدت خصمك نمر الجارح، أجاب إذا أقصر عمره وأكفيك شره، فشكره على ذلك وباتوا على أحسن حال، أما عساكر الغضبان فإنهم رجعوا من ساحة الميدان وهم في قلق واضطراب من قتال أبي زيد ودياب، وكان نمر قد جمع الأمراء والسادات وأخذ يستشيرهم في أمر الحرب عليه بطلب النجدة من عمه الملك الغضبان فاستصوب رأيهم وفي الحال كتب إلى خاله يعلمه بواقعة أحواله ويطلب منه المعونة.

وطوى الكتاب وختمه وسلمه إلى نجاب يقال له عقاب، فأخذه وجد في قطع البراري والقيعان حتى وصل إلى الملك الغضبان، فدخل عليه وقبل الأرض بين قدميه، ثم ناوله الكتاب فلما فتحه وقرأه، اغتاظ وتأثر وتطاير من عينيه الشرر، وأقس أنه لابد أن يفني بني هلال ولا يبقي أحدا منهم، ثم أمر بجمع العساكر والفرسان فركبت خيولها واعتقلت بسيوفها ونصولها، وركب أيضا الضرغام أخو نمر ووزيره النعمان وقصدوا بني هلال بقلوب كالجبال، وجدوا في البراري وكان عدد الفرسان خمسمائة ألف عنان. هذا ما كان هؤلاء، وأما ما كان من نمر الجارح فإنه بعد إيفاد الرسول لخاله، ركب ثاني الأيام بجميع فرسانه وأبطاله، وتقدم نحو بني هلال فتقابل الفريقان في ساحة الميدان، وتقدم الأمير نمر إلى معركة الطعان فالتقاه الأمير دياب وهجم عليه كليث الغاب واشتبك بينهما الحرب وأخذا في الطعن والضرب، فلله درهما من بطلين وفارسين عظيمين!

أما دياب فكان أشجع من نمر وأقدر من وأعلم منه بمواقع الطعن، وأخيرا طعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع على الأرض قتيلا وأيقن قومه بالهلاك والدمار، وطلبوا الهزيمة والفرار، وتبعهم بنو هلال وقتلوا منهم عددا كثيرا، وبينما هم سائرون وفي الفلاة مشتتون، إذا بغبار قد ظهر عليهم ومن خلفه الجيوش والعساكر، فلما اقتربوا منهم وتأملوهم فاذا هم عساكر الغضبان، وكانوا قد خضروا لمعونة نمر فلما رأت العساكر المنهزمة ملكها الغضبان، تقدموا إليه وقبلوا يديه، وأعلموه بما حل فيهم من المصائب، وكيف أن بني هلال قتلت نمر الجارح، فلما سمع الملك الغضبان منهم هذا الكلام خرج عن دائرة الصواب فشخر ونخر وطغى وتجبر، وقال وحق ديني ومعبودي لابد من قتال بني هلال والتقتها بنو هلال تتقدمها السادات والأعيان، والأمير حسن بن سرحان، واشتبك الطعان بين الفرسان والتقى الضرغام بالأمير حسن وهو ينخى العساكر، فالتقاه الأمير بقلب أقوى من الصوان واخذا يتضاربان نحو ساعة من الزمان، وكان الامير حسن قد طعن ضرغام قاصدا أن يسقيه كأس الحمام فاختفى تحت بطن الجواد فراحت خائبة، ثم اعتلى الضرغام على ظهر حصانه وطعن الامير حسن فالتقاه بترس البولاد، وما زالا في عراك وصدام الى ان دقت طبول الانفصال، ورجعت العساكر من ساحة القتال، وفي الصباح ركبت العساكر الفرسان ظهور الخيول وتقدمت الى ساحة الميدان، فتقدم الامير ضرغام وطلب المبارزة والصدام، فبرز اليه الامير عقل وهجم عليه بقلب شديد، فالتقاه بقوة واخذا في الحرب فاشتد بينهما القتال مدة اربع ساعات، وكان الامير عقل قد استظهرعلى خصمه وطعنه بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره، فوقع الضرغام قتيلا وفي دماه جديلا، فلما نظر الغضبان ما جرى استعظم الامر وهجم على عقل وطعنه بالرمح ليعدمه الحياة فخلى منها عقل فراحت خائبة، وما زالا في قتال الى قرب الزوال، فرجعت بنو هلال في السرور والافراح، وعساكر الغضبان بالهم والاتراح، واخذوا جثة الضرغام واقاموا عليها النواح ثم كفنوه ودفنوه، ولما اصبح الصباح ركبت بنو هلال للحرب والكفاح،فالتقتها الاعداء وصاح الغضبان اين الشجعان اين جبابرة الضرب والطعان؟ فما اتم كلامه حتى صار الامير دياب امامه وصدمه صدمة ترتعد منها قلوب الفرسان، فالتقاه الغضبان وضربه بالسيف فالتقاه دياب بدرعة البولاد فانكسر السيف فأعطاه قومه غيره.

واشتد بينهما الحرب والكفاح الى ان اختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الملك الغضبان،وقال له خذها من يد فارس الميدان وليث المعارك والطعان، فغطس دياب تحت بطن الخضرا راحت الضربة خائبة، وما زالوا على ذلك وهم في اشد حرب الى قرب لمساء، فدقت طبول الانفصال فرجعت الفرسان من ساحة الميدان وباتوا يتحارسون تحت مشئية الرحمن، وعند الصباح برز الغضبان الى ساحة الكفاح وطلب مبارزة الفرسان فبرز اليه ابو زيد ليث الميدان. واقتتلا طول النهار وفعلا افعالا تذهل الابصار، ثم افترقا على سلام الى المضارب والخيام، واستمر القتال بين عساكر الغضبان وبني هلال ستة عشر يوما وقد قتل من عسكر الغضبان عشرون الف فارس ومن بني هلال خمسة الاف فارس، ثم استعدت العساكر للقتال فدقت طبول الحرب وتقدمت الفرسان للطعن والضرب، فبرز الى الميدان الملك الغضبان، وقال هل من مبارز هل من مناجز؟ فلا يبرز لي كسلان ولا عاجز اليوم يوم الهزاهز، فما تام كلامه حتى صار ابو زيد قدامه فالتقاه الغضبان بقلب شديد وأخذ معه في عراك وصدام.

فلما رأى أبو زيد قوة حربه تأخر عنه فعند ذلك صاح الغضبان على الفرسان بالهجوم على بني هلال. وكانت بني هلال قد قصرت في القتال، فتأخرت الى الوراء وعساكر الغضبان تتبعهم في تلك الصحراء وبعدها اجتمع ابو زيد بسادات بني هلال وقال لهم قد ساءت احوالنا وفقدت ابطالنا ورجالنا فما هو رأيكم ايها الاعيان في قتل الملك الغضبان؟ فقالوا الرأي عندك يا أمير فما فينا من يخالفك، فقال الرأي عندي نكون اربع فرق ونهجم على الاعداء من اربع جهات نسد عليهم جميع الطرق، وتكون الجازية في اول العماريات مع باقي النساء والبنات واهجم انا من جهة الشمال والامير زيدان والامير حسن والقاضي بدير من بقية الجهات بباقي الابطال، ونقاتلهم اشد قتال والا حل بنا الوبال، فاستصوبوا رأيه لانهم رأوه عين الصواب.

ولما اصبح الصباح ركبت الفرسان للحرب والكفاح وانقسمت بنو هلال اربع فرق، وكان السابق بفرقته الامير دياب فصاح على الفرسان وحكم سيفه بالرقاب وتبعه أخوه زيدان بكل الفرسان بقلوب أقوى من الصوان، وجندلوا الابطال في ساحة الميدان، ولما رأى الغضبان ما حل بقومه من الهوان استعظم ذلك الشأن فجعل ينخي الابطال وتقدم بنفسه وقد هانت عليه المنية وضرب فيهم بالحسام وتبعه الفرسان من خلف وقدام، فثبت الشجاع وفر الجبان، واذا بجيوش وعساكر الامير حسن بن سرحان راكب ببني دريد وابو زيد ببني زحلان والقاضي بدير بباقي الرجال والشجعان، ومن حوله السادات بالبياق والرايات، فهجموا على عساكر الغضبان من كل جهة ومكان، واشتد قلب دياب بقدوم القوم وامل بالنصر فقاتل اشد قتال، وهكذا فعات بنو هلال وكان يوما شديدا لم يسمع مثله في سالف الاجيال، وكان الملك الغضبان قد برز الى الامير دياب وهو غائب عن الصواب، ودياب يدور حوله مثل ادولاب وهو ثابت على الحرب والجلاد كأنه طود من الاطواد، فعند ذلك تقدم الامير حسن والامير زيد وهجموا هجمة رجل واحد على الغضبان وبهذه الفعال هان على دياب القتال، فقوم السنان وقال له خذ هذه الطعنة من يد الامير دياب وطعنه بالرمح في صدره. وتحمس دياب ومال على الابطال ففرقها على اليمين والشمال، وتبعه بنو زغبي الشجعان وبنو زحلان وهجموا على عساكر الغضبان بقلب اقوى من الصوان، وكانت عساكر الغضبان لما رأت ملكها قد مات حلت بها الآفات وضعفت عزيمتها وايقنت بالهلاك والبوار فولوا الادبار الى الهزيمة والفرار، فتبعتهم فرسان بني هلال وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكسبوا غنائم ذات قدر وقيمة، وكانوا قد تبعوهم الى البلد ونهبوا الاموال وسبوا الحريم والعيال، وبعد ذلك رجعوا الى الخيام ثم حضر ابن الملك الغضبان، وكان اسمه عبد المدان، الى عند الامير حسن بن سرحان وبمعيته الاكابر والاعيان، وطلبوا منه الامان فاجابهم الى ذلك الشأن وعاملهم باللطف والاحسان، وبعد ذلك ولوا الامير عبد المدان حاكما على تلك الاوطان مكان ابيه، وقامت بنو هلال في الاوطان خمسة ايام ثم دقت طبول الحرب الى الارتحال، حتى وصلوا الى بلاد العراق ولما وصلوا اليها وجدوا ان الحاكم على تلك البلاد رجل من الاجواد قد اتصف بالجود والكرم والفضائل، يقال له الخفاجي عامر، يحكم على البصرة وبغداد والموصل والعراق، وكان عنده من الابطال والفرسان نحو مائتي الف عنان. فبينما هو جالس في الديوان وحوله الوزراء والاعيان، اذ دخلت عليه الرعيان وقالوا له اعلم يا ملك الزمان ان بني هلال قد دخلت ديارنا وأكلت ثمار بساتيننا، وقد هربت من امامهم الرعيان وتركت النوق والفصلان. فلما سمع الخفاجي هذا الكلام صار الضياء في عينيه كالظلام، والتفت الى الامراء وقال لهم ما قولكم في بني هلال؟ فعند ذلك تقدم الوزير عميرة واشار عليه مشورة.


( قال الراوي ):

فلما فرغ الوزير من الكلام قال الخفاجي هذا هو الصواب والامر الذي لايعاب، ثم كتب الى الامير حسن يطلب عشر المال والنوق والجمال والبنات الابكار، وطوى الكتاب وختمه واعطاه لوزيره سلام ليأخذه الى الامير حسن، فأخذه وجد حتى وصل الى نجوع بني هلال، فدخل على الامير حسن وناوله الكتاب، فلما قرأه وعرف فحواه اغتاظ من ذلك التهديد وخاف من عواقب الامور ثم انه امر بأخذ الوزير الى دار الضيافة ثم قال الرواي ما الرأي والشور ايها السادة؟ قالوا الرأي عندك فافعل ما تريد.

فقال مرادي ان ارسل له كتابا ينطوي على المودة وانتظر الجواب فقال الجميع هذا هو الصواب، فعند ذلك كتب الامير حسن شعرا واعطاه الى الوزير سلام فأخذه وسار حتى اشرف على الخفاجي عامر، فأعطاه الكتاب ففتحه وقرأه وعرف فحواه، وراح يرحب بهم أجمل ترحيب، وكذلك شكره الامير حسن، فلما فرغ الامير حسن من كلامه، انشرح خاطر الخفاجي عامر وتقدم بعده الامير درغام واشار يترحب ببني هلال، ثم ركبت بنو هلال مطاياهم والخفاجي عامر ودخلوا البلد في فرح وسرور، وتفرقت عرب بني هلال في تلك الاراضي وأما الامير حسن والسادات فبقوا عند الخفاجي عامر على أكل طعام وشرب دام مدة ثلاثة شهور وهم على أحسن حال، فاتفق في بعض الايام ان الخفاجي أولم وليمة عظيمة دعى اليها الامير حسن وسادات بني هلال، وحضرتها النساء والبنات فأكلوا ولذوا وطربوا ودارت كاسات المدام على من حضر في ذلك المقام، وكانت البنات والنساء الحراير يشربن على اسم الخفاجي عامر، وكانت الجازية بديعة الجمال فصيحة المقال تقدمت الى الخفاجي عامر تصف له محاسن بنات بني هلال وما خصهن الله به من اللطف والكمال والظرف والجمال واشارت تقول:


تقول فتاة الحي ام محمد
ونيران قلبي زايدات اشعال
ان الامارا يا امير بناتهم
مثل االظبا في الحسن والاشكال
اما جمال الطعن بنت سلامة
الوجه منها مثل بدر قد مال
وبنت ابو موسى دياب الماجد
فعيونها يا امير كعين الغزال

وبنت قاضينا بدير الفايد
تشبه غزالا بالفلاة جفال
وبنت سلطان البوادي ابو علي
شبيهة البدر في بهاه وكمال
انظر لحسني يا امير فانني
اجمل والطف من نساء هلال



فلما فرغت الجازية من هذا الوصف شكرها الخفاجي على شعرها ونظامها ثم نهض الامير حسن وشكر الخفاجي على ذلك الاكرام وقال له، اريد من فضلك ان تشرفني غدا بجميع رجالك لاجل الطعام وشرب المدام، فاجابه الى ذلك فأولم الامير حسن وليمة عظيمة ذبح فيها الف رأس من الاغنام فكانت أعظم الولايم لم يسمع مثلها في الاعارب والاعاجم، حضر فيها الخفاجي عامر وقومه وسادات العشائر وجلسوا على مائدة الطعام ودارت بينهم كاسات المدام فطربت الامراء والسادات فعند ذلك بدأ الامير حسن والخفاجي يتبادلان التحية من جديد، ولما فرغ الخفاجي من الكلام أمر حسن بالرحيل فقال الخفاجي لا بد من مسيري معكم الى تونس، فلما سمع أبوه الضرغام منه هذا الكلام لم يهن عليه ذلك الامر، لانه ليس له صبر على فراقه ساعة واحدة، فلم يقبل الخفاجي وطلب من ابنته وزوجته ان يذهبا معه الى تلك الديار ويتركا الحي، فامتنعتا عن المسير وبكتا بدمع غزير ثم تقدمت ابنته ذؤابة واشارت تنهيه عن السفر وتقول:

تقول ذؤابة يا ابي لاتسافر
فتترك الاهل في عنا ومصاب
فما لك يا امير في الغرب حاجة
ولا لك بها مال ولا أسباب
ولا ثار لك عند الزناتي خليفة
ولا دم لك أيضا ولا أصحاب
فكيف تشتتنا وتطلب بعادنا
ونبقى ضايعين في عنا وحساب
وتبقى الهلاليين مجموع شملهم
ونحن بلا أهل ولا أصحاب


وبعد ذلك حضرت سادات العشائر لوداع الخفاجي عامر، فودعوه بالبكاء والنواح، ودعوا له بالتوفيق والنجاح، ثم امر المير حسن بدق طبل الرحيل، فعند ذلك هدت المضارب وركب الفرسان ظهور النجايب، واعتقلوا بالسيوف والنصول وركبت النساء والبنات في الهوادج وامام الجميع زوجة الخفاجي وابنته و الجازية ونساء الامراء والسادات وكان الخفاجي من افرح البشر في هذا السفر.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:13 PM
((الجزء السادس)) قصة التمرلنك




( قال الراوي ):

لما قتلت بنو هلال ملوك العجم وكان الخرمند صهر التمرلنك يحكم على بلاد الموصل فلما قتل الخرمند ارسلت زهرة الى لابيها كتابا واعلمته بقتل زوجها الخرمند فلما سمع التمرلنك ذلك الكلام طلع الى الديوان وهو غضبان واخبر وزيره اسكندر بمقتل خرمند. قال يا ملك الزمان ارسل للبلاد واجمع العساكر ودعنا نلاقي بني هلال فأمره التمرلنك ام يأخذ معه مائتي الف مقاتل وقال له سر بالعساكر وكونوا رجالا، فسلر الوزير اسكندر بالعساكر الى ان وصل الى مكان يقال له القصر فوجد فيه تجارا آتين من بلاد العجم، فسألهم من اين اتيتم والى اين متجهون؟ فقالوا اتينا من بلاد العجم الى هذا المكان فاستدعى كبير التجار وكان اسمه كمال الدين وقال له ماذا سمعت عن بني هلال؟ فقال قد قتلوا الملوك وخربوا الكوفة وقتلوا الوزير وابن عمه ورفقته وكل الفوارس، وسبوا النساء وهم راحلين الى الغرب.


( قال الراوي ):

فلما فرغ كبير التجار من كلامه والوزير يسمع نظامه قال الوزير لقومه الرأي أن نرسل مائتي فارس إلى بلاد الرها يكشفون لنا الخبر، ونحن نبقى هنا حتى يأتي الملك، وإذا قال لماذا ذهبتم، نخبره بأنه أتانا علم بأن بني هلال نازلون في بلدة جاكدة، ونحن أرسلنا لهم روادا يكشفون لنا خبرهم وبقينا ننتظرهم، فقالوا هذا هو الرأي الصواب، أما التمرلنك فإنه بعث المكاتيب إلى جميع البلاد فحضرت العساكر فإذا هي أربع كرات ومعهم المدافع، وأحضر ابن أخته شروان وقال له أحكم موضعي جتى أحضر لك وطفا بنت دياب، فقال له على الرأس والعين، ثم أنه سار بالعساكر والجيوش يقطع البراري والقفار والسهول والأوعار، حتى وصلوا إلى بلاد الفرقس التي نازل فيها الوزير اسكندر، فلما وصل الملك لاقاه الوزير وسلم عليه، فقال له علامك ما لحقت بقوم هلال، فحكى له ما صار فعند ذلك غضب الملك وأمر بقتله، فتشفع به ملوك العجم من القتل فصفح عنه، ثم أنهم ساروا إلى أن وصلوا لرأس العين ونزلوا في ذلك المكان.

أما ما جرى لبني هلال فإن الأمير حسن رأى مناما هائلا، فلما أصبح استدعى الأمراء وراح يخبرهم بالمنام. فلما فرغ حسن من كلامه قالوا لاحول ولا قوة إلا بالله، فأحضر أبو زيد كتاب الرمل وتفسير الأحلام وضرب تخت الرمل ورسم الأشكال على شرح الحال فرأى الأهوال فبكى بكاءا شديدا. فلما فرغ أبو زيد من كلامه قال لهم كونوا على حذر من الأعادي، وباتوا إلى الصباح حتى صار وقت الضحى فما أقبل عليهم أحد، فقال أبو زيد يا أمير دياب اعزل من قومك ألفا ومن بني زغبة ألفا ومن عرب القاضي ألفا ومن قوم حسن ألفا ومن بني هلال اثني عشر ألفا، وتسلمهم الظعن وتجعلهم أربع فرق من كل فرقة أربعة آلاف فارس، فرجع دياب ولم الظعن وفعل مثل ما قال له أبو زيد، واجتمع الأمراء عند الأمير حسن فقال لهم ما هو رأيكم؟

قالوا الرأي أنك ترسل كتابا للتمر لنك، وإذا بالأمير دياب رأى رجالا آتين من ناحية بلاد التمرلنك فمسكهم وأتى بهم للأمير حسن، فقال ما هذا يا دياب؟ قال لقيتهم في البرية فقال الأمير حسن أنا أكتب كتابا للتمرلنك وأرسله مع واحد منهم ثم أشار يرسل إلى التمرلنك.

طوى الكتاب وختمه وأعطاه إلى الذين جلبهم دياب، وقال لهم أعطوه إلى التمرلنك، فأخذوه وساروا حتى دخلوا عليه وأعطوه الكتاب أخذه وقرأه وعرف رموزه ومعناه، وقال مرادي أطلب منهم عشر المال والخيل والجمال والبنات الحسان وفي الحال أشار يكتب.

ثم طوى الكتاب وختمه وكان عنده عبد اسمه الماس لكنه كان شديد البأس صعب المراس، فقال يا ألماس خذ هذا الكتاب إلى حسن بن سرحان أمير العربان، وقل له يرسل لنا نصف مال بني هلال، والنصف الآخر له بخشيش، فأخذ العبد الكتاب وسار حتى وصل إلى عند الأمير حسن فدخل وقبل يديه وأعطاه الكتاب، فأخذه وقرأه وعرف رموزه ومعناه وقال إلى قومه مارأيكم أيها الأمراء؟ فتقدم الأمير أبو زيد وأشار يرسل له الجواب ويقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ولي دمع جرى فوق الخدود سكيبا
من أجل كتاب قد أفاض مدامعي
وعدت أقاسي من كلامه نحيبا
فترسل تريد المال منا غصيبة
وبنات هلال إليك نسيبها
ونحن رجال الحرب في يوم غارة
بيوم يعود الدم يجري سكيبها
فكم من ملوك كبار شتت شملهم
وراحوا من سيفي يقاسوا لهيبها
أنا أعلمك عن آل قيس وعامر
وآل زغبي خلاني أجيبها
إن طعتني أرحل بقومك يا فتى
نحن سباع الفلا ثم ذيبها


فلما فرغ أبو زيد من كلامه طوى الكتاب وختمه وأعطاه إلى العبد، فأخذه إلى التمرلنك ودخل عليه وأعطاه الكتاب فأخذه وقرأه، وعرف رموزه ومعناه وغضب غضبا شديدا وزاد به الغم والتنكيد، ثم استدعى بالوزير اسكندر وقال ان العربان لم يعطونا حسب طلبنا، وحياة رأسي لأحصدهم حصدا وأشردهم بالبراري، قال له الوزير دعني أكتب الجواب إلى الأمير أبي زيد فقال الملك لا يلزم الجواب وغدا نصلي عليهم نار الحرب ونسقيهم كأس الكرب، وثاني يوم ركب الأمير أبو زيد وأشرف على القوم رآهم مقبلين مثل الجراد المنتشر ما لهم أول من آخر فرجع وأخبر بني هلال بهذه الأبيات:

قال أبو زيد الهلالي سلامة
يا حسن جتنا العجم تمشي سريع

يا ملك جانا التمرلنك قاصدا
من فوق أشقر يا أمير تليع

والخيل من خلفه جراد زاحف
دوارع وسيوف تلمع لميع

أيا دياب اركب وانهض عاجل
واجعل الأعاجم أن يغدوا قطيع



( قال الراوي ):

وهم بالكلام وإذا بالعجم أقبلت مثل الجراد، فركب بنو هلال ولاقوا الأعاجم، ثم أنهم وقفوا مقابل بعضهم البعض فنزل وزير من وزراء التمرلنك إلى الميدان اسمه دخان، عرض وبان وطلب الفرسان وصاح على بني هلال، هل من مبارز هل من مناجر؟ لا يبرز لي كسلان ولا عاجز فما في حومة الميدان إلا الوزير دخان، فما أتم كلامه حتى صار القاضي بدير قدامه وصدمه صدمة هائلة، فقال له من تكون من الفرسان حتى جئت تهاجم الوزير؟

فقال أنا قاضي العربان ثم التقى البطلان كأنهما جبلان وافترقا كأنهما مركبان، وثار الغبار حتى سد الأقطار وقدحت حوافر الخيل نار، فزعق القاضي في وجه دخان صوتا مثل الرعد القاصف، ثم ضربه بالرمح فأخذها بالترس البولاد، راح ضرب القاضي خائبا فارتد الوزير وضرب القاضي بالسيف فشطب على رقبة الجواد فبراها كما يبري الكاتب القلم، فأراد أن يكمل عليه فأدركه الرياشي مفرج، وأركبوه جوادا والتقت الرجال بالرجال وجرى الدم وسال إلى وقت الزوال، دقت طبول الإنفصال وكل عاد إلى حيه، ولما أصبح الصباح دقت طبول الحرب والكفاح وركب التمرلنك بقومه، وركب بنو هلال وخرجوا إلى حومة الميدان واصطفوا، فبرز الوزير دخان إلى حومة الميدان ونادى على الفرسان فبرز له الأمير دياب.

والتقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، وضرب دخان ديابا بالسيف أخذها بترس البولاد راحت خائبة، ثم أن ديابا انحدف على دخان وكان معلم الخضرة إذا صار فيه الفارس وكان من ورائه تضربه الخضرة بالجوز، فلما انحدف على دخان وأراد أن يضربه، برم دخان من وراء دياب يريد أن يضربه، وإذا بالخضرة ضربته بالجوز رمته هو والجواد على الأرض، فنزل له دياب وشد كتافه وأخذه أسيرا إلى أن وصل لعند الأمير حسن، فقال هذا دخان الذي قتل جواد خالي القاضي بدير وقتل من بني هلال ستة عشر فارسا، قال حسن والله هذا بطل لا أسمح فيه أن يقتل ثم أمر بخلعة سنبة ولبسها إلى دخان وقال له عليك الأمان ان رحت عند التمرلنك مع السلامة وإن بقيت عندنا حلت البركة، فقال الوزير يا ملك الزمان لي ولد عند التمرلنك فقال دياب أبشر أنا أجيب لك إياه، فبقي دخان عند بني هلال، ولما أصبح الصباح ركبوا وركب ابن دخان وكان اسمه سكران فنزل إلى الميدان وطلب مبارزة الفرسان فنزل إليه دياب وقال له من أنت؟ فقال أنا سكران ابن الوزير دخان وأنت أسرت أبي، قال دياب واليوم الحقك به ثم التقى البطلان كأنهما جبلان، وافترقا كأنهما مركبان، وحان عليهما وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، ودياب لايريد أن يقتله إكراما لأبيه، فداما على ذلك الحال إلى أن أمسى المساء، دقت طبول الإنفصال فافترقا عن بعضهما وكل منهما طلب أهله، وباتا إلى الصباح فنزلا للحرب والكفاح وتجاولا في الميدان من الصباح إلى المساء فقال دياب وإلى متى وأنا أطول روحي، وسحب الدبوس وضرب به سكران أرماه ونزل إليه وشده وعاد به إلى أبيه الوزير دخان، فأخبره بما أكرمه به السلطان ففرح سكران بأبيه وبقيا عند بني هلال، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح ونزلوا إلى الميدان فبرز وزير للتمرلنك اسمه شاهين، فنزل له طوي بن مالك والتقى البطلان كأنهما جبلان حتى تعب منهما الزندان، ولم يزالا على تلك الحال من الصبح إلى العصر، فعندها قام طوي في عزم الركاب وضرب شاهين بعود القنا أخذها بترس البولاد راحت خائبة، ثم قام شاهين في عزم الركاب وضربه ومن عظم الضربة وقع شاهين من على ظهر الجواد إلى الآرض فضربه بالسيف على هامه ألقى رأسه قدامه، فلما رأت الأعجام شاهين قتيل، هجموا على العرب وهجمت العرب على الأعجام، والتحم القومان في بعضهم البعض، ولم يزالوا على تلك الحال إلى أن دقت طبول الإنفصال، فرجعوا إلى استحكاماتهم وفي الصباح اصطفت العساكر وبرز أبو زيد إلى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فنزل إليه اسكندر وزير التمرلنك فصدمه أبو زيد صدمة هائلة فتلقاه اسكندر وأنشد يقول:

أنني قرم غضنفر
رأس فرساني وعسكر

قال أبو سرحان اسكندر
لأنني قرم غشمشم

دوم في الجهات عابس
من يعاديني سيندم



فلما فرغ اسكندر من كلامه وأبو زيد يسمع نظامه أشار يرد عليه:

فارس يوم المجال
عادته قتل الرجال
قال أبو زيد الهلالي
جاك أبوزيد المسمى
من لقاكم ما يهما
يوم وقعات الصدام
سمها يهري العظام
ضربتي والسن سما
كما قتلت ملوك الأكابر
وزرا أيضا عساكر،
يا اسكندر قوم بادر
والتقيني بالصدام.



فلما فرغ الأمير أبو زيد والوزير اسكندر يسمع نظامه، التقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، ولم يزالا على تلك الحال إلى وقت العصر حتى كلت منهما الزنود، فعندها قام الوزير في عزم الركاب وضرب أبا زيد بالسيف فأخذها بدرعه البولاد راحت خائبة، ثم أن الأمير أبو زيد هجم عليه كأنه السبع الكاسر وضربه بالقرضاب على عنقه فقتله، عند ذلك حملت العجم على العرب والعرب على العجم، وانحطت من الأعدا الهمم ولله در أبو زيد ودياب وباقي الشباب بما قاموا به من الجهاد والنضال! وما فرق بينهم إلا الظلام، عندها دقت طبول الإنفصال فافترقوا عن الحرب والقتال وقد قتل من العجم خلق كثير، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح واصطف الفريقان فبرز التمرلك إلى الميدان، فلما رأى بنو هلال التمرنلك تعجبوا من همته وهو كأنه البرج الحصين، فقال حسن يا أبا زيد ماذا تقول في هذا الفارس، فقال أبو زيد العلم عند الله أنه عفريت من عفاريت سليمان فقال حسن نادوا إلى دخان لربما يعرفه، فنادوا له فحضر فقال حسن يا دخان من يكون هذا الفارس الذي في الميدان؟ فقال له هذا التمرلنك فقال حسن من ينزل إليه فقال دياب أنا أنزل إليه وعلى الله الإتكال، ثم نزل إلى الميدان وصدم تمرلنك فالتقاه وقال له من تكون من الفرسان؟ قال أنا دياب حداف الرقاب، فلما سمع التمرنلك هذا الكلام انطبق عليه والتقى البطلان كأنهما جبلان والتطما كأنهما بحران، ولم يزالا على تلك الحال إلى المساء، دقت طبول الإنفصال ورجعا عن القتال، وفي الصباح دقوا طبول الحرب والكفاح فنزل التمرلنك إلى الميدان وطلب الفرسان، فتقدم إليه فارس من بني زغبة فضربه التمرلنك طير رأسه، ثم نزل ثاني قتله وثالث جندله ورابع ما أمهله حتى قتل منهم عشرين فارسا، وأمسى المساء فدقت طبول الإنفصال فرجع كل فريق إلى حيه فقال الأمير حسن ما رأيك يا أبـا زيد؟ فقال أبو زيد الذي تريده يصير فقال حسن مرادي أن أرسل إلى التمرلنك كتابا لكي يترك القتال، فقال أبو زيد اكتب فكتب حسن إلى التمرلنك يقول:

يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
بدمع جرى فوق الخدود سكاب
نعم أيها الغادي على متن ضامر
تشابه نسيم الريح مثل الشهاب
إذا جيت للتمرلنك بلغ رسالتي
أيا ريت عمره ما يشوف نكاب
وقل له قال الأمير أبو علي
أمير ابن أمير من فروع أنساب
ألا يا ملك اسمع مقالتي وقصتي
وفز بنفسك من ملوك أعراب
وافهم كلامي لاتزيد عتاب
وتوقع بأوشم شومها وانكاب
فان طعنتي أسلم بروحك وعزوتك
من قبل ما تعلق بكم نار حربنا


فلما فرغ حسن من كلامه طوى التحرير وختمه وأعطاه إلى عبده، فأخذه وسار إلى التمرلنك وأعطاه التحرير، فقرأه فغضب غضبا شديدا وسحب السيف وضرب العبد طير رأسه، وقال لقومه غدا يكون آخر أيام بني هلال، فوصل الخبر للأمير حسن فغضب غضبا شديدا، وشاور الأمير أبو زيد على هذا الأمر فأجابه هاتوا لنا ثمانين ألف جمل وحملوها ترابا ناعما، ويركب مع الجمال ثمانون أميرا والعبيد تسوقها من الوراء ونركب نحن والله يعطي النصر لمن يشاء، فاعتمدوا على هذا الرأي ولما أصبح الصباح ركب الأمر أبو زيد بقومه التسعين ألفا والقاضي بقومه والأمير دياب بقومه، والأمير حسن بقومه ومشوا الجمال بعدما حملوها ترابا، وقال أبو زيد للذي مع الجمال إذا انكسرتم تعالوا صوبنا، ثم أنهم دقوا النوبات وطلبوا للقا والثبات، فلما سمع التمرلنك صوت الطبول دق طبله وركب بقومه، فهجمت الأعجام بالمدافع وكان عددها خمسمائة مدفع، فعندها لكزت بنو هلال الجمال على المدافع فجفلت من صوت المدافع، وكثر الصياح من وراء الجمال والعبيد تشكهم بالرماح وفزروا عدول التراب وهب الهواء وثار العجاج والغبار حتى عميت الأبصار، فركضت الجمال وداست الأعجام وخيلها، وحينئذ هجمت الأعراب الأسود وطعنوا الصدور والكبود، فلما نظر التمرلنك إلى ما صار في قومه أراد الهرب، وإذا بالأمير صبرا ابن أبو زيد عارضه في الطريق وصاح به، إلى أين يا ابن ألف قرنين فالتقاه التمرلنك بقلب مثل الصخر، وتجاولا في الميدان وتكسرت بينهما العيدان ثم هجم التمرلنك على الأمير صبرا هجمة الأسود وحمله على راحة زنده فتعلق صبرا بخصمه وسحب الخنجر وطعن به التمرلنك فعندها مالت العرب على العجم وما سلم منهم إلا كل طويل عمر، وفاتوا على خزائن التمرلنك وغنموا الأموال، وفرقها الأمير حسن على العرب وأحضر قوم التمرلنك والوزير دخان وجعله ملكا عليهم ومن بعدها ارتاحت العساكر من الحرب والصدام وأقاموا عدة أيام ورحلوا إلى أرض حلب.

قصة الخزاعي والملك بدريس بحلب




وكان حاكم حلب يقال له الملك بدريس، وكان صاحب مال وخيل وأبطال، فوصل له خبر بني هلال أنها أمحلت أرضهم وما فعلوا في الملوك الذين حاربوهم وكيف أن الخفاجي عامر أضافهم وسافرمعهم، فلما سمع هذا الكلام جمع أكابر قومه فقال وزيره الخزاعي علامك يا ملك جمعت القوم والفرسان؟

فأجابه أريد أن أخبركم عن بني هلال وما فعلوا قبل أن يدخلوا بلادنا وقتلوا أبطالنا ورجالنا، وإذا لم نعمل تدبيرا وقعنا في أمر عسير فقال الخزاعي الرأي عندي أن ترسل لهم روادا إلى أرض الكبيسة، يرودها ويعرف كم يكون معهم من العساكر والأبطال ويعود بالحال، حتى نحضر رجالنا لأجل حربهم وقتالهم، قال هذا هو الرأي الحميد، ثم استدعى برجل يسمى سابق وقال له مرادي منك أن تذهب وترود لنا بني هلال تنظر قومهم والفرسان وترجع لنا الخبر الشافي، فقال سمعا وطاعة، وركب ناقة عشارية وصار يقطع القيافي والقفار، حتى أشرف على نجوع بني هلال فرآهم بعدد الرمال وإذا بالأمير أبي زيد آتيا من الصيد فلما رآه عرف أنه رواد، فقال له أنت آت إلى بني هلال لتخبر مولاك بدريس عن أحوالنا، فأجابه أصبت في ظنك وما عاد شي مخبأ عنك ولكن قل لي عن اسمك حتى أعرفك، فقال له أنا أبو زيد، فقال له يأ أمير أعطني الأمان حتى أحكي لك السبب، فقال له لك الأمان وألف مرحبا بك، أنت ضيفي، عندها أشار سابق يقول شعرا.

فلما فرغ أبو زيد من كلامه وسابق يسمع نظامه، أطرق إلى الأرض فقال أبو زيد أنت اليوم ضيفي قم بنا إلى المنزل، فسار معه إلى بيته وأكرمه غاية الإكرام ثم قال قم بنا يا سابق إلى عند الأمير حسن نواجهك فيه، فأجاب أخاف أن يقتلني، فقال له لا تخف بكفالتي فقام وأخذه معه وسار لعند الأمير حسن فدخل أبو زيد وسلم فردوا عليه السلام، وجلسا فقال له حسن من أين ضيفك يا أمير أبا زيد؟ فقال له من حلب فاسأله عما تريد، فعندنها ناداه حسن فقام سابق وقبل يديه فقال له: حسن، من أين أنت آت وإلى أين ذاهب؟ فحكى له قصته على التمام ثم أقام عند أبي زيد عدة أيام وبعدها طلب إذنا للسفر، فأذن له وأعطاه مائة دينار، فسار وما هو مصدق بالنجاة إلى أن وسل إلى سيده ووزيره وأشار يقول شعرا بدوره.

فلما فرغ سابق من كلامه والملك يسمع نظامه، تغيرت منه الأحوال من عظم هذه الأقوال، ثم قال ما رأيكم أيها الناس الأعيان هل نبادرهم بالحرب أم ندعهم يجوزوا بلادنا بالأمان؟ فقالوا يا ملك الزمان نحن بين يديك ولا نبخل بأرواحنا عليك، والذي ترى فيه الصواب افعله، فقال الوزير أرى أن ننتظر حتى يصلوا إلينا ونكون قد جمعنا قومنا وأبطالنا حتى إذا ما وقع بيننا وبينهم القتال، نشيلهم على أسنة الرماح وننهب مالهم ونسبي عيالهم، فقال الملك هذا هو الرأي الموافق ثم أنه بعث بالأمر إلى جميع عماله بأن يحضروا حالا بالفرسان والأ[طال، وما مضى الا القليل من الأيام حتى غصت حلب الشهباء بالعساكر فسر الملك بهم وأمر القادة أن يكونوا دائما متيقظين لقدوم بني هلال.

أما بنو هلال فإنهم لم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى مكان قريب من حلب، فنزلوا فيه وامتدوا في نواحيه وأكلوا الأثمار من الأشجار وشربوا المياه، فهربت الأهالي والسكان وأعلموا الملك بدريس بهذا الشأن فصاح الملك: عليهم أيها الأبطال فقال له الوزير اطلب منهم عشر المال والنوق والجمال فإن أجابوا هذا الطب كان غاية المراد وإن امتنعوا بادرهم القتال، فاستصوب الملك هذا المقال وكتب.

فلما فرغ بدريس من شعره ونظامه طوى الكتاب وختمه وأرسله مع نجاب إلى بني هلال فدخل نجاب على الأمير حسن وقبل يديه ثم سلمه الكتاب وطلب الجواب، فلما قرأه وفهم فحواه تغيرت منه الأحوال ولكنه أخفى الكمد وأظهر الصبر والجلد، وأمر بأن يأخذوا الساعي إلى دار الضيافة فأخذوه وبعد ذلك التفت الأمير حسن إلى السادات والرجال وأعلمهم بما كتب بدريس.

عندئذ قال أبو زيد: يا ابن عمي ليس لبدريس غير ضرب السيف وأما دياب فصار الشرر يتطاير من عينيه وعوارضه ترقص في وجهه وقال: علي في بدريس والخزاعي وحدي فعند ذلك أشار القاضي بدير يرد له الجواب ثم أعطاه للنجاب فأخذه وسار حتى وصل إلى الملك بدريس فناوله إياه، فلما قرأه اسودت الدنيا في عينيه ثم أمر بجمع العساكر والأبطال، فامتثلوا أمره وجمعوا مائتي ألف بطل فركبت الفرسان ظهورالخيل واعتقلوا بالرماح والنصول وركب الخزاعي بهذا الجيش الكثير وساروا لإستقبال بني هلال قبل وصولهم إلى الأطلال، فلما التقى الجمعان للقتال برز الخزاعي إلى ساحة الميدان وطلب مبارزة الفرسان فبرز إليه الأمير دياب فالتقاه الخزاعي بقلب كالحديد وصدمه صدمة الفرسان الصناديد وأنشد يهدده.

فلما فرغ دياب من شعره التحم البطلان في القتال، ومازالا في كر وفر وطعن وضرب من الصباح إلى وقت الظهر وكان الخزاعي قد ضاقت به الحيل فطعن خصمه بالرمح فانقلب دياب تحت الفرس، فراحت الطعنة خايبة فعند ذلك استوى على ظهر الخضرا وضرب الخزاعي بالسيف، فالتقاه بدرعه البولاد فوقعت على رقبة الجواد، فوقع الوزير على الأرض، وإذا بقومه أدركوه وخلصوه، فلما رأى دياب هجوم الفرسان والأبطال صاح في بني زغبة وأمرهم بالهجوم والقتال، فهجموا عليهم ومكنوا الصوارم في رقابهم وما زال دياب وراهم في الطلب حتى أوصلهم إلى مدينة حلب. فدخلوا المدينة وأغلقوا الأبواب ورجع دياب وقصد حسن في الصيوان وسلم عليه فقبله حسن بين عينيه وشكره، فأخبره بما جرى في ذلك اليوم وقال لابد للمك بدريس أن يقصدنا باكرا ويخرج إلى ميدان القتال فأذيقه الوبال واستخلص منه الغنائم والأموال.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:15 PM
قصة أسر دياب( الجزء الثامن )



فأخبرونا أنك قتلته وملكت بلاده ففرحنا لأنك قتلت هذا الملعون الخيبري، ونحن أتينا إليك ومالنا ونوالنا وكل ما تحت يدنا فهو لك وهذه البدل منا هدية إليك. ففرح بهم فرحا شديدا ثم التفت إلى التاجر الثاني وسأله ما اسمك؟ قال منذر ثم التلفت إلى التاجر الثالث فسأله ما اسمك؟ فأجابه نطون العقيلي، فقال لهم ان كان متارجكم تعوز مائة جمل أعطيها لكم ولكن ان كان مرادكم أكون لكم حمى من المضرين أخفركم إلى أرض تونس الغرب، فاحلفوا بالله العظيم لاتخونوني، فحلوا له أنهم لا يخونوه أبدا فقال لهم سيروا بنا إلى المركب حتى أنظر متارجكم وأرى الحمولة إلى كم جمل تحتاج حتى أرسل لكم مع عبيدي، فدخلوا معه بالخداع قالوا أنت تريد أن يشعر الناس بنا ونحن نريد أن لايضطلع على سرنا إلا الله وأنت لإن العرب متى رأوا متاجرنا يطمعون بنا، فيقع الخلاف بيننا وبينهم وينشب القتال، فنكون نحن السبب في هذا الشر والكدر، فلما سمع منهم هذا الكلام قال سيروا وأنا أسيرمعكم وحدي حتى أنظر ما ذكرتموه لي، فركبوا خيولهم وساروا ليلا خوفا من أن ينظرهم أحد فتظهر حيلهم، وبينما هم سائرون وإذا بالأمير عمار أخو الأمير حسن التقى بهم فلم يعرف منهم سوى الأمير دياب فقال يا ابن عم غانم إلى أين سائر مع هؤلاء القوم؟ فأجابه هؤلاء ضيوفي ومرادي أوصلهم خوفا عليهم من السفهاء، فقال أتريد أن أذهب معك؟ فأجابه إذهب في حالك، فسار الأمير عمار إلى منزله وأما الأمير دياب فإنه سار مع أصحابه من العشاء إلى ثاني يوم الظهر حتى أشرفوا على البحر المالح، فسمع دياب صوت دوي الماء فدخل عليه الوهم وقال في باله والله أعلم أن هؤلاء الثلاثة خائنون، لأن أعينهم ملأى بالغدر، فأراد أن يرجع من وقته ولكن المقدر لابد من نفاذه، ولما رأوه قد تغير وفي سيره تأخر قالوا أما تنزل معنا في البحر؟ فأجابهم إن نزولي معكم في البحر ليس ضروريا وان كان كلامكم صحيحا انزلوا وهاتوا ما قلتم لي عليه، ثم نزل عن الشهبا ومسك مقودها بيده اليسار والسيف بيده اليمين، ووقف ينتظر فتركوه ونزلوا إلى البحر، حتى أتوا إلى الغلبون وجابوا له خيمة من الحرير وكللة بالدرر والجواهر والياقوت والمرجان والزمرد فلما رأى دياب تلك الخيمة وفشرها الذي يدهش البصر، تعجب غاية العجب وظن كلامهم صحيحا ودخل معهم إلى الخيمة وجلسوا يتحادثون وأتوا بالمأكل والمشرب فبنجوه، وفي الحال جابوا السلاسل، قيدوه ونزلوا إلى المركب ورفعوا المراسي وأقلعوا، ثم أعطوه ضد البنج، ففاق فوجد حاله مقيدا بالسلاسل، والتفت يمينا وشمالا فرأى الجماعة وقد كانوا في ملابس بيض صاروا في برانيط سود، فعرف أن الحيلة تمت عليه، فتنهد وأنشد يقول:

يقول الفتى الزغبي دياب بن غانم
بكيت على حالي وأنا مأسور

بكيت على جاهي وعزي وهيبتي
وأنا فوق تختي جالسا مسرور

ومن بعد عزي وارتفاعي وشمختي
بقيت مقيد بينكم مأسور

وخنتموني لا عمر الله دياركم
وبقتون في وأصبحت مقهور

يا رب يا رحمن يا سامع الدعاء
يا من تسبح له شجر وطيور

يجيني أبو زيد الهلالي سلامة
يخلصني من كل هلاك وشرور

مقال الفتى الزغبي دياب الغانم
دهتني الليالي والزمان غدور



فلما فرغ دياب من كلامه، ندم على ما فعله، ثم قالوا لابد من قتلك، فلما وصلوا إلى جزيرة قبرص أدخلوه على الملك هراس، ففرح الملك الفرح العظيم وألقاه تحت الغذاب الأليم، هذا ما كان من دياب وما جرى له من الأحوال والعذاب، وأما ما كان من بني هلال فإنهم كانوا في فرح ومسرات والهدايا تأتيهم من جميع الجهات، فبينما هم في بسط وانشراح إلا والخضرا قادمة مثل هبوب الرياح وهي كئيبة حزينة على فقد خيالها الأمير دياب، فأول ما نظرتها بنته وطفا، طار الشرر من عينيها فصاحت وولولت، فتراكض جميع الفرسان والأبطال على صياحها وصار ضجة عظيمة ما صار مثلها في سالف الزمان، أما الأمير حسن فإنه قال لأبي زيد أن دياب صار له مدة ما حضر معنا وأظن أنه مغتاظ منا لأننا ما خليناه ينهب حلب، فقال له أبو زيد قم نزوره لأن دياب لو ما حصل له شئ ما كان طول علينا هذه الغيبة، فمن ساعتهم ركبوا على ظهور خيولهم ومعهم القاضي بدير وساروا نحو منازل دياب، فسمعوا البكاء والنواح، ولما رأوهم تقدم غانم أبو دياب باكي العين زائد الإنتحاب.

فلما سمع الحاضرون كلامه حزنوا على فقد دياب واستعظموا ذلك المصاب، ثم التفت الأمير حسن إلى أبي زيد وقال له حطت عندك الحكاية وما أحد يقضيها غيرك، فالتفت أبو زيد إلى عبده أبي القمصان وقال له هات لنا الرمل فأحضر الرمل وأعطاه إلى أبي زيد فأخذه ورسم الأشكال، فبان له أشكال النحوس على دياب وعرف الغريم، فبكى أبو زيد وبكى كل من كان حاضرا، فقال له حسن لماذا يا أبا زيد بكيت وبكيتنا معك؟ فأخبرهم أن دياب في قبرص عند الملك هراس، يقاسي أنواع العذاب، فلما سمعوا هذا الكلام صاح الجميع عن فرد لسان، مالنا سواك يا أبا شيبان، لأنك مفرج الهم فقال لهم سمعا وطاعة، وتجهز للسفر وودع الأمراء والسادات وركب الحصان وصار يقطع البراري والفلوات ومازال سائرا إلى قبرص إلى أن وصل إلى باب المدينة، فرأى الهراس طالعا بجماعته إلى الصيد والقنص، فعرف أبو زيد أنه الملك، فتقدم إليه بقلب أقوى من الصوان وسلم عليه بأفصح لسان، وسحب المبخرة وحط بخورا فعقد الدخان وقال له هذا البخور من دير الجيروان، وأخرج ثلاث شمعات وقال له خذ هذه الشمعات فهي من دير البنات ودير الحميرة المباركات، فقال الهراس وقعت يا أبا زيد وكيف وصلت وأنا مربط عليك الطرق؟ فقال سلامة لا تقل هذا الكلام يا ملك الزمان، أنا خدام الملك مثقال ولي مائتا سائح، ما تركت ديرا ولا صومعة وأنك انتصرت على دياب وأسرته لأنه قتل بدريس.

فقال الهراس يا راهب أما دياب فقد مسكناه وفي الحديد رميناه، ولكن بحياتي عليك أنت بعثك مثقال، فقال أبو زيد أي وحق الإله المتعال، فعندها أخبره الهراس كيف عمل في دياب فقال أبو زيد بخ بخ لك على هذه الحيلة التي يعجز عنها أعظم الرجال، ثم انهم دخلوا إلى الديوان وأمر لأبي زيد بالجلوس وبالطعام ثم بدأ أبو زيد حديثا للملك ما سمع مثله في طول عمره حتى ولا من العلماء والفلاسفة، فسر منه ونادى في أكابر ديوانه بأن يكون أبو زيد الكبير فيهم وقال لهم الذي يريد منكم أن يسأله شيئا فليتقدم، فعندها تقدم كبير الرهبان ويسمى أبو برناس.

وتكلم فتعجبوا من فصاحة لسانه، فما بقي عند الهراس أكبر منه وقال تمنى على ما تريد يا سلامة، قال له أريد أن تريني دياب حتى أشفي قلبي منه بالعذاب، فأمرهم بما طلب، فأخذوه إلى السجن، ولما رآه في هذا البلاء والعذاب، غاب عن الصواب، وتقدم إليه وضربه بكفه طير الشرر من عينيه فتألم دياب وصاح الله يقطع يمينك، فقال له أنت والله يقطع عمرك من هذا السجن، ثم خرج من عنده وعاد إلى الهراس وقال يا ملك الزمان هذا دياب ما بقى ينفع، فكه من الحديد ولبسه شيئا جديدا وطلعه إلى القصر، وأطعمه دجاجا وخبزا حتى يسمن ويعود يصلح للعذاب، فقال الهراس أطلعه فطالعوه وعمل فيه مثل ما قال الراهب سلامة وكان مراده أن يرد دياب إلى عافيته، لأنه قد انسل من شدة الجوع ولا عاد عنده قوة ولاحيل، قال واستقام أبو زيد عند الهراس فلا يغلبه أحد من الناس، فسمع به راهب من الرهبان وكان يسمى مغلوب ابن توما، فركب وأتى إلى عند الهراس، فلما وصل إلى المدينة، قامت الضجة وقالوا يا ملك أتى مغلوب بن توما، فركب الهراس ولاقاه وسلم عليه، فما رد سلامه، قال له: لماذا يا سيدي ما ترد السلام؟ قال كيف ارد سلامك وعدوك أبو زيد عندك وأتى لأجل خلاص دياب؟؟

فقال الهراس أنا لا آخذ أحدا ظلما وعدوانا، فقال مغلوب هذا يتكلم بالسبع لغات ويصبغ حاله سبع صبغات لأنه غضبة من الغضبات، وأخاف أن يقتلك ويخرب بلادك، فقال الهراس اذهب معي إلى الديوان شوفه، فساروا إلى الديوان ولما دخلوا التفت الهراس إلى الراهب سلامة وقال له أنت أبو زيد صاحب المكر والكيد ولأتيت تفك دياب من البلاء والعذاب وحضر من يعرفك وقد سحرتنا بمكرك، فقال سلامة من الذي حضر يعرفني؟ فقال الهراس: هو مغلوب عالم بلادنا، فبكى الراهب سلامة بكاءا شديدا وقال: ما دام كل من أتى إليك تسمع كلامه، أنا ما بقي لي عندك قعود وأشار إليه يقول:

قال الراهب سلامة يا ملك
اسمع كلامي وأنت فاهم هالسؤال

من عند مثقال أتيت لعندكم
ودرب قبرص والسهول والجبال

وجيت إلى عندك وقد أكرمتني
وأعطيتني كل المواهب والأموال

وعلى الجميع قد رقيتني
وجعلتني ياملك أحكم بالرجال

وكل من يسمع بفضلي يا ملك
يبقى بنيران الحسد في اشتعال

هات لي مغلوب يأتي بالعجل
ينظر لفعلي وناظره بين الرجال

وأنا ورائي ألف عابد سائحين
مأكولهم عشب الفلائم المزلال

وصائمين الدهر عن أكل الخبز
ما يعرفون الخيل أيضا والجمال




( قال الراوي ):

وهما في الكلام إلا والراهب مغلوب داخل عليهم، فقاموا له وسلم عليهم، فردوا عليه ثم التفت إلى من حوله وقال: هذا الراهب سلامة؟
قالوا: نعم. قال له من أين يا راهب؟
قال: من بيت المقدس.
قال: هذه أول كذبة وأنا لي أربعين عاما في بيت المقدس ما سمعت في راهب اسمه سلامة.
قال أبو زيد: أنا كنت سايح ف رؤوس الجبال.
قال له: قطعت يدك يا محتال ولكن إقرأ لنا الإنجيل. فقرأه.
فقال له: إقرأ لنا المزامير. فقرأها. فتعجبوا غاية العجب.
قالوا: المسلم لا يعرف كل ذلك.
قال لهم مغلوب: هذا يعرف السبع السن يقرأ فيها.
وتكلم أيضا فتعجبوا من فصاحة لسانه وعلمه وبيانه، وأما مغلوب فقال له الملك: لماذا لاترد جوابه وقد أرميت عليه مسائل ردها؟
قال: يا ملك هذا أبو زيد إن أردت أقتله وإن أردته أبقه.
فقال الهراس: ما تقول يا راهب سلامة؟

فقال: يا ملك قد أمسى المساء وأنا الليلة اجتمع بساداتي الذين ربوني من صغر سني، وما أظن أنهم ينسوني ومن هذا المشكل يخلصوني، وغدا أخبرك، وانفض الديوان، وتوجه أبو زيد واختلى بنفسه ثن أحضر الدهن والشمندل ودهن به جسمه حتى إذا لمس النار لا تؤذيه، وبات إلى الصباح وطلع الهراس وقال: كيف أنت يا سلامة؟ فبكى أبو زيد وقال: وحق الغمامة أتاني أربعون عابدا وكل واحد طول أربعة رجال وعمرهم ما تركوا الصلاة وهم في أقطار الأرض طائرين، ينظرون حال المساكين، فحكيت لهم عن مغلوب، فحلفوا أنهم لابد أن يحرقوه، وحكيت لهم عن فضلك، باركوا لك في طول عمرك وكل واحد أوهبك من عمره عاما، فقال الهراس: جزاك الله عني خيرا لأنه زاد عمري أربعين عاما وكيف قالوا لك أن تفعل؟ فأجاب: قالوا لي خلي الملك يوقد النار في الفرن، وتدخل الفرن أنت ومغلوب والذي يكون غلطان تحرقه النار.

قال الملك: ماذا تقول يا مغلوب؟ قال: دعه يدخل النار قبلي.

فقال سلامة: نعم أدخل قبلك. وأمره أن يوقد الفرن، فأوقده حتى صار جمرا ودخل أبو زيد الفرن بعدما تلا إسم الله الأعظم، فعادت النار باردة بإذن الله، فنظر الهراس بعد ساعة، وجده جالسا كأنه في روضة خضرة، فقال: أدخلوا مغلوبا، فقدموه فصرخ صوتا من صميم فؤاده، فمد يده أبو زيد وشده حتى صار داخل الفرن، فاحترق، أما أبو زيد فقد خرج سالما فصاروا يتباركون به واعتقدوا فيه العبادة والولاية، وصارت تحبه النذورة ثم طلب من الملك أن يجمعوا الأسرى من جميع البلاد في مكان واحد، فجمع الأسرى من جميع البلاد وإذا هم إثنا عشر ألف أسير، فوضعوهم في مكان حصين، فأخذ أبو زيد شمعة ودخل عليهم وكان بينهم رجل اسمه عمر، فلما شاف سلامة، قال: آه يا ملعون على ما أكون مطلوق السواعد، فتقدم إليه وأطلقه، وقال له: دونك وما أنت الطالب، فاستعد وانطبق على أبي زيد فالتقاه كالأسد ومد يده من وسطه ورفعه إلى رأسه وخبطه بالأرض، وقال كيف رأيت نفسك؟

فقال: أرجو عفوك أيها السيد. فقال: عليك الأمان أنت ودياب وجميع المسجونين. ففرحوا جميعا ودعوا له بالتوفيق ثم أخذهم إلى محل السلاح، فأخذوا ما يحتاجون ثم أرسل عمر مع ألفين من الشباب وربطوا الطريق و الأبواب وفرق الباقي في جميع أنحاء البلدة، وأخذ معه ديابا وألف فارس وسار بهم نحو السرايا، ودق الباب فرد عليه الحارس فقال أبو زيد: أنا الراهب سلامة. ففتح ودخل الأمير أبو زيد وضربه بالسيف، قطعه نصفين، ثم دخلوا على الهراس وجدوه نائما، فرفسه أبو زيد برجله، ففاق وفتح عيونه فقال: من أنتم؟ قال أبو زيد: أنا الراهب سلامة. فتقدم دياب وضربه على هامه رمى رأسه قدامه ثم تفرقوا في الأسواق والأزقة، فقتلوا إثني عشر ألفا وباقي الناس طلبوا الأمان، فعفوا عنهم، فطلع المنادي ينادي في الأمان وجلس أبو زيد في الديوان وأتى عنده الأكابر والأعيان وكان بين أبي زيد ونوفل إشارة كانت مراكبه دائما في البحر، فرفع أبو زيد الإشارة فتقدم نوفل بمراكبه حالا، وصهد إلى البر، فأخذه أبو زيد إلى الديوان وقال لهم: قد وليت أرقل حاكما عليكم، ولاأحد منكم يخالف له أمرا، ودخلوا إلى دار الهراس وجدوا المال الذي فيه لا يعد ولا يحصى فأخذوه إلى المراكب وودعوا نوفل وسافروا، فلما وصلوا إلى دير اللاذقية أرسل أبو زيد يبشر الأمير حسن وبني هلال بقدومهم فقامت عندهم الفرحات وعلت الصيحات وركبت الأربع كرات والأمراء والسادات وساروا حتى التقوا فسلموا على بعضهم سلام الأحباب، فهنؤوهم بالسلامة ثم حملوا الأحمال وساروا في عراضة، قدام الأمير أبي زيد، فلما وصلوا إلى الخيام، استقبلتهم النساء والبنات والنوبات وهنؤوا الأمير دياب بخلاصه من الأسر، وشكروا الأمير أبا زيد على حميد أفعاله وصرفوا ذلك النهار، بالفرح والسرور وعمل المير حسن وليمة عظيمة لها قدر وقيمة، وما زالوا على تلك الحال وهم في أرغد عيش وأنعم بال مدة عشرة أيام، ثم ركب السادات ظهور الخيول واعتقلوا بالرماح والنصول، وركبت النساء والبنات في الهوادج والعماريات وجدوا في قطع البراري والفلوات طالبين أرض عنتاب، فوصلوا إليها بعد أيام فنصبوا المضارب والخيام ورفعوا الرايات والأعلام.

قصة أبي بشارة العطار




( قال الراوي ):

لما رجع بنو هلال من قبرص واجتازوا في طريقهم ماردين أحبوا أن يذهبوا إلى الصيد فسار حين والأمير دياب وبدير مع جماعة صيادين، فصاروا يصطادون الأرانب والغزلان حتى وصلوا إلى أرض يقال لها قلعة سواكن، وإذ لاقاهم رجل عطار قدامه حمار، واضع عليه العطارة، فلما أقبلوا سلموا عليه فما رد السلام بل قال لهم: وقعتم يا أوباش لابد ما أقتلكم وأريح الدينا منكم. ثم تقدم إلى حسن وقال له: إلى أين سائر في هذه الآطلال أنت ودياب وبدير؟؟

قال حسن: إخرس قطه الله لسانك. وصاح القاضي بدير وارتمى على أبي بشارة ليفتك به فارتخت أعضاؤه وكذلك حسن، فلما نظر دياب هذه الأحوال صاح فيه اليوم يومك يا ابن اللئام، ثم أنه قوم الرمح وقال له خذها من دياب الأسد الرئبال، فأراد أن يطعنه فما نظر نفسه إلا مكتفا، فعند ذلك صاح فيهم ومشى أمامهم، فتبعوه مثل الغنم، حتى وصل إلى قلعة صهيون، فأدخلهم إلى السجن ووضع لهم الحديد والأغلال، وقال لهم: ما بقي لكم خلاص من ضيق الأقفاص، أما الذين كانوا مع الأمراء فأسرعوا عائدين فسألهم أبو زيد عن حسن وباقي الأمراء فأعلموه بما جرى لهم. فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، غاب عن الصواب، وأقامت نساء هلال الصياح والبكاء، واجتمعت بنو هلال عند أبي زيد وقالوا: ما هذا المصاب وما يكون الجواب؟

قال لهم: قوموا بنا ندور عليهم في البراري، ونفحص عن هذه الأحوال، فبينما هم كذلك وإذا برجل في الطريق، فسلموا عليه فرد عليهم السلام، فقال له أبو زيد: ما عندك من الأخبار؟ فقال له: كنت أمس سائرا في تلك الناحية إذ رأيت أبا بشارة العطار ومعه ثلاثة من أمراء بني هلال وهم في أوشم حال، وقد أخذهم إلى قلعة صهيون ووضعهم في الحديد والأغلال وإذ كنتم ذاهبين إلى خلاصهم فارجعوا لئلا يصير فيكم مثل أبي بشارة، لأنه سحار مكار، ثم تركهم وسار إلى حال سبيله.

أما أبو زيد فقال لفرسانه والأبطال: ارجعوا إلى الأطلال، وأنا وزيدان، نكفي لهذه الأحوال، فعندها رجعت العرب، وأما أبو زيد وزيدان فسارا في تلك البراري والقفار طالبين قلعة صهيون، وإذ رأيا أبا بشارة العطار وقدامه الحمار، فلما رآهم وقف حتى وصلوا إليه فصاح فيهم ويلكم أيها الأنذال، وقعتم في أوشم الأحوال، وقعت يا أبا زيد أنت وزيدان والله لابد من أن أقتلك وأريح الناس منك. فقال له: من عرفك فينا حتى تعادينا؟
فقال: عرفتكم من قبل أن تخرجوا من أوطانكم ولا بد من أن أذيقكم الأهوال، فقال أبو زيد: سد فمك لعن الله أباك وأمك وما أنت إلا ملعون يا بايع الفلفل والكمون وأشار يهدده:

قال أبو زيد تخسا يا ردي تخسا
أنا أبو زيد حاوي جميع الأوصاف

لا بد ما أقتلك وأقتل إلى حنا
و كان عند ثلاثين ألف سياف

زيدان اسحب سيفك واقطع رأسه
واحدف إلى رقبته عن الأكتاف

عطار عمرك خلص ما عاد لك نجا
يا قانص العقل يا عديم الإنصاف

أنا أبو زيد وكل الناس تشهد لي
قرم صميدع من نسل أشراف



فلما فرغ أبو زيد من كلامه سحب زيدان حسامه وغار عليه يريد إعدامه، فما رأى حاله إلا وهو مكتوف ورأسه مكشوف، فلما رأى أبو زيد ما صار في زيدان، خرج عن دائرة الإعتدال وسحب سيفه وهجم عليه هجمة الأسد الرئبال وقال له: ويلك يا ابن الأنذال دع عنك هذه الأحوال، فلما نظر أبو بشارة من أبي زيد تلك الفعال قبض كمشة من التراب وعزم عليها ثم حدفها على أبي زيد وإذ برجليه قد يبست وكذلك يده ثم زعق في أبي زيد صوتا هائلا كأنه الرعد ورفعه في يد فإذا هو طائر بين الأرض والسماء وأما زيدان فجره ذلك الملعون ووضعه في حصن صهيون مع حسن ودياب وبدير.

فقال الأمراء هذا ملعون يأسرنا واحدا بعد واحد وصاروا في حساب وأمور صعاب، هذا ما كان منهم، وأما أبو زيد فإنه ما وعي على ذاته إلا بين بني هلال، يبكي ويضرب بيده اليمنى والشمال، فلما رأته بنو هلال بهذا الحال قالوا أبو زيد جن، ثم تقدموا إليه وحطوا القيد في رجليه وبقي على هذا الحال ثلاثة أيام لا يعرف ذاته في أي مكان، فصاروا يواسونه بالكلام ثم قالوا إلى متى هذا الحال يا أبا زيد ومن الذي عمل فيك هذا؟ فقال لهم: أين أنا ومن أنتم؟ فقالوا: نحن أهلك وأحبابك بنو هلال، فعند ذلك صحا وأنشد شعرا.

فلما فرغ أبو زيد من كلامه تقدم الأمير غانم أبو دياب يسأله عن ولديه دياب وزيدان.

ثم قال القوم: يا أبا زيد إلى متى هذا الحال وأنت قاعد يا مفضال؟ قم وسر بلا إمهال وانظر حال الأمراء والأبطال وخلصهم وأرنا عوايدك وفعالك، فقال لهم: يا قوم هذا أبو بشارة كهين من الكهان وما يقدر عليه أحد، لا من إنس ولا من جان، ولكني أستعين عليه بالواحد الديان وإن شاء الله ما أموت إلا وأنا مخلص السادات من الأسر والشدات، ثم أنه قام من ساعته وقلع ما كان عليه من ثياب ولبس صفة درويش وأخذ في يده عكازا وإبريقا وكولك، وسار يقطع البراري والقفار والسهول والأوعار، وما زال سائرا حتى أتى إلى ضيعة من حكم تلك البلاد، فبينما هو ينظر في تلك الوهاد إذ به يسمع صوت أبي بشارة ابن الأوغاد وهو ياندي على العطارة، فقال أبو زيد الله يخفي لك هذا الصوت يا ستار استرني من هذا الجبار، ثم أنه دخل خرابة وتخبى فيها من ذلك الملعون إلى أن طلع أبو بشارة من تلك الضيعة وأبو زيد يراه عند ذلك لحقه من الخلف إلى خلف حتى يقتله، فالتفت إليه وقال له أدن مني حتى أريك نفسي يا كلب يا مكار يا مخرب الديار،فلما سمع أبو زيد هذا الكلام أراد أن يهرب في الآكام وإذا برجليه قد يبستا ولصقتا في الأرض، فقال له العطار مت كمدا ولا يدري بك أحد، ثم سار وتركه فعند ذلك رف أبو زيد رأسه إلى قبلة الدعاء وباسط الأرض على وجه الماء وقال إلهي ومولاي ورجائي يا من نجيت كل الأنبياء والمرسلين نجني من هذا اللعين بجاه سيدنا الخضر عليه السلام، فما أتم كلامه إلا وقائل يقول: لاتخف يا أبا زيد ولا عليك من بأس أقبل شيخك الخضر أبو العباس عليه السلام، فعند ذلك انطلق أبو زيد من مكانه وسار قليلا وإذا بأبو بشارة العطار مقبل عليه وقال له من فكك يا غدار يا مكار؟ فقال له: يا عطار أنا عمري ما تدخلت على أحد فأرجو يا فتى أن تطلقني من وثاقي وأنت ذاهب واقتل المحابيس الذين عندك وأنا بدمهم قد سامحتك، فقال له: إذا أطلقتك وسرت إلى عند المحابيس وقتلتهم فأكون قطعت ذنب الحية وأبقيت رأسها، ولكن أنا لابد لي عن قتلك يا ابن الأنذال وقتل محابيسك بني هلال، فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، صار الضياء في عينيه ظلاما وأشار يقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ونيران قلبي زايدات شعال

سألتك يا رحمن يا سامع الدعا
بجاه من على الجبال قد جال

أبو بشارة ما تخاف الله يا كاهن
يا حيف تقتل أمراؤنا وبطال

لو كنت مأسور كان الأسر أهون لي
وكنت أشوف رفقتي ورجال

إلهي بحق الحرم وكعبة الغراء
وبجاه الأنبياء وكل مفضال

بأنك تجيرني من الكهين الساحر
أبو بشارة الفاجر المحتال





( قال الراوي ):

فلما فرغ أبو زيد من كلامه والحق متجلي على دعائه استجاب نداءه فأراد أبو بشارة أن يسير إلا وصوت يقول الحقه يا أبا زيد يا مفضال واسقه كأس الوبال، أنا أستاذك الخضر أبو العباس، فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، لحق بأبي بشارة وصاح عليه وقال له: أين عدت تسير يا ابن اللئام؟ اليوم أسقيك كأس الحمام، وما عاد لك خلاص من ضيق الأنفاس. فأراد أبو بشارة أن يلتفت إليه ويسحره وإذا بكف صفعه عل وجهه فعقد لسانه وجمدت عيونه وما بقي له الكلام، فسحب أبو زيد النمشة من العكاز وطسه على هامه حط رأسه قدامه، فوقع قتيلا يتخبط في دمه، عند ذلك فرح أبو زيد وحمد الله الذي خلصه من هذا الساحر وقرأ الفاتحة وأهداها إلى الخضر أبي العباس، ثم أنه أخذ حماره ونزل عنه بضاعته ففردها ونظر ما فيها، وبعد ذلك حزمها ووضعها على الحمار ثم خلع ما كان عليه من الثياب وتزيا بزي أبي بشارة العطار وساق قدامه الحمار وقال له: الله يحرق عظام صاحبك ابن الأوغاد وسار في البراري والوهاد إلى قلعة صهيون وصاح أنا الحنون ساقي ذد كأس المنون ومعي فلفل وكمون وحنة وأساور وإبر وحلق ودهون، وحمرة وسبيداج وخطوط، أرخص لكم البضائع في هذه السفرة يا بنات! !

فتواردت عليه النساء من كل مكان، فصار يكمش ويعطيهن بدون ثمن وهو يقول لهن: لقد ربحت في هذه السفرة ربحا كثيرا.

ولم يزل سائرا حتى وصل إلى قلعة صهيون فاستقبله شخص بالترحيب والإكرام وأجلسه على مرتبة وأمر له بالخمر والشراب.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:16 PM
( الجزء التاسع من تغريبة بني هلال )



فقال أبو زيد في سره، أنا عمري ما شربته وكيف أشرب الآن؟ فقال له صاحب القلعة، وكان اسمه حنا، لماذا لاتشرب وتطرب كعادتك؟

فقال أبو زيد، لقد أقسمت يمينا أن لاأتناول الشراب أسبوعا كاملا، فقد عن على بالي قتل هؤلاء الأسارى، فقال له ونحن بانتظارك حتى تحضر وتفعل فيهم مرادك، فقال لهم هاتوا زيدان لأسقيه كأس الهوان. فلما أحضروه صاح به يا جبان أنا أسألك عن أبي زيد أين هو الآن؟ فقال له غدا يأتي ويقتلك، فقال له سأقتلك وأقتله وأقتلد حسن ودياب وآخذ منك الثأر وأكشف عني العار.

فقال له زيدان: يا أبا بشارة ليست الشجاعة والبطولة في السحر إنما الشجاعة تظهر في ركوب الخيل. هات جوادا وعدة جلاد ودع قومك كلهم يقابلوني في الميدان يا كلب يا جبان.

فقال أبو بشارة له: يا نذل من قتل ابن عمي أنت أم أبو زيد أم دياب؟

فقال زيدان لا أعرف ذلك وأنا ياما لي وقائع ومهالك، قال له زيدان أعلم أن كل الذين قتلوا ما قتلهم غير دياب، وأما أنا وأبو زيد ما قتلنا أحدا، فقال أبو بشارة هاتوا دياب ومن معه حتى ننظر، فساروا في الحال وأحضروا دياب وبقية الأبطال، فحينئذ التفت أبو زيد إلى دياب وقال له من قتل أولاد عمي؟

فان زيدان يقول أنت قتلتهم، أفـدنـي بالجواب قبل أن أعلي رأسـك بهذا الحسام! فأجابه إعلم يا أبا بشارة أن المكتوب يقرأ من عنوانه، انظر إلى كلام زيدان تحاكيه بالدرهم وهو يجاوبك بالقنطار هذا كلامه في هذه الأمصار فكيف يكون في البراري والقفار، والله ما أنحبس منه إلا أبو زيد الفراس العنيد وهؤلاء الذين عليهم الكلام، فقال أبو بشارة والله ما فيكم واحد مقصر وكلكم أنجس من بعضكم البعض، أنت مثل الحية تلسع وتخبي رأسها.

ثم قال ارموا ديابا فرموه حالا فأخذ العصا وقام ليضربه فقال له زيدان مكن يدك يا أبا بشارة، فقال دياب ويلك يا زيدان كيف يهون عليه الأمر وأبوك غانم وأخوك دياب؟ فقال أبو بشارة لزيدان هل هو أخوك؟ فأجابه نعم من فرد أم وأب ولكن اقتله لأنه هو الذي قتل رجالك وألقانا بين يديك، فقال دياب والله يا أبا بشارة صاحب اللسان غلب صاحب الإحسان والله ما يستاهل القتل غير زيدان وأبي زيد لأنهما قتلا اولاد عمك، وهذا زيدان ترباية ذلك الشيطان، فقال أبو بشارة أنت تربية أبي زيد وتجعل نفسك مسكينا، فأجاب زيدان نعم أنا تربية أبي زيد ولابد ما يعدمك روحك فقال الأمير حنا لأبي بشارة أقتل هؤلاء الأسارى فقال له طول بالك يا ملك ولا تعرف قتلهم إلا مني ولكن لاتقتلهم حتى أجيب أبا زيد ونذبحهم سوا، فلما سمع حنا كلامه قال افعل مرادك، عندها التفت أبو زيد إلى القاضي وقال أنت قاضي العرب؟ قال نعم قال أنت قلت لقومك أن يقتلوا عباد النار لأبي حتى قتلوا أمراءنا وفرساننا فقال له قتلهم حلال في كل المذاهب لأنه لا يبعبد إلا الله تعالى، فقال مرادي أرمي عليك مسائل، فقال اسأل عما شئت،، فقال أخبرني عن شجرة فيها اثنا عشر غصنا في كل غصن ثلاثون ورقة وفي كل ورقة خمس ثمرات، اثنتان لونهما أبيض وثلاث لونها أسود، فقال هي السنة والأشهر والأيام والصلوات الخمس فقال له أخبرني كم بين السماء والأرض، فقال خمسمائة عام فقال زيدان بقي عليك أن تسأل ديابا وان ما عرف يجاوبك اقطع رأسه فقال دياب ويلك يا زيدان أما أنا أخولك لا شك أنك ابن لئام أنت وأبو زيد قتلتم بدريس فان قتلوكم يكونوا أخذوا ثأرهم وأشار يقول:

دياب غنى قصيدا من ضمائره
ودمع العين عالخدين طوفان
يا أهل المروءة اعفو اليوم عن قتلي
ان كنت تقتل قوم اقتل زيدان
هذا وأبو زيد قتلوا أعمامك
وخلوا الفوارس في بلا وأحزان
ونحن ياأبو بشارة قوم اقتلنا
أنا وبدير مع ابن سرحان
وان كان زيدا ما يعرف سؤالك
مايعرف اللغز إلا أخي زيدان
واقتل أبو زيد الهلالي سلامة
اقتله يا أمير بحد يمان
أنت صاحب العزة والمجد والعلا
واجمع عليهم يا أمير فرسان
ترمى علينا مسائل لانعرفها
أنت صاحب الصيوان والعمدان



فلما انتهى دياب قال أبو بشارة أنت تقول ما قتلته وحسن والقاضي وزيدان يقولون ما قتلوا أحدا، ومرادي أعلم من الذي قتلهم أخبروني وإلا قتلتكمفي الحال، فقال له دياب ما أحد قتل أعمامك سوى أبي زيد والأمير زيدان ويلك يا دياب من قتل بدريس والخزاعي غيرك! فأنت تعمل عمايلك وتتهمنا، ثم أنشد يقول:

قال زيدان قصيدة من ضمايره
أبيات كالدر موزونة بميزان

وحق عيسى وموسى والنبي محمد
قولي صحيح ما فيه بهتان

دياب هو الذي قتل ابن عمك
قتل بدريس بسيفه وسنان

أيضا قتل الخزاعي ما اختشى منه
أكيد ياأبو بشارة ما أنا وهمان

حنا يا ملك صهيون قوم اذبحه
واجعل دمه فوق الثرى غدران

بحياة رأسك تشفي خاطرك منه
هذا يقيم الفتن كأنه الشيطان

وهذه المسائل يحلها دياب بسرعة
وأن ما عرفها اجعله اليوم قربان



فلما فرغ زيدان من كلامه والجميع يسمعون نظامه، فقال حنا كيف يا أبا بشارة دياب يقتل أهلنا ورجالنا وأنت ساكت عنه بحياتي عليك تشفي خاطري منه، فقال ارموه تحت الضرب، فرموه وقام أبو بشارة والعكاز في يده ومال عليه حتى كسر أجنابه، والتفت إلى القاضي وقال له: مرادي أرمي عليك مسائل ان ما أحببت عنها ضربتك مثل رفيقك، فقال له سل عما تريد، فقال أخبرني كم طيرا نزل بالكتاب؟ فقال له تسعة: الذباب والنمل وطير الأبابيل والجراد وطير عيسى وهو الخفاش والغراب والهدهد والصفا واللهو وهو السمك، قال أخبرني عن طير يمني ويحيض وعن شئ إذا حبس عاش وإذا شتم الهوى مات، فقال له أما الطير فإنه الوطواط وأما الثاني فهو السمك ثم أن القاضي التفت نحو أبي بشارة وقال مرادي أسألك سؤالا قال سل عما شئت فقال أخبرني عن شئ كان حلالا ثم صار حراما؟ فقال له البيضة حلال وإذا وضعت تحت الفرخة صارت حراما، فقال القاضي أخبرني يا أبابشارة عن رجل قام إلى الصلاة سلم عن يمينه وجب عليه مائة دينار وسلم عن شماله طلقت زوجته ونظر إلى موضع سجوده بطلت الصلاة.


( قال الراوي ):

فلما فرغ من كلامه والقاضي بدي نظامه، فقال له عفاك الله يا أمير على هذا العلم، لكن يا حيف كيف تكون عابد النار ويكون عندك هذا العلم ! ؟
فضحك وقال يا قاضي خلص روحك والا أقتلك أنت ورفقاءك، فقال القاضي أريد أن أسألك سؤالا فقال قل ما شئت قال أخبرني عن خمسة أرواح أكلوا وشربوا وليس لهم أم ولا أب، فقال له أنا ماعرفت سؤالك ثم التفت أبو بشارة إلى رفقائه وقال أجيبوا سؤال هذا المسلم، فقالوا لم نعرف سؤاله فقال ياقاضي ما عرفنا سؤالك فاشرحه لنا وخذ لك خمس دجاجات محشيات رز وصنوبر، وكان أبو زيد مراده يطعمهم لحما حتى ترد روحهم إليهم، فقال له بدير يا أمير هؤلاء هم آدم وحواء وكبش اسماعيل وعصا موسى وناقة صالح فقال أبو زيد أخبرني عن موضع لايجوز فيه الصلاة، فقال له ظهر الكعبة، فأمر أبو زيد بأخذهم إلى موضوعهم فأجابوه بالسمع والطاعة وأما أبو زيد رتب لهم كل يوم خمس دجاجات ومازالوا على هذا عدة أيام.
وفي ذات يوم من الأيام قال أبو زيد يا أمير حنا مرادي أسير إلى بني هلال وأقتل أبطالهم ورجالهم وأدعهم بأوشم حال وأقتل أبازيد ونبقى ندبر أمرا في هلاك الجميع ثم أشار يعلمه في هذا القصيد يقول:

هذه المحابيس يوم العيد نذبحهم
وأجعل دمـاهـم في الأرض طوفـان
وجيب أبو زيد الماكر وأشنقه
ويشوفوا العـذاب أشـكال وألـوان
وحياة ديني لا جعل قتله شهرة
وأجلي صدى القلب وأكشف الأحزان



فلما فرغ أبو زيد من كلامه والملك حنا يسمع نظامه قال افعل ما تريد، فقال أبو زيد مرادنا في هذه الليلة أن نعمل كيفية فقالوا حبا وكرامة وما كان إلا برهة من الزمان حتى حضر الخمر فقالوا لاأحد يسقينا غير أبي بشارة، لأن يده مباركة فقام المذكور وصار يسكب الخمر ويسقيهم حتى سكروا فتركهم أبو زيد وسكر عليهم الباب وسار حتى وصل إلى أمراء بني هلال وفتح باب السجن ودخل عليهم وقال: قوموا! ولما رأوه ارتعدوا منه وقالوا نحن في جيرتك يا أبا بشارة فقال لا تخافوا أنا لست أبا بشارة أنا أبو زيد وعليكم الأمان فقالوا لله درك يا أبا شيبانن ولولاك متنا في هذا المكان ولكن احذر من أبي بشارة لربما يعرفك! فقال لهم كونوا براحة بال من هذا الأمر ولازم أذيقه كأس الحمام فطيب خاطرهم ورفع عن وجهه اللثام وحدثهم بما جرى بينه وبين أبي بشارة وبما فعل بهم، فلما سمعوا منه هذا الكلام، شكروه فعند ذلك تقدم إليهم وفكهم من وثاقهم وأخذوا يقطعون البراري والآكام، حتى وصلوا لقومهم ففرحوا بهم فرحا شديدا ما عليه من مزيد وطلعوا لاقوهم بالطبول والزمور وشكروا الأمير أبا زيد على تلك الفعال التي تعجز عنها الصناديد الأبطال وسلموا عليهم وقدموا لهم الطعام.


( قال الراوي ):

هذا ما كان من أمر بني هلال وأما ما كان من أمر حنا والأبطال فظلوا سكارى إلى الصباح تفقدوا الأسارى، فما وجدهم وفتشوا على أبي بشارة فما وجدوه فحينئذ علموا القضية ثم صاح حنا في الفرسان وأمرهم أن يركبوا الخيل فركبوا الخيل فركبوا ظهور المهارة وجدوا في قطع الصحارى طالبين بني هلال ومازالوا مجدين في سيرهم حتى قاربوا الأرض التي فيها بنو هلال، فقال لهم الوزير وأخوه مرقص، خذوا أهبتكم للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، فقال حنا وأين هم بنو هلال؟ فقال جرجس إذا قمنا هنا إلى وقت السحر وسرنا بلا مهل نصف النهار، نصل إلى بني هلال، وفيما هم على ذلك وإذا بخيل بني هلال طلعت ولمعت رماحها في شعاع الشمس وفي أوائلها أبو زيد ومن وراه دياب وحسن والقاضي وزيدان وفرسان الحرب والطعان، فتبادرت اليهم عساكر جرجس وحنا وصاحوا بهم فارتجت لصياحهم الوديان فحمل عليهم دياب بدون جواب فتلقاه فارس يقال له الدهقان وتجاول هو وإياه ساعة من الزمان، فحكم دياب عليه السنان وطعنه في صدره خرج يلمع من ظهره وكان معه عشرة من الفرسان، فلما نظروا ما حل به، حملوا على دياب فتلقاهم كأنه الأسد وفي أقل من ساعة قتل سبعة فرسان وانهزم الباقون وهم ينادون أنقذونا من الجن، فقد حل بنا العطب وأنت قم يا حنا وقاتل الجان فقد برز إلينا من هؤلاء القادمين شيطان بصورة انسان، فقتل مقدمنا دهقان وسبعة من الفرسان، فلما سمع حنا هذا الكلام، صعب عليه وكبر لديه وقال لهم كأن هؤلاء القوم ماعرفوكم ولو عرفوكم ماكانوا حاربوكم وإن صدقني حزري فما هذا الجيش إلا مع أبي زيد وأظن أنه لما خلص الأسرى سار إلى العرب واتانا للطلب والآن يحل بهم العطب ثم أنه غار عليهم ولما وقعت العين على العين علا الصياح من الفريقين ووقع السيف بين الطائفتين ونادى حنا تظنون أني أترك لكم مالي وما قتلتم من رجالي اليوم أبلغ منكم مأربي وآمالي فلما سمع أبو زيد كلامه قال له ويلك يا فاجر لمثلي تفزع هؤلاء الأنذال وأنا أبو زيد قدم الأفيال! ثم أمر رجاله بالحملة فحملوا من غير إمهال ووقع بينهم القتال ساعة من الزمن فوقع بقوم حنا الفناء والدمار وخا منهم الأمل وأيقنوا بحلول الأجل، وخاضت بنو هلال الغبا وأبروا الرقاب وطعنوا الصدور وقاتلوا قتال الجبابرة فلله در أبو زيد وما فعل ودياب وقد استقتل وسطا زيدان سطوة البطل ونزل الأمير حسن بين تلك الأمم حتى التقى في الوزير مرقص أخو جرجس فرآه ينخى الفرسان، فأقبل عليه وطعنه بصدره بالرمح، خرج يلمع من ظهره، فما نظرت قوم حنا إلى مرقص وهو قتيل، تصايحوا على حسن وأسعروا نار الحرب وسالت الدماء وتطايرت الجماجم وخلت السروج من ركابها وكحلت الأجفان بموارد العما وثبتت عسار الملك حنا واجتهدت برد أعدائها فما قدرت، بل هالها ما رأت وانحلت عزائمها وتفرقت، ولم يزل السيف يعمل والدم يجري إلى أن أمسى المساء، فعند ذلك دقت طبول الإفتراق وكفوا عن الحرب وكل فريق ذهب إلى مكانه، أما عساكر حنا فصاروا يقولون أن كان الأمر على هذا الشأن فهذه مصيبة لاترد إلا بكثرة الفرسان وأما بنو هلال فإنهم هنأوا بعضهم بعضا بهذا النصر وباتوا تلك الليلة مسرورين ولما أصبح الصباح نهضوا للحرب والكفاح وإذا بالوزير جرجس بقلب لايهاب وقال له لو لم تكن جاهلا لما دخلت هذه الأوطان وطلبت قتالنا في شرذمة من الفرسان فسلم نفسك قبل الفوات، فضربه دياب على هامه، فلما نظر ملكهم حنا إلى وزيره وهو قتيل، صاح في قومه ائتوني بهذه العصابة القليلة حتى أشفي غليلي فحملوا عليهم من كل جانب، فالتقتهم بنو هلال كالأسود وانطبقوا على بعضهم البعض وغطت الدماء وجه الأرض وأبو زيد ينثر الرؤوس ويبلي الفرسان بعد وجودها بالعدم فوقع في معسكر حنا التقصير ولما نظر إلى عساكره قد انكسرت وبنو هلال قد انتصرت، نادى في العساكر يشجعهم على الثبات، فانطبقوا على بني هلال انطباق الليالي على الأيام وحمل حنا بأوائلهم وأخذ ينخى الفرسان فألقى به أبو زيد فحمل عليه وضربه بالحسام بين عينيه، خرج من بين فخذيه وأما دياب وبقية الفرسان فإنهم فرقوا الكتائب وأظهروا العجائب ولما رأت عساكر الأعداء ما حل بملكها من الدمار ولت الأدبار وركنت إلى الفرار والتجأت إلى القلعة، فتبعهم أبو زيد والفرسان فطلبوا الأمان فأعطاهم الأمان ورتبوا عليهم الجزية في كل عام ورجعوا إلى مضاربهم كاسبين غانمين وفرق الأمير حسن ما غنموه على الجميع وأقاموا على شرب القهوة وأكل الطعام مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك صمموا على الارتحال فهدمت الخيام وانتشرت الرايات والأعلام وركبت الفرسان ظهور الخيل والنساء والبنات في الهوادج، وجدوا في قطع البراري والآكام حتى وصلوا إلى حمص، فأقاموا فيها خمسة أيام وكانت تأتيهم الهدايا من جميع الولاة والحكام، ثم ارتحلوا إلى بعلبك ومنها إلى زحلة، فطابت أيامهم لأنهم كانوا يصرفون الأوقات في السرور والطرب، ثم ساروا قاصدين مدينة الشام فوصلوا إليها عند الظلام ونصبوا بقربها المضارب والخيام.


قصة شبـيـب التبعي





( قال الراوي ):

ان بني هلال بعدما قتلوا أبا بشارة العطار حاكم بلاد صهيون، جدوا في قطع الفلوات حتى أقبلوا على مدينة الـشـام وكان الحاكم عليها شبـيـب التبعي ابن مالك، وكان رأى حلما في المنام أرعبه، فجمع أكابر الديوان والأعيان وقال لهم رأيت في منامي أنه أتى إلى هذه البلاد سباع مثل الجراد، وكان كل سبع يأتي إلى شجرة يقلعها بأنيابه ولا يبالي بالأخطار، وكان لهذا الملك وزير اسمه عميرة.

فلما فرغ الوزير من تفسير حلمه استعظم شبـيـب هذه الأمور وكان قد بلغه قدوم بني هلال إلى قرب الشام فزاد اهتماما على اهتمام، لأن أبا زيد كان عند رجوعه من تونس ومروره إلى الشام قد استخلص من دار شبيب سرية عربية واسمها قنوع العامرية لما مر به وسار بها نحو بني هلال، فتأثر شبيب من هذه الأفعال فاستدعى بنجاب وأمره أن يسير في الحال ويكشف له أخبار بني هلال، فسار ودخل على بني هلال، فأضافوه ثلاثة أيام، ورجع لعند سيده وصار يخبره بما جرى له شعرا.

فلما سمع شبيب الشعر والنظام صار الضيا في عينيه كالظلام فقال لمن حضر في الديوان، ما رأيكم في هذا الشأن لأن بني هلال حضروا إلى هذه الأطلال بعساكر كعدد الرمال، فقالوا الرأي قبل المبادرة بالقتال أن تطلب منهم عشر المال، فان أجابوك الى هذا الطلب بلغت القصد والأرب، وإلا تحاربهم وتشتتهم في البر فاستصوب شبيب رأي القوم وأرسل يطلب منهم عشر المال.

وسطر بذلك كتابا وختمه وأرسله مع نجاب الى الأمير حسن، فأخذ الكتاب وسار الى أن وصل الى الأمير حسن، أعطاه الكتاب، فلما فتحه وقرأه، قال: لاحول ولا قوة الا بالله، ثم جمع بني هلال وقال ما هو رأيكم؟ فقال الأمير أبو زيد والأمير دياب ليس عندنا جواب الا الحرب، فحينئذ قال الأمير حسن للرسول اذهب الى مولاك شبيب وقل له أني سأرسل له الجواب في وقت قريب وبعد ذهاب النجاب، نهض أبو زيد وقال اعلم أيها الملك الهمام أن شبيب ملك دمشق الشام استعد لمحاربتا والرأي والصواب ان أسير مع بعض الفرسان إلى تلك الديار لكشف الأخبار والوقوف على عدد العساكر والأبطال التي تجهزت للحرب والقتال وذلك بصفة شعراء، لعلنا نبلغ المقصود، فاستصوب الأمير حسن هذا الكلام واستقر الرأي على مسير أبي زيد ودياب وعرندس والرياشي مفرج وأبي الليث الكندي إلى تلك الديار، ليجسوا الأخبار، وفي ثاني يوم استعدوا للمسير وجدوا في قطع البراري حتى وصلوا الى دمشق الشام، فدخلوا بسلام وقصدوا الأمير شبيب حتى دخلوا عليه وسلموا عليه، وكان جالسا على كرسي مرصع بالجواهر يدهش العقل ويذهل البصائر، وحوله الأتباع والخدم، فرد عليهم السلام وقال من تكونون من العرب أيها الأجواد؟ فقالوا نحن شعراء نقصد الملوك والأمراء، فنمدحم بالقصائد الحسان ونرجع بالخلع والإحسان، وقد سمعنا بجودك ومكارم أخلاقك وحسن مزاياك، فأتينا إليك لنمدحك وننقل ثنال ونرجع مجبورين الخاطر للديار، ثم أن أبـا زيـد عدل الرباب وصار يمدحه:

يقول الفتى المدعو سلامة
بدمع جرى فوق الخدود سكيب
ركبنا وجينا ياأمير على نقا
من فوق نوق شبه ريح رهيب
فقلنا لها يانوق أين مسيركم
فقالت إلى نحو الأمير شبيب
شبيب بن شيبان بن مالك
أمير البوادي والبلاد شبيب
شبيب الذي كل البلاد عياله
ونحن يقينا من عيال شبيب
شبيب فتى لايوجد في الترك مثله
ولاربت العربان مثل شبيب
ياأمير أعطنا ولك منا الثنا
فنثني عليك عند الضحى ومغيب



فلما فرغ أبو زيد من كلامه شكره شبيب على حسن نظامه ثم أنه صرف معهم هذا النهار في الحديث والأخبار، ولما أصبح الصباح، استعد شبيب إلى الصيد مع الفرسان وابنه صقر، فالتفت شبيب إلى الشعراء وقال لهم: لماذا لا تركبون معنا؟ فقالوا هو عدم وجود الخيل، لأن مطايانا لاتصلح للركوب في الوعر والسهول، فأمر لهم شبيب بخمسة أفراس من الخيل فذهبوا مع السايس إلى الإسطبل وجعل أبو زيد ينظر في الخيول فلم يعجبه سوى جواد شبيب وهو غطاس وكان أبو زيد قصد بهذا العمل، اكتشاف خيول شبيب، فعاد السايس وأعلم شبيب بذلك الخبر، فقال له أعطه إياه إن كان يقدر يركبه، فعاد السايس إلى أبي زيد وقال له: إعلم يا شاعر العرب أن هذا الحصان هو جواد الأمير شبيب الغطاس فلا يقدر أحد منا أن يقرب منه فخذه إن كنت تقدر عليه، فتقدم أبو زيد إليه، فصهل الحصان حتى زعزع المكان، فلطمه أبو زيد بالكف بين عينيه وسرجه، وركب عليه وسار إلى عند شبيب، فتعجب منه كل العجب وقال في نفسه وحق ذمة العرب أن هذه الأفعال لا يقدر عليها الشعراء، بل صناديد الأبطال وقد تأثر من ذلك الأمر ثم أنهم ساروا في جوانب البر وصاروا يصطادون حتى صار وقت العصر، فارتدوا راجعين قبل دخول الليل.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:17 PM
( الجزء العاشر من تغريبة بني هلال )


في أثناء طريقهم، جعل شبيب ميدانا لسباق الخيل، فامتثلت لأمره الفرسان وجعلوا يتسابقون في الميدان، فعلم أبو زيد على الجميع بالسيف والسنان، حتى حير العقول وأذهل الأبصار، فرجعوا إلى البلد ونزل أبو زيد في دار الضيافة مع جماعته، وكان للتبعي رمال اسمه عكرمة، فاجتمع به على انفراد وقال له أريد أن تعلمني عن هؤلاء الشعراء، هل هم جواسيس؟

فقال السمع والطاعة، ثم أحضر الرمل وولد البنات مع الأمهات وجعل يعلم ببعض الأبيات.

فلما فرغ الرمال من الشعر، عرف شبيب فحوى الحديث والكلام، فغضب غضبا شديدا ما عليه من مزيد، وفي الحال أحضر أبو زيد ومن معه من الرجال وصاح فيهم أتيتم أيها الأشرار إلى هذه الديار لتجسس الأخبار ونسبتم أنفسكم بأنكم شعراء تمدحون الملوك والأمراء فلا بد من قتلكم!

ثم أن الأمير شبيب أمر العبيد أن يأخذوهم إلى المشنقة، فامتثلوا أمره وأخذوهم ودوروهم في المنازل والأطلال، وبعد ذلك رجعوا إلى المشنقة وأرادوا أن يشنقوهم وإذا بصقر ابن الأمير شبيب أتى ونزل عن ظهر الجواد وقطع المرس ومن رقابهم، فوصل الخبر إلى شبيب، فأحضرهم عنده في الديوان، ووبخ ولده على هذا الشأن وقال هؤلاء من بني هلال أعدائنا، أتوا إلى منازلنا ليقتلوا الرجال ويدعونا بأوشم الأحوال، قال له صقر ليس عندي خبر هذا الأمر وقد جرى وصار فشفعني في هؤلاء الشعراء ولاتبطل كلامي وتنقص بين الشباب مقامي، وإذا قتلتهم من دون سبب، فتبقى معيرة بين العرب، فقال شبيب نلقي عليهم مسائل وإذا لم يعرفوها نقتلهم، ثم أنه التفت إلى أبي زيد فقال له مرادي أحضر شعراءنا ليرموا عليك رموزا، فإن لم تعرفها فاني أقتلك وأعجل من الدنيا مرتحلك، قال أبو زيد افعل ما تريد يا ابن الأماجد، فعند ذلك أحضر الأمير شبيب شعراء بلاده وكانوا أربعة وعشرين شاعرا وكبيرهم يدعى صولجان بن ماهر، فلما حضروا أمرهم أن يرموا رموزا على أبي زيد ورفاقه فأجابوه بالسمع والطاعة، فالتفت أبو زيد إلى صولجان وقال له يا سيد الفرسان مرادي أن تبدي شعرك وقصيدك أن تأتي لنا بطعام حتى يصير بيننا خبز وملح، فأجابه بما قال وسار إلى بيته وأحضر إلى أبي زيد قصعة ملانة عصيدة وفيها ملعقة وقال كل يا ابن الكرام وادع لنا بدوام العز، فأخذ أبو زيد شقفة برأس الملعقة وذاقها فوجدها مرة مثل الحنظل قال هذا زادك لارحم الله شبابك يا ذليل يا مهان هات ما عندك من الأوزان، فعند ذلك تقدم الصولجان واخذ الرباب وبدأ يلعب حتى أطرب ذوي العقول والألباب أما أبـو زيــد فكان يرقب الكواكب، فرأى نجمه سعيدا ففرح بذلك فرحا شديدا ما عليه من مزيد، فلما رآه الصولجان ينظر في الكواكب ظن أنه ينظر الى بنات نعش فقال شعرا، فرد عليه أبو زيد بشعر فهم فحواه.

فلما فرغ أبو زيد من كلامه وشاعر طي نظامه تعجبوا من ذكاء أبي زيد وما عاد الشاعر يعرف يجاوبه فاغتاظ شبيب غيظا شديدا ما علي من مزيد وحلق ذقن الشاعر وطرده من عنده والتفت الى أبي زيد وقال له بقي عليك أن تغلب ستة أبطال ان غلبوك قتلت أنت ورفاقك، فأجابه ومن هم؟ فقال المصارعون والمشابكون والمدافعون ورمايو النشاب وحمالوا العلم وطباخو الكيميا، فقال له أبو زيد ان لم أغلبهم فإننا لا شك هالكون، ثم أنهم باتوا تلك الليلة الى الصباح، فقام شبيب واحضر كبير المصارعين وهو بطل رزين ليس له قرين، فلما رآه أبو زيد قال له ياأخا العرب دونك والطلب فلا بد أن أجعلك في التراب، فقال له المصارع دع عنك شقشقة اللسان يا ذليل يا مهان والان يظهر الشجاع من الجبان، فقال أبو زيد، اليوم عندي عيد بقتلك يا مهان، ثم نهض وأثبت الأقدام وأسرع إليه مثل الأسد الدرغام، والتقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وزعق فوق رأسيهما غربا البين، قال وكان المصارع مخبئا حربة مثل الثعبان وهي شغل بلاد الروم مدخرها لمثل هذا اليوم فرآها دياب وقال: خذ بالك يا أمير من هذا الشيطان وانظر هذه الحربة التي كأنها نقمة، فقال أبو زيد رأيتها قبلك يا دياب وهذا اليوم أدعيه ملقى على التراب، ثم اصطدما وافترقا وابتعدا، ومازالا على هذا الحال مقدار ساعة من الزمان حتى هجم أبو زيد على المصارع وعرقله برجله رماه الى الأرض واتكأ على عنقه وظل كامشا عليه حتى خرجت روحه من بين جنبيه، ثم تقدم المدافق ودافق أبو زيد ساعة من الزمان، فالتقاه بهمة وعلو شأن، وضربه بالعصا على دماغه فطرش بزر مخه ومات فتقدم المشابك وشابك أبو زيد ففرك أنامله ولقطه من يده ملخها من الباط فتقدم رامي النشاب، فذهب أبو زيد ووقف في تلك الهضاب، وأما ذلك الرجل، فرشق أبو زيد أربعين رشقة فما أصابه شيء، ثم ضرب أبو زيد بنشاب فرماه على الأرض قتيلا وبدمائه جديلا، فعند ذلك تقدم حمالوا العلم فغلبهم وكذلك طباخو الكيميا طلعت طبخته أحسن من طبختهم، ثم التفت الى شبيب وقال له: يا أمير لك عندنا شئ بعد هذا الإنتصار، فاتركنا نذهب الى أهلنا، فقال له لا شك أنك عفريت من عفاريت سيدنا سليمان، ثم أمر الخدم أن يأخذوهم الى السجن، فأخذهم في الحال، ووضعوا في أرجلهم القيود والأغلال ووكلوا بهم جماعة من صناديد الرجال، وكان الأمير دياب ومن مع من الأصجاب في خوف واحتساب من القتل والعذاب، وقد قطعوا الأمل من السلامة، فجعل أبو زيد يشجعهم ويقول لهم أن الفرج قريب بعون الله السميع المجيب وأننا في هذه الليلة نذهب الى أهلنا وننال المأمول، فاطمأنوا وجعلوا يتحدثون حتى أظلم الظلام ونامت الحراس، فعند ذلك أخرج أبو زيد من الكيس حجر المغناطيس وألقاه على القيود والأغلال، فتساقطت في الحال، وقال هلموا بنا للذهاب فقد تخلصنا بإذن الله، فنهضوا في الحال وجدوا في قطع الروابي والتلال حتى وصلوا الى بني هلال وكان وصولهم عند الصباح، فدخلوا على الأمير حسن، فالتقاهم بالسرور والأفراح وقال الحمد لله على سلامتكم لأني كنت مضطرب الأفكار عليكم فأخبروني بأحوالكم وما جرى لكم مع شبيب في سفرتكم، فأخبروه بحديثهم، فشكروا الله على خلاصهم من الاعتقال وأثنى على أبي زيد نظرا لما أبداه من حسن الفعال، وبينما هم في هذا الحال الا وقد أتى عليهم مرسال من عند الأمير شبـيـب بكتاب يطلب فيه عشر المال وذلك بعدما تفقد المحابيس فلم يجدهم، فأجاب السلطان حسن بعد أن عرف حقيقة الأحوال وعرف ما عند شبـيـب من الفرسان يقول:

يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
فلي حربـة كالمشعـل الوقـود
ولي همة تعلوا على كل ماجد
أخلي الأعادي على الجبال شرود
تهيأ غدا أيا شبيب لحربنا
مـع كل أبـطالـك وكل جنود
فكم حاكم مثلك ملكنا بلاده
من بعد حرب يشيب المولود
تريد منا اليوم عشر أموالنا
فسوف ترى منا رجال أسود



فلما فرغ حسن من هذا الخطاب، طوى الكتاب وسلمه للنجاب وأمره أن يسير الى سيده بالعجل، فأجاب وامتثل، ولما دخل على سيده سلمه الكتاب، فلما قرأه غاب عن الصواب وفي الحال أمر العساكر والأبطال للاستعداد الى الحرب والقتال، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، دقت طبول الحرب واستعدت العساكر للطعن والضرب وركب شبيب في أول الفرسان وحوله الوزراء والأعيان وساروا الى قتال بني هلال وكانت بنو هلال قد استعدت في ذلك النهار، ولما تقابل الجيشان برز شبيب الى ساحة الميدان وطلب مبارزة الشجعان، فبرز اليه أبو زيد، فلما رآه شبيب حمل عليه وأنشد يقول:

يقول شبيب التبعي ابن مالك
صرفت كل الليل بالتفكير

أبو زيد يا أبو زيد يا ولد الخنا
فأنت ردي الأصل يا طنجير

ذهبت لأرض القيروان وقابس
ترود الأرض مثل لص حقير

رجعت الى أهلك أتيت بجمعهم
أخذت قنوع والظلام عكير

وبسوء فعلك قد حبست رفقاتك
وخبثك بين الأنام كثير

فوالله إني قاتلك بمهند
وأهرق دماك مثل نهر كبير

وأقتل دياب الخيل صبحا أو مسا
وأجعل حسن من ضرب سيفي يطير

أجاب أبو زيد الهلالي سلامة
ونيران قلبي زايدات سمير

أنا أبو شيبان قهار العدا
أفك رموز العلم بالتفسير

ولا فخر للمرء الا فعاله
وفرط السخا وكل فضل شهير

أنا الرجل الذي يبرد حربته
يوم الوغا في صدر كل أمير

اليوم تنظر حربنا وقتالنا
وفعالنا حقا بلا تنكير



فلما فرغ أبو زيد من هذا الشعر والنظام، انطبق الفارسان على بعضهما وأخذا في الحرب والصدام، وكان شبيب من الجبابرة، فقاتل قتال الأسود وفعل فعالا تشيب المولود، فثبت أبو زيد أمامه كالجبل الراسي والتقاه بقلب أقوى من الصوان، فكانا تارة يتقدمان وتارة يتأخران كأنهما أسدان كاسران، وقد تعجبت من قتالهما جميع الفرسان وتعلمت منهما حقيقة الضرب والطعان، وما زالا على تلك الحال الى قرب الزوال وكان أبو زيد قد انحل عزمه وقصر، فرجع الى الوراء فعند ذلك دقت طبول الانفصال، فافترقت العساكر من الميدان ورجع أبو زيد في أسوأ حال مما شاهده من الأهوال، فسأله الأمير حسن عن خصمه، فقال أنه فارس شديد وبطل صنديد، وأني قد بارزت الأبطال في معارك النزال، فما وجدت أفرس منه في القتال ولما أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح، ركبت الفرسان ظهور الخيل واعتقلوا بالرماح والنصول، واصطفت الصفوف وترتبت المئات والألوف فكان أول من برز الى ساحة الميدان وطلب مبارزة الفرسان الأمير شبيب، فبرز اليه الأمير دياب وهجم عليه كليث الغاب، فالتقاه شبيب في الحال والتحم بين الفارسين القتال، الى أن أقبل الظلام وكان الأمير دياب قد أبصر في ذلك النهار من قتال شبيب ما يذهل الأبصار ويحير العقول والأفكار فلم يقدر أن ينال منه المرام، فارتد راجعا الى الوراء ثم نزل الى الميدان القاضي بدير وتصادم مع شبيب نحو ثلاث ساعات، وكان القاضي قد كل ومل وضعف عزمه وانحل، فرجع وتأخر خوفا من وقوع الخطر، فبرز إليه الأمير زيدان وتقاتل معه في ساحة الميدان، وبعد قتال شديد وحرب ما عليه من مزيد، ولى الأمير زيدان من أمامه خوفا من حربه وصدامه، ثم تقدم غانم أبو دياب وتقاتل معه القتال الشديد وثبت ثبوت الجبابرة الصناديد، الا أنه لم يكن من رجاله ولا يعد من أقرانه، فما مضى ثلاث ساعات حتى طلب الهزيمة والفرار، فبرز إليه الأمير عرندس فجال معه وصال وتقاتلا في ساحة المجال الى وقت الزوال، وكان عرندس قد ضعف عزمه، فولى هاربا، وبعد ذلك دقت طبول الانفصال فرجعت عن بعضها الفرسان والأبطال وكانت بنو هلال قد اعتراها الانذهال وخافت من عواقب الأحوال، فلما رجعت الى الخيام جمع الأمير حسن الأمراء الكرام واستشارهم في أمر شبيب فقالوا أنه فارس جبار وبطل مغوار لايصطلي له بنار هجماته هجمات الأسود وقلبه أقوى من الجلمود ومن الصواب أن نحاربه غدا بالعسكر ونترك مبارزته الى يوم آخر، بينما يكون تعب من القتال، فحينئذ تبرز إليه الأبطال، فاستصوب الأمير حسن مشورتهم وباتوا تلك الليلة على هذه النية وفي قلوبهم نار الحمية، ولما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، استعدت بنو هلال للحرب والقتال فدقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيول واعتقلت بالرماح والنصول، وركب الأمير حسن وتبعته جميع أبطاله وفرسانه، وكان شبيب قد التقاهم بالعسكر، فعند ذلك حمل وصاح وحملت معه فرسان الكفاح، وفي الحال التحم القتال وكانت بينهم وقعة عظيمة، قتل فيها خلق كثير، ولله در أبو زيد والأمير دياب، فانهما هجما على الرجال وكما السيوف في الصدور والرقاب ونكسا البيارق بطعن أشد من نزول الصواعق، وفعل شبيب أيضا في ذلك النهار العجب وألقى نفسه في العطب، وداموا على تلك الحال الى وقت الزوال، فعند ذلك دقت طبول الانفصال، فرجعت الفرسان والأبطال، وفي اليوم الثاني، اصطفت الصفوف وترتبت المئات والألوف والتقت الرجال بالرجال والأبطال بالأبطال وكان يوم شديد الأهوال، انتصرت فيه عساكر الشام وأسرت فيه عدة من البنات والنسوان ولما أقبل الظلام رجعوا وباتوا في الخيام وفي الصباح برز الأمير حسن الى الميدان فبرز له شبيب.

فانطبق عليه الأمير حسن كليث الآجام فالتقاه التبعي بالحسام وتجاول معه في معركة الصدام حتى حسبهما الغبار عن العيون والأبصار، وما زال الأمير حسن يحارب شبيب حتى أبصر منه الأهوال فقال له دعنا الآن من القتال وفي الصباح نعود الى المبارزة، فتبسم شبيب وقال أنا أمهلك ثلاثة أيام، ثم رجع عن القتال، وعند رجوع حسن قالت له الجازية لم رجعت والعرب ليس لها رجعات في الوقائع والغرات، فتحمس الأمير حسن ورجع الى خصمه وطعنه طعنة نهمة وحمية فأصابته في رقبته ووقع عن ظهر الجواد فأدركه قومه في الحال ونشلوه من ساحة المجال وهو يقاسي الألم والأوجاع، هذا وقد ارتدت العساكر على بعضها البعض، واقتتلوا قتالا شديدا كثرت فيه الأهوال وجرى الدم وزاد الخوف وعظم البلا وتمددت القتلى على وجه الفلا، واستمر القتال على هذا المنوال الى وقت الزوال، وكانت بنو هلال قد حلت أسراها من الأسر والاعتقال بضرب السيف وطعن النصال، فعندها دقت طبول الانفصال فارتدت عن بعضها الفرسان ورجعت بنو هلال في فرح واستبشار على ذلك النجاح والانتصار، وأما الملك شبيب لما رأى حاله طريح الفراش، زاد عليه الخوف والارتعاش، واسودت الدنيا في عينيه ولا سيما عندما رأى الأهل والأصحاب في عويل وانتحاب، فتنهد من فؤاد متبول.

ثم غاب عن الدنيا لكثرة آلامه فوقع في قومه البكا والنحيب، هذا ما كان من أمر شبيب، وأما ما كان من بني هلال فان الأمير حـسـن جمع سادات الرجال وقال لهم مرادي هذا الصباح أبادر الأعادي بالقتال والكفاح، فقال أبو زيد تمهل فسوف تبلغ القصد والأمل وأنا مرادي عند طلوع النهار أن أدخل المدينة وأنا بصفة طبيب لعلي أجتمع بشبيب فيفرح قلبي ويطيب، فقال حسن افعل ما تريد أيها الفارس الصنديد، فعند ذلك سار أبو زيد الى مضربه ولبس أفخر الحلل وتعمم بعمامة كبيرة ولبس جبة قصيرة وغسل وجهه ببعض العقاقير، فصار أبيض مثل الثلج حتى لم يعد يعرفه أحد من النام، ثم ركب ظهر فرس أصيلة ودخل مدينة الشام وجعل يجول في الأسواق وهو ينادي أنا الطبيب أنا الحكيم، فمن فيه علة أزلتها عنه بإذن الله، وما زال يطوف ويجول وينادي ويقول أنا الحكيم أنا الطبيب، حتى وصل الى قصر شبيب، وكان لشبيب ولد مثل البدر يقال له صقر، فاتفق أنه كان هناك وسمعه فقال في نفسه أن هذا الطبيب رجل غريب ولو لم يكن من الشطار والحذاق ما كان يطوف في الأسواق، فمرادي أن يداويه لعله يشفيه، ثم طلبه فحضر وسلم عليه، فسأله: هل أنت حكيم؟ قال: نعم. قال: اذا شفيت أبي وأزلت عنه المرض، أغنيك الى الأبد، وقدمتك على جميع أطباء البلد. فقال سأبذل الجهد وأداويه ولا أخرج من هذا القصر حتى أشفيه، ففرح كل من حضر هنا بهذا الخبر وزال عن قلوبه الغم والكدر، ولم يعلموا بأن الطبيب هو عدوهم الأكبر، ثم تقدم أبو زيد الى الى شبيب في صفة حكيم وطبيب وهو يترقب الفرصة ليقتله، وكان رأس شبيب معصوبا بمنديل وهو يتنهد من قلب عليل، ففك العصبة ومسح الدم ووضع له المراهم وقال: زالت الأضرار بإذن الواحد القهار، فاتفق أن شبيب فتح عينيه فرأى أبا زيد حوله، فخاف وأيقن بالموت الأحمر، فصاح من حلاوة الروح بصوت خفيف: هذا أبو زيد! ! هذا أبو زيد! ! فقال الحاضرون ما يقول شبيب أيها الطبيب؟ قال يريد أن تملأوا السراج زيتا وتخرجوا جميعا من البيت حتى يستريح ويزول عنه البأس، لأن العليل تضيق أخلاقه بكثرة الناس، ففرحوا وخرجوا من القاعة، ولما خلي المكان، أخرج أبو زيد من جنبه السكين، وذبح شبيب من الوريد الى الوريد، ثم غطاه لفوق رأسه وخرج، فسألوه من حال شبيب فقال أنه بخير، فلا تدخلوا عليه الا بعد ساعة لبينما يكون قد صحي من النوم ولابد من أن يشفى من علته في هذا اليوم لأني عالجته بأحسن علاج، فلا تكونوا في قلق وانزعاج، فشكروه على ذلك الاهتمام ووعدوه بالخلع والأنعام، ثم ودعهم وسار، وأما زوجة شبيب وباقي الجماعة، فانهم بعد ذهاب أبي زيد بساعة، دخلوا على شبيب فوجدوه على تلك الحال، فخرجوا عن دائرة الاعتدال وعلموا أن الطبيب كان أبو زيد المحتال، فاستعظموا الأمر وأقاموا العزاء والنحيب على وفاة شبيب وهم يلعنون ذلك الطبيب، وكان لشبيب أخ اسمه الصحصاح، وكان من الأبطال، فاسودت الدنيا في عينيه وقال لا بد لي أن أتبع هذا الغدار وأسقيه كأس الدمار، ثم سار وراءه وهو يهدر كالأسد الى أن التقى به قرب طاحون، فلما نظر أبو زيد عرف أنه الصـحـصـاح وأنه يريد قتله، فدخل على الطاحون وغير لونه بالأعشاب ونزع عنه تلك الثياب، ثم خرج ووقف على الباب، فلما وصل الصحصاح اليه سأله في قلب محزون أعلمني أين صاحب هذه الفرس؟ فقال له في الطاحون فنزل عن الحصان وسلمه الى أبي زيد ثم سل سيفه ودخل الى الطاحون فلم يجد سوى الطحان هناك فضربه أورثه الهلاك وخرج في الحال وهو يظن أنه قتل أبا زيد فوجد أبو زيد على ظهر الحصان وقال له من تكون فطعنه أبو زيد بالرمح في صدره خرج يلمع من ظهره ومات، فسار أبو زيد وهو مسرور على ما فعل حتى دخل على الأمـيـر حـسن في الصيوان وحوله الأمراء والأعيان فأعلمه بما جرى وكيف قتل شبـيــب والصحصاح ورجع بالفوز والنجاح، فشكروه على ذلك الاهتمام وقالوا لا عدمناك يا فارس الصدام، فقد هان علينا الحال وبلغنا المرام، وشوف نبادر الأعداء بالحرب والصدام.

هذا ما كان من بني هلال، وأما ما كان من أهل شبيب، فانهم لما علموا بقتل الصحصاح، زاد عندهم النواح، وأحضروه لجانب أخيه، وأقاموا عليهما النحيب، فتقدمت جنوب زوجة شبيب ترثيه بهذه الأبيات:

تقول جنوب الحميرية بما جرى
بدمع جرى فوق الخدود سكيب

الأيام والدنيا كفى الله شرها
ومن عاش فيها ينظر التنكيب

فما أضحت الا أبكت بعد ضحكها
فيا لها من حسرة بعد شبيب

شبيب الذي فرقع له الرعد بالسما
وصاحت ديوك العرش مات شبيب

شبيب الذي ما ربت الترك مثله
وما ربت الدايات مثل شبيب

شبيب الذي يلقى الضيوف بفرحة
ومسرة ولو كان الزمان جديب

فيا ليت من كان السبب بفارقنا
يقتل بحد الماضيات قريب

الا ياحمام النوح نوحوا واندبوا
وابكوا على فقد الأمير شبيب

يا هل ترى الأيام عادت تلمنا
وتجمعنا به بوقت قريب



فلما فرغت من هذه المرثية، جعلت تبكي وتنوح وتلطم خدودها من شدة الأسف وتقول، والله لقد انهدم بعد شبيب العز والشرف، فبكت الناس لبكاها وعزوها ما دهاها، ثم أجلسوا شبيب على كرسي من الذهب الأصفر مرصه بالدر والجوهر، وألبسوه عدة الحرب وتقدمت البنات والنساء والأمراء والسادات، وبكوا عليه حتى كثر الصياح وارتفع البكاء والنواح، وتقدمت جنوب وقبلته بين عينيه وقالت باطل يا أبا الخنساء، لماذا أنت نايم يا مقري الضيوف؟؟ قم وانظر الى هؤلاء الأمراء الذين جاوا لضيافتك، فمالك لا تقوم بواجبهم؟ ثم سحبت خنجرا وصارت ترقص وتقول أنا من بعدك لا أريد الحياة وبسرعة جنونية أغمدت الخنجر في بطنها، فحينئذ ضج الجميع في العويل وكثرت الولاويل ثم دفنوا الثلاثة باحتفال عظيم، وأقاموا مناحة طويلة، هذا ما كان من هؤلاء، واما ما كان من بني هلال، فانهم استعدوا للحرب والقتال، فاعتقلوا بالسيوف والنصال وهجموا على المدينة بقلوب كالجبال ومكنوا الضرب على الرجال من اليمين والشمال، ونهبوا ما فيها من الأمتعة والأموال، فعند ذلك خرجت الأمراء والأعيان وابنه في جماعة من النسوان، وطلبوا من الأمير حسن العفو والأمان، فأجابهم الى ذلك الشأن، وأرسل مناديا ينادي في الأسواق بالأمان، فتوقف القتال وخرجت بنو هلال وأقامت في الخيام وبلغت المرام وزالت عنها الأوهام، وبعد ذلك بعشرة أيام ولى الأمير حسن الأمير صـقـر مكان أبيه، ثم أمر بدق طبل الارتحال، فهدموا الخيام والمضارب وركبت الفرسان ظهور النجائب، وجدوا في قطع الروابي والآكام حتى وصلوا الى القدس الشريف بعد ستة أيام، فنزلوا خارج المدينة في المضارب والخيام، وزاروا الأماكن المقدسة بكل احترام وتصدقوا على الأرامل والأيتام، ثم رحلوا منها بعد عشرة أيام قاصدين غزة بقلوب معتزة.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:18 PM
الجزء الحادي عشر من تغريبة بني هلال
قصة السركسي بن نازب



( قال الراوي ):

فلما وصلوا إليها وجدوها محصنة، فنصبوا الخيام والأعلام، وفرقوا مواشيهم في جوانب أقطارها، وأكلوا من محصولها وأثمارها، فلما رأت الرعيان تلك الفرسان قد ملأت البراري، ذهبوا الى ملكهم وأعلموه بذلك الشأن، وكان ملكهم قوي الجنان، صاحب جيوش ومواكب، يقال له السركسي بن نازب، وكان عدد عساكره خمسمائة ألف من الأبطال يعتمد عليهم في الحرب والقتال، فلما بلغه الخبر من الرعيان بقدوم بني هلال، جمع الوزراء والأعيان وأكابر الديوان واستشارهم في ذلك الشأن وكان عنده وزير ذو رأي وتدبير يقال له الأمير راشد، فقال اعلم أيها الملك الهمام أنني أخبر الناس ببني هلال وأعرف ما عندهم من الغنم والجمال والخيل والأموال لأنني ذهبت الى نجد وأقمت فيها جملة أيام فعندهم أربع تسعينات ألوف وبناتهم مثل البدور، وبما أنهم أقبلوا إلينا فمن الصواب أن نبادرهم بالحرب والقتال وننهب ما عندهم من الأموال، لأننا أشد منهم بأسا وأقوى مراسا، ثم أشار يصف بني هلال وبناتهم.

ولما فرغ السركسي طوى الكتاب وسلمه الى النجاب وأمره أن يأخذه الى الأمـيـر حسن ويأتيه بالجواب فأخذه وسار وما زال يقطع الروابي والتلال يطلب منهم عشر المال.

فاستصوبه السركسي وقد طمع في مال بني هلال وفي الحال كتب إليهم حتى وصل الى بني هلال فدخل على الأمير حـسـن وسلم عليه وأعطاه الكتاب، وكان حسن جالسا وسط الديوان وحوله الأمراء والأعيان منهم الأمير أبو زيد والأمير دياب وغيرهم من السادات والأنجاب، فلما فتح الكتاب وقرأه وعرف حقيقة ما حواه، عرضه على الأمراء، وقال لهم ما رأيكم أيها السادات؟؟ فقالوا ما عندنا سوى الطعن، فعند ذلك أشار الأمير حسن يجتوب السركسي على كتابه، ثم سلمه الى النجاب فأخذه وسار الى السركسي بن نازب، فسلم عليه ثم ناوله الكتاب فلما قرأه وعرف ما تضمنه، طار الشرر من عينيه وأمر بجمع ثلاث مائة ألف بطل بالأسلحة الكاملة والعدد الشاملة وركب في أول العسكر مع الأمير راشد الوزير وحوله الأعلام والرايات والفرسان والسادات وجد في قطع البراري والقفار لقتال بني هلال ونهب الأمتعة والأموال، ولما عرفت بنو هلال بقدومه استعدت للقتال والنزال وركب الأمير حسن وتبعته بنو هلال، وكان الأمير أبو زيد راكبا عن يمينه والأمير دياب راكبا عن شماله، ولما التقت العساكر ببعضها البعض، وقف كل فريق في ناحية من الأرض وكان أول من برز الى ساحة الميدان وطلب مبارزة الفرسان السركسي وهو كالليث، فبرز اليه أبو زيد في الحال فالتقاه السركسي وتناشدا شعرا. ثم انطبق أبو زيـد على السـركـسـي انطباق الرعد في الغمام فالتقاه السركسي كأنه ليث الآجام وأخذ معه في الطعن وضرب الحسام، وكان السركسي أفرس زمانه ولا أحد يعادله في ميدانه وكانت تضرب به الأمثال وتهابه الفرسان والأبطال، فقاتل خصمه أشد قتال وضربه بحد الحسام، فاستتر أبو زيد بالدرقة نزلت الضربة على رقبة الحصان، فبرتها كما يبري الكاتب القلم، فوقع أبو زيد على الأرض، فهجم السركسي عليه وأراد أن يكمل عليه، فلما رأى أبو زيد تلك الحال، خاف الهلاك والوبال فطلب منه أن يعفو عنه فأجابه الى ذلك الشأن وقال له اذهب من الميدان وأرسل لي الأمير دياب حتى أعلمه حقيقة الضرب والطعن أو تحضروا لي عشر المال حتى أوقف عنكم القتال، فرجع أبو زيد بغاية الكدر ورجع معه باقي الجيش والعسكر حيث كان أظلم الظلام واعتكر، ولما وصل الى المضارب التقت به النساء والبنات وسألوه عن حاله وما جرى في قتاله.

ثم ذهب أبو زيد بنفسه الى الأمير حسن وأعلمه بما جرى وكان، فتعجب الأمير حسن وباقي الأمراء، وقالوا ما دام الأمر على هذا الحال، فما بقي غير الأمير دياب أن يبرز الى السركسي، لعله يبلغ منه الآمال والا تضعضعت منا الأحوال، فاستصوب الأمير حسن هذا الكلام وصار يحمس الأمير دياب والأمير يرد عليه.

فلما فرغ الأمير ديـاب من كلامه، شكره الأمير حـسـن على حسن اهتمامه، ولما أصبح الصباح، برز السركسي الى ساحة المجال فصال وجال وطلب مبارزة الأبطال فبرز اليه دياب كأنه ليث الغاب وهو راكب على الخـضـرا، فالتقاه السركسي بقلب كالصوان وقال له من تكون من الفرسان؟

فقال أنا الأمير ديـاب بن غانم، فضحك السركسي والتقاه في ساحة المجال واقـتتـلا بالرماح والنصال أقوى قتال وهجما على بعضهما هجوم الأسود وما زالا على تلك الحال الى وقت الزوال، وكان السركسي من أقوى الفرسان في تلك الأيام، فانه استطال على الأمير دياب بعد أن لعب عليه اثنين وسبعين بابا، فهرب من أمامه مع عسكره، ولم يثبت لحربه وصدامه حتى دخل المضارب والخيام وهو مقهور، فرجع السركسي الى قومه بغاية الفرح والسرور، وبات تلك الليلة مشروح الفؤاد على نيل المراد، وأما دياب فرجع غائبا عن الصواب حتى أقبل على الأمير حسن، فصار بخبره بهذه الأبيات:

قال المدعو الأمير دياب
النار في قلبي تزيد لهاب

يا حسن اسمع كلامي وافتهم
وأصغي الى قولي ورد جواب

السركسي ما رأيت مثله فارس
يفتح علي بالحروب أبواب

وقد هالني لما يروح ويرتجع
ينزل علي مثل سبع الغاب

ما له مثيل في هلال وعامر
أيضا و لا في ساير الأعراب

قوموا بنا بالليل حتى نرحل
يا أبو علي الرأس مني شاب




فلما فرغ الأمير دياب من كلامه وأمراء بني هلال تسمع نظامه، خافوا من الشرور وعواقب الأمور، وجعلوا يتشاورون في قتال ذلك البطل، فقرروا على مفاجأته بهجوم خاطف، وباتوا تلك الليلة، وفي الصباح جمع الأمـير حـسـن الأبـطال والفرسان، ونزلوا الى ساحة الميدان، فالتقتهم عساكر السركسي في ساحة المجال، واقتتلوا أشد قتال، وهجموا على بعضهم البعض، واشتبك بين العسكرين القتال، وجرى الدم وسال، فما كنت ترى الا رؤوسا طائرة ودمـاء فـائـرة وفرسانا غائرة، حتى دارت على قوم السركسي الدائرة وكانت بنو هلال محيطة بهم من اليمين والشمال، فبينما هم في ضربات قاطعات تهد الجبال الراسـيـات واذا بغبار قد ثار حتى سد منافس الأقطار وبان عن عسكر جرار، ليس له قرار، وفي مقدمتهم الوزير راشد الأسد المعاند، وكان السبب في قدومهم أن السركسي أرسل يطلب منهم الامداد للحرب والطراد، فحضر الوزير بمائتي ألف عنان، فلما وصل الى ساحة الميدان ووجد قومه بالذل والهوان، هجم على بن هلال وأحط بهم من اليمين والشمال، وخلص السركسي من بين أيدي بني هلال واقتحم هو والعساكر الى ساحة المجال،وما زالت الحرب على قدم وساق الى أن انكسرت بنو هلال أشد انكسار وانهزم الأمير دياب ببني زغبي، وأبو زيد ببني زحلان، والأمير حسن والقاضي بدير ببقية الفرسان، وتبعهم الوزير راشد بكل بطل مغوار وأسد كرار، وشتتهم في جوانب القفار وكسب غنائم كثيرة وأموالا غزيرة، ولما اظلم الظلام رجع الوزير والملك المنصور، وقد كسبوا من بني هلال المال والبنات والنوق والجمال، وصارت بنو هلال مشتتين في البراري والتلال، ثم أجتمع الأمير حسن والأمير دياب والأمير أبو زيد وأكابر الديوان، وأخذوا يتشاورون في خلاص ما أخذه منهم قوم السركسي وكيف يقتلون الوزير الذي كان سبب هذا البلاء، وكان للأمير حسن ابن أخت شديد البأس قوي المراس يسمى الأمير عـقـل عمره أربعة عشر عاما، فلما انهزم الأبطال والفرسان من قتال السركسي في ساحة الميدان استعظم ذلك الشأن فجاء الى خاله الأمير حسن وتعهد له بقتل السركسي بشرط أن تذهب معه النساء والبنات يشجعنه في الحرب والثبات ثم أنه أنشد شعرا شكره عليه الأمير حسن، وباقي الأمراء على حسن اهتمامه، وقد تعجبوا من ذلك وقالوا لعل الله أن يأتي على يده بالفرج والنصر، ثم أن الأمير حسن أمر أخته الجازية أن تنتخب في الحال مائة بنت من خيار البنات الأبكار اللواتي يشبهن الأقمار، فحضرت بهن عند أخيها وقالت له ماذا تريد أن تفعل؟ قال تذهبين مع البنات ومع الأمير عقل الى ساحة الميدان وتشجعنه بالأشعار الحسان حتى يتحمس على قتل السركسي بن نازب، لعله ينال المقاصد، فلما سمعت الجازية فحوى كلامه، استعظمت الحال وقال تكيف نذهب مع عقل وهو ولد صغير السن وليس من رجال الحرب والقتال؟ فاذا كان أبو زيد ودياب لم يقدرا على السركسي فكيف يقدر هذا الصبي وربما يأسرنا السركسي ونبقى معيرة بين الأعارب؟ فلما انتهت من هذا الخطاب تقدمت وطفا بنت الأمير دياب وتكلمت بهذا المعنى، فقال الأمير حسن هذا الكلام لا يفيد، ثم أمر بالركوب مع الأمـير عـقـل، وفي الحال ركبت العماريات أمام الفرسان والأبطال، واعتقلوا بالرماح والنصال وقصدوا ساحة القتال، فلما وصلوا اصطفت الصفـوف وترتبـت المئات والألوف وكان الأمير عقل راكبا على ظهر جواد يسابق الرياح، فبرز الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه السركسي كأنه قلة من القلل أو قطعة فصلت من جبل، فقال له عقل من تكون من الأبطال فاني أرى نفسك شامخة معتزة؟ قال أنا السركسي أمير غزة. وأنت من تكون؟ قال أنا الأمير عقل بن الأمير بدر.

وبعد أن تساجل البطلان التقيا في ساحة الميدان كأنهما جبلان أو أسدان كاسران، وعلا عليهما الغبار حتى حجبهما عن البصار وقدحت حوافر خيلهما النار، ومازالا علي تلك الحال وهما في أشد قتال الى قرب الزوال، وكان السركسي قد تعجب من حرب الأمير عقل واستعظم قتاله لأنه رأى منه في مواضع الطعن والضرب ما أدهشه وأهاله، ثم ضربه في الدبوس قاصدا أن يعدمه الحساة، فخلا عنها، فراحت الضربة خائبة بعد أن كانت صائبة، ثم أن الأمير عقل ارتد على خصمه مثل الأسد وضربه بالسيف المهند، فجاءت الضربة على رقبة الجواد فبرتها كما يبري الكاتب القلم، فوقع السركسي عى الأرض، فأدركه قومه ونشلوه من ساحة القتال، فهجم عليهم الأمير عقل بالحسام فولوا وطلبوا الانهزام حتى وصلوا غزة، فرجع الأمير عقل والفرسان من المعركة والصدام وهم في فرح واستبشار، ورجعت معه البنات الأبكار وقد تعجبن من أمره نظرا لصغر سنه، فدخل على الأمير حسن وسلم عليه وعلى جميع الأمراء الذين حواليه وأعلمه بما جرى وكان، وكيف أن خصمه ولى من ساحة الميدان، بعد أن حاربه طول النهار، فشكره الأمير حسن على فعاله وقد تعجب من قتاله وثباته، وأجلسه بقربه في صدر الديوان ووعده بالجميل والاحسان، ورفعه الى درجة الأمراء والأعيان، هذا ما كان من بني هلال وأما ما كان من السركسي، فانه رجع من ساحة القتال وهو مشغول البال، فاجتمع بوزيره وأعلمه بقتال الأمير عقل ذلك الولد الجبار والبطل المغوار، فقال له الوزير لا تخف يا ملك الزمان غدا أنزل الى الميدان وأبارز هذا الولد وأذيقه الأهوال، وباتوا تلك الليلة يتحادثون وفي الصباح اصطف الجيشان وتقابل العسكران وبرز الوزير راشد اليى ساحة الميدان، وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه الأمير عقل، فالتقاه راشد بقلب كالجبال، والتحم بينهما القتال وتضاربا بالسيوف وتطاعنا بالرماح وفعلا أفعالا تعجز عنها صناديد الأبطال وما زالا على تلك الحال مدة خمسة أيام، وفي اليوم السادس التقيا في ساحة الميدان وتقاتلا أمام الفرسان الى أن اختلف بينهما ضربتان قاطعتان وكان السابق الأمير عقل، فجاءت الضربة على رأس الوزير راشد، فوقع قتيلا وفي دمه جديلا، فلما رأى قومه ما حل به من الوبال، نشلوه من ساحة القتال وأما السركسي لما علم أن الوزير قتل، غاب عن دائرة الصواب وهجم على الأمير عقل مثل ليث الغاب فالتقاه عقل بقلب أقسى من الصوان، وتقاتلا معا في ساحة الميدان حتى تحيرت من قتالهما الفرسان وما زالا على تلك الحال الى وقت الزوال فعند ذلك دقت طبول الانفصال فرجعا عن الحرب والقتال ورجع السركسي وهو غضبان مما قاسى من الحرب والطعان وصمم النية أنه في ثاني الأيام يهجم بالفرسان والأبطال على بني هلال ويذيقهم الأهوال، أما الأمير حسن فانه أحضر الأمراء والسادات وقال لهم اعلموا أيها الرجال أن قصدنا الوصول الى تونس الغرب لنخلص رجالنا من أسر الزناتي خليفة، والرأي عندي الآن أن نهجم في الصباح بالأبطال والفرسان ونحارب أعداءنا بقوة الجنان حتى نبلغ الآمال ونسير بالعجل من هذه الأطلال، فيركب الأمير دياب في بني زغبي الشجعان والقاضي بدير والخفاجي عامر مع الأمير زيدان والرياشي مفرج وعرندس الزغبي والأمير عقل يقصدون الميدان والأمير أبو زيد يركب في بني زحلان ويقصدون أبواب غزة بعد حضور السركسي الى الميدان وهكذا تم الاتفاق.

وفي الصباح، دقت طبول الحرب وركب الفرسان للطعن والضرب، واندفعت الشجعان الى ساحة الميدان من كل جهة ومكان، وقصد السركسي معركة القتال وطلب مبارزة الأبطال، فبرز اليه الأمير دياب وجال معه ساعة من الزمان، ثم هجمت العساكر على بعضها البعض كأنها كواسر السباع وجعلوا يتضاربون بالسيوف ويتطاعنون حتى جرى الدم وساح وزهقت الأرواح، وما زالوا على تلك الحال الى قرب الزوال، فعند ذلك، هجم الأمير عقل وزيدان واقتلعا السركسي من ظهر الحصان وأوثقاه بالسلاسل والقيود وأخذاه الى الخيام وبلغا المقصود، ولما بلغ أبو زيد هذا الخبر، فرح واستبشر وهجم بالفرسان والأبطال على عساكر السركسي الذين انهزموا من ساحة المجال، وحكم فيهم ضرب السيف الفصال، وبعد أن دخلت بنو هلال غزة بقلوب معتزة، غنموا الأموال وبلغوا الآمال وخلصوا سباياهم من الاعتقال وكان أظلم الظلام، فخرجوا وباتوا في الخيام وفي اليوم الثاني أقبلت أهالي البلد وطلبوا من حسن الأمان، فأجابهم الى ذلك الشأن وأرسل مناديا ينادي بالأمان، فاستتبت الأحوال واستبشرت بنو هلال بالعز والاقبال، ثم حضرت الفرسان والأمراء عند الأمير حسن، فشكرهم على ذلك الاهتمام وغمرهم بالعطايا والأنعام، ثم أحضروا عقل وأكرموه غاية الاكرام على ما أبداه من الحرب والصدام وقلده الأمير حـسـن مقام الأمراء العظام وألبسه سيفا مرصعا بنفيس الجواهر، ثم أشار يمدحه ويعرض عليه ما يريد من بنات النساء السادات.

فلما فرغ الأمير حسن قال له الأمير: يا خال أرجو أن أحوز الكمال بنظرك السعيد مدى الأيام، والآن ما حل وقت زواجي، فتقدم الأمير زيدان شـيـخ الشـباب والتمس من الأمير حـسن أن يأمر بعمل عرس لأولاد الأمارة الذين حان وقت زواجهم، فقال له حسن لابأس وركبت أولاد الأمراء فوق ظهور الخيل وعملوا عراضة عظيمة لها قدر وقيمة، وبعده عملوا عرسا طافحا بالمسرات ورقصت أمامهم النساء والبنات المخدرات، ومكثوا على هذا الحال ثلاثة أيام بالفرح والسرور، أحضروا السركسي مقيدا وأدخلوه عند الأمير حسن، فترامى على أقدامه وكان الأمير أبو زيد جالساه عن يمينه والأمير دياب عن شماله، فحينئذ طلب منه العفو والأمان وقال يا أمير ان الوزير هو الذي كان السبب في الأذية والضرر وكان سببا لسبي النساء الحسان، فأرجوك أن تعفو عني، فأمر السلطان حسن بفكه وقال يا سركسي أعفو عنك إذا حفظت الشرائع الملوكية وهي أوصيك بمحبة الله وحفظ شرائعه ووصاياه ما دمت في قيد الحياة، ولاتكن لجوجا في الكلام ولا مدمنا لشرب المدام بل حافظا زمام الاحتشام متخلقا بأخلاق الكرام مع الخاص والعام، متجنبا كلام الهزء والهذيان، واقيا نفسك من عثار اللسان، لأن صدور الأحرار قبورها، فمن صار سره ملك أمره، ومن باح لم ينجح وزاد ندمه، واحذر يا سركسي من النساء الشريرات فان مكرهن عظيم وهن بالحشمة والكمال، وهن أغدر من الحيات ومن أعظم المصائب والبليات، وبالجملة فإنهن مفاتيح الشرور، لأنه ليس لهن عهد ولا أمانة.

فقال السركسي: أنا طوع يديك وجميع أمور راجعة إليك فشنف أذني بأقوالك اللطيفة فاني لأمرك سامع، فقال له السلطان حسن: متى توليت أحكام البلاد وتحكمت على رقاب العباد إياك أن تغفل عن أحوال الرعية وتتعدى القواعد الهلالية وتخالف القوانين والشرائع الملوكية، بل كن سالكا الطريق المرضية، معاملا الكبير والصغير بالسوية، رافعا عن شكوى المظلوم حجابك، فاتحا في وجهه بابك، واضعا الأشياء في محلها والمناصب في يد أهلها، ولا سيما ولاة الأقطار وأرباب الوظائف الكبار، فينبغي أن يكون هؤلاء الرجال من أهل الفضل والكمال موصوفين بالاستقامة والأمانة ومشهود لهم بالحلم وبصدق الديانة، لا يميزون بين الحقير والشريف ولا يظاهرون القوي على الضعيف، فيهابهم جميع المأمورين ويقتدي بهم باقي المستخدمين، لأنهم أصحاب الكلام وولاة الأحكام وبيدهم أزمة الأمور وتدبير مصالح الجمهور ومحافظة الحدود والثغور، فإذا كانوا على هذه الحالة، تستقيم أحوال الرعايا وينتشر العدل في كل مكان، فترعى الذئاب مع الغنم وتبات العصافير مع الرخم، أما إذا كانوا خلاف هذه الأوصاف، مائلين الى الاعوجاج والانحراف، لايبالون بمنافع الخلق ولا يعلمون بما يقتضيه الحق، بل يصرفون الأوقات بالملاهي والملذات، وتضطرب الأحوال ويقع الاختلاف ويكون سببا لضرر البلاد بدل الاصطلاح، فيضيع الحق والانصاف ويكثر الجور والاعتساف، فتسقط المملكة الهلالية ويصير وجودها كالعدم بين ملوك الأمم.

فإياك أيها الأمير أن تسمي وزير الا بعد الفحص والامتحان ولو كان ابن رفعة وشأن، حتى تستقيم أمور دولتك وتسعد به أحوال رعيتك، فهذا الذي يقتضيه مقامك ويحسن به في الدارين ختامك، واياك أن تغتر في الدنيا ولذتها وتلتهي بأفراحها ومسرتها، فانها محتالة غدارة، جميع أمورها مستعارة، فلا تركن إليها ولا تثق بها وتعتمد عليها، فكم أفنت من الملوك وفتكت بالأنبياء وما هي الا كظل زائل، واعلم أن المراتب العليا إنما هي مواهب وعناية من رب البرايا لأناس خصهم الله بأبواب الخير، وذلك لغايات لا تدركها العقول، ثم قال له وإياك أن تهمل الجزية بل أرسلها لي في كل عام، فحينئذ نهض السركسي فقبل يديه وقال أنا طوع يديك وجميع أموري متجهة اليك، ولن أنسى جميلك وإحسانك ما دمت في قيد الحياة، فحينئذ أمر له السلطان بخلعة سنية وحلة ملوكية ونهض أبو زيـد وديـاب وألبساه اياها أمام الوزراء والقواد وأرسلوه الى محكمته في احتفال عظيم وأجلسوه على تخت المملكة وودعوا بعضهم، ثم أخذوا في أهبتهم للمسير الى بلاد الغرب، لكي يخلصوا أولادهم من الأسر والكرب، فانتشرت البيارق والصفوف وضربت الطبول في الصحارى والسهول، وأخذوا يجدون في المسير ويسابقون في مسيرهم الطير الى أن أقبلوا الى مواشيهم في تلك البراري والآكام.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:19 PM
قصة البردويل بن راشد( الجزء الثاني عشر )




( قال الراوي ):

أنه كان في العريش ملك من الملوك العظام، صاحب بطش وإقدام، يقال له البردويل بن راشد وكان فارسا شديدا وبطلا عنيدا، له قصر مشيد الأركان عالي البنيان وحوله العساكر والفرسان، وكان مجوسيا يعبد النار دون الجبار ويسجد للشمس كل نهار ويلبس طاقية الإخفا ويقرأ الطلاسم ولم يعد أحد يراه، وبهذا الشأن يقهر الأبطال والفرسان، ففي بعض الأيام أخذ خبر بنت ملك سنبس مرصاد حاكم هاتيك البلاد وعنده ثلاثة آلاف فارس،ما بين مدرع ولابس، والبنت اسمها عليا وكانت ذات حسن وجمال وبهاء وكمال، فلما سمع البردويل بوصفها ما بقي يملك من العقل ولا درهم، فكتب الى أبيها الملك مرصاد، يطلب ابنته عليا الى الزواج، فأبى الملك مرصاد ذلك، فحاربه البردويل وقتله وقتل وزيره وأخذ بنته عليا زوجة له، هذا ما كان من أمر البردويل والملك مرصاد، ولنرجع بالكلام الى بني هلال، فانهم لا انتهوا من حرب السركسي في غزة، قصدوا وادي العريش فنصبوا فيها المضارب والخيام وسرحوا مواشيهم في تلك البراري والآكام التي يحكم عليها البردويل، فلما سمع بقدوم بني هلال ونزولهم في وادي العريش يأكلون الأثمار ويتلفون الأشجار، اغتاظ وتكدر وشخر ونخر وأقسم أن لايبقي أحدا من بني هلال الأعداء الأشرار.

فقال له الوزير اكتب الى الأمير حسن في طلب عشر المال والنوق والجمال، فان أعطى كان قتالهم حراما وان لم يعط يكون قتالهم حلالا، فطلب البردويل قلما وقرطاسا ودواية من الذهب الخاص وأخذ يكتب الى الأمير حسن في طلب عشر المال والخيل والجمال.

ثم طوى الكتاب وأعطاه لعبده سعيد، فأخذه وسار الى أن وصل الى بني هلال وسلم الكتاب للسلطان حسن، فقرأه وفهم معناه، فاسودت الدنيا في وجهه، فكان أبو زيد موجودا، فأخذ الجواب وقرأه وقال انا والله علي في قتل البردويل وستشهد لي جميع العربان بذلك، فأشار دياب أن يأخذوا العبد لدار الضيافة لئلا يفهم ما يتكلمون، فمضوا به الى دار الضيافة، حينئذ قال الأمير دياب لا تحسب الأكلات كلها زلابية يا أبا زيد.
وراح دياب يهدد ويتوعد، فقال أبو زيد أصحيح ما تقول يا دياب، فقال دياب كلا يا أبا زيد وانما أنا أمزح حتى أنظر ما يكون عندك من التدبير، فحينئذ قال أبو زيد للعبد سعيد، قل لسيدك ليس لك عندهم غير الحرب ورمي الرقاب، فسار سعيد وأخبر مولاه البردويل بذلك، فغضب غضبا شديدا وفي الحال أمر وزيره المنصور أن يركب في ماية ألف فارس وينزل الى الحرب وأن لا يترك من بني هلال صغيرا ولا كبير الا قتله، فسار المنصور بمائة ألف فارس حتى وصل الى الميدان فأسرع اليه الأمير دياب وجالا وصالا، وطعن منصور الأمير دياب بالرمح تخلى عنها وضربه دياب بالحربة، خرجت تلمع من ظهره، فحين ما نظرت عساكر البردويل ما حل بالوزير انطبقوا على الأمير دياب مثل سباع الغاب، فتلقتهم مثل الأسود الكواسر بالسيوف والرماح، ولله در الأمير دياب فانه برى الرؤوس وجز الرقاب فولت رجال البردويل وهي مكسورة مدحورة، وأخبرته بما جرى فلبس البردويل ثلاثة دروع ووضع في جيبه طاقية الإخفاء ونزل الى الميدان بأربعمائة ألف فارس وهجم على بني هلال وقد أوقع في قلوبهم الرعب، ولكن لله در أبطالهم، فانهم أظهروا الجلد وأخفوا الكمد ومع كل ما جاهدوا وعانوا، استظهرت عليهم العساكر وكسروهم في آخر النهار، فرجعوا على أعقابهم مشتتين ثم اجتمعوا وأخذوا يتشاورون في دفع الجزية للبردويل، فقال أبو زيـد والله يا حـسـن قد اعتراكم الوهن وأنا لاأطاوعكم أبدا ولاأدفع الجزية ما دمت قادرا على ركوب الجواد وأتقلد في آلة الحرب والجلاد، وراح يفتخر بقتل البردويل وهو يقول:

قال أبو زيد الهلالي يا حسن
اسمع كلامي أنت مع من حضر

لاتخافوا من طعان البردويل
انني أطفي لكم منه الخبر

وغدا باكرا أنا أنزل اليه
فوق مهر مثل طير أو صقر

سوف أسقيه المنية عاجلا
ثم أتركه حديثا يتذكر

وكفى التسليم في كل الأمور
وهنيئا للذي باغ الوطر



فلما فرغ أبو زيـد من كلامه، توجهوا للصيوان وبقي عند السـلطان حسن دياب و القاضي بدير وطي بن مالك وأبو عوف وعامر وحماد وعرندس فتشاوروا مع بعضهم وقالوا غدا يذهب أبو زيـد للبردويل فيقتله ونبقى بعده في حزن طويل، ثم نهض الأمير حسن ودخل الى خزانة السلاح فأخرج قيد المملكة وهو أربعة أرطال فضة ووضعه في منديل وأعطاه لدياب وقال اذهب الى أبي زيد أنت وخالك القاضي بدير و الأمير وطي بن مالك و أبو عوف وعـامر و حماد وعمك عرندس، وقل له ان كنت تطيع الله والأمير ضع رجليك هذا القيد الى الغد ونحن نجيء غدا ونفتح لك، فان حسن خايف عليك أن تذهب الى البردويل ويقتلك فأخذوا القيد وساروا الى أبـي زيـد رحب بهم وأجلسهم ثم قال لهم ما سبب مجيئكم؟ فقام دياب ووضع المنديل قدام أبي زيد وقال له قد أرسله لك ابن عمك حسن ففتحه أبو زيد فوجد فيه القيد، فقال ما هذا؟ قالوا لأجل أن تضعه في رجليك الى الغد وأخبروه بما قال حسن، قال صبر جميل ثم قال بنفسه ان خالفت حسن فمن يطيعه ومن يقدر أن يسفه كلام الأجاويد ثم أنه أخذ القيد ووضعه في رجليه وقال سمعا وطاعة لله والأمير ولكن لي عليكم واحدة أن تجيؤا وتحلو لي القيد غدا من صلاة الصبح، فقالوا سمعا وطاعة، وذهبوا وأعلموا حسن فخاف حسن أن يعوقوا على أبي زيد فبعث وراء أم مخيمر وقال لها يا أم مخيمر خذي مفتاح هذا القيد حطيه معك ولما تشوفي الفجر لاح افتحي القيد من أقدام أبي زيد واياك أن تخبريه عن المفتاح، فقالت سمعا وطاعة ثم ذهبت الى أبي زيد وقعدت قباله، أما البردويل الهمام فانه في الصباح دق طبول الحرب والكفاح وبرز الى الميدان، فانحدر إليه الأمير حسن وانطبق عليه وتقاتلا من الصباح الى وقت الظلام، فافترقا على سلام ورجع كل منهم الى الخيام، ولما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، برز البردويل الى ساحة الميدان، فبرز إليه قاضي العربان، فلما نظره البردويل، قال أنت قاضي العربان تريد أن تحارب الفرسان، فقال له اليوم أريك أفعالي وحربي ونزالي، وهجم عليه وتقاربا وتصادما ولم يمض عليهما ساعتان حتى برم البردويل الدبوس في يده وضرب القاضي بين كتفيه ظن أن روحه خرجت من بين جنبيه، فدار رأس جواده وولى هاربا والى النجاة طالبا، فانحدر اليه الأمير زيدان وانطبق عليه انطباق الغمام، فما طال عليه المطال حتى كال في الحال فولى هاربا فبرز اليه مخيمر وبعده عكرمة ثم مفلح وأيضا عقل حتى برز إليه خمسة وعشرون أميرا من الفرسان ولم يمكث الواحد منهم أكثر من ساعة الا ويولي هاربا والى النجاة طالبا وما زالوا هكذا حتى أمسى المساء ودقت طبول الانفصال، أخذ كل منهم يشكو ما أصابه وفي ثاني أيام برز الأمير دياب وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه البردويل، فالتقى البطلان كأنهما جبلان، وكان عليهما الحين وغنى فوق رأسيهما غراب البين وأخذا في كر وفر واقتراب وابتعاد، فلما شاهد الأمير دياب أن خصمه شديد وقرم عنيد، أشار الى بني زغبة فطبقوا على قوم البردويل فتلقوهم اولئك في ضرب مثل النار حتى ما عدت تنظر في ذلك النهار الا رؤوسا طائرة ودماء فائرة وفرسانا غائرة والرؤوس تتساقط مثل ورق الشجر، فيا لها من وقعة مهولة تشيب رؤوس الأطفال وتحير عقول الأبطال، وكان ذلك اليوم على بني هلال أشد الأيام، فقد كسرتهم عساكر البردويل وأرجعوهم الى الخيام ينوحون على مصائب الأيام، ورجع البردويل الى قصره فرحان، هذا كله والأمير أبو زيد مقيد، فلما عرف أبو زيد ما جرى على بني هلال، اغتاظ وتكدر وصارت عيناه تقدحان الشرر وصار يتقلب على الفراش مثل الثعبان، فقالت له أم مخيمر لماذا أنت حامل كل هذا الهم وأنت عندك مال أكثر من غيرك وأن الأمراء لا يدفعون غفارة، فلأي شئ ترمي روحك في المهالك ولكن من غيظي من حسن ودياب لازم أروح للبردويل أقتله واني بعون الله أسرع بقتله بكل ما يمكن، فقالت البردويل قد طلب مالا وخيلا وجمالا وعبيدا وجوارا وسلاحا وبنتا، وأول ما طلب بنتك جمال الظعن، فقال كيف نعطيه إياها؟ قالت لا قدر الله، ولكن كيف تقدر عليه وعلى طلامسه وسحره؟ فقال لها ان شاء الله تعالى أقتله وأنت تعرفين بعلك يا أم مخيمر و الأمير حسن كل يوم عند الصباح يعطيك المفتاح ومرادي الآن في هذا الليل أن تسيري إليه وتسرقي المفتاح من جيبه وتجيئي تفتحي القيد وأتوجه الى البردويل وأقتله وأفوز على بني هلال.

فقال ماذا تعطي الذي يعطيك المفتاح؟؟ فقال لها أما تريدين أن أنام عند أربعين ليلة؟! فإذا كنت تريدين أن تفرجي كربتي افتحي القيد وأطلقي الباز للصيد، فقالت أن الأمير حسن أقسم على أن لا أفتح لك في هذا الليل، فاني أخاف عليك من البردويل أن يقتلك، فقال لها أن قتلني تزوجي غيري وان قتلوك بعدي فما أنت أحسن مني، فقالت لـه يا ذلنا من بعدك يا بـو شيبان، وأخرجت المفتاح وفتحت له قيد، فوثب في الحل وشد على ابن الحيصا ولبس الدرع المصفح واعتلى على ظهر الجواد كأنه كتلة من الكتل أو قطعة فصلت من جبل وحفظ نفسه وحصانه بهياكل الطلاسم والأقسام وتحوط بآيات الله العظام وجد السير الى أن وصل قصر البردويل ودار حوله فوجده عالي البنيان رفيع الأركان، وكان وصوله عند طلوع الشمس، فكان البردويل نائما على ركبة عليا، فعند وصول أبي زيد الى الباب، وجده مصفحا في ألواح من البولاد، كأنه من بنيان ثمود وعاد فرفع يده وضرب الباب في دبوس الحديد، فما أحد رد عليه، فدق الباب ثانيا وثالثا فأتاه سعيد عبد البردويل وطل من الشباك فرأى أبا زيد راكبا على ظهر الجواد، فقال ما تريد أيها الفارس العنيد؟ فقال له أبو زيد أريد مولاك البردويل أيها العبد الذليل، فاذهب إليه وقل له على الباب فارس طالبك للحرب والكفاح، فاندهش العبد من هذه الجسارة ورجع وأخبر سيدته علـيـا بأن فارسا بالباب أسمر اللون قال لي قل لمولاك البردويـل أن يبرز الى الحرب والكفاح، فقالت له ما قال اسمه؟ أجابها لا، ولكن هيئته تدل على أنه أعرابي، وبينما العبد يخبرها بذلك، سمعت صوتا يقول قم يا بردويل من نومك الآن واني سأدعك تنام الى الأبد، فلما سمعت عـلـيـا هذا الصوت رفعت رأس البردويل عن ركبتها ووضعته على مخدة وأشرفت من فوق الباب فرأت الأمير أبو زيد فإذا هو مثل الصقر وقلبه أشد من الصخر فلما رآها أبو زيد وهي كأنها البدر لمنير حول نظره عنها لئلا يفتنه حسنها وجمالها، فقالت له ما مرادك ومن أنت؟ فقال لها أنا أبو زيد من بني هـلال ومرادي أحارب البردويل فدعيه ينزل الى حربي، فلما سمعت هذا الكلام أخذت تخبره عن حالها.
فلما رد عليها أبو زيد، استبشرت عليا بالخير والفرج ولكنها قالت له أنا خايفة عليك من البردويل أن يذيقك الحرب الوبيل لأنه فارس ما له مثيل، قال أبـو زيـد، نبهيه أن يأتيني من دون إطالة كلام واليوم تنظرين فعالي والسلام، فعند ذلك توجهت عليا الى البردويل، فرأته غارقا في المنام فنبهته، فلما أفاق قصت عليه ما سمعت من الكلام وأخبرته عن قدوم البطل أبي زيد الصنديد وأنه عن قتله لا يحيد، فلما سمع كلامها من الأول الى الآخر، فقام وقعد وأرغى وأزبد وقال لها بغضب: كيف أقلقتني وفي هذا الكلام أزعجتني؟؟

وقال لها لو كان غيرك ضربته بالحسام فكيف تخيفينني من فارس أو من مئة فارس أو من ألف فارس؟ فقالت له ما كل الرجال رجال ولا الثعالب مثل أسد الدحال، فما زالت النساء تحبل وتلد فما على وجه الأرض شاطر، فلما سمع من عليا هذا الكلام، صار الضيا في عينيه ظلاما، وصرخ صوتا دوت له الجبال واهتزت من حوله التلال وقال لها: كفاك هذيان يا بنت اللئام، وإلا قطعت رأسك بهذا الحسام فلما سمعه أبو زيد من خارج الدار صاح عليه بصوت مرعب قائلا له اسكت يا حمار وانزل الى قتالي وإلا أهدم عليك القصر قبل أن يأتي وقت العصر، فلما سمع البردويل هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلام فقام لساعته ولبس آلة حربه وعدته وفرد على بدنه درعا داووديا مصفحا وتقلد سيفا كأنه البرق اللامع أو الموت الماحق، ووضع على جنبه طاقية الاخفاء ونادى على عبده مسعود وقال شد لي جوادي، فشد عليه وأحضره اليه فوثب راكبا عليه وقال للعبد افتح لي الباب ففتح العبد الباب وكان مصفحا بالحديد وحصل أبو زيد على فرح ما عليه من مزيد وأخذ يقرأ آيات الله العظام ويقول عونك يا رب الأنام، وحينئذ خرج البردويل مثل سبع كاسر أو أسد ظافر وأخذ يلاعب حصانه وكأنه فرخ جان أو من عفريت سليمان، وناداه قائلا: تعال يا أعرابي حتى انظر ما مرادك ومن الذي إلينا قادك، فأخذت أبا زيد الحمية الجاهلية والنخوة العربية وهجم عليه هجمة الأسود، فالتقى البطلان وكأنهما جبلان أو أسدان ضرغامان وعلت منهما الصيحات حتى ملأت الفلوات، فعندما رأى البردويل أنه تعبان من صدمات أبي زيد طلب سعفه من ملوك الجان وكان أبو زيد أثناء كلامه، رافعا عينيه الى السماء غير مكترث بل كان يقرأ الفاتحة ويذكر كلام الله، ثم التفت الى البردويل فوجده لابسا الطاقية فقال له أراك مضيعا عقلك.

فاستشاط البردويل غضبا وغيظا، فما عدت تسمع الا صياحا وهديرا ودمدمة في الـسـن مخـتلـفة، وكنت تسمع الصوت ولا ترى الـزول، والبردويل لما وجد حاله مغلوبا ولم يقدر أن يختفي من قدام أبي زيد حيث أن الملائكة العلوية طردت ملوك الجان السفلية الى سابع أرض وأبطلت عزيمتهم، ندم على ما فرط منه في حرب أبي زيد وكانت علـيا زوجة البردويل تتفرج من الشباك، فلما نظرت زوجها انقطع أمله وأبو زيد غلبه، فرحت وصارت تزغرد وتغني، فظن البردويل أن هذا الغناء لأجله ولم يعلم أنه لأجل عجزه وفشله، فأخذنه الحماسة والنخوة وهجم على أبي زيد مثل النمر اذا خطر فتلقاه أبو زيد كما تتلقى الأرض العطشانة وابل المطر وعلا منهما الصياح حتى ملأ الروابي والبطاح، وصار الأمير أبو زيد يدور حول البردويل وهو مشرع سيفه الثقيل ورمحه الطويل، فحينئذ تيقن البردويل في ذهاب روحه وزوال سعادته، فرفع أبو زيد يده وقال اللهم استر عبدك يا من رفعت السماء وبسطت الأرض، وضرب البردويل بالسيف على هامه، ألقى رأسه قدامه ووقع البردويل على الأرض يختلط طوله بالعرض، وحالا نزل أبو زيد عن ظهر الجواد وسحب لسانه وأزال أسنانه وأخذ الطاقية والدرع والسيف والخوذة والرمح، والتفت الى عليا وقال لها الوداع، فقالت له خذ هذه بدلة البردويـل فأنت أحق بها من غيرك، لأنك قتلت هذا الشيطان، فأخذها أبو زيد وعلق الجميع في قربوس ابن الحيصا وأتى نحو باب القصر وختمه بختمه وركب على ظهر الجواد وقال خاطرك يا ست عليا يا بنت الكرام، فأرجوك عندما تطلبين للشهادة تظهرين واقعة الحال وتتكلمي كما نظرت، فقالت أرجوك أن تدخل القصر لترتاح ثم تتناول الطعام أيها البردويل في الصندوق وقيد نفسه بالقيد الذهبي وتظاهر بأن لا له ولا عليه، هذا ما كان منه، وأما ما كان من الأمير حسن وهو في الديوان وحوله الأمراء والأعيان فقال البارحة قد التهينا بالضيوف وتركنا أبا زيد وما عرفنا كيف حاله والبردويل ما عاد طلبنا للحرب فقوموا واذهبوا ودعوه يأتي حتى ننظر ما هو رأيه، فراح الأمير فايد وأخذ معه مفتاحا ودخل على أبي زيد وقال له قد أمر السلطان برفع القيد من رجليك وأن تذهب إليه، فـقـال أبو زيد: صار لي ثلاثة أيام ما رأيت أحدا منكم، نسيتم أبا زيد فقال الأمير فايد: والله يابو زيد ما نسيناك ولكن كان المانع من زيارتك وجود ضيوف عند الأمير البطل الدرغام فانك تعبت من الحرب والكفاح، فقال الأمير أبو زيد أنا لا أدخل الدار خوفا من العار، لأن كلام الناس أمر من ضرب السلاح، وأما أنت فأعطيني المفتاح لكي أقفل عليك القصر، حينئذ حققت عليا شهامته وعرفت نخوته فأعطته المفتاح، فأخذه وقفل باب القصر وعاد الى بني هلال فوصل في نصف الليل ثم دخل الى صيوان أم مخيمر فرآها تبكي، فقال لها لماذا تبكين؟ الحمد لله على اجتماع شملنا، وقام ووضع ما أتى به من أمتعة حسن ثم فك القيد من رجليه فقام أبو زيد وركب من دون سلاح وما حمل معه سوى عصاه وتوجه نحو الأمير حسن، فحين وصل الى الخيام قاموا له وحيوه بأحسن تحية، ثم قال أبو زيد لابأس ولكن ماذا عملتم من المصالح في حرب البردويل؟ فقال نحن أرسلنا وراءك لنأخذ رأيك، فقال أبو زيد والله ان البردويل فارس من الفرسان ولا أحد يقدر يحاربه فما أرى الا أن ترسل له عشر المال والنوق والجمال والنساء والعيال ونذهب إليه والمحارم في رقابنا، فقال حسن: في هذا الوقت قد قلت الصواب وبارك الله فيك.


( قال الراوي ):

في صباح اليوم الثاني بعد قتل البردويل، أخذت الرعيان في تسريح المواشي حسب العادة، فسار منهم ثلاثة رعيان وسرحوا بقرب قصر البردويل، وكان لهم عادة ينامون في ظل القصر، فقبل أن يبلغوا المكان المقصود رأوا شخص البردويل على الثرى ممدودا، وكان منهم عبد اسمه مسعود، قال لهم مرادي أذهب إليه وأقول له أنا أتيت بهذا الطرش من عند العرب، وأريد أن أعيش في ظلك، فقالوا رأيك مناسب، فتوجه مسعود الى أن وصل الى قرب القصر، فرأى البردويل مقتولا وعلى الثرى مغلولا، فأخذه الرعب وصار يلتفت يمينا وشمالا، فلم يجد أحدا، فقوى قلبه، وكانت عليا تنظر من الشباك، فصاح مسعود يا أصحاب القصر علام سيدكم قتيل وأنتم نيام؟؟ فطلت عليا من الشباك فسألها عن زوجها البردويل فأشارت تقول:

تقول فتاة الحي عليا بما جرى
والنار جوا الحشا زادت اضرام

اسمع كلامي أيا مسعود وافتهم
ما أتى راع و لا قد جاء غلام

هذا بعلي البردويل بلا خفا
من أين أتاه السهم هل من الغمام

بان لي بأنك أنت غريمه
باين عليك أنت من فوارس عظام

افتخر بقتله بين الملوك
يبقى لك هيبة كما سبع آجام




فلما فرغت الست عليا من نظامها ومسعود يسمع نظامها، ظن أنه يخدعها وقال أنا الذي قتلته ومرادي آخذ رأسه الى أميرنا حسن الهلالي، وافتخر في قتله على جميع العربان، فقالت افعل ما تريد، فأخذ مسعود الرأس فربطه في مرسة وعلقه في كتفه وهو مسرور، وراح يترنم بقوله ما كل العبيد عبيد ولا كل الموالي موالي، فلما رآه العبيد قالوا ماذا عملت يا ابن الخالة؟ فأجاب لقد قتلت البردويل وسأصير سيدكم ومولاكم، وها أنا آخذ رأسه الى الأمير حسن وأنتم اشهدوا لي بذلك، فمشوا معه الى النجع وشاعت الأخبار بأن مسعود العبد قتل البردويل، فعندها اجتمعت الناس ولاقوه بالأغاني والأفراح وأخذوا يثنون عليه والعبيد حوله يغنون له الأغاني وينشدون النشائد، وهو حامل رأس البردويل على كتفه، حتى وصل الى صيوان الأمير حسن ورمى الرأس قدام الصيوان، فخرج الأمير حسن والأمارة يتفرجون، وقد تعجب الجميع من مسعود البطل المعدود، فقال حسن والله ان الذي أتى برأس البردويل هو بطل ما له مثيل وله مني الإنعام الجزيل، فوثب مسعود وقال لعينيك يا سيدي عبدك مسعود أتى بالرأس وأخمد من ذلك الشقي الأنفاس، فقال الأمير حسن من كان يقول أن منية البردويل على يد عبدنا مسعود، وقد كان هذا يخطف الأرواح ويتركها كالأشباح، وذقنا من حربه البلا والكرب وأنواع الذل والتعب، ثم سأله قائلا وكيف عملت في قتل البردويل؟؟

فقال: كنا في البر والجمال سارحة، فأخذتها هجعة من النوم فنمنا ثم استيقظنا فلم نجد الحلال حولنا، ففتشنا عليه فوجدناه قد بلغ قصر البردويل، فتوجهت بنفسي لأرده فرآني البردويل ونهرني، فلم أرد عليه وتقدمت الى الجمال لأردها فأتاني وهو كالسبع الكاسر ورفع يده بالدبوس ورمان به، فراحت الضربة خائبة غير صائبة، فوضعت حجرا في مقلاعي وفعلت فعل داوود في جالوت وأذقت البردويل الحسرات لأنه بالقضاء والقدر أتت الضربة بين عينيه، فخرج الدم يتدفق منه، وحالا تقدمت إليه وطرحته على الأرض وسحبت السكين وقطعت رأسه وأخمدت أنفاسه، وجميع العبيد يشهدون لي بذلك، فقال العبيد نعم انه قطع رأس ابن راشد أمامنا، فقال مسعود أريد منك يا سيدي أن تجعلني سيدا على كافة العبيد وأن تزوجني ابنة بيضاء وأربع جواري سود وأن تعطيني جوادا من خواص الخيل وعدة حرب كاملة وألف دينار ومواشي وعبيد، وغلمان، فقال القاضي تستاهل يا مسعود أزود من ذلك، فقال أبـو زيـد كفاك يا عبد السوء هذيان أما تستحي أنك تقول قتلت الـبردويل أيها الهبيل؟ قال العبد نعم وحياة رأسك ورأس الأمير حسن، فقال له يا عبد السوء هل أنت أفرس مني ومن دياب؟ فقال مسعود ان لكل إنسان منية، ومنية البردويل على يدي، فقال أبو زيد في أي شي قتلته؟ فقال حسن: كيف ما كان قتله أما أراحنا منه؟ ربما كان يلعب في الميدان وقنطر فيه الحصان ومسعود جز رأسه! فقام أبو زيد وفتح فم البردويل وقال أظنه كان أخرس، لأن ليس له لسان، فقام الجميع ونظروا ذلك وتعجبوا، فقال حسن يا مسعود لما طلع البردويل ما كلمك، فقال نعم كلمني وكان صوته مثل الرعد القاصف، فقال أبو زيد أين طاقيته وسيفه ورمحه وبدلته وحصانه؟
وقد أخذت من أبي زيد الحدة وأنشد شعرا:

يقول أبو زيد الهلالي ســـلامة
وعزمي أمضى من سيوف ورماح

يا أمارا اسمعوا شرح قصتي
وأصغوا لقولي واتركوا الهزل والمزاح

وهذا العبد مسعود يضحك عليكم
فأين عقولكم والفكر قد راح

أين لسان البردويل يا جماعــة
طوله شبرين يشبه الألواح

أين درع البردويل أين عدته
أين رمحه ثم سيفه والسلاح

أين طاقية الاخفا وأين الحصان
يطوي بسرعته برها وبطاح

ابن راشد كان خيالا عظيم
ما أحد يلقاه في وقت الكفاح

تحته أدهم مضمر يا حسن
عندما يركض يسبق الريح

كيف عبدك جاب رأس البردويل
وما معه يا أمير سيف ولا رماح

انما سيفي الذي قد قده
ورمحي بين بزيه خش وراح

آلة الحرب شهود والجواد
وكذا الطاقية والدرع الصفاح

اسألوا عليا زوجة البردويل
فهي تنبيكم بأخبار الكفاح



ثم ركب جواده وسار الى عند أم مخيمر وأتى بعدة البردويل والحصان والطاقية والسيف والرمح وكل ما كان عنده من أمتعة البردويل الى صيوان حسن، ووضع الجميع أمام الأمراء، ثم رمى بلسان البردويل أمام دياب وقال له تفرج هذا اللسان، فبهتوا وتعجبوا من هذا الأمر، وأما مسعود العبد فحين نظر ما جرى صار ينسحب بحاله الى أن هرب من الصيوان لعند الرعيان وأما الأمراء فركبوا خيولهم وكانوا ألفي أمير من الفرسان المعدودة والرجال المشهورة وقالوا الى أبي زيد اركب معنا، فقال أنا لاأريد حتى ينكشف لكم الخبر، فبادروا وفي أوائلهم الأمير حسن الى قصر البردويل فوجدوه قصرا عالي البنيان مشيد الأركان، فتقدم حسن نحو باب القصر فوجدوه مختوما بختم أبي زيد، فقال حسن يا ترى هل يوجد أحد في هذا القصر؟ فما أتم كلامه الا وعليا أشرفت من الشباك فشاهدت حسن وأمراء بني هلال، وكان للقصر باب صغير غير الذي قفله أبو زيد، فاتت عليا منه وأقبلت أمام الأمير حسن وقبلت يديه، فسألها عن قتل ابن راشد فحكت له ما جرى لأبي زيد معه وما فعل العبد مسعود بعد ذلك، فقال الأمير حسن والله ما فعل هذه الأفعال الا أبا زيد، ثم قال وأين المفتاح؟ فقال له مع أبي زيد، وبينما هم في الحديث اذ أقبل أبو زيد راكبا على ابن الحيصا فعندما أقبل استقبلوه وحيوه وقالوا له لله درك من بطل لا تخشى نوائب الأيام، وحينئذ تقدم أبو زيد وأخرج مفتاح الباب المصفح بالحديد وفتح لهم وأدخلهم الى القصر، فتفرجوا على ما فيه من التحف والجواهر والأشياء الثمينة التي لا تقدر بقيمة، فحملوها لبيت مال المسلمين ورجعوا للديوان، أما قوم البردويل عندما علموا بموت مليكهم، ساروا الى ابن أخته سعيد وكان نازلا في أطراف العريش، فأخبروه بقتل خاله البردويل، فقال لهم سعيد ما الرأي عندكم في بني هلال؟ فقالوا أن بني هلال نجم سعدهم في صعود وأميرهم حسن الهلالي قد ارتقى الى ما لا يرتقي غيره من درج المعالي، وأننا نشير عليك أن نركب جميعا ونسير اليه ونقع بين يديه ونطلب منه أن يجلسك مكان خالك، فاستصوب سعيد كلامهم وسار معهم لعند الأمير حسن، فلما وصلوا طلبوا الإذن بالدخول على حسن، فدخلوا عليه وقبلوا الأرض بين يديه وأخبروه عن حالهم فترحب بهم حسن غاية الترحيب، وأهدى الأمير سعيد خلعة سنية وحلة ملوكية ولبسه اياها وأجلسه مكان خاله، وعين عليه الجزية وكتبوا كتاب سعيد على الست عليا امرأة خاله البردويل، وتمتع بالحسن والجمال وبعد ذلك أمر بدق الطبول وأن يرحلوا من تلك التلال، فنشرت الرايات وركبت العماريات على الهوادج واعتلى الفرسان ظهور الخيول، وأخذوا يجدون السير حتى وصلوا الى مصر القاهرة.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:19 PM
( الجزء الثالث عشر ) قصة الملك الفرمند




( قال الراوي ):

كان في بلاد مصر ملك يقال له الملك الفرمند بن متوج، وكان ملكا عظيم الشأن يحكم على أبطال وفرسان يكل عن وصفها اللسان، ولما قتل بنو هلال البردويل وولوا مكانه ابن أخته سعيد، قاموا وتهيأوا على الرحيل، ثم ساروا يقطعون كل سهل وبر، حتى وصلوا الى مصر فنزلوا في تلك النواحي والأطراف ورعوا الزرع حتى حصدوه حصدا، وأما ما كان من فرمند ملك مصر فانه رأى مناما هائلا، فقام مرعوبا فأحضر الرمال وأشار يخبره عن ذلك.

ففسر له الرمال منامه، ولما فرغ من كلامه اضطرب الفرمند اضطرابا عظيما وهو في هذه الحال اذ دخل عليه المهلهل حاكم الصالحية وسلم عليه وبكي بين يديه وأشار يعلمه بواقعة الحال ويذكر قدوم بني هلال الى تلك الأطلال.

عندئذ فهم الفرمند فحوى كلامه، اشتدت عليه المصائب، وخاف من العواقب فأحضر الوزراء والأعيان وعقد مجلسا بهذا الشأن، وبعد جلسة طويلة، استقر الرأي على أن يطلب منهم عشر المال والنوق والجمال، فان أجابوه حصل المراد والا فانه يبادرهم بالحرب والقتال.

ثم طوى الفرمند الكتاب وأعطاه الى النجاب ليأخذه الى السلطان ويأتيه بالجواب، فأخذه وسار وجد في قطع القفار حتى وصل الى قوم في ذلك اليوم، فدخل على السلطان حسن وهو في الصيوان وكان عنده جملة من الأمراء والأعيان، فتقدم وسلم وناوله الكتاب ووقف بانتظار الجواب، فلما فتحه وقرأه وعرف معناه اغتاظ الغيظ الشديد وقال لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، كل ما وصلنا الى اقليم يبادرنا أميره بالتهديد ويطلب منا عشر المال أو الحرب والقتال، ثم أمر الخدام أن تأخذ الرسول الى دار الضيافة وبعد ذلك قرأ الكتاب على أرباب الديوان واستشارهم، فقال أبو زيد أرى من الصواب أيها الملك المهاب أن ترسل له الجواب وتوعده باجراء الطلب وتطلب منه مهلة عشرة أيام لبينما نكون قد أخذنا الاستعداد التام للحرب والصدام، فاستحسن هذا الخطاب وكتب له الجواب.

وطو الكتاب وختمه بختمه وأعطاه الى الرسول، فسار به الى أن وصل الفرمند، فسلمه اياه ففتحه وقرأ وعرف رموزه ومعناه ففرح واستبشر وزال عنه الهم والكدر وأيقن ببلوغ الأمل وظن أنه سينال ما يطلبه المواشي والفضة والذهب، ولم يعلم أن دون هذا الطلب الهلاك والعطب، ولما مضى الوقت المعين ولم يقف على افادة من السلطان، نما غيظه وزاد عليه الحال، وكتب للسلطان حسن يطلب منه عشر المال بخطاب وأعطاه الى نجاب وأمره أن يسير به الى السلطان ويأتيه بالجواب، فأخذه وسار وجد في قطع القفار حتى وصل لبني هلال، فدخل على السلطان حسن وسلم وبأفصح لسان تكلم وأعطاه الكتاب وطلب منه الجواب، فلما قرأه وعرف فحواه التفت الى من حوله من الأمراء والأعيان وأعلمهم بما كتب الفرمند وقال ما رأيكم في هذا الشأن؟؟

فقال أبو زيد للنجاب سر بأمان وقل لمولاك بأنه في هذا النهار ينال المطلوب، ففرح النجاب بهذا الخبر ورجع وأخبر مولاه بما سمع، ففرح واستبشر وزال عنه القلق والضجر، وبعد ذهاب النجاب قال السلطان حسن الى أبي زيد على ماذا عولت أن تفعل يا ابا الحيل؟!

قال: مرادي أن أحتال على الفرمند بحيلة يكون ما سبقني اليها أحد، وهي أن أختار أربعين بنتا من بنات العرب ومن جملتهن الجازية أم محمد وأحضر أربعين صندوقا يكون كل صندوق من طبقتين، فأجعل الطبقة الأولى للقماش والحرير والطبقة الثانية للفرسان المغاوير، ونحملهم على ظهور الجمال وأركب أنا مع البنات والأحمال ونسير الى الفرمند على سبيل تقديم المال وندخل السرايا وهو لا يعلم بهذا الحال، حتى اذا وصلنا الى هناك، احتلنا عليه وبنجناه وبلغنا منه ما نتمناه ما في قصره من الأموال، ثم ارتحلنا بالحريم والعيال من هذه الأطلال، وليس لنا غير هذا التدبير، فلما انتهى أبو زيد من هذا الخطاب، التفت ايه دياب وقال له ليس هذا الرأي بصواب، لأننا نخاف أن ينكشف الحال، والرأي عندي أن نبادر بالقتال ونشغل فيهم ضرب السيوف والنصال، فتعهد أبو زيد أمام السادات في النساء والبنات وأنه يرجعهن سالمات، فقال له السلطان حسن افعل ما تريد أيها الفارس الصنديد، فعند ذلك تجهزت البنات في الحال وفعل أبو زيد كما قال وكان بين هذه البنات وطفا بنت أبي زيد زبنت القاضي بدير والست ريما وبدر النعام وجوهرة العقول وسعد الرجا، ولبس أبو زيد فروا من جلد الثعالب والذئاب وتقلد بالسيف من تحت الثياب وأرجى له سوالف طوالا ومسك بزمام ناقة الجازية أم محمد، فتعجبوا من أفعاله وقال له السلطان حسن لله درك على هذه الحيلة التي لم يسبقك اليها أحد، ثم جعل يوصيه بالبنات، فودعهم وسار بمن معه من البنات والصناديق ومن داخلهن الأقمشة الحسان والأبطال والفرسان، حتى دخل المدينة وطلع قصر الفرمند، فوجده مزينا بأحسن الزينة، وكان الفرمند قد بلغه قدومهم فالتقاهم بالترحاب والاكرام، فسلمت البنات عليه وجلسن حواليه، فقال أهلا بالكواكب والأحباب، وكان أبو زيد أمام الجميع وهو يرقص ويلعب ويضحك ويطرب، وهو بالصفة التي وصفناها، فسأل الفرمند البنات من يكون هذا الإنسان؟ فقلن هذا مهرج يزيل الغموم، فانسر غاية السرور وسأله عن اسمه قال اسمي قشمر بن منصور، قال مثلك من يصلح لمسامرة الملوك لما فيك من الحركات وحسن السلوك، فاملأ لي هذا الكأس حتى يزول عني البأس، فملأه وناوله اياه فأخذه منه وظن أنه بلغ المراد، ولم يعلم أن دون ذلك خرط العتاد، فعند ذلك غنت البنات ودقت على الآلات حتى كاد يرقص القصر ويطير من شدة الطرب والفرح، وكان الملك وقعت عيناه على الجازية، فهام بها وتعلقت نفسه فيها لأنها جميلة المنظر ولطيفة المحضر، فأجلسها بجانبه، وسأل أبو زيد من تكون هذه الحسناء؟ فقال له هذه الجازية أخت الأمير حسن، فالتفت اليها وقال لها غني لي على هذه الكأس يا صبية فان قلبي اليك مال، فأجابته الى مقاله وأخذت تغني له بهذه الأبيات:

تقول الجازية من قلب جريح
فنحن اليوم قد جئنا هدية

هدية من أبي مرعي الهلالي
أمير في البوادي والرعية

أيا حيف الغلا يأتي بلادي
ونجد يا ملك أرض عدية

نشف ماؤها وقل الخير منها
وصارت مقفرة أرضا رزية

رحلنا نبتغي أرض المغارب
أنا في هودجي وسط الخبية

جئنا لمصر صرنا لك حلائل
و لا عاد في رواح ولا مجية

ألا يا جازية حني عليا
فعقلي راح كله بالسوية

ألا يا مرحبا فيكم جميعا
وزال الشر عنكم والرزية

ألا يا جازية حسنك سباني
ومثلك ما رأينا في البرية

فعيناك كما عين الغزالة
حواجبك مثل قوس منحنية

مقالات الفتى فرمند صادق
ونيرانا بقلبي مصطلية



فلما فرغ الفرمند من كلامه، شرب الكأس على اسمها وهو يتأمل في محاسنها وبياض جسمها، ثم أمر قشمر أن يملأ له كأسا آخر، فملأه وناوله فأخذه وتقدم الى وطفا بنت الأمير دياب وقال لها غني لي على هذا الكأس يا بنت الأمجاد، فغنت.

فلما فرغت من الغناء انشرح الفرمند وشرب الكأس على اسمها وأعطاه لقشمر فملأه وقد زاد عشقه وهواه ثم سأل جمال الظعن من تكونين يا رية الحسن؟ قالت أنا بنت أبو زيد قال أنت بغية المراد وأنا أسأل رب العباد أن يرزقني منك بولد يكون مثل جده الأسد ثم قال بحياة رأسي أن تغني لي على كأسي فأخذت تسقيه الخمر بيديها، وغنت له فطرب طربا عظيما، ومن كثر ما سقته بيدها المدام ما عاد يميز بين النور والظلام، ثم أنه صرف الأغوات والخدام حتى لا يكون أحد في هذا المقام، وبعد ذلك سقته كأسا آخرا على اسمها وشكرها على نظامها، ثم أعطتها لقشمر ليملأه فملأه وأعطاه اياه، فجلس أمام نجلا ثم جلس أمام جميع البنات الأبكار وهن ينشدنه الأشعار وهو يشرب العقار، حتى غاب عن الوجود وصار بصفة مفقود، فعند ذلك بنجه أبو زيد ونزع ما كان عليه من الثياب ولفه بحرام، ثم فتح الصناديق فخرجت الأبطال مثل الأسود، فنهبوا ما في القصر من الأموال والتحف الغوال ولم يتركوا شيئا في القصر الا أخذوه، وكانت وطفا قد أخذت خاتم الفرمند، ولو أرادوا قتله لقتلوه وأسقوه كأس الحمام، وساروا حتى وصلوا الى باب البلد فاعترضهم الحارس، فأرته وطفا خاتم الفرمند وقالوا نحن من جملة الخدام قاصدين الآن أهلنا لأجل المنام، فعند ذلك فتح لهم الباب، ولم يعرف حقيقة الأسباب، فساروا وقد استبشروا بالفوز والنجاح الى أن وصلوا الى بني هلال، ففرحوا بقدومهم، ودخل أبو زيد على الأمير حسن فالتقاه بالترحاب والإكرام وسأله عما فعل فأجابه يقول:

يقول الفتى أبو زيد الهلالي
يابو علي جبت البنات وجيت

وجبت لك مال كثير وعدة
تحف وجواهر يا ملك عبيت

وجبت معادن مع سيوف مسقطة
وديباج مع كتان لك شديت

دخلت الى قصر الملك يابو علي
وأركانه يا أمير لك هديت

رقصت للملك وطيبت خاطره
ومن بعد ذلك كاسه سقيت

انقلب فرمند على الأرض واقع
فقمت أنا من ساعتي فزيت

جئنا بعون الله يا أمير كلنا
فلا تحسبوني نمت وانسريت

وجبت البنات والأموال جميعها
وهذه فعالي والذي سويت

قول أبو زيد الهلالي سلامة
وقط يوم الروع ما ذليت



فلما انتهى أبو زيد من كلامه، قالوا الأرفق لنا أن نرحل قبل أن تدهمنا الأبطال والفرسان، فأمر حسن بدق الطبول للإرتحال، فدقت الطبول وركبت الفرسان ظهور الخيل ورتحلوا من تلك الأطلال بالحريم والعيال حتى ابتعدوا مسافة يومين عن البلد خوفا من أمر يتجدد، وكان الأمير دياب وزيدان في أول الظعن، أما وزراء الفرمند وأكابر الأعيان فانهم استبطأوا حضور ملكهم الى الديوان، فلما فات الوقت ولم يحضر، أخذهم القلق والضجر وقالوا لابد لهذه العاقة من سبب، وكان له ابن أخت اسمه محمود الغضنفر وكان وزيره الأكبر وقائد العسكر، فصعد الى القصر في جماعة من الحجاب ودخل الى القاعة فوجدها خالية ووجد خاله ملفوفا بالحرام ومطروحا على الأرض، فغاب عن الصواب، واستعظم هذا المصاب فأرسل وأحضر أرباب الديوان، فلما نظروا ملكهم على هذا الحال، اعتراهم الانذهال، ثم أعطاه ضد البنج فعطس ورأى نفسه ملفوفا في ذلك الحرام وهو في حالة الذل والهوان، ولم يحد البنات والنسوان، فزاد مصابه وعظم اكتئابه وأتوه بحلة من أفخر الحلل فلبسها وقد اعتراه الخجل لما رأى نفسه على تلك الحال وهو بين الوزراء والسادات، ثم أخبرهم بواقعة الحال وطلب منهم أن يكونوا مستعدين للحرب والقتال.

وهكذا استعظموا الأمور ودقت طبول الحرب واجتمعت الفرسان والأبطال، وكانت مائتي ألف مقاتل فركبوا واستعدوا للقتال وركب محمود في مقدمة الجنود، فقال له الفرمند اتبع بني هلال الأنذال، وامنعهم عن الارتحال بضرب السيوف والنصال وأنا أتبعك بباقي الرجال، فسار الوزير بالفرسان والأبطال وراء بني هلال حتى أدركوهم، فلما رأت بنو هلال العساكر المصرية قد أقبلت، استعدوا للحرب والقتال وركبت الفرسان والأبطال وخرج الوزير محمود من بين الأبطال، فصال وجال في ساحة المجال وطلب مبارزة الفرسان والأبطال، وقال لهم هل من مبارز هل من مناجز فلا يبرز لي كسلان ولا عاجز اليوم يوم الهزاهز، فنزل اليه أبو زيد فالتقاه الوزير بالعجل وهجم عليه وحمل، وأخذا في الطعن والصدام والمهاجمة والاقدام والمفارقة والالتزام، واستمرا على تلك الحال الى وقت الزوال، فعند ذلك دقت طبول الانفصال، فافترقا على سلامة، وعند رجوع أبي زيد الى الخيام، سأله الأمير حسن على خصمه فقال هو بطل همام وليث درغام، فقال الأمير حسن لابد من ثاني الأيام أن نهجم عليه بالمواكب، لأن الحريم والعيال سبقونا مع الأمير دياب، وفي ثاني الأيام استعدت العساكر للحرب والصدام، وتطاعنوا بالرماح والقواضب وما زال السيف يعمل والدم يبذل والرجال تقتل الى الزوال، فعند ذلك دقت طبول الانفصال، فارتدت عن بعضها الأبطال واستمر الحال كذلك مدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع انكسرت عساكر الوزير ولم يعد لها أدنى ثبات، فولت جوانب البراري والفلوات، واتفق لها في ذلك اليوم قدوم الفرمند بباقي الجند، فلما أشرف الى ذلك المكان ورأى ما جرى، فاغتاظ وحمل على بني هلال بمن معه من العساكر.

وكانت العساكر المنكسرة، لما رأت جماعتها ظافرة، ارتدت الى المعركة الصدام وقاتلت بعد ذلك الانهزام، وكان الملك الفرمند قد التقى بالأمير حسن في ساحة الميدان وهو ينخى الفرسان، فتقدم أاليه وهجم عليه، فالتقاه حسن في ساحة بالعجل وتطاعنا بالرماح وتضاربا بالسيوف حتى اختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الفرمند، فراحت خائبة بعد ما كامت صائبة، وأما ضربة حسن فالتقاها الفرمند في درقة البولاد، فسقطت على رقبة الجواد فبرتها، فوقع الفرمند على الأرض، فعند ذلك هجمت فرسانه مثل سيل المطر وخلصوه من الخطر، وفي الحال التقت الرجال بالرجال والأبطال بالأبطال وتقاتلوا الى الزوال، فعند ذلك دقت طبول الانفصال فافترقت العساكر عن بعضها ونزلت كل طائفة في أرضها، ولما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، جمع الأمير حسن أكابر الديوان وقال لهم مرادي الآن استدعي الأمير دياب ليساعدنا على الحرب والطعان، والا طال الحال وقتلت الفرسان فاستصوبوا رأيه وقالوا اكتب اليه، فعند ذلك كتب اليه يقول:

يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
ونيران قلبي زايدات لهاب

على ما جرى فينا وما أصابنا
وصرنا بحيرةوالأمور صعاب

أيا غاديا مني على متن ضامر
فقل الى الزغبي الأمير دياب

أتونا جموع كالجراد كثيرة
قروم شداد مثل سيل سحاب

نزل الى الميدان فرمند وانتخى
وقال أين الفرسان أين النجاب

فأين المسمى الأمير سلامة
وأين حسن ثم الأمير دياب

فقلت له لبيك يا فارس الوغى
ونزلت أنا لحربه ما حسبت حساب

ضربته بالقرضاب يا أمير ضربة
قتلت جواده وكاد هو ينصاب

والتقى الجيشان في ساحة الوغى
وياما قتلنا من شيوخ وشباب




فلما انتهى الأمير حسن من هذا الخطاب، ختمه وسلمه الى النجاب وأمره أن يسير به الى دياب ويعود بالجواب، فامتثل وسار حتى وصل الى دياب، فسلمه الجواب وطلب منه رده، فلما فتحه وقرأه وعرف فحواه، أمر بدق الطبول فدقت في الحال وأقبلت اليه الفرسان والأبطال، فأعلمهم بجلية الأحوال وقال لهم استعدوا لمساعدة بني هلال قبل أن يحل بكم الوبال وتسبي الحريم والعيال، فلما سمعوا منه هذا الخطاب تحمست جميع الجهال والشباب، وركبوا في ساعة الحال وفي مقدمتهم البطل دياب ليث الغاب والبطل زيدان شيخ الشباب، حتى أشرفوا على بني هلال فالتقوهم بالاكرام والترحاب وشكروهم على ذلك الاهتمام، وفي ثاني الأيام ركبت الأبطال والفرسان وطلبت معركة الطعان، وكان أول من برز ساحة الميدان الوزير محمود ابن أخت الفرمند، ولما صار دياب أمامه، فعند ذلك أشار يهدده فرد عليه دياب وانطبق على خصمه مثل صاعقة الغمام والتقاه الوزير كسبع الآجام وأخذا في العراك والصدام، وما زالا في قتال شديد وضرب يشيب الطفل الوليد نحو ساعة من النهار، وقد اختلف بين الاثنين ضربتان قاطعتان وكان السابق الأمير دياب ليث الغاب، فجاءت الضربة على رأس الوزير فوقع على الأرض ومات، فلما رأى العساكر ما حل بوزيرها، انقضوا على بني هلال مثل الصقور وأحاطوا بهم من اليمين واليسار، فالتقتهم بنو هلال وتقاتلوا أشد قتال حتى جرى الدم وسال وعظمت الأهوال، وما زالوا على تلك الحال الى وقت الزوال، فعند ذلك دقت طبول الانفصال فرجعت العساكر عن ساحة المجال، أما الفرمند فانه بات مشغول البال على ما فقد منه من الرجال ولا سيما قتل محمود ابن أخته، فما طلع الصباح، حتى برز الى ساحة الكفاح كأنه ليث البطاح، ثم صال وجال في ساحة المجال وقال لا يبرز لي من الأبطال غير أبي زيد، فما أتم كلامه حتى صار أبو زيد زيد قدامه، وانطبق عليه بقلب أشد من الحديد وأخذ معه في الحرب فالتقاه الفرمند بقلب كالجبال،فثبت أبو زيد لقتاله، وما زالا في الحرب والصدام مدة عشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر ظفر به أبو زيد، فهجم عليه هجمة جبار وضربه على عنقه بالسيف البتار واذا برأسه قد طار فلما رأى قومه تلك الأحوال خابت منهم الآمال وأيقنوا بالهلاك والوبال واجتهدوا أن يخلصوا جثة ملكهم فما قدروا، وانحلت عزائمهم، وتأخروا ورجعوا الى مصر وهم على أسوأ حال لايعرفون اليمين من الشمال، فتبعهم بنو هلال وفي مقدمتهم أبو زيد ودياب وزيدان أبو الشباب وحكموا فيهم ضرب السيف القرضاب على الأجسام والرقاب حتى دخلوا البلد وكيف أن الفرمند شرب كاس الهوان، خرجوا الى عند السطان حسن بن سرحان وطلبوا منه العفو والأمان، فأجابهم الى ذلك الشأن وأوصى الأبطال والفرسان أن لاينهبوا شيئا من أمتعة المدينة لارخيصة ولا ثمين، وأن يكونوا في هدوء واحتشام اكراما لمزارات الأولياء والعلماء، وكان للفرمند ولد مقتدر اسمه الأمير منذر، فولاه مقام أبيه بحضور أكابر البلد والذوات بعد أن أوصاه أن يتصرف بحسن السلوك ويتخلق بأخلاق الملوك، ثم قامت الأفراح وزالت الهموم والأتراح ورقص الشباب رقصات عربية وهم يحملون السيوف الهندية، وكان السلطان حسن قد استحسن مصر كل الاستحسان نظرا لكبرها وما فيها من الأبنية الحسان، فصمم أن يبني له فيها جامعا ليكون ذكرا له على طول الزمان، فأمر البنائين والمنهدسين ببناء الجامع المذكرو في ظرف ستة شهور، فأجابوه الى ذلك المرام وبعد أن تم، أمر أن يفرشوه بنفيس الفرش وينقشوا حيطانه بأحسن النقوس، فامتثلوا أمره وفعلوا كما قال، فكان جامعا عظيما المثال وكان مكتوبا على بابه بماء الذهب هذا جامع الأمير حسن الهلالي سيد العرب.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:21 PM
( الجزء الرابع عشر ) غريق بني هلال في أرض المخاضة



وبعد ذلك أمر الأمير حسن بهد المضارب والخيام وركبت الأبطال ظهور الخيل والجمال وساروا بالنساء والعيال أمام الفرسان والأبطال قاصدين بلاد العرب والماضي بن مقرب، وما زالوا سائرين حتى وصلوا الى مكان يقال له المخاضة، وكان الماء مغدرا في السهول والبساتين والحقول، وكان الأمير زيدان والنساء والعيال سائرين أمام الفرسان والأبطال وكان أبو زيد خلف الجميع، فعند وصولهم الى هذا المكان تضعضعت الرجال والنساء، فوقعت الأحمال عن ظهور الجمال وصاحت النساء وصرخت الأطفال خوفا من الغريق، فلما شاهد الأمير حسن تلك الحال، خاف على الحريم والعيال وأيقن بالهلاك والوبال، فسأل عن أبي زيد فقالوا هو مع عمه حسن الجعبري في آخر الظعن مع حريمه وعياله، فأرسل واستدعاه اليه، فقال له قد اشتدت علينا المحن وأنا خايف على الحريم والعيال من الغريق وقال شعرا أجابه أبو زيد بمثله.

فلما انتهى أبو زيد مقاله، قالوا له نجي يا أبا زيد العربان من الغرق والطوفان فلكز الحصان وبين لهم طرق الأمان لأنه كان يعرف المكان، وكان أول من عبر الجازية وعليا زوجة الأمير أبو زيد، فاتفق أن الهجن قد تزاحمت حتى كادت النساء تقع على الأرض، فتشامتت الجازية وعليا بالكلام وتخاصمتا أشد خصام وكانت الجازية ازدرت فيها وتكلمت معها كلاما لا يرضيها، فاغتاظت عليا من الكلام ورجعت الى الوراء وأعلمت أباها غانم بما جرى.

فلما فرغت عليا من قولها وفهم أبوها فحوى كلامها، اغتاظ الغيظ الشديد الذي ما عليه من مزيد، وعلم أن هذا كان من الجازية عدوا وافتراء وأمر عربه في الحال أن ترد الظعن وترجع الى الوراء، فامتثلوا أمره في الحال ورجعت العربان بالنوق والجمال، فلما رأى أبو زيد الظعون راجعة، اندهش وتعجب وسأل عن السبب، فقالوا هذا ظعن عمك حسن مراده أن يرجع بالحريم والعيال، فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، صار الضياء في عينيه كالظلام، ثم قصد عمه وقال له لماذا أنت راجع الى الوراء؟ فبكى عمه وأنشد يقول:

قال الأمير الجعبري بما جرى
العرض مني هتك بين الملا

اسمع كلامي يا أمير سلامة
النار في قلبي تهب وتشعلا

عند المخاضة اجتمعت نساؤكم
وبناتكم فوق الهوادج تنجلا

فتزاحمت عليا وجازية المها
عند الخروج من المخاضة للفلا

شتمت لعليا الجازية بكلامها
وزادت عليها بالمصائب والبلا

قال لها عليا ما هذا الأمل
منك أيا بنت سرحان العلا

أنا زوجة أبو زيد الفتى
هو ابن عمك في الرجال مكملا

قالت فروحي يا عشيقة عبدنا
سأقطع الرأس ما أخاف من الملا

زادت على عليا كلام يغيظها
كسرت لحرمتها أتتني ترفلا

فبكت وشكت ثم قالت ارتجع
فرديت ظعني يا سلامة عاجلا



فلما فرغ حسن الجعبري من كلامه وفهم أبو زيد فحوى شعره ونظامه، كان ذلك عليه أقوى من ضرب السيف، ولكنه أخفى الكمد وأظهر الصبر والجلد وقال له اعلم أيها العم المحترم أنه ليس على كل النساء ارتباط، والتفت الى زوجته وقال أعلميني بما جرى بينك وبين الجازية من النفور والخصام، فأعلمته بواقعة الحال وكيف شتمتها بدون سبب وجعلتها معيرة بين نساء العرب، فقال اخزي الشيطان وقومي بنا حتى نرجع الأن، قالت اذا رجع أبي رجعت أنا، فجعل يتلطف بخاطر عمه ويطلب منه الرجوع، فقال كلامك على العين والرأس الا في هذا، فانه غير مقبول الا بشرط أن تقطع رأس الجازية وتعدمها الحياة، فعند ذلك أرجع وأكون قد بلغت ما أتمناه، فقال أبشر بما طلبت يا عماه، فعند ذلك رجع أبو زيد والسيف بيده ودخل على الأمير حسن وهو في الصيوان وحوله الأمراء والأعيان، فسلم عليه وهو عابس، فقال له السلطان حسن علامك يا زين الفوارس فاني أراك غضبان، فأعلمه بما جرى ثم قال له مرادي أقتل الجازية بحد الحسام على ما بدا منها من كلام الذم والافتراء وحدثه بما فعلت من الأول الى الآخر، فقال السلطان دع عنك كلام النسوان وقم بنا الآن حتى نستعطف بخاطر عمك ونعود، فأجابه الى ذلك المرام وركب هو واياه وعند وصولهما المضارب والخيام، استقبلهما حسن الجعبري بالترحاب والاكرام، فأخذ حسن يستعطف خاطره ويقول له ارجع يا ابن الكرام ودع عنك كلام النسوان ولا تشمت بنا الأعداء في هذا المكان لأننا غرباء الأوطان ولا يجوز أن نختلف في هذا المكان، فقال وحق الواحد الأحد لا أرجع الا برأس الجازية، فقال أبشر مما طلبت فاني أبلغك القصد والأمل، فعند ذلك رجه معهما ولما بلغ الجازية هذا الخبر، أخذها القلق والضجر وخافت من الخطر، فسارت الى عند القاضي بدير وترامت على قدميه وقالت أنا في جيرتك لأنك كهف الأنام ومن يلتجئ اليك فلا يضام، فقال لها أبشري بالسلامة والخير فقد صرت في جوار القاضي بدير، ثم أخذها الى عند الحريم وزادها في التكريم والتعظيم لأنها من أشراف نساء العربان وهي أخت الأمير حسن عظيم الشأن، وبينما هو كذلك أقبل الأمير حسن وأبو زيد فالتقاهما بالبشاشة والترحاب وأخذ معهما في الحديث والخطاب، وقال لهما مالكما متكدران، فأعلماه بذلك الشأن وأن مرادهما قتل الجازية، فقال نفسي فداها فكيف يمكنني أن أسلمكم اياها وقد دخلت داري وصارت في زمامي، فهذا لايصير ولو شربت كاس حمامي، فقال أبو زيد لابد من قتلها على وقاحتها وفعلها، فقال من الصواب أيها الأحباب أن تحضر عليا والجازية للمحاكمة والاستنطاق فالتي تكون مذنبة منهما تستوجب العقاب ولا يعود يلومنا أحد من الناس، وهكذا استقر الحال، ورجع مع ابنته عليا الى الديوان، وكذلك حضرت الجازية فجلست خلف الستار خوفا من أن يقتلها أبو زيد، فعند ذلك سألها القاضي عن سبب اهانتها لعليا وما هو الداعي الموجب لذلك المقال الذي يورث القيل والقال، فأنكرت الجازية أمام الحاضرين بأنها ما قالت كلاما يغيظ ولا يهين، بل كان كلامها على سبيل العتاب كما جرت عادة الأحباب، فالتفت الى عليا وقال يظهر من هذا المقال بأن الجازية لم تتكلم في حقك بشئ يورث القيل والقال، فان كان معك شهود فأحضريهم ليشهدوا عليها، فذهبت عليا الى البنات اللواتي كن في ذلك الوقت حواليها وطلبت منهن أن يحضرن معها للديوان فقلن نحن لا نذهب معك ولا نترك الجازية ونتبعك، فعادت عليا وأعلمت القاضي بذلك الخبر فقال أن الجازية بريئة ليس عليها أدنى حق، ثم دخلت الجازية لعند الحريم ورجعت عليا لعند أبيها وهي في غم عظيم فلما رآها أبو زيد راجعة مداح يترنم ببعض الشعر.

ثم ركب ظهر الجواد وقال لقد مللت من الحرب وليس لي حاجة الى بلاد الغرب، فرأته الأمراء والفرسان قد رجع الى الوراء، فازدادوا غما وكدرا واستعظموا الحال، وعلموا أنهم بدونه لا ينفعون في القتال، فعند ذلك تقدم الأمير زيدان وقال للسادات نحن والله بدون أبي زيد لانقدر على عمل حيلة ولولاه ما كنا قطعنا كل هذه المسافة الطويلة.

فلما فرغ زيدان من شعره وسمعه الأمير حسن وباقي الأمراء، قالوا لقد تكلمت بالصواب لأن أبا زيدا سيفنا الصقيل ورمحنا الطويل، ثم ركب الأمير حسن مع جماعة من الأبطال وسار الى عند حسن الجعبري فالتقاه بالتعظيم والاحترام وأكرمه كل الاكرام، فقال له الأمير حسن ان كان مرادك أن ترجع الى بلادك، فـدع أبا زيد يوصلنا الى بلاد الغـرب ولا تشتت شملنا ثم أشار يقول:

يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
ولي قلب بين الجوانح طار

يا أمير قد جيناك نرجو لهمتك
أيا ليت عمرك أطول الأعمار

فأولادنا بالقيروان وقابس
رهاين وهم في قلعة وحصار

نريدك ترد أبو زيد يا ملك
يدلنا للقيروان جهار

فأدخل عليه لا بد يقبل عزيمتك
يا برمكي يا مكرم الخطار

حتى نروح الى بلاد نجيبهم
ونجعل بلاد القيروان دمار

فقلبي على مرعي قد ذاب وانكوى
وشبت بقلبي والضمائر نار

علشان مرعي هنت حالي وجيتكم
وأتوك هلال كبارهم وصغار



فلما فرغ الأمير حسن من شعره ونظامه وفهم حسن الجعبري فحوى كلامه، قال أنا لا بد لي من الرجوع الى دياري، ثم أنه التفت الى أبي زيد وقال بحياتي أن ترجع الى قومك بني هلال وتذهب معهم الى بلاد الغرب، فقال سمعا وطاعة، ثم ودع زوجته ورجع، وكان قد نأثر على فراق عليا لأنها كانت عزيزة عليه، فعز عليه الفراق واشتد عليه الحزن، فاجتمعت الأمراء والأعيان ودخلوا على الأمير حسن في الصيوان وقالوا له: ان أبا زيد كثير القلق والغم فمن الصواب أن يتزوج فتزول عنه الشدة ويحصل على الفرح، فصار كل واحد منهم يقول أنا أزوجه ابنتي ثم جمعوا بنات أمراء القبيلة وزينوهن بأحسن زينة وكان من جملتهن بنت الأمير دياب وبنت الأمير حسن وبنت الرياشي وبنت عرندس وبنت الليث الكندي وبنت القاضي بدير والجازية أم محمد التي بسببها حصل النكد، وأحضروهن أمام أبي زيد وأوقفوهن بين يديه وقالوا له اختر لك واحدة منهن زوجة لك عوضا عن عليا، فان كل واحدة منهن أجمل منها وأحلى، فلم يرض ولم يقبل أي واحدة منهن، ثم تقدمت الجازية بين يديه وعرضت نفسها عليه، وكان كما تقدم عنها الخبر جميلة المنظر ومحبوبة من جميع البشر، فقال لها ارجعي والا جعلتك بسيفي قطعتين، فاغتاظت من هذا الكلام وكانت تظن أن تتزوج به وتبلغ المرام، ثم خرجت هي والبنات الى المضارب والأبيات.

ديوان الماضي بن مقرب


في اليوم الثاني عبرت بنو هلال نهر النيل، ومازالوا يقطعون البراري حتى وصلوا الى بلاد الصعيد، وكان الحاكم عليها في تلك الأيام رجل صاحب قدر ومقام وفضل واحترام، اسمه الماضي بن مقرب، وكان صاحب حسب ونسب وأصله من بلاد العرب، وكانت اقامته في بلاد نجد العدية الى أن تملكها بنو هلال بالقوة الجبرية، وقتلوا ملكها الهديبي ابن عطية واستوطنوا فيها، فاصطحب الماضي مع الأمير حسن وسادات بني هلال، غير أنه لكثرة الرجال وازدحام المراعي والجمال ارتحل الماضي من تلك الأرض وسار بأهله وعياله الى أرض الصعيد وسكن فيها، وكان يملكها رجل جبار يقال له نصار، فائتلف مع الماضي أشد ائتلاف وجعله نائبه في تلك البلاد وشاركه في ماله ونعمته، وبعد موت الملك نصار تسلطن الماضي على الديار وكان محبوبا من الكبار والصغار، فلما وصلت بنو هلال الى تلك الديار التقاهم بالترحاب والاحترام وأجلسهم في أعز مقام وذبح لهم الطيور والأغنام، فشكرته الأمراء على حسن اهتمامه ثم أخذهم الى أبياته فأقام الأمير حسن في ضيافته مع أهله وسادات عشيرته مدة عشرة أيام في الاعزاز والاكرام وشرب مدام وأكل طعام، ثم تفرقوا في بلاد الصعيد وانتشروا في البيد وهم في سرور وأفراح وبسط وانشراح، فاتفق في بعض الأيام بينما كان الماضي جالسا على الطعام، قال أحد الأعوان اعلم يا ملك الزمان قد بلغني من بعض النسوان أنه يوجد في بني هلال امرأة بديعة الجمال عديمة المثال في الحسن والكمال والقد والاعتدال وفصاحة المقال لا يوجد مثلها في الخلق، لا في الشرق ولا في الغرب، واسمها الجازية، كأنها الشمس الضاحية، ان خطبتها منهم حصلت على السرور والأفراح لأن طلعتنا تنعش الصدور والأرواح، فقال الماضي ان طلبتها منهم يقولوا الماضي يريد حق ضيافته منا بنتا من بناتنا، فقال الوزير يا ملك الزمان بين الناس ما هو عيب والذي يتقرب من الناس خير من الذي يبتعد عنهم، فقال بعض الوزراء لقد سمعت أنا أيضا بخبر هذه الصبية وما فيها من المحاسن البهية، ولكن اعلم أنهم لا يزوجونها بأحد ولو كان من الملوك، فاذا كان لابد لك أيها الملك من ذلك فاطلب أولا الخضرا فرس دياب التي لايوجد مثلها في جميع المماليك وأنا أعلم أنه لا يعطيها لأن نفسه معلقة فيها، وبهذه الحيلة تطلب الجازية وتنال المراد، فلما سمع الماضي هذا الكلام تعلق قلبه بالجازية فكتب بذلك الى الأمير حسن.

فلما قرأ الأمير حسن الكتاب احتار من هذا الطلب، ثم أعطى أبا زيد الكتاب وقال له كيف الرأي عندك، أنا أعلم أن دياب ما يطلع عن الخضرا ولو ذهبت كل بني هلال.

فقال الأمير أبو زيد، الرأي عندي أن أذهب أنا وأنت والقاضي بدير الى الأمير دياب وندفع عوضها من الأموال والخيول الجياد ما يريد، فقال الأمير حسن هيا بنا، فركبوا وساروا حتى أشرفوا على تلك الأطلال، فالتقاهم الأمير دياب وقال أهلا وسهلا يا سادات الأكارم، وبعد أن جلسوا قليلا قال الأمير حسن لدياب، لنا عندك حاجة نريد أن تقضيها لنا، وعرض عليه ما اتفقا عليه، فقال دياب: يا أمير حسن كل شئ عندي في قبضة يدك الا الخضرا لأن روحي وروحها سوا.

قال له خاله القاضي بدير، هتكت الأمراء وكيف يجيؤن اليك وما تقضي لهم غرضهم، قال له يا خالي ان الخضرا أعز علي من البنين، فخذ عوضها مهما تريد من الخيول السوابق لأني لا أعطيها لأحد ولو اجتمعت كل الخلائق، فاغتاظ حسن من هذا المقال وعول على الرجوع الى بني هلال، فمنعه ألأمير غانم وأضافه عنده بمن معه، وذبح لهم الأغنام وأكرمهم غاية الاكرام، ثم دخل على ابنه دياب وعاتبه أشد عتاب وأمره أن يعطيه الخضرا، فأجابه لذلك المرام ولم يقدر أن يخالفه، ثم أنه أسرج الخضرا وقادها الأمير حسن، فشكره الأمير حسن، وقال أبو زيد اكتب كتاب الى الماضي وأرسل له الخضرا في الحال، فكتب اليه يقول:

يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
فحاشا لمثلي أن يكون بخيل

أيا ماضي أنا الفتى حسن الهلالي
أرسلت أنا خضرة دياب عجيل

أرسلت لك خضرة دياب بسرجها
والدرع والدبوس بالتكميل

أيا ليتها يا ابن عمي مباركة
فوكل عليها يا أمير وكيل

مقال الفتى حسن الهلالي أبو علي
تمنيت عمرك أن يكون طويل



فلما انتهى حسن من هذا الخطاب، سلمه الى النجاب وأمره أن يسير بالخضرا لعند الماضي ويعطيه الكتاب، فبكى على فراقها وتقدم اليها وعانقها، فأخذها النجاب الى الماضي فقدمها له وأعطاه الكتاب، فلما قرأه ورأى الخضرا، تعجب من كرم الأمير دياب ثم سلمها الى السياس، والتمت حوله أكابر القوم وهنؤوه بها، لأنهم ما رأوا لها نظير بين سائر الخيول، وقالوا له بارك الله لك فيها، فقال بارك الله فيكم وأريد أن تركبوا خيلكم وأنا أركب الخضرا ونطلع الى الصيد ونجربها، فركبوا وساروا الى أن وصلوا الى مكان الصيد، فأطلقها الماضي وأرخى لها العنان، فعرفت الخضرا أن راكبها ليس خيالها، فكانت ترفعه عن ظهرها مقدار خمسة أذرع الى أن اختل توازنه فوقع عن ظهرها الى الأرض، فارتض جسمه وتألم، ولما أتمت الخضرا مشوارها عادت الى الماضي ووقفت عنده، فقام وقادها من رسنها وما تجرأ أن يركبها الى أن وصل الى قومه، فسألوه عن أفعال الخضرا فأجاب يقول:

قال الفتى الماضي بن مقرب
الرجل لا يأمن هموم الدهر

جتني ترى الخضرا فرحت بشوفها
وانشرح مني الحشا والصدر

ركبتها حت أشوف أحوالها
طارت شبيه الطير يم الوكر

وراحت كما الغزلان غابت بالفلا
رمتني فوق الثرى عند الصخر

غبت عن نفسي وحيلي انقطع
وتكسرت عظامي من الظهر

أنا أرسلها غدا لأهلها
لعند أبو مرعي من الفجر



فبينما هم بالكلام واذا بنجاب مقبل قاصدا الماضي، فحول على باب الصيوان وسلمه كتابا، ففتحه الماضي وقرأه بين السادات واذا به من عند شكر الشريف بن هاشم زوج الجازية أم محمد، يتضمن على سلام وافر وأشواق، ومن عجب ما تضمنه وحواه، تنازله عن الجازية وتقديمها له لتكون من جملة نسائه، وكان السبب لهذا الأمر المستغرب الذي لم يسمع مثله في العرب هو أن بني هلال عند وصولهم الى مدينة الشام وحروبهم مع شبيب التبعي كانت الجازية أرسلت الى بعلها المشار اليه كتابا تسلم عليه وتعلمه عن مسيرهم الى بلاد الغرب وأنهم سيمرون في طريقهم على الماضي بن المقرب وأنه بالكاد أن ترجع اليه وتراه، فلما اطلع زوجها عل هذا التحرير أوجبه الحال أن يكتب للماضي ذلك المقال لأنه كان يحبه، فتنازل له عن زوجته وأرسل له أيضا صورة الكتاب على سبيل العهد والميثاق.

فلما فرغ الماضي من قراءة الكتاب وفهمه الحاضرون، اعتراهم العجب وأخذهم الطرب وقالوا وحق علام الغيوب لقد جاء هذا الكتاب طبق المرغوب لأنه لم يخطر في البال بأن شكر الشريف يتنازل عن الجازية أم محمد.

فاتفق رأيهم على أن الماضي يرسل الخضرا الى بني هلال ويعلمهم بواقعة الحال ويطلب منهم الجازية، فاستصوب الماضي هذا القرار وأيقن ببلوغ الأوطار وأرسل الخضرا الى السلطان حسن وطلب منه الجازية أم محمد.


( قال الراوي ):

ثم أن الماضي كتب الكتاب وبعد قراءته على وزرائه وكبار دولته، وجدوه مناسبا، فسلمه الى النجاب وسلمه الخضرا فرس دياب وأمره أن يسير الى عند الأمير حسن ويأتيه بالجواب، فامتثل وسار حتى وصل الى بني هلال، فدخل على الأمير حسن وسلمه الكتاب، فقرأه وفهم معناه ثم التفت الى الأمير دياب وقال له أن فرسك قد رجعت اليك، فقم وخذها، فقال دياب أنني ما وهبت قط شيئا في حياتي وعدت استرجعه، فخذها أنت واجعلها من جملة خيولك، فقال هذا لا يكون فأنت صاحب المعروف وأحق بها من غيرك، فعند ذلك أخذها دياب وسار وهو في غاية الفرح والاستبشار، وبعد ذهاب الأمير دياب استدعى السلطان حسن أخته الجازية، فأتت ودخلت عليه وقالت له ماذا تريد أيها الملك السعيد؟ فأخبرها كيف أرسل الماضي يطلبها ومارده أن يتزوج بها، ولما سمعت هذا الخطاب، تكدرت وقالت كيف يتم هذا الأمر وبعلي شكر الشريف أبو أولادي محمد وعمر؟ وأنشدت تقول:

تقول فتاة الحي الجازية أم محمد
بدمع جرى فوق الخدود بداد

الا يا أخي اسمع شرح قصتي
وافهم ما أقول من الانشاد

ترى الحرمة ما تأخذ اثنين يا فتى
بأي مذهب حل وبأي اسناد

أنا بعلي شكر الشريف بن هاشم
سلطان مكة من أب وأجداد

وفارقت أولادي بغير ارادتي
وطاوعتك ما كان ذا بمرادي

وما فرقة الأولاد الا مصيبة
قما يدخل عيني قط سهاد

وما طلقني حتى أريد بداله
وصار بقلبي لهيب ووقاد

مقال فتاة الحي الجازية أم محمد
وهكذا حكم ربي عالعباد



فلما فرغت الجازية من كلامها والأمير حسن يسمع نظامها، كتب مكتوبا الى الماضي يعتذر فيه عن ارسال الجازية، ثم سلمه الى نجاب ليأخذه اليه ويأتيه بالرد، فامتثل وجد في قطع القفار حتى وصل الى الماضي، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه كتب الى حسن أن شكره الشريف قد تنازل عن الجازية أم محمد، ثم أرسل كتاب الشريف مع الرسول الذي حضر معه، فلما وصل اليه سلم عليه بحضوره جماعة من الأمراء والأعيان، وكانت الجازية أم محمد من جملة الحاضرين، ففتح حسن الكتاب وقرأه فتعجب من ذلك الخبر الذي لم يخطر على قلب بشر، ثم التفت الى النجاب وقال له كيف أحوال شكر الشريف؟

فقال الحمد لله بخير وعافية وهو يهديكم جزيل السلام والأشواق، فعند ذلك أخبر الحاضرين بما كتبه شكر الشريف، فلما اطلعت الجازية على تلك الحال اعتراها الاندهاش وقالت هذا لا يكون أبدا ولو شربت كاس الردى، فقال أبو زيد من الصواب يا بنت الكرام أن نرسلك الى الماضي لأن له علينا جميل واحسان ولا سيما أن زوجك قد رخص له بك، فمتى صرت عنده حاوليه بأمر الزواج وأنا أخلصك من هذا القضية وتذهبين معنا الى الغرب، فتضمخت الجازية بالأطياب ولبست أحسن الثياب وكانت بديعة المنظر تزهو كالقمر، فازداد حسنها عن الأول لما تزينت بأفخر الحلل ولبست الجواهر، فأذهلت البصائر، ثم ركبت في هودجها بجماعة من النسوان، وركب معها الأمير حسن وعدة من الفرسان، وجدوا في السير طالبين الماضي، وأرسلوا يعلموه بقدوم الجازية والأمير حسن، فأخذ الكتاب، فلما قرأه زادت أفراحه وكثر انشراحه وأيقن بلقاء الحبيب بوقت قريب وأمر أحد وزرائه أن يستقبل الأمير حسن والجازية بالعساكر، فركب في الحال بثلاثة آلاف من الفرسان، وسار يقطع الطريق بالأغاني والأشعار وسار مع جماعة من النسوان اللواتي لهن قدر وشأن، فكانت النساء تدق بالدفوف والمزاهر والفرسان تلعب بالرماح والسيوف الى أن التقوا بالأمير حسن والجازية، فزادت بينهم الأفراح وكان يوم يستحق الاعتبار لم يسمع مثله في سالف الاعصار، وكان الماضي قد زين القصر بأنواع الحرير والقماش الفاخر، وعند وصولهم استقبلهم أحسن استقبال وأجلس حسن في صدر المقام وجلست حوله الأمراء الفخام ونزلت العروس عند الحريم ودارت الحلويات وكاسات الشراب على مائدة الأمراء والسادات، ثم حضرت سفرة الطعام وفيها من جميع اللحومات طالضأن والدجاج وبعد أن أكلوا وشربوا ولذوا وطربوا، رقصت النساء والبنات وغنت المغنيات بأنواع الأصوات، فكانت حفلة لم يسمع بمثلها ولم يفعل أحد كشكلها، وداموا في فرح وسرور وغبطة وحبور ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع، استأذن الأمير حسن من الماضي بالمسير الى بلاد الغرب، فقال الماضي أيها الملك الا تقيم عندي في هذه الأطلال، فبلادي واسعة وهي كثيرة المراعي، فشكره حسن على اهتمامه وقال لابد من المسير، ولما صمموا على الرحيل جعلت الجازية تبكي بدمع غزير لأنه لم يكن لها صبر ولا سلوان على فراقهم ساعة من الزمان، فلما زاد عليها الحال أكثرت من النحيب فانزعج الماضي وسمح لها بالذهاب معهم، ففرح بذلك الأمير حسن وأمر الفرسان بالركوب، فركبوا ظهور الخيول وركب الماضي بالفرسان وساروا بصحبتهم، فحلف عليه حسن بالرجوع، فترجلت حينئذ الفرسان وودعوا بعضهم فدعى لهم الماضي بالتوفيق والانتصار وسارت بنو هلال لبلاد تونس لخلاص مرعي ويحى ويونس.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:22 PM
الجزء الخامس عشر
ديوان الزناتي خليفة


ومازالت تقطع السهول والبراري حتى وصلوا لبلاد الغرب ودخلوها، ونزلوا في واد، اسمه وادي الرشاش، وكان ذلك الوادي بين جبلين، فلما نزلوا فيه جفلت منهم الوحوش، وكان للزناتي خليفة ابن أخن يقال له العلام بن غضبة فالتفت الوناتي للعلام وقال له أخرج للصيد واتنا بما تصيده، فأجابه بالسمع والطاعة، فقام وركب وأخذ الكلاب والصقارة وطلع اللا الصيد، فما مشوا الا قليلا واذا بالوحوش من كل جنس بين أرجلهم، فاصطادوا حتى حملوا خيلهم ورجع هو ومن معه وألقوا الصيد أمام الزناتي، قال له العلام ما هذا أنا أرى أن ما جاب هذا الصيد الا العجايب، فقال العلام وأنا أقول أن ذاك العبد الذي حبست رفقاه راح وأتى لنا بقومه، فصار الزناتي في حساب وأمور صعاب، ثم ذهب الى قصره ونام فرأى في منانه ولذيذ أحلامه، أن أتته عربان مثل الجان ولهم سلطان كبير الشأن ومعهم العبد الذي أتى الى عنده وراح وخلى رفاقه ورأى فارسا أشقر اسمه على اسم الديب وقاضي العرب وقد ملكوا بلاده فقام من منامه طايش العقل، فاستدعى ابن أخته العلام وقال له رأيت مناما وأريد أن تفسره لي فقال العلام يكون خيرا فاستحضر الرمل وحرر الأشكال على شرح البال وولد البنات من بطون الأمهات فبان عنده أهوال وضرب رماح ونصال من عرب كالرمال، ثم أنشد يقول:

يقول الفتى علام ولد غضبة
لقد بان عندي يا أمير حروف

كلامك صحيحا ما به قط ريبة
وعلم ما يحصل بدون مكلوف

فهذي عربان الهلالي أبو علي
عليهم الذهب وهم عاقدين دفوف

وهذا ملكهم ابن سرحان يا ملك
أمير بن أمير سيد معروف



فلما فرغ من كلامه، عاد الزناتي في هم ونكد، واذا بالهصيص أقبل وأخوته بصحبته، فقام الزناتي لملاقاته واستقباله وأنزله في أعز مقام، ثم جلسوا على الطعام وأخذوا يتفاوضون بالكلام، فقال الهصيص يا اخوان مالي أراكم مغيرين الأحوال، فأخبره بما حلمه من الأهوال فقال وأنا حلمت كذلك.

فلما فرغ الهصيص من كلامه، كان حاضرا رجل اسمه سليمان خبير في طرق وأراضي البلدان، فقال له الزناتي اذهب واكشف لنا هؤلاء العرب واتنا بالخبر عن حقيقة أمرهم، فأجاب سمعا وطاعة وركب جواده وسار حتى وصل وادي الرشاش، فوجدهم قد ملأوا الأرض وراياتهم تخفق بين ألوف بيوتهم كالبحر الزاخر ولا ينظر لها أول من آخر، فسأل عن بيت أمير العربان، فأرشدوه فدخل على الصيوان فرآه مثل زهرة البستان، وصاحبه الأمير حسن يترحب بكل من جاء ويودع من ذهب وأدهشه كرم بن سرحان، فعاد الى أن وصل الى الزناتي فسلم عليه وأنشد شعرا بين يديه. فلما فرغ سليمان من كلامه، صار الزناتي في حساب وأمور صعاب من هؤلاء العربان، فقال له الهصيص علامك يا أخي تغير لونك وأنت سلطان هذه البلاد وتحت يدك أربعة وعشرون أميرا وكل أمير يحكم على مائة ألف عنان! فقال الزناتي اكتب يا أخي الى ملوك بلادنا.

فبعث الزناتي الى جميع الأمراء وأعلمهم في هؤلاء العرب الذين هم مثل الجراد ويرجع الكلام الى الهصيص، فركب هو العلام وجردوا ثلثمائة ألف، وقال لأخيه ابق مكانك وأنا أريح أفكارك، وكل ما جاءك فزعه أرسلها حتى ما تخلي العرب تخترق جدارنا، وسار الهصيص في القوم الى أن وصلوا الى وادي الرشاش، فقال الهصيص لابن عمه العلام، سر قدامنا يا فارس واكشف لنا العرب أين نازلون، فأخذ العلام ألف فارس وسار قليلا واذا مقبل عليهم فرسان مثل الجراد وكان عقيد القوم الأمير أبو زيد ومعه الخفاجي عامر وزيدان بن غانم، فلما نظر أبو زيد اللا العلام قال لرفاقه، احترسوا من هؤلاء القوم، فهم قوم العلام ابن عم الزناتي، ووقعت العين على العين ونزل العلام الميدان وسقط اليه أبو زيد مثل السبع، فقال له العلام من أنت؟ ألست عبد المحابيس؟ قال نعم يا جبان، فقال له أين الرجال؟ قال أنا معي ألف والباقون خلف، وأنا أبو زيد الهمام، فلما سمع العلام هذا الكلام صار الضيا في وجهه ظلاما، والتقى البطلان كأنهما جبلان، وحان عليهما الحين وزعق فوق رأسيهما غراب البين فاختلف بينهما ضربتان قاتلتان، وكان السابق في الضربة الأمير أبو زيد، فأخذها العلام في ترس البولاد، فسقطت على رقبة الجواد، فبرتها كما يبري الكاتب القلم، فأدركه قومه وأخذوه من قدام أبي زيد، فمال أبو زيد من اليمين والشمال، وأهلك الأبطال فولوا هاربين وللنجاة طالبين ولحقهم بنو هلال حتى أدخلوهم في الجبال، وبقيت حالتهم في أسوأ حال، فرجع عنهم بنو هلال كاسبين الخيل والأموال، ولما أقبل العلام وقومه على الهصيص وهم على تلك الحال، فصاح فيهم وقال أعلموني بما جرى من هؤلاء العربان؟ فأخبروه فطلع الهصيص ومن معه على الجبل ونزلوا مثل السيل اذا سال حتى أقبلوا على بني هلال، فنظر أبو زيد واذا بغبار قد حجب الأبصار فقال لقومه، كثرت عليكم القوم يا شجعان، فقالوا نحن فداك ونلقى عداك، ثم جالوا في الطول والعرض وشنوا الغارة على الأعداء وعاثوا في القوم والامارة وأرموهم في الذل والخسارة والغبار ملأ الأقطار والعماريات تنخى الفرسان على قتل الدشمان،فلما نظر ذلك الهصيص وقومه، أعطوا كسرة وأرادوا الهرب، فلما تكاملت العربان الا وأبو زيد كسرهم في آخر النهار ورد الخيل هو وقومه وكسبوا بني هلال وأقاموا فيهم الرعبة، فقامت في العرب الصيحات وعلت الضجات من كل الجهات وأدخلوا بني هلال البيوت وأخذ قوم الهصيص خيلهم والبنات والنوق، فجمع أبو زيد أربع كرات وركبت معه العماريات وسبق القوم ومسك لهم الطريق، فأقبلت عليهم الأعداء فتلاقوا على الجارية البنات فرد عليهم الأمير دياب فالتقاه الهصيص وضربه بالدبوس على الطاسة فحرك خضرته وولى من الهصيص هارب والى النجاة طالب، ولحقه قوم بنو زغبة، فمر على البنات فنظرته فنادته بنته وطفا: علامك يا أبي هارب فما رد وخلاها واذا بالقاضي بدير مهزوم هو وقومه، فنادته الجازية لا تروح وتخلينا، فقال ورائي أخوك واذا حسن وقومه هاربين، فنادته الجازية لاتذهب وتتركنا، فقال لها أبو زيد يخلصكم من الأسر، فاذا أبو زيد أتى، فلما نظرته البنات صحن فيه، فلما رأى أبو زيد ذلك، عادت نيرانه مشتعلات ورجه هو وقومه وأطلق العنان على لقاء الأعداء، فالتقاه الهصيص في الميدان فوقع بينهما ضرب شديد، فقام أبو زيد في عزم الركاب وضرب الهصيص في الرمح، فشك ذراعه ورماه على الأرض، فهجمت عليه قومه وخلصوه وصار طعن يفك زرد الحديد والبنات تنادي وتنخى قوم أبي زيد وتزغرد لهم وأبو زيد في أولهم، فولى قوم الهصيص شرايد وأخذ منهم بنو هلال خيلهم وأموالهم وخلصوا البنات وعادوا الى أهلهم فلاقتهم الأولاد والبنات بالدفوف والضجات وراح قوم الهصيص شتات وأما بنو هلال فاجتمعوا في صيوان الأمير حسن وصارت الجازية تشتم وتوبخ من هرب وتمدح من ثبت، فقال لهم أبو زيد يا أجاويد هلال لا تحسبوا أن الهصيص قد انكسر وراح، فلموا بعضكم وأعطوا بالكم الى حالكم واجعلوا حرسا يحرس في الليل، وأما أبو زيد فكان تعبا وبرد في الليل، فاعتراه وجع في جوفه وما عاد يقدر يجلس على ظهر الجواد، فوقف الخفاجي عامر موضع أبي زيد، أما الهصيص أخو الزناتي فجمع قومه وقال لهم، سأعمل حيلة تسوى قبيلة وأرمي الأسمر بينهم حتى ننال مرادنا منهم، ولو يدري أبو زيد نايم لغار عليهم بالنهار جهرا، ثم قال لقومه اركبوا والحقوني وأتى لبني هلال من ناحية الشرق وأرسل الى الأمير حسن يخبره أن الزناتي عدونا ونحن جئنا نجدة معكم وسمى روحه الأمير مقلد وأشار يقول:

يقول الفتى المسمى الأمير المقلد
من أرض كورج والكبار جميع

أتينا نغزي يا حسن مع قومكم
أمارة هلال كل قرم شجيع

أريد أسلفكم جميلا طيبا
ومن سلف الأجواد ليس يضيع

لما سمعنا بسيطكم جينا لكم
نكسب غنايم وكل تخت رفيع

فلا تحملوا هم الزناتي خليفة
أما لكم عونا سريع مطيع

و لا بد نملك أرض تونس بلادهم
وندعي خليفة في المجال يضيع



فلما فرغ مقلد من كلامه، طوى الكتاب وختمه في ختمه وأرسله الى الأمير حسن فقرأه وعرف معناه، وكان أبو زيد له ثلاثة أيام مريضا وكان دياب حاضرا وبني هلال جميعهم، فقرأ عليهم حسن الكتاب وأعلم بني هلال ما فيه، فقال دياب أتزنا في وقتهم وأشار حسن يكتب الى المقلد بالأمر.


( قال الراوي ):

وركب الأمير حسن ودياب والقاضي بدير وأكابر بني هلال نحو ألف فارس يلاقوهم، فلما قاربوا الهصيص دق طبله ونشر الأعلام وهجم على بني هلال مثل السبع الغضبان وتفرقت قومه في كل مكان وغاروا على البيوت ونهبوا الأموال وأخذوا الخيل والجمال ومائة بنت فايقات الجمال وأخذوا البيوت من أهلها، قال الهصيص أنا ما نظرت الأسمر ولا سمعت صوته لعله يكون قد قتل اليوم، وأما أبو زيد فكان نايما من الضعف فسمع الضجة فقام من نومه وقال ما الخبر وما هذه الصرخات؟؟ فأخبروه في حيلة الهصيص وما فعل في بني هلال وكيف نهب البوش والمال وسبى النساء والعيال، فصاح من قلب جريح ودق طبله فاجتمع عنده بني هلال اثنا عشر ألف فارس والباقون كانوا هاربين على رؤوس الجبال وأخذ الحاضرين وساروا الة القوم وربطوا لهم في الطريق وصاح فيهم، فرفرفت النساء على أبي زيد مثل رف الحمام، وقلن الينا الينا، فصاح في القوم وقال خلوا عن الحريم والمال، وهجم عليهم بالحال، وكانت ساعة تحير الإنس والجان وغار على الفرسان كفرخ الحمام وهو يميل على الميامن وعلى المياسر، فأتى الهصيص الى ناحية أبي زيد كالسبع الكاسر، وتقاتل مع أبي زيد واصطفت الجيوش ووقعت العين على العين وقال الهصيص أنت حي الى الآن وفي كل موضع أراك، وقال أبو زيد في هذا الوقت أريك أفعالي.

فعندها التقى البطلان كأنهما جبلان، وطار من تحتهما الغبار وقدحت حوافر الخيل نارا، والفريقان ينظران الى حربهما وحريم بني هلال تنخى أبو زيد لكي يخلصهم من الأعداء، فعندها صرخ الهصيص صوتا دوت له الجبال وقام باعه في الزارق وطوحه الى أبي زيد، فأخذه بالسيف أبراه كما يبري الكاتب القلم وأبو زيد ضايق الهصيص ولاصقه وسد عليه طرقه وطرايقه وهز بيد عود الزان وطعنه بين بزيه طلع من بين لوحيه، ثم ثنى عليه بالسيف فطير رأسه، ولما نظر جماعته ما صار ولوا الأدبار وتبعهم القوم الأخيار، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وعاد أبو زيد وجماعته الى الخيل الشاردة والعدد المبددة واذا بالأمير دياب والأمير حسن والقاضي وقومهم كانوا قد سمعوا أن أبا زيد لحق الهصيص برجال قليلة، فتلملموا ولحقوه وكان السابق الأمير دياب، فقال أين الرجال يا أبا زيد؟ فقال هربوا فدونكم خيل أعدائكم، فقال دياب يا أبا زيد أنت طول عمرك تفرج عن بني هلال غمها، فقال كونوا على حذر لأن الذين حاربناهم نقطة من بحر لأن قوم الزناتي أربعة وعشرون سلطانا، وكل واحد منهم يحكم على مائة ألف والبوش يخاف عليه من العدا لئلا يأخذوه، ومرادنا نبعث معه أميرا، فقالوا من يروح مع البوش؟ فقالوا الشور للجازية أم محمد لأن لها ثلث الشور فأحضروها، ثم بعدما دارت القهوة وكاسات الشراب، التفت الأمير حسن نحو الجازية وقال لها قد أرسلنا وراك نشاورك في أمر البوش، فمرادنا نرسله لغير موضع، فشوري علينا من يروح مع البوش أبي زيد مالنا بعده تدبير وأنا لاأصلح لأني أمير، فيقولون أميرهم راع والقاضي بدير أصابعه مقطعة و لا يصلح الا دياب لأنه يحميه من الأعادي، فأخبرينا ما رأيك؟ فقال له هذا رأس الشور فأشار السلطان حسن ينخيه.

فعرف دياب أنها مكيدة من الجازية ولكن أخفى الكمد وأظهر الجلد وأشار يطيب خاطر حسن.
وكان الأمراء يسمعون كلامه فشكروه وقالوا له من يرد عنا القوم في كل غارة؟ فأشار أبو زيد يقول:

قال أبو زيد المسمى كلام أكيد من جدي خذ البوش وروح ارعاه وسير الى أقصى الجرد تسلم مال ملوك هلال، كذا الرعيان مع العبد مثلك من يحمي ذا البوش همام، مثلك ما حدى احفظ نفسك والرعيان من أبطال ومن يردي أخاف عليك من الغارات يجوكم ليلا في تعد، اياك بالليل تمان، خل النوم مع الرقد ومن يثبت منكم معنا ينال الخير والقصد عدا خليفة يلقانا وأكون له أنا الجندي أبو سعدا قرم مجرب وصوته مثل الرعد باكر يصبح يلقانا بالبولاد وفي الزرد ومعه جيش يأتينا على خيل ضمر يتحدى وأنا يا جواد أحضركم أبو زيد، أنا السند عدا أغنمكم منهم مكاسب لا تتعدى وتروح كل هوادجنا يفوح المسك مع الندي، أنا أوصيكم يا فرسان كونوا عصبة مشتدي، لتزعل يا أمير دياب، فكون بعزمك مشتدي، خذ البوش واسرح فيه بالك غلام تنعدي ألفين فارس خيالة وثلاثين ألف جندي اصبر عى الأهوال ولا تأتونا على البعد، اسما يا أبا وطفا دياب، يا ابن غانم اجتهد لولاك هلال ما سكنت بلاد الغرب ولا نجد المال تكفل فيه زغبي حولك كالأسد كم وقعة أشفيت هلال، أنت يا زكي الجد، فلما فرغ أبو زيد من كلامه أجابه دياب: يا أبا زيد أنت السيد وفيك الخير مع السعد.

فلما فرغ دياب من كلامه، ركب في قومه بني زغبي وهم تسعون ألف فارس، ولك ألف فارس راية بيضاء، وسار أبو زيد معه ليدله على وادي الغبا والغباين، وساق الرعيان وكانوا ستة آلاف راع، وساروا الى أن وصلوا الغبا والغباين، فوجدوا فيه أنواع الزهور والورود ورائحتها منتشرة في كل مكان، والمياه الصافية الباردة تجري وتنساب وتسقي الأشجار والزروع، والشلالات تصب من أعلى مكان الى ذلك الوادي فتشكل مناظر طبيعية جميلة، فانسروا بهذا المكان الذي كأنه جنة رضوان، فقال أبو زيد انزلوا في هذا الوادي واحذروا من كيد الأعادي، ثم أنه عاد لبني هلال، أما الأمير دياب فنصب صيوانه في الوادي، وأوقف رقباء على الجبال أربعة آلاف خوفا من العدا، ويرجع الكلام الى الزناتي، فانه لما علم في قتل أخيه غضب وأتى بجيش ونزل الى الميدان، فنزل اليه أبو زيد، فقال له هل أنت عبد المحابيس؟؟ قال نعم، فقال الزناتي أين المال؟ فقال معي ألف والباقي خلف، قال أنت رحت تجيب مال أو رجال؟

فالتقى بعد ذلك البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وزعق فوق رأسيهما غراب البين، فاختلفت بينهما ضربتان قاطعتان، فكان السابق بالضربة أبو زيد، فأخذها الزناتي بطارقة البولاد فنزلت على رقبة الجواد، فبرتها كبري القلم، فوقع الزناتي على الأرض، فركضوا على بعضهم البعض وأقاموا الزناتي وخلصوه، والتقى الجيشان والتحم الفريقان وقاسوا الأهوال وبطل القيل والقال، حتى أقبل الزوال، ودقت طبول الانفصال وقعدوا الى الصباح، فاستعد بنو هلال ونزلوا الى الكفاح ونزل الزناتي مع قومه للميدان، فحملت الشجعان وطارت الرؤوس عن الأبدان، وبقوا على هذ الحال الى وقت الزوال، فدقوا طبول الانفصال وكل منهم طلب الأهل والأوطان، فلما عاد بنو هلال جلسوا في صيوان الأمير حسن ابن سرحان، فقال الأمير حسن لماذا يا أبو زيد تقاتل القومن أنت بنفسك وما تعطيني الخبر؟

فان كنت طائعا لله والأمير، فضع رجليك في هذا القيد، قال أبو زيد سمعا وطاعة، وحط القيد في رجليه وقعد في بيت الأمير حسن فلما أسبح الصباح دقت بنو هلال طبولهم ونزلوا الى الميدان، فنزل الزناتي فلم ير أبا زيد معهم، فطمع فيهم وغار عليهم مثل الأسد الضرغام وقتل منهم جملة من الفرسان وشتتهم بين الروابي والآكام وكسرهم حتى رحلهم سبعة مراحل، وأخذ الخيل والجمال والحريم والأطفال فراحوا الى عند أبي زيد وهو مقيد، فقالوا الى متى يا أبا زيد؟! قم فك القيد من رجليك!

وما لبث أن استعد أبو زيد للحرب ودق طبوله ونزل الى الميدان، فسمع الزناتي صوت الطبول، فنزل هو وقومه الى الميدان، فقال الزناتي لاينزل لي الا أبو زيد، فما أتم كلامه الا وأبو زيد صار قومه، فقال له أين كنت يا أبا زيد؟

فقال له كنت غايب واليوم جئتك محارب، فالتقى البطلان كأنهما أسدان ضرغامان وغنى فوق رأسيهما غراب البين حتى تعب منهما الساعدان وكل تحتهما الجوادان، وداما في قتال الى الزوال، فدقت طبول الانفصال ورجعت كل فرقة الى الأطلال، وباتوا يتحدثون، وفي الصباح ركب القومان واصطف الجيسان وصار قتال وأهوال وبقوا على ذلك سبعة أيام، وكلت منهم الزنود وذابت الكبود، فهرب الزناتي وقومه فغار عليهم أبو زيد بقومه وأرجعهم أربعة عشر مرحلة الى الوراء وأدخلهم البلد، فلما دخل الزناتي الى المدينة سكرها وراءه وقال أنا ما بقيت أقاتل أبا زيد، ثم جلس يكتب الى الأمير حسن يقول:

حلق الزناتي طارة يا معشر الخطارة من أجل قوم جونا، خلوا البلاد دمارا أنا الزناتي عندي أبطال ما تنعدي والحرب محكم عندي يشبه لهيب النار، يا أبو علي القاني في حومة الميدان أريك طعن الزان، يا ما قتلت امارة يابو علي في بالك أن الدهر يصفى لك لابد ما تشوف حالك وتشوف شي ما صار وتشوفني بالنوم، وتقول جاني قومي مرعوب دائم دومي، عقلك وذهنك طار ارحل بظعنك عادي مع جيشك والعتاد، هذي البلاد بلادي ما هي لغيري داره، واياك من أبو سعدة يجيك مثل الرعدة نجمة خدمه سعده نجمك عليه غبار وجاك الزناتي غاير من فوق أدهم طاير بيده حسام شاهر، ان صاب رأسك طاره والله أنا أفنيكم وبناتكم تنعيكم قصاب أعمل فيكم وأعمل بكم جزارة، يابوعلي أتهير للحرب لاتتغير عند اللقا تتحير في طعن البتارة، فلما فرغ الزناتي من كلامه طوى الكتاب وأرسله الى الأمير حسن، فأخذه وقرأه وعرف رموزه ومعناه.

ثم رد حسن بكتاب وأرسله الى الزناتي فلما وصل اليه قرأه وعرف معناه، مزقه ورماه وصاح على الفرسان وأمر بدق الطبول والركوب على الخيل، وأما الأمير حسن فبعد ما أرسل رد الجواب دق الطبول للكفاح وطلب النصر من الله الفتاح ونزل هو وقومه الى الميدان، فنزل الزناتي وعرض وبان وقال حسن لايبرز لي الا أمير العربان، فنزل اليه السلطان فقال له الزناتي أنت مثلي وأنا مثلك فعندها التقى البطلان كأنهما جبلان، وحان عليهما الحين وزعق فوق رأسيهما غراب البين، وداما في قتال حتى ولى النهار ودقت طبول الانفصال، وعاد كل الى مكانه، ولما أصبح الصباح نزل أبو زيد الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فنزل اليه الزناتي وقال له أين السلطان حسن حتى أذيقه طعني وضربي؟ فقال أبو زيد أنا خصمك وقد جئتك، فعند ذلك التقى البطلان كأنهما أسدان أو جبلان وحان عليهما الحين وزعق فوق رأسيهما غراب البين حتى كل منهما الساعدان وبقيا على هذا الى وقت الزوال، وفي ثاني الأيام نزلا الى الحرب والكفاح، فأما أبو زيد فقد زاد في الحرب وأما الزناتي فأدار رأس جواده وهرب، فانكسر قومه فلحقه أبو زيد حت وصل الى مدينة تونس، ففتح البواب للزناتي حتى دخل وأغلق الباب في وجه أبي زيد فقال أبو زيد في عزم الركاب وضرب الرمح في الباب خرقه وعاد الى قومه والأصحاب من بعد ما فرق قوم الزناتي وقتل منهم كل قرم عاتي الى أن وصلت بنو هلال الى بيت الأمير حسن، ودار فيما بينهم الكلام وشكروا أبا زيد الهمام.

ثم قالوا: يا ويلنا من بعدك يابو شيبان يا حامي الأظعان، يرجع الكلام الى الزناتي لما قالوا له عن الضربة التي ضربها أبو زيد خربت الباب ثمانية كعاب، فعاد في حساب وأمور صعاب، أما أبو زيد ثاني يوم دق طبله واستعد للقتال وطلب اللقا، فدخل البواب الى عند الزناتي وقال له: من ينزل الى الميدان؟ فقال الزناتي: ومن ينزل الى عزرائيل قباض الأرواح ثم كتب الى أبي زيد كتابا وأرسله مع الوزير فلما وصل اليه أخذه وتوجه نحو صيوان الأمير حسن وأعطا الكتاب، فقرأه ثم قال حيث أن الزناتي خليفة ذل من حربنا، ابعث له أن يعتق أولادنا من الحبس ويرسلهم.

فلما وصل المرسال الى الزناتي وأعطاه الكتاب من أبي زيد حمد الله الذي رضوا في فكاك الأولاد، فبعث الزناتي الى بنته سعدة وقال لها أطلقي المحابيس حتى نرسلهم الى أهلهم، فلما وصل اليها الخبر، أرسلت سعدة الى أبيها تقول يا حيف عليك يا أبي أنت صدقت كلام العرب هؤلاء العرب ما بقوا يفارقوا هذه البلاد، فقال والله لقد صدقت ولو عدمنا الحياة ما عدنا نرسلهم، وكان مرعي عندها في تلك الساعة، فقال لها هكذا عملت وأبيت أن نذهب الى أهلنا، فقالت له يا حبيب القلب ألم تعلم أنني متى أطلقتكم تذهب روحي برفقتكم؟! ثم أشارت تسليه بهذه الأبيات:

تقول سعدة بنت أمير تونس
وجرح الهوى قد علقني حبايله

جرحني الهوى في قلبي أهانني
ومشعال نار الوجد أشعل فتايله

أنا ما ضناني غير مرعي وذلني
فيا رب تجمع شملنا بشمايله

طوله يشابه المرديني اذا مشا
متى تسمح الأيام وأنظر جمايله

أنا خايفة يطلقكم أبي وترحلوا
لأن سلامة كل يوم يزاعله

فان كان يرسلكم تروحوا لأهلكم
وينظركم حسن وتشفى نحايله

أنا خايفة يبطل حربنا مع قومكم
وتروحوا الى نجد العدية جمايله

ويأمر حسن بالشيل سرعة لأرضكم
يفرح بمرعي حين ينظر جمايله

مقالة سعدة الهوى قد أضامني
عمل حب مرعي في فؤادي عمايله




( قال الراوي ):

فلما فرغت سعدة من كلامها فأنشد مرعي يجاوبها ويقول:

يقول الفتى مرعي بعين وجيعة
لها بعد نوم الهاجعين ذراف

لأن حسنك يا مليحة ذابني
وجاني هواك والغرام صداف

ولكن أبوك يا مليحة أهاننا
بالحبس صرنا موجعين ضعاف

وان كان يطلقنا فلا تمنعيه
حتى نروح لأهلنا وسلاف

وأخبر حسن بما فعلتيه معنا
أبوك بين الملا عراف

ونرسل الى أبيك نخطبك منه
ونعطيك خيلا مع أموال ظراف

هذا مرادي يا مليحة ومنيتي
نريد الحلال وما نريد خلاف

وأما الخنا فلست فيه موافق
لأني أنا من نسل قوم أشراف

و لا بد من أرضكم وبلادكم
وآخذك حقا بغير خلاف



فلما فرغ مرعي من كلامه وسعدا تسمع نظامه، بقيا على ما كانا عليه، في النهار تنزله الى الحبس وفي الليل تأتي به وتنام واياه، وأما بنو هلال لما لقوا أولادهم ما طلعوا من الحبس، دق أبو زيد طبوله ونزل الى الميدان، فما أحد جاء اليه، فغار في جواده ودق باب تونس، فرد عليه البواب من تكون؟ فقال أبو زيد أريد سيدك حتى آخذ روحه من جسده، فراح البواب لعند سيده.

فلما فرغ خضر من كلامه والزناتي يسمع نظامه، فأعطاه درعا وسيفا وخوذة وقال له يا خضر ان قتلت أبا زيد، أعطيتك مدينة سعدة، فقال يا سيدي أنا أكفيك شره، فبرز الى أبي ز فقال له من تكون من الفرسان حتى تنزل الميدان؟ قال أنا خضر بن موسى، فضحك أبو زيد.

فانطبقا على بعضهما، فقام أبو زيد وحرك الجواد ولاطف خضر وطسه بالدبوس ورماه تحت الحصان، فقال خضر أنا بجيرتك يا ابن الأجاويد، فقال أبو زيد قم واشلح عدة الحرب ما تستاهل تقال، فصار يبكي البواب حتى وصل الى عند الزناتي، فقال كيف حالك مع أبي زيد؟ فقال يا ملك الزمان كأني رأيت مناما، أحسب الحرب مثل فتح الباب وغلقه، فسطر الزناتي كتابا وأرسله مع عبده الى أبي زيد، فأخذه وقرأه وعرف معناه، أخذه لعند الأمير حسن فقرأه وهم في الحديث الا وغازي عبد السلطان قد دخل وكان دار بلاد المغرب الجواني وتسمى الشقور وفيها سبعة ملوك، كل ملك يركب بمائة ألف خيال، فابتدأ يخبر الأسياد.

فلما فرغ من كلامه والامارة يسمعون نظامه، قال أبو زيد ارتاحوا أنا علي في جميعهم وحدي، ثم أنه نبه فرسانه وراح الى صيوانه، فقال السلطان حسن وراح لعنده وقال يا أبا زيد أنت ذاهب وأنا خايف من الزناتي يحاربنا، فقال أبو زيد أنا أحط لكم راية حمراء على باب تونس، فلا يطلع اليكم ما دام الهوى يلوح وتمشي بالليل، ولاتدق طبلا حتى نلاقي القوم ونرمي فيهم الوهم، فعاد الأمير حسن، وأما أبو زيد فصبر الى الليل وركب هو وقومه بنو زحلان ومشوا نحو ذلك العدوان مقدار سبعة أيام، حتى وصلوا الى موضع فيه ربيع مياه، فقال أبو زيد حولوا فحولوا، وفرشوا له الحرام فنعس ونام، فطلع ثعبان ولسع أبو زيد في فخذه ففاق أبو زيد من ضربة الثعبان وصاح من صميم الفؤاد، فركضوا اليه وقتلوا الثعبان وعاد في قلب أبي زيد لهيب النار، فحملوه الى البيت فقامت عياله بالبكاء والنواح على هذا الأسد المسموم، فعرف السلطان حسن وخاف من الزناتي لأنه عرف أن أبا زيد مسموم ودياب غائب، فقوي عزمه واستعد لحرب بني هلال وأشار يكتب الى السلطان حسن بالأمر، فرد عليه السلطان حسن، ثم طوى الكتاب وأعطاه الى النجاب، فأخذه الى مولاه وأعطاه اياه، فقرا÷ وعرف معناه، ولما أصبح الصباح دق طبله وركب وأطلق الغارة على بني هلال، فركب بنو هلال خيولهم ودقت الطبول، فالتقى الفريقان فبرز الزناتي الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه السلطان حسن، والتقى البطلان كأنهما جبلان وطار من تحتهما الغبار حتى سد منافس الأقطار، وقدحت حوافر الخيل نارا وتكسرت بينهما الرماح والسيوف وكلت منهما الزنود والكفوف وبقيا على هذا الحال الى المساء، فافترقا على سلامة وباتوا الى الصباح يتحدثون، فلما أصبح الصباح وضاء بنوره ولاح، برز الزناتي للميدان فأراد السلطان أن يبرز اليه فمنعوه وقالوا نخاف عليك من الزناتي وأبو زيد ملسوع ودياب غائب وان صار لك حادث تشتت بنو هلال في الجبال، فقام الخفاجي عامر وطلب الزناتي فمنعه حسن وقال أنت نزيل عندنا والنزيل ما عليه حرب، فقام الخفاجي وأقسم يمينا أنه ان لم ينازل الزناتي عشرة أيام يرحل هو وقومه عن بني هلال، فتركوه فبرز الزناتي والتقى البطلان كأنهما جبلان وزعق فوق رأسيهما غراب البين وفي اليوم الثالث كل الزناتي وولى هاربا من الخفاجي، وكان عند الزناتي خطيب يسمى مطاوع، فقال للزناتي باكر أنت انزل اليه وأنا أتخبى، وان انكسرت أهرب قدامه فيلحقك حتى يفوتني فأجليه من الوراء وأطعنه من قفاه، وأما الخفاجي فانه رأى مناما أن قدام بيته شجرة طويلة أتاها نجار قطعها، فقام من منامه مرعوبا واستدعى بنته ذؤابة وامرأته.

ثم أن أبا ذؤابة قال لها: يا بنتي اذا ركب بنو هلال ماذا يكون الجواب؟ وأنا حالف يمين أني أحارب الزناتي عشرة ايام، فقال له تمارض يعذروك، أم بنو هلال فدقوا طبولهم وركبوا خيولهم وتفقدوا الخفاجي فما وجدوه، فسأل عنه حسن فقالت الجازية أنا أروح اليه، فراحت تلاقي ذؤابة تبكي، فسألتها عنه قالت مريض، فرجعت أخبرتهم، فقال حسن الخفاجي أقسم يمين يحارب الزناتي عشرة أيام وحاربه ثلاثة بقي عليه سبعة، فكان حاضرا أمير اسمه ظريف فقال أنا أروح اليه فراح اليه وسأله عن حاله فأشار الخفاجي يجيب سؤاله، ثم وثب كالأسد وشد على جواده وتقلد بالحرب والجلاد وسار مع ظريف، فعندها زغردت البنات ودقت العماريات.

وبعد ذلك التقى الفارسان في حرب وصدام الى أن انحل عزم الزناتي من شدة حربه، فولى هاربا وللنجاة طالبا، وحكم دربه نحو جناين الورد وكان الخطيب ماسكا السيف بيده واذا بالزناتي هارب والخفاجي لاحقه، فطلع لخطيب وطعن الخفاجي بين كتفيه، خرج يلمع من بين لوحيه، فرماه قتيلا وفي دمه جديلا، فغار الفريقان والتحمت الطائفتان وصاح على رؤوسهم غراب البين، أما ظريف صديق الخفاجي فلحق بالخطيب وطعنه، أصاب الجواد ورماه على الأرض، فرد الزناتي اليه وخلصه من بين يديه، ولا زال القتال بينهم حتنى ولى النهار فانفصلوا عن القتال وامتلأت الأرض من القتلى، وأخذ ظريف الخفاجي عامر الى بيته وهو بحالة النزاع، فلما رأته ذؤابة طار صوابها.

وافاق من صحوة الموت وكلمها ثم شهق شهقة واحدة وسلم الروح فقام عليه الصياح والتفت عليه العربان من كل ناحية حتى املوا الروابي والبطاح وكسروا عليه السيوف والرماح وغسلوه وكفنوه وواروه التراب.

يرجع قولنا الى الزناتي فانه دق الطبل ونزل الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فما برز اليه أحد، فقام حسن وقال علامكم يا بني هلال ما أحد يبرز للزناتي؟ فما أحد رد له جواب.

فقال القاضي مرادي اكتب أوراقا نضعها في جراب، والذي تطلع ورقته ينزل للزناتي، فكتبوا الأوراق ووضعوها في الجراب ومد القاضي يده وشالها، فقال ورقتي فقالوا انزل اليه فقال احفروا لي قبرا جنب الخفاجي لأن أجلي قد دنا، فقالوا له اذا لزم الأمر مالها لا من زيد ولا من عمرو، فقام اشتد واعتد ونزل الميدان، فقال له الزناتي من أنت؟ قال أنا قاضي العربان، قال له أنت القاضي وتعرف الحق من الباطل وتجهل حربي وتنزل لمبارزتي ثم راح يهدد.

وسمع الزناتي تهديده فوقع فيما بينهما حرب شديد وضرب يقطع الزرد النضيد مقدار نصف ساعة، فقام الزناتي في عزم الركاب وضرب القاضي بدير على كتفيه الأيمن شقه نصفين الى الخاصرة، فوقع القاضي قتيلا وفي دمه جديلا، فلما رأى هلال أن قاضيهم قتل، التقت الرجال بالرجال حتى جرى الدم وسال وفاضت الروابي والتلال، ومازالوا على تلك الحال الى أن ولى النهار ودقت طبول الانفصال، فانفصلوا عن القتال وحملوا القاضي الى بيته وقاموا عليه الصياح وكثر النواح، فقال حسن ما ينفع الميت هذا التعديد لكونه شي لا يفيد، فغسلوه وكفنوه وفي التراب واروه، وعاد بنو هلال في حسرة على القاضي بدير ومد يده طلعت ورقته، لبس آلة حربه وبرز الى الزناتي والتطم الفارسان في حومة الميدان وبدءا في الحرب والطعان، وما زالا في كر وفر حتى طار عليهم الغبار وقدحت حوافر الجوادين نارا، وقد داما في الحرب والصدام مقدار خمسة عشر يوما، حتى انذهل الزناتي من حرب مفضل، فضرب ديوانا وقال لقومه من منكم يقتل الأمير مفضل يا فرسان؟

فقال الخطيب مطاوع: أنا أنزل اليه، وفي الصباح لبس آله الحرب والقتال وبرز الى الميدان، فنزل اليه مفضل وقال له أين الزناتي؟ فقال أنا جيت بالنيابة عنه، ثم هجم على مفضل ووقع بينهما الحرب والقتال واختلف بينهما ضربات شديدة، فكان السابق الخطيب، ضرب مفضل على هامه حط رأسه قدامه، فلما رأت بنو هلال أن مفضل قتل، التطم الجيشان وزعق فوق رؤوسهم غراب البين، أما بنو هلال فنبذوا مفضلا قتيلا بعدما راح منهم خلق كثير، وأما الزناتي فعاد في غاية الأفراح وزالت عنه الهموم، والأتراح، لكن بنته سعدة ما هان عليها بقتل أبطال بني هلال، وكان عند أبيها حكيم اسمه فتوح، فقالت له أريد منك دواء يبري السقيم من لسع الثعبان لأن عندي جارية انقرصت، فأعطني لها دواء يقطع آثار السم، فلما حصلت عليه أعطته عبدا من عبيدها وقالت له خذ هذا الوعاء وأعطه الى أبي زيد واياك أن تخلي أحدا يدري ما فيه ولك مني ما تريده، فأخذه العبد وأعطاه الى أبي زيد فشرب منه فبرئ لوقته، وفي الحال دقت الطبول وزعقت الزمور وذهبت عن بني هلال الهموم، فسمع الزناتي وعرف أن أبا زيد قد طاب، فقال من يبرز منكم له؟ فقال الخطيب أنا له والى ألف من أمثاله، فبرز الى الميدان وعرض وبان وطلب الفرسان، فبرز اليه أبو زيد والتقى البطلان كأنهما جبلان، وحان عليهما الحين وزعق على رأسيهما غراب البين مقدار ساعتين، فقال أبو زيد في عزم الركاب وضرب الخطيب بالسيف على هامه، حط رأسه قدامه، فلما رأى قوم الزناتي أن مطاوعا قتيل وفي دمه جديل، ولوا هاربين والى النجاة طالبين، فلحقهم أبو صبرو وبنو هلال، ودعوا منهم القتلى تلول تلول وجابوا خيلهم وعددهم وعادت بنو هلال بالعز والاقبال، وأما أهل الغرب فوقع فيها الذل، فعند ذلك أرسل الزناتي الأخبار الى ملوك الشقور، وكانوا سبعة ملوك وكل ملك يملك على ألف عنان، يقول لهم أنه قد أتانا عساكر وعربان ومعهم مكاسب لا يمكن وصفها، فبادروا الآن لنأخذهم في حد السيف والسنان، فلما وصل الخبر اليهم جاءوا بالحال، فوصلت أخبارهم الى بني هلال، فقال أبو زيد على فيهم وحدي بعون الواحد القهار.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:23 PM
الجزء السادس عشر
قصة عقل ابن هولا



فلما فرغ أبو زيد من كلامه، دعوا له بطول العمر والبقاء وركب في قومه بني زحلان وأخذ معه مخيمر وشيبان وأخذ معه من بني زغبة ألفين وساروا الى ملتقى الملوك ثلاثة أيام، حتى وصلوا الى وادي النسور وكمنوا للقوم في الليل، ولما أصبح الصباح أقبلت عليهم الجيوش مثل الغمام، فصاح أبو زيد بصوت مرعب، ومال فيهم على الميمنة وشيبان وباقي القوم على الميسرة، حتى أفنوا الجنود وقتلوا السبعة ملوك وجيوشهم وكسبوا خيولهم وأسلحتهم، وبعدها جمع أبو زيد عسكره ونزلوا ربطوا في الوادي خوفا من غيرهم، فلما بلغه الخبر دق طبله وبرز الى الميدان، فبرز اليه زيدان بن غانم شيخ الشباب، فقال الزناتي من أنت؟ فقال أنا الأمير زيدان بن غانم.
فلما فرغ خليفة من كلامه، وقع بينهما الحرب الشديد الى آخر النهار، دقت طبول الانفصال وثاني يوم جاء الأمير زيدان بالطراد، فولى الزناتي هاربا وزيدان وراءه الى باب المدينة، فقفلوا الأبواب في وجه زيدان وكانت خطيبة زيدان معه وهي بنت عمه اسمها ضيا، فلما تزاحم القومان جفل جملها فأخذها قوم الزناتي، ولما رجعوا من القتال أمر الزناتي سعدة أن تبقي ضيا عندها.

وللحال قامت سعدة بارسال ضيا لعند أهلها وأما خليفة فقال لقومه كيف رأيتم يا فرسان من منكم يلقى طراد زيدان، وكان للخليفة ابن أخت يسمى مطاوع، فقال يا خال أنا له، فقال خليفة أنت لست من رجاله، فقال صدقت يا خال، لكن دعني أعمل ما بدا لي، فأخذ مطاوع رجاله وحفر ثلاث حفر وغطاها، ثم دق الزناتي طبله وخرج الى الميدان، فخرج اليه زيدان فالتطم الاثنان كأنهما أسدان كاسران وحان عليهما الحين، وصاح فوق رأسيهما غراب البين، فأراد زيدان أن يضرب خليفة بالرمح، فولى خليفة وهرب نحو الحفائر، فجرى وراءه زيدان فوقع في الحفرة هو والحصان، فرجع له مطاوع وضربه على هامه، حط رأسه قدامه وأرسل رأسه ووضعه مع رؤوس الأمراء على سور تونس، فاشتبك القوم وأطبقوا على بعضهم الى أن ولى النهار ودقت طبول الانفصال، فرجع الفريقان وباتوا الى الصباح، وثاني يوم برز بدر فوقع بينهما ضربتان قاطعتان، وكان السابق بالضرب الأمير بدر، ضرب الزناتي بالرمح فخلا منه وثنى عليه بالسيف، فأخذها بطارقة البولاد وثلث عليه بالدبوس، فخلا عنه ببراعته، فاعتدل الزناتي على ظهر الحصان وضرب بدر بالسيف، فقطع رأسه وأرسله الى تونس، فوضعوه مع رأس أخيه زيدان، وكان لبدر ولدان، واحد اسمه عقل والثاني نصر، وكانا أفرس أهل الوقت وأجمل أهل العصر، فقال عقل لابد أن أقاتل الزناتي في غد، وكانت والدتهما أخت السلطان حسن، تسمى هولا، فسمعت عقل يقول ذلك الكلام فخافت عليه من الزناتي لأنه بطل مغوار، ومتى انغلب يدبر حيلة في قتل من نازله، فأشارت هولا تنهى عقل عن حرب الزناتي.

لكن هولا عرفت أن قولها لا يفيد، فذهبت الى الأمير حسن وعرفته أمرها، فأتى لعند عقل وصار ينهيه عن قصده فلم يرجع عن عزمه، فقال له الله ينصرك عليه، فلما أصبح لبس عقل آلة الحرب والكفاح وصار في الميدان وعرض وبان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه الزناتي خليفة وقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نقتل كبارهم يجونا صغارهم، فالتطم اىثنان كأنهما جبلان أو أسدان يزأران، حتى حمى عليهم الزرد فعرف الزناتي أن عقل فارس لا يطاق ومن صغر سنه خبير بطعن السنان وضرب اليمان، وصارت الزينات تنخى عقل وتقول يا حامي الزينات وعقل قد زاد حربه وأشبع الزناتي من ضربه، ولازالا في قتال وجدال لحين الشمس مالت للزوال، فدقوا طبول الانفصال، ولما أصبح الصباح ركب القومان والتحم الفريقان فبرزوا الى الميدان وصاح على رؤوسهم غراب البين، وأما أبو سعدة فكل وذل وضعفت قواه وانحل، فلوا عنان جواده وولى هاربا والى النجاة طالبا، فتبعه عقل وقذفه بالدبوس، رماه على الأرض فأدركه قومه وخلصوه، فانحدف عليهم عقل وبنو هلال وعظم الحرب والضرب، ولم يزالوا بالقتال حتى ولى النهار وأقبل الليل، فدقت طبول الانفصال، فعاد الزناتي منزعجا وصار يوصي فرسان قومه على قتل عقل، ويقول وعمر السامعين يطول:

يقول أبو سعدة الزناتي خليفة
ونيران قلبي زايدات ضرام

فمن منكم ينزل الى عقل يقتله
ويدعيه في وسط اللحود ينام

أعطيه سعدة تكون له حليلة
ويكون عندنا في اعز مقام

يشتفي مني الفؤاد بقتله
وأكيد العدا في حرب وصدام



فلما فرغ خليفة من كلامه وقومه يسمعون نظامه، فقام ابن أخته مطاوع وقال يا خال أنا له ان كان قتله يحرم علي نقل الرمح ما دمت حيا ويحرم علي الفرح والعز والهنا، فقال خليفة الله يعينك عليه، ولما أصبح الصباح ركب مطاوع جواده واعتدل في عدته وجلاده، ودقت طبول بني هلال وركبوا الخيول وركب عقل أولهم وهو ينادي اليوم ولا كل يوم، فلما رآه قوم الزناتي ولوا هاربين وفي أولهم مطاوع، فقال له خليفة لماذا انهزمت يا ابن أختي؟

فقال انهزمت قومنا وما بقي أحد، فلما وصل عقل تحت سور تونس فطلعت بنت الزناتي الثانية وكان اسمها بسمة، فنظرت الى عقل فوقع هواه في قلبها وملك فؤادها.

وتكلم عقل وكانت بسمة تسمع نظامه، فعاد مطاوع وبرز الى الميدان فاستقبله عقل وانعقد غبار القتال حتى سد منافس الأقطار وداما في حرب وصدام وافتراق والتحام، وقدحت حوافر الجوادين نارا، فيا لهما من أسدين ضرغامين وبحرين متلاطمين، أما مطاوع فرأى قدامه فارسا كرارا وأسدا مغوارا ورأى من عقل حربا حير عقول الأبطال، فعول على الهرب والفرار، فاشتلق عليه قوم الزناتي فغار على عقل ثلاثة منهم وأحاطوا به، فضرب واحدا منهم أرماه وغار على الذي قدامه، فهرب الباقون من أمامه، فغار على قوم الزناتي وكل فارس ثبت أماه زوره المقابر، فنزل اليه الزناتي ومطاوع والعلام وعلام ابن نجدة اثنين من قدام واثنين من وراءه، وغدره مطاوع في طعنة من ورائه، فقال الزناتي خذوه، فتزاحمت عليه الرجال، فراح جسم عقل تحت حوافر الخيل، ما بان له أثر، ودقت طبول الانفصال فرجع القومان الى الأطلال، وكان لعقل أخ اسمه نصر، فقال غدا أنزل الى الميدان آخذ ثاري من هؤلاء الأعداء الغادرين، فلما سمعت أمه هولا بكت بكاء شديدا وتحسرت على عقل تحسرا عظيما، لكن ولدها نصر طيب خاطرها وفي ثاني الأيام برز نصر الى الميدان، فبرز اليه الزناتي خليفة وظن أنه عقل، فقال لقد عاش عقل ورجع الى الحياة فصدمه الأمير نصر صدمة جبار، فالتقاه بقلب أقوى من الصوان والتطم البطلان كأنهما جبلان واختلف بينهما ضربتان قاطعتان، كان السابق نصر، فالتقى السيف بالدرقة فنزل على رقبة الجواد براها بري القلم، فوقع الزناتي على الأرض، فأدركه قومه في جواد وأركبوه ومالت المواكب وهاجت الكتائب، وما عاد يعرف العدو من الصاحب، وبقي السيف القرضاب يجز الرقاب، حتى مالت الشمس الى الغياب، فدقوا طبول الانفصال وباتوا يتحادثون الى الصباح، فركب نصر وبرز الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه مطاوع والتحما بالحرب الشديد، فاختلف بينهما ضربتان كان السابق نصر، فشك رمحه في صدر مطاوع، فأطلع السنان يلمع من ظهره، فوقع قتيلا وفي دمه جديلا، فعندها غادرت قوم الزناتي وحملت على بني هلال وزادت المصائب والأهوال، والتحم الفريقان في المجال وأمر الزناتي في أناس تقاتل وأناس تحفر حفاير، ومازال الحرب والقتال حتى وقع نصر في حفرة، فغار عليه الزناتي وضربه بالسيف على هامه، حط رأسه قدامه، فغار القومان وتزاحم الفريقان وزعق فوق الرؤوس غراب البين، ولم يزالوا في القتال حتى ولى النهار وأقبل الليل، فرجعوا عن الحرب والصدام ودفنوا نصر بجانب أبيه ولحق بعمه وأخيه، وأما أمه وأخته وقريباته فقد قصصن شعورهن وأقمن الأحزان.

وطفقت أمه تندبه، وكذلك فعلت أخته فتنة، فلما فرغت فتنة من كلامها، أقاموا النواح على القبور وقال غانم أنا بعد أولادي لا أريد حياة، ومرادي أنزل للزناتي أما أقتله وآخذ بالثأر أو يقتلني وأستريح من الأحزان، فبرز الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز الزناتي وأنشد:

قال الزناتي ابن مهران صادق
ولي قلب أقوى من حجر صوان

أنتم علينا يا أمير اعتديتم
زرتم بلادي وخربتم البلدان

قتلت أولادك راحوا بزاتهم
بدر الفتى المسمى أخو زيدان

وأولادهم برزوا يريدوا قتالنا
عقل وأخوه زينة الشبان

قتلتهم وراحوا بغامض الثرى
وصفيت روس الكل على حيطان

تسعين أمير صاروا رؤوسهم عندي
ورملت من بعدهم ترى النسوان

ما عاد الا أنت يا أمير جيتنا
فأنت شايب بالكبر وزمان

فروح يا مسكين لا يقل عقلك
ما يلتقي حربي سوى المردان

فارجع روح صلي وأعبد ربك
واختم لهم في سورة الرحمن



فلما فرغ من كلامه التقى البطلان كأنهما جبلان، ولم يزالا في قتال وجدال حتى دقت طبول الانفصال، فرجعا عن الحرب والكفاح ولم يزالا على ذلك الحال مدة شهر، وبعد ذلك كل الأمير غانم وما عاد ينزل الى حربه ولا أحد غيره ينزل، فضرب الزناتي ديوانا وقال لقومه ما رأيكم؟ فتقدم ابـن عمـه العلام.

فقال الزناتي ما قتل دياب مع الذين قتلناهم، قال العلام دياب في وادي الغباين مع جيوش بني هلال، قال الزناتي: مرادنا نرسل له من يقتله ويجيب البوش منه، والتفت الى أخيه أبي خريبة وهو فارس صنديد، فأمره بالركوب الى وادي الغباين ويجيب البوش منه، فقال سمعا وطاعة، وركب من ساعته وأخذ معه عشرين ألف فارس قروم عوابس، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا الى وادي الغباين وغاروا على بوش بني هلال، وأرادوا أن يسوقوه بالعصي، فقامت الرعيان بالسياط والصراخ، فلما سمع دياب ركب جواده وطلعت فرسانه وراءه والتحم الحرب بينهم بطعن يقصف الأعمار، وصار بينهم ضرب مثل النار، فعندها قام دياب في عزم الركاب وضرب أبا خريبة بالسيف على هامه حط رأسه قدامه فوقع على الأرض يتخبط بدماه ولما رأى قومه أن أميرهم قتيل ولوا هاربين والى النجاة طالبين، فلحقهم بنو زغبة ومدوا السيف في أعناقهم، وما سلم منهم الا الذين وصلوا الى عند الزناتي وأخبروه عن قتل أخيه، فاستدعى أخاه الثاني وكان اسمه مكحول، وقال له: خذ قومك وامض الى دياب ابن غانم، خذ ثأرك منه وانهب بوش بني هلال، ومهما جبت من هؤلاء يكونوا هبة مني اليك، فركب بعسكر مقدار خمسين ألف همام، وسار الى أن وصل الى الوادي، وكان دياب وقومه في الصيد وما بقي عند البوش الا مقدار ألف فارس فغارت عليهم خيل مكحول وساقوا البوش جميعه، فراح الصوت الى دياب وأعلموه بالخبر، فعندها غار حتى وصل الى القوم وهجم على مكحول والتطموا في الخصام وتجرعوا شرب كاس الحمام، فضرب مكحول دياب في الرمح، فقام دياب رجله من الركاب وأخذها من تحت فخذه وطعن مكحول في الرمح،فاراد ان يخلي منها مثل دياب، فجاء الرمح في صدره طلع يلمع من ظهره، فوقع قتيلا وفي دمه جديلا، فاخذ درعه وجواده وغادر عاى قومه وبدأ يذبح فيهم حتى قتل مقدار عشرة آلاف فارس والباقون هربوا، فلما وصلوا عند الزناتي، أعلموه بقتل أخيه فغضب غضبا شديدا وبرز الى الميدان عرض وبان، وطلب مبارزة الفرسان، فما أحد رد عليه، واذا بغبار علا وطار حتى سد منافس الأقطار، وبان من تحته فرسان على خيول أخف من الغزلان، واذا هو الرياشي مفرج الذي كان مع أبو زيد في غزوة ملوك السفور، فحول وسلم عليهم، فسألوه عما جرى له، فصار يخبرهم في أول الكلام واذا ببيارق حمر قد طلعت وأبو زيد بأول الخيل، فلاقاه الأمير حسن وبنو هلال وهنؤوه بالسلامة وفرحوا في ملقاه، وطلعت النساء والأولاد وأهالي القتلى اللذين قتلهم الزناتي وقعدوا على المقابر لابسين السواد هاتكين الستور باكيات نائحات، ووصلت الخيل التي أتى بها أبو زيد من الأعداء والمكاسب والغنائم وأخبر السلطان أبا زيد بما فعل بهم الزناتي وكم أباد من الفرسان، فلما سمع أبو زيد قول حسن، صار الضياء في وجهه كالظلام، وحزن حزنا شديدا على من قتل من الفرسان، وعندها قام ومر على المقابر وشاهد النساء والبنات، فلما شاهدن أبو زيد رفعن أصواتهن في البكاء، فطيب خاطرهن وقال لهن أن أراد الله نأخذ لكن بالثأر ونترك ديار الزناتي خرابا، ثم دخل عند عليا وبات لثاني الأيام وقسم الأموال وأعطى حسن جزءا، وشال الى دياب قسما وثاني يوم برز أبو زيد الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان وتعرض تحت أبواب تونس ونادى الزناتي يبرز الى الحرب وللطعان، فما أحد رد عليه، فوقف تحت الأبواب المسكوكة ولا أحد يخرج ولا يطلع سوى النسوان التي فوق الأسوار يتفرجن، فعندها صاح في البواب افتح أو أرسل مولاك، فسار البواب لعند الزناتي قال له قم كلم أبو زيد واقف بالباب يريد يواجهك، فقال له دير بالك وهات المفاتيح، فعند ذلك أخذ المفاتيح وقال أقعد خلف الباب واذا أحد سأل عن سيدك، فقل له لن يواجه أحد، فعاد البواب وأعلم الأمير أبا زيد بذلك.

يرجع الكلام الى الأمير حسن، التفت الى أبو زيد وقال له مادمت جيت ما بقي الزناتي يفتح الباب ولا يطلب حربا وفي غيبتك يا ما عمل من الأعمال، ثم أن الأمير أبو زيد قال لهم: قصدي أعمل حيلة تسوى قبيلة، اندهوا للجازية، فندهوا اليها فحضرت بين أيديهم، فقال لها أبو زيد مرادي أن تجمعي مائة بنت من أحسن بنات العرب وأحضريهن في الليل فأحضرت مائة بنت الى الأمير أبو زيد، فقام ولبس ثيابا بيضاء مثل النسوان ولبس درعه وتحزم بسيفه وسار هو والبنات والجازية، وكان نصف الليل الى أن وصلوا الى بوابة تونس، فقال أبو زيد اقرعي الباب، فنادى البواب: من يقرع أبواب تونس في هذا الليل؟ فقالت الجازية نحن من بنات العرب جئنا ومعنا بضائع لكي نبيع ونشتري من عندك على قدر احتياجنا. فقال لها البواب روحوا لن أفتح لكم الباب في الليل. ثم أنها تدخلت عليه فذهب الى الزناتي وأخبره بالبنات على الباب، فقال له اذهب أنا قرأت كتبهم قبل ما يحضروا الى هذه البلاد، لأن هذه حيلة من حيل أبي زيد، ثم أن البواب رجع اليهن وأخبرهن بما قال الزناتي، ثم أن الجازية ابتدأت بالمنادمة هي والبواب.

فلما فرغت الجازية هي والبواب من المنادمات والبنات يسمعون كلامهما، أخذهم الأمير أبو زيد ورجع الى ربعه.

يرجع الكلام الى مرعي وسعدا، فقال لها يا سعدا الى متى الانتظار وقد طال علينا المطال، وأبوك لايطلع الى محاربة أبي زيد ولا يفتح الباب، فضحكت سعدا وقالت أنا أفض هذا المشكل، لأن ما يقتل أبي الا الأمير دياب، لأنه عندي في الكتب، ولكن سأروح الليلة عند السلطان حسن وأدعيه يجيب دياب، فلما دخل الليل استدعت أربعين بنتا من بنات الأمراء مثل الأقمار، فلما حضرن قلن ما تريدين؟ فقال لهن أريد آخذكن معي لنتفرج على بنات هلال والأمير حسن أبو المحابيس الذي عندنا، ونرجع في هذا الليل، فقلن سمعا وألف وطاعة، ثم أمرت لهن بأربعين خلعة من خاص الحرير والديباج الملون وأمرت بأربعين جوادا من خيرة الجياد، وركبت سعدا أمامهن مثل البدر المنير لأنه ما كان في عصرها أحلى منها، وتقلدت البنات بأفخر السلاح الى أن وصلن الى باب البلد، وقالت للبواب افتح الباب، اياك أن تتكلم قدام أحد، فأعدمك الحياة، فقال لها يا ستي المفاتيح مع أبيك أخذهم مني، فقالت أنا لا أحتاج اليها معي مفاتيح، وفتحت الباب وخرجت هي والبنات وأمرت عبدها الطواشي يقعد على الباب لحين رجوعهن، فقعد ينتظر رجوعهن، فعند ذلك سارت سعدا والبنات حتى وصلن الى الحارس، فقال العبد ما هذه الخيل في الليل؟ فقالت سعدا ضيوف، فقال مرحبا بالضيوف الكرام، فقالت أين الأمير حسن؟ فقال لها نايم، فقالت قل له سعدا بنت الزناتي تريد تواجهك وترجع بالليل، فقال لها انتظري، ودخل لعند جارية اسمها مباركة، وقال لها اعلمي مولاك أن بنت سلطان تونس حضرت لعندنا، فدخلت وأعلمت مولاها حسن، فتعجب من حضورها بالليل، فخرج وقال لسالم ما الخبر؟ فأنشد يقول:

يا مير جانا سربة خطارة
ملوك كتقطرين قطارة

يا أمير جونا من بلاد بعيدة
وأنا بأمري يا ملك محتارة

ارتاع قلبي من منظرهم
شبهتهم يا أمير شعلة نار

ما راعني الا الخيول ولبسهم
وكلهم يا أبو علي عالمهارة

ولبسهم ديباج بلون واحد
من الذهب فوق الصدور زراره



فلما فرغ العبد من كلامه، فرح الأمير حسن، وقال للعبد اعزمهم، فرح العبد وعزمهم ونزلهم عن خيولهم وربطها ومشى قدامهم، فسلمت سعدى على السلطان، وعرفته بنفسها ورفيقاتها، فسلم عليهن وأما أم مرعي لاقتها وضمتها الى صدرها، وقالت لها دخلك مرعي كيف حاله؟ وسلمت عليها سلام الأحباب ثم قالت له: يا بو علي لا يكون عندكم افتكار نحو مرعي ورفاقه، لأنهم في أعز مكان، وانما الرأي عندي أن ترسلوا تجيبوا دياب ابن غانم، فشكرها الأمير حسن وأثنى عليها وأرسل الى أبي زيد يحضر عند سعدى فحضر وسلمت عليه وشرحت له الكلام وودعت حسن وأبا زيد وأكدت عليهم ليرسلوا وراء دياب، وذهبت هي والبنات معها حتى وصلن القصر، هذا ما كان من سعدى، ويرجع الكلام لحسن وأبي زيد، بعدما ذهبت سعدى قال حسن كيف يكون الرأي يا بو زيد؟ فقال أنا ان هلكت بنو هلال ما أرسلت وراء دياب، قال حسن وأنا كذلك، فقال أبو زيد أحضر البنات وامرهن أن يكتبن الى دياب ويطلبنه لأخذ الثأر، فأول ما تقدمت ذؤابة بنت الخفاجي عامر، كتبت مكتوبا وقصت شعرها ووضعته فيه وحطته قدام جدها غانم وقالت اكتب مكتوبا الى ولدك لكي يفرج همنا، فكتب غانم الى ولده كتابا وضمنه:

يقول الفتى غانم على ما جرى له
بدمع جرى فوق الخدود سكيب

ونيران قلبي كلما أقول تنطفي
يهب لها ضمن الضلوع لهيب

على ما جرى فينا وما قد أصابنا
وأمر جرى فينا تراه عجيب

يا من يودي الى دياب رسالتي
الى أمير بالوغى غريب

وقوله يا فارس الناس كلها
ويا عز من نقل القنا وقضيب

وأنا كبرت وما بقي لي حيل
وعزمي غدا من راح ذهيب

وعمك مسلم عم الشيب رأسه
ما عاد له عزم و لا ترتيب

وبدر وزيدان يا دياب اخوتك
قتلهم الخليفة أمس وقت المغيب

عقل ونصر أولد أخوك قتلوا
وقد دعاهم فوق الوطا عطيب

وخرب أبو سعدة جميع ديارنا
وما عاد لنا سامع ومجيب

الا يا دياب الخيل أسرع نحونا
واقتل خليفة يا أمير غصيب

وان كان ما تقتل خليفة برمحك
ترى البيض تلفظ كلام معيب

وتبقى الهلاليات جميعا مع العدا
يروحوا سبايا لكل ندل ورهيب

قتل خليفة ابن عمك زامل
وأخوك غدا ما عاد فيه نصيب

ضرب مفضل ضربة أباده
وراح على وجه التراب نحيب

ثمانين أميرا من هلال وعامر
ادعى دماهم على الوطى سكيب

ونزل معيقل للزناتي وحده
وقلنا معيقل بالطرود لبيب

انحدر على جمع الزناتي خليفة
تلقاه أبو سعدة كنار لهيب

ضرب معيقل ضربة عامرية
ألقاه على الوطا خلاه قليب



وقال لعبده خذ هذه المكاتيب الى مولاك دياب، ولا تجيني الا وهو معك، وان رجعت بلاه أعدمك الحياة، فعندها أخذ المكاتيب وسار طالب وادي الغباين، فوصل ووجد مولاه دياب والعرب على الطعام، فصب حتى رفعوا الطعام، فدخل على مولاه ووضع المكاتيب بين يديه، قال له يا سعد أرى وجهك أصفر فما عندك من الأخبار؟ وأشار يسأل العبد.

ثم بدأ يقرأ المكاتيب واحدا بعد واحد حتى انتهى، فقال اني أرى مكاتيب البنات وكتوب والدي، فأين مكاتيب الأمير حسن وأبي زيد؟

فقال: يا مولاي هذه ثمانون مكتوبا ألا تكفيك حتى يرسل لك حسن وأبو زيد؟؟ فقال دياب أنا جيت هذا المكان برأيهم، ما جيت بشور البنات، فكيف أروح على كلام البنات حتى يقول لي حسن وأبو زيد ومن أرسل وراك؟ فقال العبد أن البنات ما كتبن المكاتيب الا بأمر حسن وأبي زيد، فقال له ان رحت أنا على كلام البنات وقتلت الزناتي لايعدونها لي، وان تكلمت يقول حسن من بعث وراك؟ فماذا يكون جوابي لهم وهذه آخر الوقعات بيني وبين الزناتي؟ ومرادي أملكهم الغرب كما ملكتهم الشرق، فان كان مقصد بني هلال حضوري هات لي مكتوبين وحجتين من حسن وأبي زيد، ثم أنه أحرق مكاتب البنات، قال العبد أنا ان رحت وحدي فان البنات يقتلنني، قال له دياب أنا أكتب لك جواب.

ولما فرغ من تسطير الكتاب طواه وختمه وأعطاه للعبد فأخذه وسار طالبا بني هلال، فلما وصل الى غانم أعطاه الكتاب ففضه وقرأه، فاستدعى البنات وقرأ عليهن المكتوب وقال أنه لم يأت لأن حسن وأبا زيد لم يرسلا له مكاتيب، وان لم يرسلوا له لا يأتي ولو انقطع بنو هلال، فرجعت البنات عند حسن باكيات وقلن له يا حسن أرسل لنا وراءه في هذه الساعة، ليأخذ بالثأر ويكشف عنا العار، وان لم ترسل وراءه نروح كلنا لعنده، فعند ذلك استدعى أبا زيد وقال:

انظر هؤلاء البنات وما مرادهن واكتب لهن مثل ما يردن واسترنا معهن، فقال أبو زيد يا حسن أنا ما أكتب ولا أرسل وراءه، لأني لا أحبه ولا أطيق ذكره، فقال حسن وأنا كذلك، فأرسل خلف أبيه غانم ودعه يذهب خلفه، فعند ذلك أرسلا وراء غانم فحضر فقال حسن يا غانم مرادنا منك أن تذهب الى ابنك دياب تجيبه، فقال غانم يا حسن ابني لايأتي ما لم تكتبوا له أنت وأبو زيد، فلما أصبح الصباح عول والد دياب على السفر وحرر مكتوبين على لسان حسن وأبي زيد الى دياب، وأخذهما معه وركب هو وامرأته وسارا طالبين دياب، وأرسل عبد يعلم ابنه في قدومه اليه هو ووالدته، فلما وصل العبد الى دياب وأخبره بقدومهما اليه، ذهب لملاقتهما وتوجه الى أمه وأنزلها من الهودج وقبل رأسها وقال: ما الذي أتى بك الينا؟ فأجابت تقول:

تقول فتاة لوع البين قلبها
ارجع الى قومك واصل الزمايم

ونحن يا أمير جئنا لعندك
فما هذا الرجا منك يا ابن الأكارم

ضيعت حق من رباك والدك
وسفهت قولي يا قليل الحشايم

ولو كنت يا ابني حافظ مكانك
فما كان العدا دعونا هزايم

أغظت غانم يا أمير وغظتني
وعاد دمعي فوق الخدود سجايم

ترى الزناتي قد قتل من رجالنا
أخوتك وكبارنا راحت عدايم

وخالك بدير مع الخفاجي عامر
ومن غيرهم جملة أمارة أكارم

فقم بنا نرجع الى نجد أرضنا
نعيش بها من خير فضل ابن غانم




فلما فرغت الأم من كلامها، أشار دياب يقول:

يقول الفتى الزغبي دياب ابن غانم
غضبتم علينا يا وجوه الأكارم

أنا لأجلك أقتل خليفة بساعدي
وأدعي دماه فوق الأرض عايم

وآخذ لثأر زيدان بسيفي القنا
وأعدي خليفة عالثرى نايم

فلا بد أنصركم وأشفي قلوبكم
أنا جيتكم ما عاد فيها مراحم

وأنت يا أمي افرحي واستبشري
من فوق خضرا مثل طير الغمايم

وتعرفي الفرسان في حومة الوغى
اذا جيت للميدان ولو هزايم


فلا بد أن آخذ بثارات أخوتي
وثارات خالي والقروم الأكارم



فلما فرغ دياب من كلامه وأمه تسمع نظامه، طاب خاطرها وتوجهت الى الخيام واستقبل بعد ذلك أباه، فسلم عليه وقبل يديه، فقال لا تكلمني لا أنا والدك ولا أنت ابني أنا برئ منك لو كنت ابني كنت سمعت كلامي وأخذت لي بثأري من الزناتي الذي قتل أخوتك أولادي وأحرق فؤادي.

فلما فرغ غانم من كلامه وولده دياب يسمع نظامه، فقال لابيه اذا كنت لم تأت بمكاتيب ما أروح، ولو ما فضل احد من بني هلال، فاعطاه المكاتيب ففضها وقرأها وعزم على الحضور وأمر بذبح الأغنام وعمل الولائم والضيافة ثلاثة أيام، فاسرت أم دياب لولدها، يا ابني ابوك خرف وما عاد له عقل لانه دعا عليك قدامي وما هان علي، فقال يا أماه دعاه علي ما في بأس لانه من حزنه على أولاده ومقهور من الزناتي ومن فراقنا، ولكن ان اراد الله تعالى أروح معكم وأطلب رضاكم وآخذ لكم بالثأر بعون العزيز الجبار.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:23 PM
الجزء السابع عشر: قتل الزناتي خليفة


( قال الراوي ):

فلما فرغ دياب من كلامه وامه تسمع نظامه، فرحت وقالت يا غانم مرادنا نسير لان بني هلال في انتظارنا، فقال تأهبوا حتى نسير ونعلم بني هلال ان دياب يحضر يوم الأحد لعندهم، فركبوا وساروا حتى وصلوا الى بني هلال، فكانت ضجة قوية، فقالوا أين دياب؟ فقال غانم نهار الأحد يكون عندكم. أما دياب بعد ذهاب والديه أمر الرعيان بلم البوش من كل جانب ومكان وساروا قدامه طالبين بني هلال بابطاله وفرسانه الذين معه، ثم قلعوا الصيوان وأمر العكام بأن يسبقه وينصب سيفه على أبواب تونس في نصف الميدان، ثم دق طبوله ونشر اعلامه حتى بقي بينه وبين بني هلال يوم كامل، وكانوا جميعهم في انتظاره، وثاني يوم الأحد خرجت الاربع تسعينات الوف واستقبلوه بالطبول والنوبات وزالت الهموم والاتراح بقدوم دياب وادخلوه الى الحي بنوبة سلطانية عظيمة، وأما أهل القتلى فانهم اجتمعوا على التراب وهم في السواد واثواب الحداد، لكي يشكو الى دياب ما فعل الزناتي بهم، وأما حسن و أبو زيد فبقيا في الصيوان وما خرجا من الخيام، وأما دياب لما لم يجد حسن وأبا زيد، عرف المضمون وانما أخمد الكمد وأظهر الصبر والجلد، ولم يزل سائرا في الموكب العظيم حتى وصل الى تونس، فرجت منه الأرض وطلعت النساء على الأسوار للفرجة على الزينة، وارتعد الزناتي خليفة ومن عنده وقال الله يعيننا على حربه، واما دياب فرفع رأسه الى سور تونس، فوجد رؤوس الامراء وهم ثمانون رأسا مشكوكين على الرماح، فسألأ من هؤلاء؟ فقال له عمه عرندس هؤلاء رؤوس بني هلال الذي قتلهم الزناتي وهم اولاد عمك، فقال كل هذا يجري في غيابي؟ وظل سائرا الى التربة، فتقدم اهل القتلى والبنات وشالوا البراقع وحدفوها الى دياب فطيب خاطرهم وخاطر فتنة بنت خاله.

وسار مع الموكب حتى دخل البيوت، فمر على صيوان الامير حسن وابي زيد، فوجدهما يتفرجان، فدخل وسلم عليهما فقام له على الاقدام واكرماه غاية الاكرام، وبعدها قام دياب وركب الى بيته وتفرق كل واحد الى محله، واما فتنة فصارت تخبر اباها بما حدث.

فلما فرغت فتنة من كلامها وابوها يسمع نظامها، قال مرادنا احد يروح لعند دياب يروي لنا الخبر عن حربه للزناتي، فقامت داية الحريم وقالت انا اكشف لك عن ذلك وسارت للصيوان، واما وصلت اليه وجدته يلاعب بنتا صغيرة اسمها نجيبة، ويقول لها اين اطعن الزناتي؟ فقالت له اطعنه بعينه؟؟ فقال قولك مبارك، وحياتك ما اطعنه الا بعينه، فرجعت الداية الى عند الامير حسن واخبرته عما رات من دياب ثم افتكر واطرق رأسه الى الارض ساعة من الزمان ثم تنهد وانشد يقول:

يقول الفتى حسن الهلالي ابو علي
الاجواد تختبي ليوم النوائب

وما سندنا الا دياب ابن غانم
لانه صميدع من خيار القرائب

ونرجو من الرحمن يفرج همنا
لان العرب ذاقوا اعظم المصائب

عسى من الزغبي يجينا غاية
ويقتل خليفة بين جمع المواكب

دياب امير وابن امير وامير
ولا مثله في شرقها والمغارب

قال الفتى حسن الهلالي ابو علي
وقلبي فرح في ملتقى الحبايب



فلما فرغ حسن من كلامه وأمرأته تسمع نظامه، واسمها نافلة وهي أخت دياب، لحظت على حسن انه داخله الحسد من اخيها، فعند ذلك اشارت تقول:

مقالة التي قد نالت رجاها
ودمع عيني فوق خدي سجايم

سعدنا في بني زغبة دياب
شبيه البحر موجه جا يلاطم

فلما أقبلت خيلها علينا
ففرحت البيض داقات الوشايم

طبوله حوله يا أمير تنضرب
شبيه الرعد بوسط الجو قايم

وخافوا الأعادي حين شافوا
بني زغبي وهم نسل الأكارم

وقد قال الزناتي لأهل تونس
يصيروا أهلها لنا خدايم

قالت التي قد نالت رجاءها
نصرك يا حسن في ابن غانم



فلما فرغت من كلامها قال لها يا نافلة عسى الأمير دياب يقتل الزناتي ونملك تونس ونخلص بلادنا، هذا ما جرى للأمـير حسن ونافلة، فيرجع الكـلام لدياب، فانه قال لقومه في الصباح احضروا جميعكم، قالوا سمعا وطاعة، ولما أصبح الصباح نهض الأمير دياب وطلب مبارزة الفرسان ولاعب الخضرا في أربعة أركان الميدان، وسال وجال ولعب بالرمح حتى حير عقول الشيوخ والشباب، ثم تقدم الى أبواب تونس ودقها في عكاز الرمح فارتج السور، فقال البواب من؟ فقال: أنا دياب.

أعلم سيدك الزناتي يخرج لحربي لكي يوفي الناس ديونها وان سألك عني فقل له دياب قاتل أخويك أبو خريبة ومكحول، فابرز اليه وخذ بالثأر، فمضى البواب وأعلم الزناتي فضاقت في وجهه الدنيا، وما عاد يعي على حاله، فأرسل أحضر ابنته سعدى وقال لها: يا باغية ما أحد جلب لنا البلاء سواك، فلو كان من ألول تركتني أقتل المحابيس وابا زيد، كنا ارتحنا من بني هلال، لا أخاف الا من دياب، فقالت سعدى: يا أبي لاتخف منه أنا أرده عنك، ثم مشت على شراريف القصر فرأت دياب يلاعب الخضرا، فنظر اليها وكف وجهه عنها لحسنها، ما اسمك وما تريدين؟؟

قالت: أنا سعدى وأنت ما تريد؟؟ فأنشد وأنشدت بدورها ثم رد عليها دياب.

( قال الراوي ):

فلما فرغ الأمير دياب من كلامه، قالت له سعدى: قف عندك حتى أرسل لك ابي، وعادت لأبيها تحثه على حربه فركب الجواد وبـرز الى المـيدان، وأنشد:

اليوم يومك يا زناتي خليفة
فلا بد من سيفي تروح شلال

قال الفتى زغبي ابن غانم
حل الوفا واشتقت أنا للمال



فلما فرغ الأمير دياب من الكلام، والزناتي يسمع نظامه، فارتطم البطلان كأنهما جبلان، وتصادما صدام الأبطال وضربت في حربهما الأمثال وقلق الزناتي من حرب دياب ورأى منه أبوابا ما كانت تخطر له بحساب، رآه بحرا ما له قرار، وما زالا في الحرب والطعان وهما في أشد ضيق الى نصف النهار، فزاد الأمير دياب على الزناتي بحربه وعاد يفتل حوله على الخضرا مثل الصاعقة، فخاف الزناتي وانحل عزمه وولى من قدام دياب هاربا الى تونس، ودياب لاحقه مثل الأسد الكرار، فهجم دياب وعسكره على قوم الزناتي والتقت الرجال بالرجال وجرى الدم وسال فيا لها من وقعة تشيب رؤوس الأطفال، وذهب من الفريقين عدد كبير من الفرسان والشجعان، وكان لتونس ثلاثة أبواب داخلة في بعضها، باب( صارة ) وباب( منصور ) وباب( حسرة )، ففتحوا الأبواب حتى دخل الزناتي وسكروها، فضرب دياب الباب بالرمح فخرقه، فأطبقت قوم الزناتي على قوم دياب، فالتقاهم بسيفه القرضاب وهجم بنو زغبة وعظمت الأهوال وبطل القيل والقال الى أن ولت الشمس للغياب، ودقت طبول الانفصال فاختبأ قوم الزناتي من خارج السور ورجع الأمير دياب وقومه الى بني هلال، فهنأوه بالسلامة وأكلوا وشربوا وحضر الأمير حسن والأمير أبو زيد لعند دياب وعانقاه وهنأاه بالسلامة وجلسا معه للمنادمة والكلام، وأمر دياب في الذبائح وعمل الولائم فسألوه عن حرب الزناتي، فتبسم من قولهم وقال: أنا أكفيكم شره وأقصر عمره، فقالوا يا دياب غدا اقتل الزناتي وملكنا الغرب كما ملكتنا الشرق، فقال ان أراد الله تعالى، ولكن يا حسن الذي يقتل الزناتي يكون سلطان الغرب فقال الأمير حسن نحن أولاد عم وبين الأهل ما في فرق والرزق واحد والحكم واحد، ثم انصرفوا الى حالهم ولما أصبح الصباح برز دياب الى الميدان، فبرز الزناتي وانطبقا على بعضهما انطباق الغمام وطال بينهما الطعن والصدام، من شروق الشمس الى وقت الظلام، فدقت طبول الانفصال وانفصلا عن القتال، أما الزناتي فعاد في أسوأ حال وأيقن بالهلاك، فضاق صدره واحتار بأمره، فطلع الى قصره وارتمى على فراشه، ثم فتح شباك القصر ونادى ابنته سعدى فأتت وجلست مقابله في شباك آخر، فتنهد الزناتي وصار يعاتب سعدى.

فلما فرغ الزناتي من كلامه، قالت له سعدى يا أبي اني لم أنم الليل من أجلك، ودائما أطلب من الله أن ينصرك وينيلك مرامك وأنا أنثى لم أتعود على القتال والكفاح ومبارزة الأبطال، ثم أنها انصرفت والهوى غالب عليها، ولما أصبح الصباح طلعت بنو هلال من خيامها وركبت سوابقها، وأما الزناتي فأغلق أبواب تونس وما عاد يفتح ولا عاد له قلب للخروج الى الميدان لخوفه من الأمير ديبا الذي قام من نومه وتقلد سلاحه وركب الخضرا وبرز الى الميدان، فحين نظره الزناتي هانت المنية عليه، فبرز لدياب فصدمه صدمة الجبار، وهاج الزناتي كالجمل فتلقاه دياب بالسيف وطار فيما بينهما الغبار حتى سد منافس الأقطار وحجب عنان السماء الى الظلام، دقت طبول الانفصال وافترقا على سلامة، واستقاما على هذا الحال مدة شهرين، وفي آخر الأيام برز الاثنان الى الميدان، فغضب دياب وزاد به الغضب وضرب الزناتي بالسيف فأصاب جواده، فرمى نفسه على الأرض وقد أيقن بذهاب الروح، فأدركه قومه في جواد من الخيل، وأركبوه ومال عليهم دياب بالسيف القرضاب، وزاد نار الحرب التهاب وقطعت منهم الزنود والرقاب، وساقهم دياب سوق الغنم ودخلوا المدينة وسكروا أبوابها، فطلع الزناتي الى قصره فنام على فراشه وهو غارق في الأفكار لنصف الليل، فقام مرعوبا ونادى ابنته سعدى فأتت، ولما شاهدت حاله بكت وندمت، وصارت تشجع والدها على حرب دياب، وثاني الأيام برز الى الميدان فبرز اليه الأمير دياب، ثم التقى البطلان وكأنهما أسدان وما زالا في حرب وصدام الى وقت الظلام، دقت طبول الانفصال وثاني الأيام برز الاثنان الى الميدان. ولم يزالا في حرب وصدام الى وقت الظلام، فدقت طبول الانفصال، وثاني الأيام برز البطلان.

وأخذا في الحرب والصدام حتى أقبل الظلام، فدقت طبول الانفصال وثاني يوم برز دياب الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه الزناتي وصار يقول:

يقول الزناتي أفرس الفرسان
في القلب مني زايدة نيراني

بليت فيكم يا هلال بلية
ربي بكم دون الملا أبلاني

قتلت منكم قوم ما لهم عدد
راحوا طعام الوحش والغربان

صافف رؤوس رجالكم أنظرها
على السور منشورة وفي الصيوان

انا خليفة يا دياب تحضر
يا ما قهرت ابطال مع شجعان

انزل عن الخضرا وبوس ركابي
واسلم بروحك لا تكون ندمان



فلما فرغ الزناتي من كلامه التقى البطلان في الحرب والصدام، فبقيا في قتال شديد حتى ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، ودقت طبول الانفصال ورجع كل منهما الى قومه، وقد ذل الزناتي بعد عز، وبكى على أحواله وملكه، وبات تلك الليلة في هم وأتراح الى الصباح، كتب كتابا يطب فيه الصلح وأرسله الى دياب، وكان دياب قد برز الى الميدان، فلما وصل الرسول أعطاه الكتاب ففضه وقرأه وعرف رموزه ومعناه، فتوجه لعند السلطان حسن وعرض عليه كتاب الزناتي، فقرأه أبو زيد على الأمارة، فبهتوا جميعا مقدار ساعة، فقال أبو زيد ماذا تقولون؟ فقالوا الرأي عندك يا أبا زيد.

فقال أبو زيد: الرأي انكم تصالحوه، ومن أبا عن الصلح يسأل الجازية فالتفتت اليهم وقالت: أذل الله لحاكم يا بني العربان ذليتم عن حرب الزناتي ودياب أيضا ذل معكم وهو شاطر في ركوب الخضرا وتعريض الصدر، وحالا نادت النسوان وقالت دونكن والخيل، فنحن نقهر الزناتي ونأخذ ثأرنا والتفتت الى دياب، وقالت له: انزل عن الخضرا حتى أركبها واقاتل ازناتي وأنشدت تقول:

تقول فتاة الحي أم محمد
أنا أورد خليفة أقصى الموارد

أنا بنت سرحان الأمير بلا خفا
أخي حسن سلطان على القوم سايد

ألا بأعذاري شدوا الخيل واركبوا
على سوابق أصيلات فرايد

ونلبس خوذهم والدروع وخيلهم
ونحن نحارب في اللقا والمطارد



فلما فرغت الجازية من كلامها والأمراء يسمعون نظامها، فعند ذلك تبادرت البنات الى الخيل، وكل واحدة مسكت لجام فرس وقالت لراكبها انزل واركب موضعي في الهودج وأنا أركب جوادك، وأما الجازية فقالت الى دياب انزل وأنا أركب موضعك وأحارب، فغضب دياب وقال لها: كم مرة خلصتك من السبي، ولو صالحه كل بني هلال ما أفوت ثار أخوتي وأولادهم، ولا صالحت خليفة، فارجعي الى الوراء وردي البنات واتركي الحرب للرجال، ثم أنه رد على الخليفة وقال:

يقول الفتى الزغبي ولد غانم
وذم الفتى بعد الكمال حرام

وحمد الفتى بعد القبيح مذمة
وحمد الفتى بعد النضال لزام

أنا دوم ممدوح بفعل أكارم
بخير وجود بالفلا وخصام

كم فارس أنا بقناتي قتلته
وادعيته ضمن التراب عدام

فلا بد ما أملك بلادك كلها
وقومك يصيروا عندنا خدام




( قال الراوي ):

فلما فرغ دياب من كلامه، طوى الكتاب وأرسله الى الزناتي خليفة، فلما وصل اليه، فضه وقرأه وعرف رموزه ومعناه، انخمدت أنفاسه وزاد وسواسه، ولما أصبح الصباح دقت طبول بني هلال للحرب والكفاح، وبرز الأمير دياب الى الميدان، فنظر الزناتي فأشار يكتب الى دياب ويقول:

يقول أبو سعدة الزناتي خليفة
والهم قد جانا مع الوسواس

أيا دياب الخيل يا طيب الثنا
يا أمير حامي حومة البرجاس

فاصفح عن حربي وخذ ما تريد
أموال خذ مني وكل أجناس

أقسم عليك بجاه ربي تجيرني
وبحق اله العرش رب الناس

وبطل الحرب عني لا تلومني
وديني بقولي ما أنا دلاس



فلما فرغ خليفة من كلامه، طوى الكتاب وختمه وقدمه للأمير دياب فلما قرأه مزقه ورماه وصرخ في الخادم صرخة أرعبته، وقال له: لولاما يكون قتل الرسول حرام لقتلتك، ولكن ارجع لمولاك وقل له ما عنده جواب الا الحرب فرجع النجاب وأعلم مولاه بذلك، فلم يرد عليه جوابا، فعند ذلك عاد دياب الى بوابة تونس، فحكم طريقه على خندق كبير فنزل عن الخضرا وقاس الخندق، فطلع عمقه خمسة أرماح ووسعه ثلاثة، فعرف أن الخضرا تقفزه، فعند ذلك اعتلى ظهر الخضرا وأرجعها الى الوراء وصار يلاعبها حتى وصلت الى الخندق، فحثها بالركاب فقفزت الى الجانب الآخر وظل غايرا الى الباب لقي البواب نائما، فلكزه بكعب الرمح، ففاق فوجد فارسا فوق رأسه يقول له يا بواب اذهب الى سيدك وقل له أن ينزل الى الميدان، وان لم ينزل فقل له الأمير دياب قفز بالخضرا فوق الخندق، وغدا يقفزها فوق السور، فراح البواب وأعلم مولاه ورجع دياب الى قومه، فعند ذلك نزلت دموع الزناتي وصار يببكي على حاله وأرسل وراء سعدى ابنته لكي يودعها، وكان قصده قتلها ولكن لم يستطع الوصول اليها وكانت سعدة ضربت الرمل فعلمت أن منيته قد قربت، فأتت الى الشباك قباله وقالت له طب نفسا وقر عينا لأنه بان عندي في الرمل أنك منصور على دياب، فدق طبله وبرز الى الميدان فبرز اليه الأمير دياب فالتقى البطلان كأنهما جبلان وغنى فوق رأسيهما غراب البينن فوقع بينهما ضربتان قاطعتان، وكان السابق الزناتي، طعن دياب بالرمح فأخلى عنها فأضابت الخضرا، فوقعت على الأرض ووقه دياب كأنه طود من الأطواد، فطمع الزناتي فيه وسحب السيف من غمده وهجم عليه، فأدركه بنو هلال وقدموا له جوادا من الخيل الجياد، ركب وهجم على الزناتي في قلب لا يهاب الموت، ومازال السيف بينهما الى وقت الظلام، فانفصلا على سلامة من الحرب والقتال، أما دياب فانه حزن على الخضرا كثيرا، وأمر أن يغسلوها ويكفنوها بالحرير ويدفنوها، وبنى على قبرها قبة عظيمة وذبح على قبرها ألف ناقة، وفرقها على الفقراء زكاة عن سلايلها وأولادها، وثاني يوم نهض دياب واعتد في عدة جلاده وركب على ابن الخضرا، وكان مهرا رباعيا طويل الباع لين الطباع، وبرز الى الميدان كأنه فرخ جان وطلب مبارزة الزناتي، فبرز اليه لأنه فرح بقتل الخضرا وظن أنه يملك أربه من دياب ويقتله كما قالت سعدى وأما حسن وبنو هلال، تحقق عندهم أن دياب في هذه المبارزة يقتل الزناتي لا محال لأجل ثأر الخضرا، فركب الأمير حسن مع سائر بني هلال، وركبت العماريات الهوادج واصطفت العساكر أمام بعضها البعض، والتحم الزناتي ودياب في حرب شديد يقطع الزرد النضيد من الصباح الى الظهر، فثارت فر رأس دياب نخوة الرجال والهمة الكافية العلية، فسحب الدبوس من تحت فخذه وبرمه في يده وضرب الزناتي على رأسه، فطيرت جميع أضراسه فأدار رأس جواده وعول على الفرار من عظم الألم، وما عاد يدري كيف يتوجه، فلأجل نفوذ الأحكام قام دياب بعزم الركاب وأطلق عليه الرمح لأن الزناتي كان هاربا، فالتفت لكي ينظر الى دياب ان كان لاحقه فأصاب الرمح عينه ونفذت الحربة من قفاه، فتذكر الأمير دياب وقت قول ابنته نجيبة حين قالت له إطعنه بعينه، فمال أبو سعدى عن الجواد وعول على الوقوع، فسحب دياب السيف وضربه على هامه أرمى رأسه قدامه، فأخذ دياب الرأس على رأس السنان وغار هو ورجال وبني هلال على قوم الزناتي، فبدلوا أفراحهم بالكدر وولوا هاربين، وأما قرايب الزناتي فإنهم صاحوا الأمان ودخلوا واقعين على دياب، ورموا سلاحهم وطلبوا الأمان وأولهم كان العلام وطلبوا من دياب مكانا يقيمون فيه مع حريمهم، فأعطاهم مدينة الأندلس وما حولها، ورحل العلام وقومه والحريم والعيال، وقطنوا بذلك المكان، ورجع الأمير حسن والأمير أبو زيد وبنو هلال نحو تونس، أما دياب فإنه ملك تونس وأعطى عبده خليل الرمح، وأمره أن يضعه فوق تونس وينادي ـن الأمير دياب هو الملك وكل من لا يدخل تحت طاعته يقتل، ففعل العبد كما أمره مولاه، أما سعدى فقد لبست أفخر ملبوس وسارت تتمختر كأنها عروس، وأتت لعند الأمير مرعي وهو يتمشى بجناين القصر بالملابس الحريرية ومنتظر الفرج والتيسير فدخلت عليه سعدى وقالت له اعلم أيها الأمير أنه جاء الفرج وتعاهدت معه أن لا يأخذ غيرها ووعدته أن لاـاخذ غيره ولو قطعت بالسيوف، ثم ودعا بعضهما البعض وكل واحد ذهب الى حاله سبيله، أما الأمير دياب فأمر بتعليق رأس الزناتي على السور، وأمر بتنزيل رؤوس بني هلال ليدفنوهم وملك دياب تخت الزناتي وحاز الملك والمال والنوال وساق الخدم قدامه وأمر بإطلاق مرعي ويحيى ويونس وخلع عليهم وأرسلهم لعند أهلهم وجلس دياب على تخت الزناتي ولبس التاج وهو مصنوع من قديم الزمان ومرصع بالمرجان الأحمر والياقوت الأخضر ومنسوج بالدر والجواهر والذهب الأصفر واجتمعت حوله بنو زغبة، فلما سمعت سعدى بجلوس دياب على كرسي أبيها خافت وارتعدت فرائصها وخاب ظنها بمرعي وندمت حيث لا ينفعها الندم وتوجهت لعند الأمير دياب وترجته في دفن أبيها، فقبل طلبها وطيب خاطرها وأدخلها بين حريمه فأكرموها غاية الإكرام.

هذا ما جرى الى دياب وأما ما جرى الى الأمير حسن وأبو زيد وهما راجعان الى تونس، فقد سبقهما أناس وشاهدوا رمح دياب والمنادي ينادي بإسم دياب والعبد خليل حين رأى الأمير حسن وأبو زيد مقبلين، رجع شاور مولاه فقال له دياب إذهب وناد كما أمرتك، فرجع وصار ينادي لا سلطان الا دياب وكل من لا يدخل تحت رمحه يعدمه الحياة، فحين سمع حسن هذا الكلام قال كيف الرأي يا أبا زيد، فقال هينة يا حسن ندخل ولو ما شال الرمح فتقدم عبد الأمير حسن، وضرب الرمح قطعه نصفين، فضربه العبد خليل قطعه كما قطع الرمح، وأما حسن هجم على ديوان الزناتي، فوجد دياب جالسا على التخت وحوله أكابر بني زغبة والخدم والعبيد بين يديه والتاج على رأسه، فهجم عليه حسن وقال ما هذا يا دياب؟؟ أما كفاك مروري من تحت رمحك وتلبس التاج على رأسك وتريد أن ترثني وأنا حي وتعزلني من منصبي ورثة جدي وأبي؟! لا بد عن قتلك يا نحس! بعد هذا العمل، وإنحدف على دياب، فوقف أبو زيد والرجال بوجه حسن وقالوا يا مولانا إن دياب مخطئ ومنك المسامحة، فهذا كله جرى ودياب جالس على الكرسي غير عابئ به ولا بكلامه، فإزداد حسن حنقا وقال إتركوني حتى أقتل هذا الغاصب، فقال له دياب يا حسن أنت عندك هذه الشطارة، فلماذا ما قتلت الزناتي وملكت تخته؟ ولأي سبب أرسلت تتدخل علي أنت وأبو زيد وكل بني هلال حتى أنا قتلت الزناتي ومهدت لكم البلاد؟ فقال حسن: أنا والأمير أبو زيد ما أرسلنا وراك ولا أحد من جميع بني هلال إلا البنات وأبوك غانم، فقال دياب: المكاتيب عندي. فقال حسن: ليست المكاتيب مني، فتقدم أبو زيد وأنشد يقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
فمالك يا حسن سرحان هايش

تريد تقتل دياب يا بو علي
هو حامي ظعننا من كل طارش

لأنه جعل رمحد على باب تونس
الفعل يا أمير فعل طايش

حريمنا بعثوا البراقيع لإبن غانم
ليدعي أبو سعدة بدمه يشالش

جانا على خضرا وجندل عدونا
وأخذ بثارنا في ماضيات الطرايش

قوموا بنا نقسم بلاد الزناتي
ونادوا بالإطمئنان والكل عايش




فلما فرغ من كلامه تقدم إلى دياب وقال له: يا إبن العم العين لا تعلو على الحاجب، قم حتى نركب حسن على الكرسي ونقسم البلاد، فقام دياب مسك حسن مع أبي زيد وأجلسوه على التخت، ثم تقدم الأمير دياب وأشار يقول:

يقول الفتى الزغبي دياب إبن غانم
والنار من جوا الضلوع شجونها

يا أمير حسن لولا دياب إبن غانم
غدا ظعنكم بحرب الزناتي رهونا

ولما قتلت الهيدبي وأنت شاهد
وأبو زيد حاضر كيف تنكروها

طعنته رميته والقنا يقرع القنا
بيض العذارى شاخصات عيونها

وملكتم نجد العدية وأرضها
وقفت بها بيض العذارى بفتونها

تكاونت أنا والزناتي خليفة
وما تعلم الأرواح من هو زبونها

وقد راحت الخضرا وشت بها النيا
من طول عمري من العدا أصونها

وجاؤوني بنو هلال وعامر
وجاؤوني بنات هلال يندبونها

وجابوا القماش الحرير الغالي
وجاؤوا الى الخضرا يكفنونها

حفرت لها في الأرض قامة ومثلها
خايف وحوش البر ينهشوها

إن مت بالله إدفنوني جنبها
في وسط روضة موضع ما تدفنوها

عسى نلتقي يوم القيامة جميعنا
وأقبل الخضرا وأمسح عيونها

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:24 PM
الجزء الثامن عشر من تغريبة بني هلال


( قال الراوي ):

فلما فرغ دياب من كلامه فإعتذر له الأمير حسن وقال: يا أمير دياب الخطأ يقع من قلب الصواب، والخضرا خذ عوضها مدينة تونس من غير حساب، وأقسم لك ثلث الغرب الذي تريده، وأنا مثلك وأبو زيد مثلي، فحضروا جميعهم في الديوان وتقاسموا الجميع بالسوية من دون تونس، فهي للأمير دياب، وانصرفوا على هذا الحال، أما الأمير مرعي فإنه اجتمع مع أبيه وسلم عليه وقامت الأفراح وذهبت الأحزان وعملوا الولائم وذبحوا الأغنام الى الخاص والعام ونادوا بالأمان في جميع البلدان وسلطنوا العلام على قابس ومكناس وتلك البلاد، وبعد ذلك أمر حسن ببناء قبة عظيمة على قبر الزناتي وأمر بإحضار الحفارين والنجارين والدهانين وجميع أرباب الصنائع أن يبذلوا المجهود في تزيين تلك القبة على قبر الزناتي، وأن يكتبوا عليها أسماء الله الحسنى، فزينوها بالفضة والذهب وصنعوا له مشهدا ومزارا وتقاسم البلاد حسن وأبو زيد ودياب، هذا ما جرى من أمراء بني هلال.

وأما ما كان من قوم الزناتي والأمراء وائل ومحمود وزائد وغيرهم من الحكام الذين يحكمون على سبعة تخوت بلاد الغرب والأربعة عشر قلعة، فلما سمعوا بتسلطن العلام وقتل الزناتي، هاجوا وماجوا واجتمعت القروم من جميع جزائر الغرب، وأتوا إلى ملكهم ناصر، وهو أخو خليفة، وكان حاكما على الأربعة عشر قلعة وعلى سبعة تخوت بلاد الغرب فدخلوا عليه وقبلوا الأرض بين يديه وأخبروه عن بني هلال وعن قتل خليفة أخيه، فهاج وماج واسودت الدنيا في عينيه وحالا أمر بتجهيز العساكر والأبطال وأرسلهم إلى العلام ليتهيأ إلى حرب العربان، فلما وصلوا اليه قبلوا الأرض بين يديه وبكوا على ملكهم خليفة وأظهروا له الحزن والهم والكدر، وقالوا يا ذلنا من بعده والله لنأخذ بالثأر ونكشف عنا العار ونرجع تونس بالسيف البتار، لأنه أرسلنا إليك الأمير ناصر أخو خليفة حتى تتهيأ للحرب والقتال، فكان جواب العلام أنني كيلت من الحروب وليس لي جلد على ملاقاة الأبطال والرجال، فافعلوا ما بدا لكم وأنا أمدكم بالأموال، فأرسلوا يعلمون ناصر أخو خليفة، ولما بلغه الجواب أخذ في تجهيز العساكر في الحال من الغرب الجواني، وما مضت مدة من الزمان حتى تجهز عنده ستمائة ألف مقاتل بين فارس وراجل، فأتى بهذا العسكر الجرار وقصد بني هلال، وما زال سائرا حتى قارب أطراف تونس.

هذا ما كان من هؤلاء، وأما ما كان من دياب فإنه دخل يوما على قصر خليفة فوجد سعدى تبكي وتنوح من فؤاد مجروح على فقد أبيها وعلى فراق مرعي لما كان عندها من الحب والهيام والشوق والغرام، فحياها بالسلام ومال إليها وزاد فيها غرامه وأراد أن يأخذها زوجة له، فقال له طيبي نفسا وقري عينا حيث أنك صرت في ملكي وتحت حكمي، وأريد أن آخذك لي زوجة، وأشار يقول:


يقول أبو موسى دياب بن غانم
ولي عزم في الهيجا كليث رهيس

ولي عزم أمضى من حسام إذا سطا
وماني ردي الأصل ولا خسيس

ألا فأبشري يا سعدا بإبن غانم
أنا صرت حاكم في دريد وقيس

ألا يا سعدا قري وافرحي
وأنا صرت بعلك دون كل رئيس

فلا تحزني من بعد خوفك وافرحي
أنا دياب الخيل بوم أنكيس



فلما فرغ من كلامه اغتاظت غيظا شديدا وأشارت تقول:

تقول سعدا بنت سلطان تونس
سطا البين وتعدى علينا ومال

يا زمان المضى وراح وانقضى
تعال الينا يا زمان تعال

أنا كنت أميرة بنت أمير وأميرة
وقصري على شرافتين طوال

ذنبي برقبتك يا دياب بن غانم
قتلت والدي بالصارم الفصال

تقتله وتريدني لك حليلة
فهذا منك يا دياب ضلال

فإن أخذتني يا أمير تعمى نواظري
فاني اعجل لروحي بشنق حبال

ولا الناس يقولوا أخذت عدوها
ولا أنسبك لي يا دياب رجال

ولا أريد الزغبي دياب بن غانم
الا مقطع فوق رؤوس جبال



فلما فرغت سعدى من كلامها، اسودت الدنيا في عينيه، وقال لها تتجاسرين علي في هذا الكلام يا بنت اللئام، وحينئذ أمر عبيده بضربها وأن يشغلوها الأشغال الشاقة ويلبسوها الملابس الخشنة ويطحنوها بالملح، ففعلوا ما أمرهم به مدة عشرة أيام، فدخلت عليها نافلة أخت دياب، فلما رأتها على هذا الحال سألتها عن حالها وما جرى لها، فأخبرتها سعدى عن ظلم الأمير دياب.

فما أتمت سعدى كلامها الا ودياب صار أمامها، وكان قد سمع منها الخطاب، لأنه كان واقفا خلف الباب، فأمر غلمانه أن يزيدوا عليها بالأشغال، ففعلوا كما أمر مدة خمسة عشر يوما وهي تبكي وتنوح، وكان أكثر بكاها على مرعي لأنه نسيها وما فكر فيها، وكان عندها عبد من عبيد أبيها، اسمه مرجان، قالت له مرادي أرسل كتابا الى السلطان، فقال لها على العين والرأس، فلما فرغت سعدى من الكتاب، طوته وأعطته للخادم فأخذه وسار به الى حسن، ففضه وقرأه، فحينئذ اغتاظ من دياب وأعلم أبا زيد بما حصل مع سعدى من الأول الى الآخر، فقال أبو زيد ما تقدر تجيب سعدى الا بواسطة قسمة البلاد، وفي اليوم الثاني ركب الأمير حسن وأبو زيد مع جماعة من الفرسان، وتوجهوا نحو دياب الى أن وصلوا اليه وسلموا عليه، فاستقبلهم بالترحاب والاكرام وأجلسهم بأعلى مقام، وصار يرحب بهم ويقول:

يقول الفتى الزغبي دياب بن غانم
أهلا وسهلا بأصحاب الدار

أهلا بمن قد شرفوا لمحلنا
أبو زيد والسلطان والأمار

أهلا بسلطان الأعارب جميعهم
مقري اليتامى في سنين سعار




( قال الراوي ):

فلما فرغ دياب من كلامه، شكروه على قوله ونظامه وبقوا في ضيافته ثلاثة أيام، وفي الوم الرابع قال حسن لدياب مرادنا نقسم بلاد الغرب، فقال دياب الأمر لأبي زيد، فقال أبو زيد: قدامكم مصاعب ومتاعب كثيرة، فانكم ملكتم تونس وهي من جملة ممتلكات، والباقي سبعة تخوت يجلس عليها سبعة ويحكمون على أربعة عشر قلعة.

فلما فرغ أبو زيد كلامه، تعجبوا من سعة اطلاعه وحسن نظامه، وبينما هم في الكلام اذ أقبل عليهم العبد مرجان ابن أبو القمصان مخضبا بالدماء ومهشم الأعضاء، فسألوه ما الخبر؟ فقال لهم أن الشباب قد هلكت وقد نزلت عليهم قوم الأمير ناصر أخو الزناتي الذي من تحت يده سلاطين، سبعة تخوت بلاد الغرب، فان لم تدركهم بسرعة ذاقوا الوبال، فلما سمعوا هذا الحديث اغتاظوا الغيظ الشديد، وفي الحال دقت طبول الحرب واجتمع عند الأمير حسن فرسان الطعن والضرب، فأخبروهم بما حصل، فهاجت الأبطال واستعظمت تلك الأحوال وركبت جموع بني هلال للحرب والقتال، وفي مقدمتهم الأمير دياب والأمير أبو زيد ليث الغاب، ومازالوا سائرين يقطعون البراري والقفار.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:25 PM
الجزء التاسع عشر
قصة الأمير صبرا




( قال الراوي ):

هذا ما كان من هؤلاء، وأما ما كان من شباب بني هلال وهم موسى بن دياب وصبرا ابن أبي زيد وأخواه شيبان ومخيمر، فانهم كانوا خرجوا للصيد والقنص ومعهم عشرة من أولاد الأمراء، وبقوا مدة ثلاثين يوما يجولون في البراري والقفار والسهول والأوعار، قتنصون من الوحوش والطيور، وبينما هم بالصيد اذ وصلوا الى عين توزر، فنزلوا عن الخيول لأنهم كانوا تعبانين وجلسوا على شاطئ النهر، فقام البعض منهم يوقد النيران والبعض يذبحون الغزلان وهم في أرغد عيش وأهنأ بال الا وقوم لأمير ناصر والعلام مقبلين عليهم وهم مثل الجراد المنتشر لا يعرف لهم أول من آخر، وكان السبب بقدوم ذلك العسكر هو أن الأمير ناصر والجايلي ابن مقرب أتوا ليأخذوا بثأر الزناتي، وأخذوا معهم العلام بالحيلة لأنه كان مختبرا تلك الأراضي ولسبب التقادير صادف طريقهم عين توزر، فالتقوا بشباب بني هلال، فأحاطوا بهم من كل جانب، صاحوا دونكم والخيل قبل ما تدركنا الأعداء، فحينئذ ركبوا ظهور المهارة وتقلدوا بالسيف والنصال، وهجموا على تلك الفرسان ونزلوا عليهم بضربات قاطعات تهد الجبال الراسيات، وفرقوا الميامن والمياسر حتى ما كان الواحد منهم يعرف الأول من الآخر، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وبقوا على هذا الحال لحين الزوال.

فافترقوا عن بعضهم وتجمعوا في تلك الأرض، فوجدوا صبرا مجروحا وشيبان أخو صبرا مقتولا ومرجان بن أبي القمصان مفقودا، وبقوا يحرسون بعضهم حتى الصباح، رأوا عساكر الأعداء حايطينهم من كل جهة، فصاروا يشجعون بعضهم البعض الى الصباح، ركبوا ظهور الخيل وتقلدوا بالرماح والنصال وهجمت عليهم قوم الأمير ناصر، فالتقوا الأبطال والجنود كأنهم الأسود، ومازالوا في أخذ ورد قرب وبعد وضرب شديد مدة أيام، فاستقتل شباب بني هلال وهجموا على جيش الجابلي من كل جهة ومكان، وأبلوهم بالذل والهوان ونزلوا عليهم في طعنات قاطعات، فقتلوا من عساكر الأمير ناصر مقدار خمسة آلاف فارس، ثم كلت الشبان وقل عزمها واضمحلت قوتهم فأحاطت بهم عساكر الأمير ناصر من كل مكان، ونزلوا عليهم بالضرب الشديد وكانت وقعة عظيمة، لأن قوم الأمير ناصر كانت تأتيهم النجدات من العلام ومن السبع تخوت، وقتل بتلك الواقعة ثمانية من شبان بني هلال، وقبضوا على الأمير صبرا وقادوه بالسلاسل والأغلال وأحضروه قدام العلام، فلما رأى صبرا أمر باطلاقه لأنه كان تعاهد مع الأمير أبو زيد فلما لحظ الأمير الجابلي فعل العلام قال يا علام لماذا هذه المطاولة؟ اقتله بثأر ابن عمك من لحمك ودمك، وقد قتلوا منكم أضعاف ما قتلتم منهم، فسحب الجابلي الخنجر وضرب صبرا في صدره فقتله، وقال للفرسان الذين حواليه دونكم ورفاقه فوجد موسى ابن الأمير دياب مع جملة من الفرسان ونازلين عليه بضرب مثل زح المطر وهو يدافع عن نفسه من حلاوة الروح ويقول يا أبا زيد يا حامي الميدان، لو كنت حاضرا ويا دياب لو تراني تخلصني من هؤلاء الأنذال، وبينما هو في ذلك الحال وكادوا أن يقتلوه، الا والسيوف لمعت والعساكر تقدمت، وفي أولهم الأمير دياب في بني زغبة وخلفه الأمير أبو زيد في بني زحلان، وكان السبب في مجيئهم أن مرجان أبا القمصان أخبرهم بذلك الشأن، وعند وصولهم رأوا الأرض قد ملئت بالطول والعرض، وصاح الأمير دياب على الأبطال وهجم على الأعداء من الميمنة وأبو زيد من الميسرة، وبقية الرجال هجموا على العداء بقلوب قوية، وتقدم الأمير سرور ابن القاضي نشل الأمير موسى من بين الأعداء وهنأه بالسلامة، فأخبره عما حصل لهم وعن قتل صبرا وشيبان، ثم ارتدوا على الفرسان بالسيف والسنان والخيل غايرة والرؤوس طائرة والدماء فائرة، ودارت على قوم الأمير الجابلي الدوائر الى أن أقبل الزوال فبات بنو هلال رالأرض يحرسون بعضهم البعض الى أن أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح وأشرقت االشمس على الروابي والبطاح، فوجدوا الأعداء حايطينهم من كل جهة ومكان ومرادهم أن يكسبوهم لأنه قد أتتهم نجدات من جزائر الغرب وتلك الجهات، وسطوا على بني هلال من اليمين والشمال ونزلوا عليهم بطعنات قاضيات وكثرت الأهوال على بني هلال وشتتوهم في تلك الروابي والجبال حتى انكسرت بنو هلال سبعة مراحل الى الوراء، فلما أمسى المساء اجتمعت الفرسان عند الأمير دياب وقالوا له كيف الرأي يا أمير دياب؟ فقال لهم الرأي عند أبي زيد، فحينئذ تفكر أبو زيد بمقتل ابنه صبرا، فهاجت في رأسه نخوة العرب الجاهلية وصاح على الفرسان ان شاء الله، ننزل اليهم بالسيف البتار ونلحقهم بالدمار ونأخذ منهم ثأر الأمير صبرا، وصار يحثهم على قتل الأبطال ويقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
بدمع جرى فوق الخدود سيال

الآن طاب الطعن في سوق القنا
بضرب الشواكر وسيوف نصال

ألا فارجعوا ردوا الأعادي بعزمكم
بعزم قوي يهلك الأبطال

لاقوهم بالسيف وبيدوا جموعهم
وخلوا دما الأعدا كسيل سال

وخذوا بثار الأمار جميعهم
بضرب السيف وطعن النبال



فلما فرغ أبو زيد من كلامه، ثارت في رؤوس الأبطال نخوة الرجال، وفي الصباح اصطف الجيشان والتقى العسكران، فانحدر أبو زيد الى ساحة الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فسقط اليه الأمير الجابلي كأنه قلة من القلل أو قطعة فصلت من جبل، وصدم أبا زيد صدمة تزعزع الجبال فأشار أبو زيد يقول:

على ما قال أبو زيد الهلالي
أنا ليث المعامع والنضال

أنما ليث الحروب بكل يوم
أفرجها اذا وقع القتال

ألا يا جابلي فاسمه لقولي
ورد على قصيدي مع مقالي

ستعلم أنني ليث قدير
مبيد الخيل هزام الرجال

ولي قلب كما الصوان ثابت
أكيد الخصم حقا لا أبالي

وحق الله خلاق البرايا
اله دائم في الملك عال

لأقطع جنسكم يا آل حمير
وأفي قومكم عند القتال

وآخذ ثار شيبا وصبرة
وأجري دمكم فوق الرمال



فلما فرغ أبو زيد من كلامه انحدف عليه الجابلي من غير رد جواب وداما في الحرب والصدام ساعة من الزمان، وكلما فتح أو زيد بابا من الحرب يسده الجابلي حتى سد عليه اثنين وسبعين بابا، وبقيا على هذا الحال الى وقت العصر، فصاح الجابلي على أبي زيد وضربه بالرمح راحت الضربة خائبة بعد أن كانت صائبة، فثنى عليه بالسيف، فأخذها بطاقة البولاد فانكسر السيف، فحينئذ تعدل أبو زيد على ظهر الحمرا وقال له خدها من الأمير أبي زيد، وضربه بالسيف، فحكم على الرقاب فأخذ الرأس والخاصرة وسقط السيف على الجواد فقطعه قطعتين، فمالت الأبطال عى الأبطال والفرسان على الفرسان من اليمين والشمال، حتى ضعفت رجال الجابلي، فحل بهم الدمار وركنوا الى الهزيمة والفرار، ولازالت بنو هلال تضرب فيهم بالسيف البتار الى أن أوصلوهم لقرب الديار، وكان قد ولى النهار وأقبل الليل فباتوا يحرسون بعضهم الى الصباح، فنزل الأمير دياب الى الميدان وعرض وبان وطلب مبارزة الفرسان، فانحدر اليه الأمير ناصر وأخذوا في الحرب والصدام الى نصف النهار فغار الأمير دياب على الأمير ناصر وضربه بالسيف، فخلا منه فأتت على رأس الجواد فبرته كما يبري الكاتب القلم، فوقع ناصر على الأرض، فانحدر العلام أمام الأمير دياب، بقلب لا يهاب، فنزل الأمير أبو زيد الى العلام خوفا من أن يقتله الأمير دياب، لأنه كان متعهدا هو واياه في سنة الريادة، فصار يتجاول هو واياه، فضرب الأمير أبو زيد رأس جواد العلام فأوقعه على الأرض فأتت قومه وأركبته جوادا آخر وصار يتجاول هو واياه الى وقت الغياب،وبقيا على هذا الحال عشرة أيام وكان كل يوم يقتل له جوادا في آخر النهار حتى ضجرت العرب من قتالهما، وحينما افترقا عن القتال، أتت الجازية الى الأمير أبي زيد، وقال له: لماذا هذه المطاولة أيها الأمير وصبرا قد قتل بواسطة العلام، وقد قتلوا منا تسعين أميرا؟ ثم أنشدت تقول:

تقول فتاة الحي الجازية أم محمد
ألا فاسمعوا لي يا هلال الأكابر

أبو زيد للعلام ينزل يحاربه
من الصبح لما الليل يسود عاكر

فينزل يحاربه ويقتل جواده
ويترك العلام بالأرض حاير

لأنه حالف عمره ما يخونه
ومتعاهد واياه والعهد ظاهر

ولو يحاربه مدى العمر في الوغى
لم يقتله أبدا ولا له خاطر

ولو مات منا كل يوم قبيلة
فما زال أبو زيد على العهد ساير

ألا فاسمعوا لي يا رجال جميعكم
غدا ان أتى العلام عالقا غاير

ورأيتم أبو زيد الهلالي يحاوله
فصيحوا على العلام وارموه شطاير

وادعوه على الغبرا قتيل مجندل
في ثأر صبرا عز قيس الأكابر



فلما فرغت الجازية من كلامها والأمراء يسمعون نظامها، انتبهوا الى ما كانوا عنه غافلين، فحينئذ اجتمع عشرة من بني هلال وضربوا الرأي مع بعضهم أنه في الغد اذا نزل أبو زيد للعلام، فليجتمعوا العشرة وليضربوا العلام بعشرة رماح سوى حتى لايقع اللوم من أبي زيد على أحد منهم، لأنه متعاقد هو والعلام، ففي ثاني الأيام برز العلام الى الميدان، فبرز اليه الأمير أبو زيد، فلما رأوا من أبي زيد هذه الأحوال، هجموا على العلام وضربوه بالعشرة رماح فوقع على الأرض، فحزن الأمير أبو زيد وتقدم اليه وقبله بين عينيه وكان قد أقبل الظلام، فدقت طبول الانفصال ورجع الأمير ناصر وقومه في حزن عظيم على فقد العلام، وأما أبو زيد فحمل العلام الى الخيام، فحينئذ أفاق من غشوته، وتنفس الصعداء وسلم الروح، فحزن أبو زيد عليه ثم دفنوه باحتفال عظيم إكراما لأبي زيد، فلما سمع قوم ناصر بموت العلام ولوا الأدبار وركنوا الى الهزيمة والفرار، فتبعهم بنو هلال مدة عشرة أيام حتى شتتوهم في البراري والقفار، وبعد ذلك اجتمع أبو زيد مع دياب وبقية الأمراء، فعملوا مشورة فقال أبو زيد لدياب أننا صرنا في نصف بلاد الغرب وقد كثرت أعداؤنا ومالنا معين على المغاربة، ونخاف أن يعملوا علينا بحيلة ويهلكونا لأننا وحدنا بهذه الديار وأمامنا أربعة عشر قلعة محصنة، فماذا يكون عندك من التدبير؟ فقال الرأي عندي أن نخبر الأمير حسن بهذا الشأن، ونوصيه في المال والعيال، فقال أبو زيد لابأس بذلك أيها الأمير، فحينئذ أرسل أبو زيد كتابا يعلم الأمير حسن بقتل بقتل ولده صبرا ورفاقه وقتل الجابلي، وأن العلام خان العهد والميثاق فقتلناه وعن الحروب التي حصلت لهم وسلم الكتاب للنجاب، فأخذه وسار حتى وصل الى حسن وسلمه الكتاب فقرأه وعرف معناه، وقال انا لله وانا اليه راجعون، وأحضر قلما وقرطاسا وجعل يقول:

يقول حسن الهلالي أبو علي
والنار في قلبي تهب وتشتعل

حركت عندي يا هلالي ساكنا
وأصبحت من هذا الكلام في وجل

فان احتجت لدياب بالعجل
تلقيه يجيلك مثل قطعة من جبل

وان احتاج اليك أنت فروح له
في عسكر من فوق خيل بالعجل

وأنتم سيروا يا سلامة فاني
داع لكم طول الزمان ولم أزل

ان شاء اله العرش أن ينصركم
ينجيكم باللطف وبلوغ الأمل

يا هل ترى عاد الزمان يلمنا
ونعود لمة وشمل مشتمل



فلما فرغ الأمير حسن من تحرير الكتاب، أرسله الى أبي زيد، فحين وصوله قرأه أبو زيد على الأمراء والفرسان، ثم قال لدياب أنت تتوجه نحو كويج وتلك القلاع، وأنا أتوجه نحو قابس وتلك القلاع، بشرط أن يكون علمكم معي وعلمي معكم، فان ملكت قابس لا أزحل حتى أعلمك ويكون الاتفاق على هذه الحال حتى نملك الأربعة عشر قلعة، فحينئذ أمر أبو زيد بدق الطبول ونفخ الزمور، فركبت الفرسان الخيول وتقلدت بالرماح والنصول فركب أبو زيد بتسعين ألف من بني الزحلان، وتوجه الى قابس، وركب دياب في بني زغبة وسارو الى كويج، فنصبوا الخيام ورفعوا الأعلام، فتب دياب الى وائل ملك كويج.

فلما فرغ دياب من تحرير الكتاب، أعطاه للنجاب وطلب منه رد الجواب، فتوجه النجاب نحو الأمير وائل، فلما وصل اليه أعطاه الكتاب، فأخذه الأمير وائل وقرأه وعرف مضمونه ومعناه، فاغتاظ الغيظ الشديد وكتب الى الأمير دياب:

يقول الفتى وائل بعين وجيعة
ونيران قلبي اشعلت بالضرائم

أيا غاديا مني على متن ضامر
سلم على الزغبي دياب بن غانم

وقل له وائل أرسل لك كتابه
بشعر ارتجالي وقول ملايم

أرسلت تهددنا بقتل جموعنا
والهلس بين الناس مثل العلاقم

نحنا أمارة عندنا خيل مثمنة
ودروع ثقيلة وسيوف صوارم

ونحمل على الفرسان في حومة الوغى
نخلي دما الأعداء كما بحر عايم

فكم أمير قد جاء يريد حروبنا
فيغدي قتيلا ويروح عادم

أما طلب منك ثأر خليفة
لأنه ابن عمي وأخذ الثأر لازم

غدا نلتقيكم في حومة الوغى
ونخلي الحرب ليل ونهار قايم

فان قتلناكم نلنا مرادنا
وأخذنا ثار خليفة والنصر قايم

وان كان كسرتونا فالسعد أتاكم
والأمر لله مالك كل العوالم



فلما فرغ الأمير وائل من نظامه، طوى الكتاب وأعطاه الى عبده، فسار لعند دياب وأعطاه الكتاب، ففتحه وقرأه ثم قال للعبد أخبر سيدك أنه ليس عندنا جواب غير الحرب، فتوجه العبد وأخبر سيد بما أجاب الأمير دياب، فلما سمع وائل ذلك الكلام أمر بدق طبله وتحصين بلده بالمدافع والأبطال، ولبس درعه المانع وتقلد بسيفه القاطع، وعلا ظهر الحصان كأنه فرخ جان، وركبت الفرسان ظهور الخيل، وتقلدت بالرماح وتأهبت للحرب والقتال، وانحدر الأمير وائل الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، قبرز اليه دياب فأشار الأمير وائل يقول:

يقول الفتى وائل على ما جرى له
ونيران قلبي أشعلت في لهيبها

أما فارس الفرسان في حومة الوغى
بيدي أسقي القوم كاس عطيبها

أنتم تعديتم وجيتم بلادنا
لأرض كويج قصدكم تملكونها

حولي فوارس يصدع الصخر عزمهم
تقول سباع واثبة عانصيبها

فارجع يا دياب والا قتلتكم
طعنات وائل مثل نار في لهيبها



فلما فرغ من كلامه أشار دياب يهدده فانطبق عليه وائل كأنه فرخ جان والضرب والقتال يشيب رؤوس الأطفال الى أن انتصف النهار، انطبقت الجيوش على بعضها البعض،وانتشب القتال والطعان، وجرى الدم وسال وصارت القتلى كالتلال، فكانت وقعة مهولة انتصر فيها قوم وائل، فانهم هجموا على قوم دياب وأبلوهم بأعظم مصاب وشتتوهم في تلك الأوعار، ولما ولى النهار ارتدت الفرسان عن بعضها ونزلت قوم دياب المنهزمين في جهة من الأرض، وصاروا يجتمعون، وقام دياب وجمع أكابر قومه ومن يعتمد عليهم وصار يحمسهم.

فلما فرغ دياب من كلامه هاجت برأس الأبطال نخوة الرجال وفي ثاني الأيام برزوا الى الميدان وهجموا على بعضهم، فكثرت الضجات وعلت الصيحات فما عدت تنظر الا رؤوسا طائرة ودماء فائرة والفرسان غائرة ودارت على قوم وائل الدائرة، فقتل منهم عشرة آلاف ثم ولوا هاربين والى النجاة طالبين، فتبعهم قوم دياب وشتتوهم في البراري والهضاب وأدخلوهم البلد وتقدم الوزير دهقان وقال غدا أنزل الى الميدان وأكفيك شر هؤلاء العربان، وأما قوم دياب فسألوه عن خصمه فقال لهم أنه فارس شديد وقرم عنيد ولكن غدا أنزل اليه وآخذ روحه من بين جنبيه، وفي الصباح تقلدت الجيوش بالرماح ونزلوا الى الميدان فانحدر الوزير دهقان وطلب مبارزة الفرسان فنزل اليه أمي من أمراء بني هلال اسمه المهاب، فقال له دهقان من أنت؟؟ فقال له أنا المهاب وصنعتي حداف الرقاب، فحينئذ انطبقا على بعضهما كالأسود وتجاولا حتى كلت منهم الزنود وحصل منهما ضربتان ماضيتان كان السابق دهقان فضرب المهاب على رأسه شقه الى تكة لباسه فنزل اليه فارس فقتله والثاني جندله والثالث محقه وما زال يجندل فارسا بعد فارس حتى جندل خمسين فارسا وأخيرا نزل اليه دياب فتجاولا ساعة من الزمان فلاصقه دياب وضايقه وضربه بالسيف على هامه رمى رأسه قدامه، وحينئذ دقت طبول الانفصال ورجع وائل حزينا.

فوقع الوهم في قوم وائل من دياب الذي لما رجع الى الخيام سألوه عن خصمه، فقال لهم بطل شديد وقرم عنيد، وفي الصباح دقت الطبول ونفخت الزمور وركبت الفرسان، وانحدروا الى ساحة الميدان، فالتقى دياب بوائل وانطبقا على بعضهما كأنهما جبلان، وتكسرت بأيديهما الرماح وتضاربا بالسيوف الصفاح ولعبا ألعابا حيرت الفرسان، وبعد ذلك ضرب وائل دياب الرمح، فغطس تحت بطن الشهبا، فراحت الضربة خايبة فتعدل دياب وضرب وائل بالسيف على هامه حط رأسه قدامه، فوقع وائل قتيلا وفي دمه جديلا، فلما رأت قوم وائل أن ملكهم قتيل ولوا الأدبار وركنوا الى الهزيمة والفرار، فتبعهم دياب بقومه الى أن دخل البلاد وجلس على كرسي المملكة، ثم كتب الى السلطان حسن يخبره بما جرى وصار، فلما وصل الخبر اليه، قرأ الكتاب على رؤوس الأمراء والسادات، ففرحوا فرحا شديدا وعملوا عراضة عظيمة لها قدر وقيمة، واكراما لدياب الذي جدد الهمة وتوجه من كويج الى ناحية برج الدمع، فأمر العسكر بالنزول ونصب الخيام ورفع السناجق والآعلام، وأشار يهدد الأمير بكار سلطان برج الدمع، وكان جالسا في الديوان، واذا بجملة فرسان من كويج دخلوا عليه وقبلوا يديه فسلم عليهم وأكرمهم وسألهم عن قدومهم فأجابه أحدهم يقول:

يقول الفتى قائد على ما جرى له
ونيران الحشا زادت شعالي

على ما صاب قلبي من هموم
وأمور ما رأيت لهما مثالي

أتانا قوم ما يحصى عددهم
يهزوا في الرماح وفي العوالي

ركبنا والتقيناهم جميعا
بطعن يورث الأعدا خبالى

كبير القوم يسمى ابن غانم
أمير دياب شيال الحمال

ضرب وائل وألقاه قتيلا
وقد أردى الوزير على الرمال

فولينا هزامى من لقاهم
ولا طفنا لهم أبدا قتال



فلما فرغ قائد من نظامه، حزن الأمير بكار على وائل ابن عمه واستعان بالله على قتل دياب، وبينما هم كذلك أقبل نجاب على بكار وسلمه الكتاب، ففضه وقرأه وفهم ما حواه أمر العساكر أن يكونوا تحت الطلب، وعند الصباح أمر بدق الطبول للحرب والقتال، فحضرت الفرسان وكبوا ظهور الخيول وسار بهم الى عساكر دياب، فلما وقعت العين على العين نزل الملك بكار فصال وجال ونادى بأعلى صوته:

هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ لا يبرز لي كسلان ولا عاجز، فما أتم كلامه حتى دياب قدامه، فأشار الملك بكار يهدد دياب.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:26 PM
قصة السبع تخوت

فلما فرغ من كلامه هجم دياب على الملك بكار واصطدما صدام الأبطال، فانجرخ دياب ووقع على الأرض، فأراد أن يكمل عليه، فحصله الأمير محمود بن دياب وأسرع الرجال وحملوه من الميدان الى المضارب والخيام، وبقي محمود يقاتل الى قرب الزوال، فرجع الى أبيه فرآه قد أحضر الحكيم الهندي، فوضع المرهم وقطب الجرح وقال لقد زال الخطر، وفي الصباح نزل محمود للميدان فنزل اليه بكار ومازال هو واياه في حرب وصدام مدة سبعة أيام، وفي اليوم الثاني نزل الميدان فتطاعنا بالرماح وتضاربا بالسيوف الصفاح، حتى زهقت الأرواح، ومازالا في أخذ ورد وقرب وبعد، فتطاولت لهما الأعناق وشخصت لهما الأحداق، الى أن بدرت من الاثنين ضربتان قاطعتان، فكان السابق بكار فغطس الأمير محمود تحت بطن الجواد، فراحت الضربة خائبة بعد أن كانت صائبة، فاعتدل الأمير محمود على الجواد وضرب الأمير بكار بالسيف على رأسه، فشقه نصفين، فصاح دياب عليهم: أيها الأبطال؟

وهجم مع بني زغبة على الأعداء وأبلوهم بالذل والويل، ودخلوا البلد وجلس دياب على الكرسي واستلم الأموال، ثم أمر العساكر بدق الطبول وركب الخيول، فركبت الفرسان وسار قاصدا برنيجة وتلك الأقطار، فلما وصل برنيجة نصب الخيام ثم كتب يطلب عشر المال من الملك زايد.

فلما فرغ دياب من الكتاب، أرسله مع نجابه الى ملك برنيجة الذي رأى مناما مزعجا، فنهض مرعوبا وأمر باحضار الرمال مسرور، فلما حضر قال له أنني رأيت مناما مهولا، وأشار يقول:

يقول الملك زايد بقول صادق
كلاما يؤرخ في الكتب بسطور

رأيت مناما أبدل اللذة والهنا
بغم وحزن دائما وكدور

حلمت أني في واسع البر والفلا
ملقى طريحا ودمائي تفور

وفوقي دياب مثل سبع كاسر
وبقيت معه في الخلا مأسور

ضربني ضربة جاءت علي كأنها
مدفع خرج من وسط برج وسور

فرحت مرمي على الأرض منطرح
وأضحى دمي على التراب بحور

فاضرب يا رمال رملك بالعجل
وخبر كلام الصدق يا مسرور



فلما فرغ الملك زايد من كلامه والرمال مسرور يسمع نظامه، ففتح كتب الرمل وقال له أعطني الأمان يا ملك، قال عليك الأمان، فأشار الرمال يقول:

يقول الفتى الرمال فيما قد جرى
وعبرات عيني على الخدود حذور

تقول أنك كنت في البر والخلا
وسبع كاسر قد أتاك يزور

فارس عرمرم يقرع الخيل بالقنا
يخلي الدما تجري شبيه نهور

يسمى أبو موسى دياب بن غانم
فارس صميدع في اللقا مشهور

يجينا بقومه وينزلوا بأرضنا
ونبقى معاهم في بلا وشرور

تتكاون أنت وياه في حومة الوغا
وتمشي معه يا ملك مأسور

ويظفر علينا يا ملك برجاله
ويدعي الفوارس في عميق قبور

ويملك قلعتنا ويأخذ أموالنا
ويسبي حلايلنا وكل قصور

فهذا منامك يا أمير مؤكد
من يستطيع أن يدفع المقدور؟؟



فلما فرغ الرمال من كلامه، توجه الملك الى الديوان وأخبرهم بالمنام، وقال لهم كيف العمل؟؟ فقال الوزير ماجد أن هذا الفارس قتل الأمير وائل ملك كويج وقتل الملك بكار حاكم برج الدمع وهو قاصد الينا فالأوفق أن تسلم له المال والخيل والجمال والا يبيد عساكرنا ويهلك أبطالنا، لأن معه تسعين ألف فارس من بني زغبة، فلما سمع الملك زايد هذا الكلام، صاح به ويلك يا جبان، تخوفني من حرب دياب وتظن أن رجالنا وفرساننا جبناء، فوحق ذمة العرب وشهر رجب‍ ؛‍ ما أترك أحدا ينزل الى حربهم وقتالهم، بل أنا أنزل اليهم، ثم ضرب الأمير ماجد على هامه فقتله، فشالوه ودفنوه، وفيما هم في ذلم الحديث واذا بنجاب الأمير دياب دخل الى الديوان ووقف بين يدي الملك وناوله الكتاب، فلما فضه وقرأه اغتاظ الغيظ الشديد وقال للرسول قل لدياب ما عندي جواب سوى الحرب، فذهب الرسول وأخبر مولاه دياب، فاغتاظ الغيظ الشديد وأمر بدق الطبول، فاستعدوا للقتال وساروا قاصدين الميدان، وأما الملك زايد فتجهز الى الحرب والطعان وسار الى خارج البلد، واذا بفرسان الأمير دياب تظهر كأنها أسد الغاب، فلما التقت العين بالعين نزل الأمير زايد الى الميدان، فصال وجال وطلب مبارزة الفرسان، فانحدر اليه الأمير دياب فاشار الملك زايد يهدده، فقال له الأمير دياب: يا زايد خصمك لا يروعه كلام ولا يهزم من صدام.

بعد ذلك التقى البطلان كأنهما جبلان، وحان عليهما الحين وغنى على رأسيهما غراب البين، فكانا تارة يتباعدان وتارة يتقاربان الى وقت الظلام، دقت طبول الانفصال، وفي الصباح نزل الأمير دياب ‌الى الميدانِ، فبرز اليه الأمير زايد فانصب عليه دياب وقال خذها من يد دياب حداف الرقاب، وأطلق الضرب على رأسه، أخمد أنفاسه، فوقع على الأرض قتيلا، ثم صاح دياب بقومه، أهجموا على الأعداء ‍؛ فهجموا عليهم وارتمى الأمير دياب كأنه صاعقة نزلت من السماء على الجيش، فمزقه وقلب الميامن على المياسر والمياسر على الميامن، وظهرت أفعال الأمير ضرغام والأمير محمود ونكسوا الرايات والبنود وقتلوا الفرسان والجنود وفتكت بنو زغبي فتك الأسود والتقى الأمير دياب بوزير الملك وكان اسمه نافع، فتجاولا في ساحة الميدان وتطاعنا بالسنان الا أن الأمير دياب ضايقه ولاصقه وسد عليه طرقه ومد يده فاقتلعه من سرجه كأنه العصفور في يد الباشق وضربه بالأرض أدخل طوله بالعرض، فلما نظرت قوم الملك زايد هذه الأحوال ولوا الأدبار، فتبعهم قوم الأمير دياب وفتكوا بهم فتك الذئب بالأغنام، ودخل الأمير دياب الى البلد واستلم الأموال والذخائر وجلس على كرسي المملكة وأشار يخبر الأمير حسن يقول:

يقول الفتى الزغبي دياب بن غانم
وروحي كما البولاد طاير شرارها

ألا أيها الغادي بلغ رسالتي
لحسن الهلالي عز قوم هلالها

أخبرك يا بو علي فيما جري
بأرض المغارب من عظيم هوالها

أتينا برنيجة ونبغي أخذها
تاري بها زايد كشعلة نارها

أتانا الى الميدان يا أمير أبو علي
كما برج مبني فوق عالي سوارها

تلاقيت أنا وياه في حومة الوغى
عشرين يوم أتعبوني مجالها

ضربني بيده يا أمير بالعمد
لو جاء على قلعة لهد حجارها

ضيعتها وخليت عنها بهمتي
فراح عمده من يمينه وطارها

أخذت أنا للعمد حالا وجئته
وسديت عليه يمينها وشمالها

ضربته على رأسه فراح مجندلا
ودعيته ملقى بأوشم حالها

ملكنا أموالهم وحصونهم
وأخذنا قلعتها وكل عمارها



فلما فرغ دياب من كلامه، طوى الكتاب وأعطاه الى النجاب، أخذه وراح الى الأوطان، فدخل على السلطان حسن وسلمه اياه، ففضه وقرأه على الأمراء والسادات، فشكروا فعل دياب ودعوا له بالنصر، وأما الأمير حسن فاستدعى الأمير رضوان وقلده وظيفة قائم مقام على قلعة برنيجة، فأخذ الأمير رضوان مائة أمي من عشيرته وودع الأمير حسن، فأعطاه كتابا الى دياب.

فأخذ الأمير رضوان وتوجه الى برنيجة، فدخل على الأمير دياب فاستقبله وأكرمه غاية الاكرام وأجلسه على كرسي المملكة وأمر المنادي أن ينادي بالبلاد باسم الأمير رضوان ويكون حاكما عليها، ثم سلمه الأموال وأمر بدق طبل الرحيل، ثم توجه الى القلعة فضرب الخيام وأشار يكتب الى الملك محمود يطلب منه عشر المال.

وطوى الكتاب وأعطاه للنجاب، فأخذه وسار حتى وصل لعند الملك محمود وسلمه الكتاب، فأخذه وقرأه فقلبت الدنيا في عينيه كالظلام والتفت الى الرسول وقال له اذهب الى ولاك وقل له ماله جواب الا السيف القرضاب ورمي الرقاب، فرجع الرسول لعند الأمير دياب وأخبره بما قاله محمود، ولما أصبح الصباح ضربت طبول الحرب والكفاح من الفريقين، ولما وقعت العين بالعين حملت على بعضها الطائفتان، فقام الحرب على ساق وقدم وجرى للقوم وقعو عظيمة تشيب الأطفال وتقصر الأعمار، وكان قد هلك من الفريقين عساكر ما لها عدد، حتى دارت على قوم محمود الدائرة، فدخلوا البلد وسكروا الأبواب والأمير دياب وقومه حاصروهم من خارج السور، فجمع الملك محمود أكابر الديوان وقال لهم مرادي أطلب منهم الأمان، فقالوا نحن طائعون لأواملاك، فجعل يكتب الى الأمير دياب ويطلب منه الصلح:

يقول محمود من قلب وجيع
لهبات قلبي زايدات نيران

اسمه كلامي يا ابن غانم يا دياب
يا عز قيس وجملة العربان

اني أتيت طائعا يا سيدي
فاقبل خضوعي وأعطني الأمان

ونبقى عندك يا أمير على المدى
ونعيش بظلك بكل أمان

فاعفو عنا يا دياب وسامح
فاني أتيتك طائعا رضيان



فلما فرغ محمود من الكتاب أرسله للأمير دياب، فلما قرأه أمر بالأمان ودخل البلد واجتمعت اليه الأكابر، واستلم من محمود الخزائن والقصور وولاه على الملك، على شرط أن يدفع له الجزية في كل عام، ثم صار قاصدا قلعة طنجة الى أن اقترب منها فأمر بنصب الخيام، ثم أرسل من يكشف له خبر أهالي طنجة وقعد يتنظر الى أن رجع الرسول، فقال له ان ملك طنجة يقال له نابل وهو فارس شجاع، وأما أسوار المدينة فهي عالية وعساكره لا تعد ولا تحصى، وقد علم بخبر وصولنا من الرعيان فجهز عساكره للقتال، فلما سمع دياب هذا الكلام دق الطبول وركبت الفرسان الى ساحة الميدان ونظر الملك نايل قوم الأمير دياب، فأمر بدق طبوله، فنزل الأمير ضرغام ابن الأمير زيدان وطلب مبارزة الفرسان، فما أتم كلامه حتى صار الملك نايل أمامه وقال له من أنت؟؟
فقال له أنا الأمير ضرغام. ومن أنت؟؟ قال أنا حاكم مدينة طنجة الملك نايل، ثم التقى البطلان كأنهما أسدان وقام الحرب وزاد الضرب ورجع نايل على خصمه، فلاصقه وضايقه ثم اقتلعه من بحر سرجه وحذفه الى الوراء، فأخذه قوم نايل وقيدوه بالجنازير، فبرز اليه الأمير فواز فالتقاه نايل وأخذا في ضرب الصفاح وطعن الرماح حتى زهقت الأرواح، فضربه بالرمح فقلبه وسلمه لقومه، فبرز اليه آخر أرداه وثان أعدمه الحياة وثالث بدد أمعاه ورابع غرقه بدماه، ومازال يقتل حتى قتل عشرين فارسا وأسر ثلاثين ودقت طبول الانفصال، فبات الأمير دياب وهو غائب عن الصواب من عظم ما جرى على فرسانه، فلما أصبح الصباح ضربوا طبول الحرب والكفاح، فبرز نايل الى ساحة الميدان ونادى هل من مبارز؟ هل من مناجز؟ فما أتم كلامه حتى صار الأمير دياب قدامه وقال أبشر بالهلاك فقد أتاك الأمير دياب، وانطبقا على بعضهما انطباق الغمام فراح بينهما ضربتان قاطعتان وكان السابق الأمير دياب، فوقعت الضربة في صدر الأمير نايل، أرمته قتيلا وفي دمه جديلا، فولى قومه هاربين والى النجاة طالبين، فدخل الأمير دياب البلد وخلص الأسرى وجلس على تخت طنجة واستلم الأموال والذخائر واستولى على الملك ثم استدعى الأمير عقل وأجلسه نائبا على البلد، وخرج قاصدا مدينة طنجة، فوصل الى سهل واسع الجنبات فيه العيون جاريات، فسرحوا الأغنام وأقاموا يستريحون من عناء الحروب، فسمع بهم الملك مزيد، فلم يمهلهم لأخذ الراحة، فأمر بدق الطبول فتحضرت العساكر عنده والفرسان وبرزت الطائفتان للحرب والكفاح، واصطفت الصفوف واذا الملك مزيد برز الى ساحة الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه دياب وهو راكب على الشهبا وقال له من تكون أيها الفارس؟ فأجابه أنا الملك مزيد فارس عشيرته وحامي قبيلته، وأنت من تكون من الفرسان؟ فقال له أنا الأمير دياب ابن غانم فارس الأعارب والأعاجم، عند ذلك حمل البطلان كأنهما جبلان وغنى عليهما غراب البين مدة سبعة أيام وفي اليوم الثامن، زاد دياب على خصمه الدرهم قنطار وجذب الحسام وضربه على رأسه فهوى السيف الى بطن الجواد فألقاه على الأرض أربعة أقسام وحمل على العساكر مع بني زغبة ورياح، وفتكوا بهم فتك الذئاب بالغنم، ودخلوا البلد وجلس دياب على الكرسي وضبط الأموال وجمع الغلال ووضع عليها أمير يسمى الأمير خليل، وقال له أنت تكون نائبا على مدينة طنجة وتقوم مقامنا بالأحكام وترسل لنا الجزية في كل عام، وحينئذ أمر دياب بدق طبول الرحيل وجد المسير الى القلعة الحائجة، وكان الملك عليها سامه سليمان، فعندما علم بقدوم دياب أمر حالا بتجهيز العساكر للحرب، فبينما هم في الانتظار واذا بجيش الأمير دياب يتقدم الى الأمام، فهجمت الفرسان على الفرسان واصطدم الفريقان وتضاربا بالسيوف وتطاعنا بالسنان لمدة عشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر، برز الأمير دياب الى الميدان، فبرز اليه الملك سليمان، فطلع من الاثنين ضربتان قاطعتان، وكان السابق الأمير دياب طعن الملك سليمان بالرمح في صدره، فطلع يلمع من ظهره فوقع على الأرض قتيلا، فلما نظرت عساكر الملك سليمان الى ملكها ولت الأدبار، فتبعها أبطال بني زغبة يضربون أقفيتهم حتى شتتوهم، وجلس الأمير دياب على كرسي المملكة واستلم زمامها وأموالها، فعند ذلك ولى عبد الجليل الرياحي نائبا وأوصاه بأحكام البلاد وراحة العباد، وبعد ذلك حضرت عند الأمير دياب جميع بني زغبة وذبحوا الذبائح وعملوا الولائم والأفراح واستراحوا من الحرب والكفاح، وقد انقادت لطاعته العباد وسكان تلك البلاد، فهذا ما كان من أمر الأمير دياب في تلك السبعة قلاع وبلاد الغرب قسمته.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:27 PM
الجزء العشرون
حرب الأمير أبي زيد



واسمع ما جرى للأمير أبو زيد بعدما غادر الأمير دياب حينما توجه كل واحد لأجل أن يملك قسمته، فسار أبو زيد قاصدا بلاد قابس حتى وصل اليها ونصب خيامه وأحاط البلد من جميع الجهات، فلما أصبح الصباح قامت أهالي البلد ونظرت عساكر بني زحلان كأنها مردة الجان، فأخبروا الملك فياض وكان شديد البأس قوي المراس، فصاح على الفرسان وأمرهم بالخروج الى الحرب والقتال، فركبوا الخيل وركب الملك فياض بمقدمتهم وخرجوا خارج البلد وصاحوا على الدشمان ونزلوا عليهم بطعن كما لسع الثعبان، فالتقاهم أبو زيد بالعساكر وصاروا يمددون الفرسان بالعرض والطول، وبينما هم في حروب متينة التقى الأمير أبو زيد بالأمير فياض، ووقع بينهما القتال وأخذا في الحرب والطعان ولله درهما من بطلين ضرغامين وأسدين كاسرين!

فشخصت لهما الأحداق وتطاولت اليهما الأعناق، وتعلمت منهما الفرسان أبواب الحرب والطعان، فضرب الأمير فياض الأمير أبو زيد، فخلى عنها فراحت خائبة بعدما كانت صائبة، واعتدل الأمير أبو زيد على ظهر الحصان كأنه فرخ الجان، وضرب الأمير فياض بالسيف على هامه حط رأسه قدامه وهجم هو وقومه على الدشمان وارتمى عليهم كأنه صاعقة نزلت من السماء، فولت عسكر الملك فياض الأدبار وركنت الى الهزيمة والفرار، فتبعهم قوم الأمير أبو زيد حتى دخلوا البلد، وملك الأمير أبو زيد القلعة واستلم ذخائرها وأموالها وطاعت لهم جميع سكانها وجلس على كرسي السلطنة وأحضر أميرا من بني زحلان اسمه الأمير حمزة، وولاه على تخت قابس، ثم ودعه وسار قاصدان قلعة سوت، وكان الحاكم عليها ملك عظيم الشأن ذو جند وأعوان يقال له البهلوان، وكانت قد وصلت له الأخبار بما جرى للملك فياض من الهوال، فجمع العساكر والأبطال ونصب خيامه خارج البلد، واذا بالخيلا أقبلت فاستقبلهم البهلوان بالعساكر والجنود، فالأبطال حملت والرجال زحفت والرماح للصدور خرقت والسيوف للرماح قطعت الدماء دفقت وضربات أبي زيد للفرسان محقت، حتى أهلك الأبطال وأفناهم بضرباته بحملاته، فبينما هو يصول ويجول، اذ التقى بالبهلوان وتجاولا في ساحة الميدان وصاح أبو زيد على خصمه وضربه بحسامه، فبدد أمعاءه وأعدمه الحياة،فلما نظرت عساكر البهلوان ملكها تمدد على الرمال، ولوا الأدبار وركنوا الى الهزيمة والفرار، فتبعهم أبو زيد ودخل البلد وملك أبراجها وأسوارها وولى عليها أمير يقال له همزان، وأجلسه على كرسي المملكة، أما المنهزمون من قوم الأمير بهلوان، فانهم ما زالوا سائرين حتى وصلوا مغوارة، فدخلوا على ملكها وأخبروه أن هؤلاء العربان هم الذين قتلوا الزناتي وملكوا البلاد وسبوا العباد، فلما سمع الملك منهم هذا الكلام، قال لهم الرأي عندي أن نترك لهم البلد ونذهب الى مدينة القيروان لعند الملك زهير، لأن أراضينا لا تحميها العساكر، فذهبوا وتركوا البلد وقصدوا مدينة القيروان، فلما وصلوا اليها دخلوا على ملكها الأمير زهير وأخبروه بواقعة الحال، فقال لهم أن هذه الأرض لا تكفينا، فالأوفق أن نذهب الى الأندلس، لأنها واسعة حصينة وبها قلعة متينة، فاستصوبوا رأيه وسارت الرجال والأحمال الى الأندلس لعند الأمير حماد، وأخبروه بواقعة الحال وما جرى لهم، فاستقبلهم بالاكرام وأنزلهم بأحسن مقام وأمر بتحصين البلد، وجلسوا بانتضار الأمير أبي زيد.

هذا ما كان من أمرهم وأما ما كان من أمر أبي زيد فانه سار الى قلعة مغوارة، فخرج أهالي البلد رابطين محارم الأمان في رقابهم، فسألهم أبو زيد عن ملكهم، فقالوا له ما سمع بقدومك خرج هو والعساكر من البلد، وهربوا الى مدينة القيروان لعند الملك زهير، وحينئذ أعطاهم الأمان ودخل البلد وضبط الأموال وولى الأمير مروان على تخت القلعة، ورحل طالبا مدينة القيروان، فلما وصل اليها استقبله الأهالي وفي رقابهم المحارم، فسألهم عن ملكهم فقالوا ذهب الى الأندلس، فحينئذ أعطاهم الأمان وضبط أموال القلعة وولى عليها الأمير مسعود، وأوصاه بالأحكام ورحل طالبا قلعة الأندلس، فلما وصل اليها رأى العساكر كأنها قطع الغمام، فأمر بنصب الخيام، وكان قد أقبل الليل، فبات الفريقان يتحادثان تحت مشيئة الرحمن، الى أن أصبح الصباح وضربوا طبول الحرب والكفاح واعتقلوا بالسيوف والرماح، فبرز الأمير حما د الى ساحة الميدان ولعب بالسيف والسنان حتى حير عقول الفرسان، ثم طلب مبارزة الأبطال فبرز اليه الأمير أبو زيد.

وصاح على خصمه وضربه بالسيف على رأسه شقه لتكية لباسه، فلما رأى قوم الملك حماد ملكهم قتيلا، ولوا هاربين ورجعوا الى البلد، وهجم الأمير أبو زيد وهجمت وراءه بنو زحلان الشجعان، وتبعوا الدشمان حتى دخلوا البلد، فجردوا بهم السيف البتار حتى صار الدم في المدينة كالأنهار، وبعد ذلك رجعت عنهم الفرسان وجلس أبو زيد على كرسي المملكة وحينئذ طلبت الأهالي الأمان، فأعطاهم الأمان وطاب لهم مكان الأندلس والقيروان، وحينئذ ولى الأمير أبو زيد طوي بن مالك تلك القلعة ووصاه بالأحكام، وساروا قاصدين مدينة مراكش، فلما وصلوا إليها نصبوا الخيام، فلما بلغ مالك قدوم العربان، جمع أكابر دولته وسألهم عن سبب قدومهم، فقال أحدهم أنهم قوم بني هلال الذين قتلوا الزناتي خليفة والعلام، وملكوا جميع البلاد وهم رفقاء الذين تملكوا السبعة قلاع ناحية الشرق، وقد أتوا إلينا ليملكوا أرضنا، وبينما هم في الحديث وإذا برسول وقف بين يدي الملك وقال له أن سيدي الأمير أبو زيد يقرئك السلام ويقول لك أن تسلم البلد، وإلا يحل بك الدمار كما حل بغيرك من الملوك، فلما سمع الملك هذا الكلام خاف وارتعب والتفت الى أكابر البلدان وقال لهم ما عندكم من الرأي؟ فقالوا الرأي عندنا أن نصالحهم ونسلمهم البلد، فقال لهم خذوا الرسول الى بيت الضيافة، ثم جهزوا حالهم وخرجوا الى ملتقى الأمير أبو زيد، فلما رآهم بنو هلال مقبلين بدون سلاح، عرفوا أنهم سلموا البلد، فلاقوهم أحسن ملاقاة وأضافهم قوم مالك، ثم قدموا له الدفاتر والأموال فاستلمها الأمير أبو زيد وأجلس الأمير مالك على كرسيه، بشرط أن يدفع الجزية في كل عام، وبعد ذلك ودعوهم وساروا الى أن وصلوا الى مدينة حصينة فيها أبراج وأنهار وأطيار تسبح الملك الغفار واسمها قلعة زوارة، وكان يحكم عليها ملك عظيم الشأن ذو جند وأعوان يدعى الأمير كامل، وكان قوم مالك المنهزمون قد أخبروه بما جرى عليهم من الحروب، فبالحال أمر بتجهيز العساكر والمهمات والذخائر الى الحرب والقتال، وأشار يتهدد بني هلال ويقول:

يقول الفتى كامل على ما جرى له
نيران قلبي زايدات الضرايم

فيا أيها الغادي توصل رسالتي
الى حسن سلطان قيس الأكارم

وقول له الملك كامل يقول لك
بأي سبب لأرضنا جيت قادم

فان كنت تطلب السلامة فارتجع
وهد خيامك ثن ارتد سالم

مرادكم قلعة زوارة وملكها
فيها قروم ليس يخشوا الصوارم

وان كان لا بد عن القتال والقنا
أجيك كما السبع للصيد هاجم



فلما فرغ الأمير كامل من نظامه، أرسل الكتاب لعند الأمير أبي زيد فقرأه وعرف ما حواه، فأمر بدق طبول الحرب، فلما سمع الأميركامل صوت الطبول أمر بدق طبوله، وتحضرت الفرسان الى الميدان، فلما التقت الطائفتان ووقعت العين على العين، برز الأمير كامل الى الميدان وكأنه الأسد الغضبان، فبرز اليه أبو زيد فتقاتلا بالميدان وتفننا في أبواب الحرب والطعان، وما زالا في حرب شديد يفك الزرد النضيد مدة عشرة أيام، ثم برز أبو زيد الى الميدان فصال وجال وطلب مبارزة الأبطال، فبرز اليه الأمير كامل فالتقى البطلان كأنهما قلعتان حصينتان وابتدرا بضرب السيوف وطعن الرماح، حتى تمكن منه أبو زيد وضربه بالسيف على هامه، حط رأسه قدامه، وحينئذ هجمت من ورائه الفرسان وغاروا على الأعداء بطعن يشيب الأطفال، وضرب يكسر الصوان الى أن أدخلوهم البلد وجلس أبو زيد على كرسي المملكة وأحضر الأمير هادي ووضعه حاكما على قلعة زوارة، وبعد ذلك جهز أبو زيد الأموال وحملها على الجمال وأمر بدق طبل الرحيل، وسارت الجيوش والمواكب والفرسان والكتائب ومعهم الأغنام والمكاسب حتى وصلوا الى عين تورز وهي بنصف الطريق، فجلس أبو زيد لأجل الراحة وأمر بذبح الأغنام وشرب المدام، وبينما هم على هذا الحال اذ طلعت عساكر الأمير دياب من ناحية الغرب الجنوبي، فلما التقى أبو زيد والأمير دياب هنأوا بعضهم بالسلامة وحكوا عما قاسوه من الحروب والأهوال وجلسوا ثلاثة أيام ثم جدوا بالمسير حتى وصلوا تونس، فلما علم الأمير حسن بقدومهم خرج لإستقبالهم بالنساء والرجال، وعند ملتقاهم هنأهم بالسلامة ودخلوا بموكب عظيم ودارت البشائر في نجوع بني هلال، وفرحت في قدومهم النساء والرجال، وبعدما استراحوا سألهم الأمير حسن عن الأحوال التي جرت لهم، فأخبروه عما حصل معهم وبما قاموا به من الحروب والأهوال في تملك السبعة تخوت، وحينئذ أمر حسن بعمل وليمة كبيرة وبذبح الأغنام وترويق المدام ودعا اليها الخاص والعام، ثم قسموا بلاد الرب بينهم بالسوية بين أبي زيد وحسن ودياب، لكل واحد الثلث، لأنها عوض عن الخضرا، ثم رحل الأمير حسن الى القيروان وجعلها عاصمته، وأبو زيد جعل الأندلس له عاصمة، حينئذ جلس كل واحد بمملكته بكل أمان.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:28 PM
الجزء الحادي والعشرون
مقتل سعدى وقصة اليتامى


( قال الراوي ):

لنرجع الآن الى سعدى بنت الزناتي، فإنها كانت باقية بقصر أبيها عند حريم دياب تقاسي أنواع الذل والعذاب، فلما رأت أن حسن نسيها وكذلك أبو زيد، فرأت أن تكتب للأمير حسن وتطلب خلاصها من دياب وأنها مظلومة عنده للغاية، فكتبت كتابا وسلمته لنجاب، فلما وصل الى حسن أعطاه الكتاب ففضه وقرأه، فتغيرت منه الأحوال، وحينئذ أرسل عبده جوهر الى أبي زيد وأخبره بالقضية، فحضر أبو زيد ومعه خمسة آلاف فارس من بني زحلان، فاستقبله حسن وسلم عليه وبعدما ارتاح قال لحسن: ما الخبر أيها الأمير؟ فأعطاه كتاب سعدى، فلما قرأه أمر باحضار النجاب، فلما حضر قال له أخبر الست سعدى أننا بعد ثلاثة أيام نكون عندها، فسار العبد وأخبرها بأنهما سيأتيان ليأخذاها، ففرحت وصارت تنتظر قدومهما، وأما حسن وأبو زيد فقد ركبا في ثاني الأيام وسارا حتى دخلا الى تونس الغرب، فلما رآهما دياب نزل واستقبلهما بالترحيب والاكرام وأدخلهما القصر وذبح لهما الذبائح، فاقاما بضيافته ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع قال لهما دياب لقد شرفتمونا بهذه الزيارة، وكان الواجب ن أرحل أنا اليكم أولا، فقال حسن نحن أتينا لأمر مهم، فلما فرغ حسن من كلامه، اغتاظ الغيظ الشديد ولكنه أخفى الكمد وقال سعدى باقية كما هي، وأما قولك اني طلبت أن أتزوجها فهذا كذب، فقال حسن ذا كتاب سعدى اقرأ، فقرأه دياب فاغتاظ أكثر من الأول، وقال المرأة التي تخون أباها لايكون فيها خير لأحد، فقال هي خطيبة مرعي فاطلب أن تسلمني اياها وألا يقع بيننا أسباب ما هي في حساب.

ورد عليه دياب، فلما انتهى من كلامه، هجم عليه حسن وقال والله لو لم نكن ضيوفك لضربتك بهذا الحسام، ثم أراد أن يهجما على بعضهما، فمنعهما أبو زيد وقال ما هذه الفعال تتقاتلان لأجل بنت؟؟ اسمعا عندي رأي حسن، فقالا ما هو؟ فقال نحن نضع سعدى في مكان بعيد في آخر الميدان ونكون راكبين على خيولنا بأول الميدان ونطلق الأعنة، فالذي يصل الى سعدى قبل الآخر تكون ملكه ويأخذها، وقصد أبو زيد أن يأخذها عنده وقال في نفسه أما خضرة دياب ماتت وبنتها صغيرة ما هي مثل خيلنا، وان أخذتها أعطيتها لحسن، وينحسم الشر لأننا ضيوف عند دياب، ولا يليق أن،اخذها بغير رضاه، فقال حسن رضيت ودياب رضي أيضا، وفي اليوم الثاني أحضروا سعدى الى الميدان وأوقفوها في آخره ووقفوا هم في أوله وأعطوا لبعضهم الإشارة، فخرجوا كأنهم نشاب، وكان دياب راكبا الشهبا ابنة الخضرا وكانت أحسن من أمها، فراحت أمام الجميع ومن خلفه أبو زيد على الحصان، وخلفهما حسن على الحيصا وكانت المسافة مقدار ساعة، فلما وصل اليها دياب قالت له سعدى أنا أختك يا دياب، وكان أبو زيد علمها أن تقول ذلك، فلما سمع كلامها عرف المضمون، فشهر حسامه فجرحها جرحا بليغا، فصاح به حسن وقال لماذا عملت هكذا يا دياب؟ قال أنتم قلتم أن الذي يسبق اليها تكون ملكه، وهي صارت ملكي، فأتصرف فيها كيف أشاء، وبما أنها خائنة لا أريد أن أبقيها عندي، ثم ألوى الشهبا ورجع، وأما أبو زيد فقال الى حسن صدق دياب هذه حقه، ثم نزلا الى سعدى فاذا هي في قيد الحياة، فحملاها وسارا بها حتى دخلا القيروان واجتمعت البنات والنسوان لما عرفوا بقتل سعدى، وكذلك مرعي فانه مزق ثيابه وصار كالمجنون، وأما سعدى فانها فتحت عينيها من حلاوة الروح وأشارت تودع الدنيا بكلام يفتت الأكباد.

فلما فرغت سعدى شهقت شهقة واحدة، وماتت، فأقاموا عليها الصياح والبكاء والنواح، ثم غسلوها ودفنوهاأ وأما دياب فانه طغى في الحكم وبغى وصار يظلم الناس وما عرف كيف يتصرف بالملك، فأفسد عليه أهل الغرب بني زغبة، وصاروا يوشون لهم حتى صار أكثرهم يبغضه، ودامت الأحقاد بين دياب وحسن وأبي زيد، ولكن في الظاهر كانوا يظهرون المحبة والمودة وفي الباطن كانوا يخفون ما في قلوبهم.


( قال الراوي ):

هذا ما كان من دياب وبني هلال، واسمع ما جرى من زعيمة ست الغرب أخت الزناتي، فانها لما أعلنت بانه وقعت البغضة في بني هلال، قصدت أن ترمي الفتنة بين الأمير دياب والأمير حسن، فجمعت عشيرتها وأخو العلام وقالت لهم لقد فقدنا أخي الزناتي والعلام والجابلي وملك بنو هلال بلاد الغرب وما خلوا لنا ملجأ نسكن فيه وقد أحزنني موت سعدى وكسر ظهري، وكان كل أملي فيها أن تعزينا، والآن مرادي أن أتوجه الى بني هلال وأرمي الفتن، فقال لها أخو العلام نخاف عليك من أبي زيد لأنه مكار، فقالت لاتخف علي منه، وودعت قومها وسارت قاصدة بني هلال بصفة شاعرة، فوصلت الى تونس الخضرا فدخلت على الأمير دياب وقبلت يديه وقالت له: قد سرتني سلامتك وفرحت بقتلك الزناتي، لأنه أكبر أعدائي فقتل أهلي ويتم أولادي وأخذ مالي وعدت حزينة غريبة في أقصى البلاد، فلما علمت أنه مات، ركبت ناقتي وقصدت أن يكون الغيط من قسمتك، فقال لها ما يكون هذا الغيط وفي أي جهة، فقالت له: غدا صباحا أريك اياه، فلما أصبح الصباح ركب الأمير دياب في جماعته والعجوز دلتهم على الغيط، فانبسط الأمير دياب وانشرح لما نظر تلك الغدران التي تدهش البصر وتلك القصور العامرة والأشجار الفاخرة، وصار يجني الأثمار ويقطف الزهار، فقالت له العجوز أرجوك أن تسمح لي لأن أذهب الى أولادي وآخذ لهم حملا من الفواكه، فقال لها افعلي ما بدا لك ولكن لا تطولي علينا، فأخذت ست الغرب من أفخر أثمار الغيط، وذهبت الى الأمير حسن والأمير أبو زيد وسلمت عليهم وقدمت الهدايا وأشارت تصف لهم الغيط والبهرجان وعين سلوان.

فلما فرغت من كلامها والأمير حسن والأمير أبو زيد سمعا شعرها ونظامها، وقع الحسد عندهما من الأمير دياب، ثم أنعما على العجوز فذهبت في حال سبيلها، وقال الأمير حسن يا أبا زيد ان الأمير دياب حاز أفخر ملك العرب ومرادنا أن ننظر هذا الروض، وصار حسن يخابر أمراء الغرب على الفتك في دياب، ثم جمعوا الفرسان والأبطال وركب هو والأمير أبو زيد، ومازالوا سائرين الى أن دخلوا غيط البهرجان وعين سلوان، ولما تظر الأمير حسن وأبو زيد هذا المنظر وعلو القصر وجميع ما ذكرت عنه العجوز وزيادة، تعجبوا غاية العجب، ولما علم الأمير دياب بحضورهما استقبلهما وسلم عليهما،فقال أبو زيد يا أمير دياب نحن ماسكين البقرة من ذنبها وأنت تحلبها. فقال الأمير دياب: اذا الله أعطى فمن منع واذا منع فمن يعطي.

فقال الأمير أبو زيد: فان شئت يا أمير ديبا تعطي هذا الغيط الى الأمير حسن، فامتنع دياب فانغبن أبو زيد منه وساق الجمال وهجم على الغيط فهدمت الأسوار وردمت الأبيار وكسرت الأشجار، ولما نظر دياب هذه الأعمال جمع بني زغبة ليلا وحضر ثلاثمائة ثعلب ودهنها بالزفت والكبريت وأشعل النار في أذنابها وأطلقها بين زرع بني هلال، وكان أيام الحصاد، فاشتعل الزرع، فوصل الخبر الى الأمير حسن فخرج هو وقومه ليطفئوا الحريق ولكن كان احتراق أكثره وما بقي الا القليل، فغضب حسن وعرف أن هذا فعل دياب فجمع قومه وراح يشيرهم على حرب دياب، فقالوا الأحسن أن ترسل وراءه، فان أطاع السلطان يحرم قتاله، وان أبى حاربه، فاستدعى دياب، فلما وصل النجاب أبى ولم يحضر.

فلما فرغ دياب من الكتاب، أعطاه للنجاب وقال له أعطه الى الأمير حسن، فأخذه وسار حتى وصل اليه فقرأه على رؤوس الأمارة، فقالوا له افعل ما تريد، فعند ذلك أشار يحثهم على حرب دياب وقتله.

فلما فرغ حسن من كلامه وبقية الأمراء يسمعون نظامه، قالوا الحق معك، دياب غدار، وما علاج الغدار الا ضرب البتار!

كل هذا وأبو زيد ساكت، فقال حسن: لماذا يا أبا زيد أنت ساكت؟؟

فقال أبو زيد: أنا أرى من الموافق أن لاتقاتلوا دياب لأنه منا وفينا ونحن طول عمرنا عايشين سوا، ودايما أنا وهو نتعاون على الخير والشر، فاذا حاربته فاما أن أقتله واما أن يقتلني، ومن قتل منا تخسره بني هلال والرأي عندي أن نصلح بينكم ويذهب كل شي الى حال سبيله، فقال حسن: لا بد عن قتاله لأنه ما كفاه خرج عن طاعتي ووضع رمحه فوق سور تونس ليمرقنا من تحته وقتل سعدى خطيبة مرعي أمامي، وهي صارت من حريمنا، وقد طمع فينا وأراد أن يأخذها، فقال أبو زيد: أنا أروح معكم ولكن لا أقاتل بل أصلح، ثم أنهم جمعوا قومهم وذهبوا الى قتال دياب، فلما وصل اليه وعلم بهم، خرج بقومه لقتالهم، فلما قرب الجيشان برز حسن الى الميدان، فبرز اليه دياب فالتقى البطلان كأنهما جبلان وحان عليهما الحين وغنا على رأسيهما غراب البين، وثار الغبار وسد منافس اٌطار وقدحت حوافر الخيل نارا وكلت منهما الزنود وزهقت منهما الكبود وأطلقا الأعنة وقوما الأسنة مقدار ساعة من الزمان، طلعت من الاثنين ضربتان قاطعتان، وكان السابق بالضربة الأمير دياب، فوقعت على فرس حسن فقتلتها، فوقع السلطان حسن على الأرض فأسرع أبو زيد وخلصه، وأما مرعي لما نظر أباه السلطان وقع على الأرض هجم على دياب فضربه دياب بالحربة فجاءت على فخذه فأرماه الأرض، ثم أن دياب لوى عنان جواده ورجع وما أحد تبعه، ثم اجتمع بقومه وقال لهم:

عرفتم ما صار بيننا وبين حسن، فما الرأي عندكم؟ فقالوا: الرأي عندنا أن تغيب مدة من الزمان حتى تصلح الأحوال ويروق البال، لأنك تعديت على حسن وعلى ابنه مرعي وربما حشد الأمير أبو زيد، فتقع الحروب ونفني بعنا وتشمت الأعادي بنا.

فقال لهم الأمير: لا ارحل هذه البلاد ما لم أقتل حسن.

هذا ما كان منه، وأما حسن قام من وقته وهو مجروح، فحملوه وأخذوه الى القيروان وصار الأمير أبو زيد يلوم حسن ويقول له: أنت تعديت على دياب، وكان مرادك أن تقتله، ومن الموافق أن تصغيا لقولي وترفعا الحقد من بينكما، ثم أن أبا زيد أصلح بين حسن ودياب، ولكن بقيت البغضة كامنة الى يوم من الأيام جمع حسن قومه وسادات عشيرته وقال مرادي زف مرعي على عطر بنت أبي زيد، فنادوا في جميع العربان مدة العرس شهر تمام، لاأحد يأكل ولا أحد يشرب الا عند الأمير حسن، فذبح الذبائح وعمل الولائم، ثم استدعى عشرين فارسا من اولاد عمه، وقال: مرادي أرسلكم الى تونس لتعزموا دياب، وكتب له كتابا يعرفه بالحضور، وسلمه الى أمير من أولاد عمه وقال لهم لاترجعوا الا ودياب معكم، فأخذوا المكتوب وساروا يقطعون الروابي والهضاب قاصدين الأمير دياب، وأما دياب في تلك المدة فقد حلم حلما هائلا، فاستدعى ابن عمه مسلم، فلما سأله عن الخبر فأشار يعلمه ويقول:

يقول أبو موسى دياب ابن غانم
الأيام ما تبدي بيوم سعيد

رأيت مناما يا أمير مسلم
نكد علينا غاية التنكيد

رأيت خلخالا على ساق فضة
يدور على الرجلين بالتوكيد

ورأيت جماعة من رجالي عدمتهم
وما شفتهم بالعين يا صنديد

ورأيت أني في وسط قاعة مربعة
ومصفحة أبوابها بحديد

فسر لي منامي يا أمير مسلم
واشرح لي منامي يا أمير وفيد



فلما فرغ دياب من كلامه، قال له مسلم: لا تفكر يا عمي لأن هذه أضغاث أحلام وما هو الا من ثقل الطعام، وبعد مدة من الزمان أقبل عليه عشرون أميرا من عند حسن فدخلوا وسلموا عليه وأعلموه بعزيمة حسن وأعطوه الكتاب، فلما قرأه وعرف رموزه ومعناه، انسر وانشرح جدا وسألهم عن صحة الأمير حسن وأبي زيد وعن أخته نافلة وعن بقية نجه بني هلال، فقالوا الجميع يهدونك السلام والتحية والاكرام، وكان قد سمع بهذا الخبر فما ظن بسوء، فقال لهم: بعد ثلاثة أيام ان شاء الله أكون هناك، فسلموا على الأمير حسن، فذبح الذبائح وأولم واجتمعت القبائل عنده، وهم في بسط وانشراح الى أن كان اليوم الثالث نظروا الغبار من جهة تونس من بني زغبة الأنجاب، فخرج واستقبلهم وسلموا على بعضهم البعض، وكان دياب لابسا جبة من الحرير الأخضر وعلى رأسه عمامة من البرفيل والأرجوان ومعه ألف فارس من بني زغبي الأنجاب، ثم دخلوا على الأمير حسن فترحب بهم غاية الترحيب وجلس دياب على كرسي من العاج كأنه الذهب الوهاج، وقومه حواليه، ثم أمر الأمير حسن باحضار القهوة والكأس والشراب، وأحضر مائدة مصحوبة بألف فارس ضرغام، فلما جلسوا على المائدة وجدوا المناسف مغطاة، فرفع الأمير دياب الغطا عن المنسف فلم يجد فيه طعاما، وإنما وجد فيه قيودا من الحديد، فقال الأمير دياب ما هذا يا حسن؟؟

فقال له: الواجب أن تتقيدوا الى السلطان ولو ساعة، فعندها وضع الأمير دياب القيد برجله وفعل الباقون كفعله وبينما هم كذلك، الا واندفعت فرسان دريد لداخل المكان، بيدهم الخناجر والسيوف، فعندها أمر الأمير حسن بنصب المشانق والحبال وقال اقتلوا جميع هؤلاء الرجال، فذبحوا ستين أميرا أمام دياب وأبيه، والباقون أمر بشنقهم، أما الأمير غانم وولده دياب فكادت تفقأ مرارتهم من الخزن ولكن لم يستطيعا عمل شي، لأنهما أسيران وخاليان من السلاح والأمير حسن ينصب المشانق ويصيح بأبي الفردوس اشنق ولا تتأخر، فعندها شنق أبو الفردوس جميع أمراء بني زغبي الموجودين، فأقامت نساؤهم الصياح والبكاء والنواح حتى ارتجت من صراخهم تلك الروابي والبطاح، وبينما هم في تلك الأحوال، دخل القاضي سرور الى الديوان، فلما رأته أخته بذلا سلمت عليه وحييته بكلام جميل وأنشدت تقول:

تقول بذلا عندما شطها النيا
أيا أمير عزي ثم سعدي راح

أبات طول الليل قلقى حزينة
ودمعي يجري مثل سيل نزاح

فأول حزني فقدت بدر بن غانم
غدره الخليفة الفارس الجحجاح

ويا ما فعل فيكم الزناتي خليفة
وعان عليه الواحد الفتاح

طعنه دياب في وسط علينه
وعاد فيكم بعد التعب مرتاح

وملككم عين الخطيرة وتونس
وقابي ومغوارة وكل بطاح

انسرت امارتكم وفرحت جيادكم
وقد زاد فيكم الأنس والأفراح

وكله بهمة الأمير بن غانم
قيدوم زغبة كلها ورياح

يجازيه حسن بالعيب يا ابن فايد
يشنق أمارة خيرين ملاح

هؤلاء أولادي علقين على بكر
وحبل القضا تلعب به الأرياح

شنق الفتى زيان وهدار يا بطل
اشفع لنا بنزولهم يا صاح

نواريهم اللحود يا ابن فايد
وأجرك على رب كريم فتاح



فلما سمع سرور كلام عمته دخل لعند الأمير حسن، فاستأذن بتنزيل القتلى، فأمر حسن بتنزيلهم، فأنزلوهم وأخذهم بنو زغبة وواروهم التراب، وبعد ذلك صاح حسن على أبي الفردوس، اشنق دياب فقال القاضي الشفاعة في دياب، فقال حسن: ما في شفاعة لأنه حرق الزرع وقتل سعدى وعصى وقطع الطرقات ومشى في أمور ما شافها أحد، قال القاضي لدياب:أنت قتلت أخوته وحرقت الزرع وقتلت سعدى ابنة الزناتي خليفة ونصبت الرمح.

فقال دياب: نعم.وأنشد يقول:

يقول الفتى الزغبي دياب بن غانم
ولي عزم أمضى من حسام البواتر

بيدي قتلت الهيدبي بن زايدة
وللآن عليكم باغيا ثم ظافر

دعواتك ستة أنا لي ثمانية
شرحت منها واحدة من الضماير

وثاني دعوة قتلت العقيلي حنظل
ووليت منه يا حسن وأنت حاير

وفي حلب الشهباء نصبتم خيامكم
وجاءكم خزاعي فوق عربيد ضامر

وأردى أبو زيد بن رزق سلامة
وخلصته من خزاعي والجو عاكر

و ثالث الدعوات يا أمير أبو علي
والله عالم في عالم السرائر

ويوم مصر حميت قيس جميعكم
وتشهد بها ساير هلال وعامر

في يوم قتل خمسة وخمسين فارس
وأفنى فوارسكم بضرب الشواكر

ورابع دعوة يا أمير أبو علي
قتلت الفتى الفرمند والحق ظاهر

وخامس دعوة يا أمير أبو علي
سلمتموني البوش رسم الدفاتر

أتى أبو خريبة معتدي يا أبو علي
فأرديته لما أتى على البوش غاير

وأكلوه سباع البر مه جماعته
ومن مالكم ما نقص ولا فاطر

وسادس دعوة ذلكم مع خليفة
وأنتم معه كالغنم في المجازر

ركبت وجيته فوق خضرة مبرشمة
وجاني على أشهب أقب الحوافر

ضربته بحربة سلم الله نواظري
من حربتي قد صار أعمى النواظر

وسابع دعوة قللت من قيمتي وحظي
وغارت على مالي دريد وعامر

وثامن دعوة يا ابن سرحان هنتني
أخذتم غيطي كان نامي وزاهر

فهذا مقدر يا أمير أبو علي
ومن لا يموت اليوم يموت باكر



وتكلم ثم لما فرغ من كلامه والأمراء يسمعون نظامه، فقالوا للقاضي بماذا تصدر الحكم على دياب؟؟ فقال: الشريعة تحكم على دياب بحبس سنة كاملة، فلما سمع حسن ذلك الكلام استدعى بزحزاح السجان وقال له: خذ دياب الى السجن.

فلما فرغ الأمير حسن من هذا الأبيات سار الزحزاح بدياب الى السجن، ووضع قيود الحديد في رجليه وعنقه.


( قال الراوي ):

ولما وصل الخبر الى أبي زيد، أتى من الأندلس الى حسن، فسلم عليه ورحب به غاية الترحيب، ثم سأله أبو زيد عما فعل، فأخبره الأمير حسن بما فعل، فاغتاظ أبو زيد وأنشد يقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
نيران قلبي زايدات ضرام

يا بو علي ما خفت ربنا الباري
تفعل فعايل مجرمين طغام

عملت في قومك عمايل شنيعة
ما كان لازم تقع في الاجرام

طغيت في حكمك يا أمير أبو علي
الظلم يجعل القصور هدام

الله أوصى بالعدل يا حسن
في يوم تجري به الأحكام

غدا ينصب الميزان ونتحاسب سوا
وربك يجازي المليح قوام

ومن كان فعله بالقبيح فإنه
يجازي بنار زايدة اضرام

أخطى دياب الخيال قاصصت غيره
هذه الأفعال والله حرام

صار الذي صار وما فيه فايدة
وأمر الـهـي نافد الأحكام

قيموا عزاهم يا أمارى جميعا
فهم شهداء في أعلى مقام



فقال له حسن ما عملت مع دياب الا ما استحقه، فان كنت قتلت عمه واخوانه فهو قتل أخي وخطيبة ابني مرعي فجرح قلبي عليهم، فقابلته بمثل ما قابلني وجرحت قلبه عليهم، ثم أن الأمير حسن بعث ألف فارس الى تونس، وأمرهم أن يحضروا له خزانة تونس وسلاح دياب وأثاث بيته وكل ما يوجد في قصر الزناتي، فذهبوا وأحضروا ما أمرهم به، أما الأمير دياب فقد مضى عليه سنة وهو محبوس يقاسي الذل والهوان، فافتكر في أيام عزه وتذكر أولاد عمه وتذكر الشهبا بنت الخضرا، فطلب من الزحزاح أن يقدم له ما يلزم لكتابة مكتوب، فأحضر له الزحزاح طلبه فكتب كتابا الى والده الأمير غانم. وأنشد يقول:

يقول أبو موسى دياب بن غانم
ونيرا قلبي زايدات شرار

على أولاد عمي أحرقوني بنارهم
فيا حيف أعمار الجناد قصار

أتوني للسجن يريدوا مذلتي
بخمسة قيود ماكنات كبار

كذبوا وذلوا يا أمير بقولهم
ولو كنت ملقى في حريق نار

أنا أبو موسى صنديد من حديد
اذا ضرب الصوان يقدح نار

تسلم يا زحزاح مني رسالتي
الى عند زغبي سادة الأقطار

وقل لهم قال الأمير بن غانم
كلام وفي عنقه من الحديد قنطار

يا أولاد زغبي لاتوطوا نفوسكم
ولا تبطلوا بين الأعادي نار

ولا تبطلوا الأفراح بالنجع دايم
تشمت بكم الاعدا بوسط الدار

وأوصيكم يا غانم وصية وحوزها
أنا أنبيك والدي صادق الأخبار

أوصيك على الشهبا لأنها ركوبتي
تكرمها باللحم ليل ونهار

وانصب لها خيمة تقيها من الشتا
ورتب لها سايس من الشطار

ان عشت لا أترك الثار على المدى
وان مت ما بقي علي ثار

عليك سلام الله يا نعم والدي
في كل آن على مدى الأدهار



ولما فرغ دياب من كتابه، طواه بعد أن ختمه وأعطاه الى الزحزاح، فأخذه وسار لعند غانم وأعطاه إياه، فلما قرأه أنشد يقول:

يقول الفتى غانم بعين وجيعة
ونيران قلبي زايدات وهاج

تصبر أيا زغبي على الهم والبلا
وإياك بين القوم تكون لجاج

وإذا لم تصب يا دياب ابن غانم
يبقوا الزغابي في شقا وهجاج



فلما فرغ غانم من الشعر، طوى الكتاب وأعطاه للزحزاح وأوصاه أن يكتم السر، وأعطا خمسمائة دينار الى ولده دياب، فأخذها وسار الى أن وصل الى دياب، أعطاه الأمانة والكتاب ففضه وقرأه وعرف رموزه ومعناه، وبعدها انترك دياب من الجميع وما عاد يفتكر فيه لا شريف ولا وضيع غير أهله والخلان، وأبو غانم ليث الميدان.

هذا ما كان من هؤلاء، واسمع ما جرى للأمير أبو زيد وحسن، فقد طابت لهم الأحكام وراق لديهم الزمان ونسيتهم صروف الحدثان.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:28 PM
ديوان اليتامى
قصة عزيز القوم أبي زيد ورجوع عليا مع أبي زيد



( قال الراوي ):

ففي ذات يوم كانوا مجتمعين حسن وأبو زيد في الديوان ومن حولهم السادات والأعيان وأمامهم الأبطال والفرسان، فدخل عليهم نجاب وسأل عن الأمير أبي زيد فأهدوه عليه، فتقدم وتمثل بين يديه ثم قال له: أنا من نجد من عند الست عليا بنت حسن الجعبري، وهي تهديك السلام والتحية والاكرام، وهي من وقت فراقك تطلبها الأمراء والسادات والفرسان،والآن مدورين عرسها على الأمير نوفل فارس الميدان، وقد قامت الزينات في الحي من كل مكان وعليا غير راضية بهذ الشأن، غير أن نوفل كتب كتابا عن لسانك، أنه ما عاد لك بعليا مآرب ولا عدت ترجع من أرض المغارب، فزوجها لمن تريد، وعندما بلغ عليا هذا الخبر تنغص عيشها وتمرمر، ثم أخرج الكتاب وباسه وأعطاه الى أبي زيد، ففضه وقرأه، ولما وقف على معناه غرغرت عيناه بالدموع، فلما رآه حسن وبقية السادات قالوا ما جرى عليك با أبا زيد وما هذا الكتاب؟؟

فحينئذ ناول الكتاب الى ابن أخته عزيز القوم لأنه كان بجانبه، فقرأ كتاب عليا على رؤوس السادات، فلما فرغ من قراءته قال حسن: والله يا أبا زيد الحق مع عليا ذكرتها من اليوم تخاصمت هي والجازية، ورجعت من مصر مع أبيها حسن الجعبري الى نجد، وليست هذه من أفعال الأمراء الكرام، فقال أبو زيد هذا هو الحق والصواب، ثم أخذوا العبد وصاروا يضيفوه ثلاثين يوما، فعندما تحرك حج العرب للزيارة فنهض العبد الى أبي زيد وأخبره بالمسير الى بلاد نجد صحبة الحجاج، فأعطاه أبو زيد مطية وثلثمائة دينار وأشار يخبر عليا ويقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
وطير النيا حكم بقلبي مخالبه

من البعد والفرقة ياما أصابنا
وكيف حال المرء فارقوه حبايبه

أيا غاديا مني على متن ضامر
تجد السير في البر تجري ركايبه

اذا جيت جد العدية وأرضها
فسلم على عليا وباقي قرايبه

وقول لها يا منية القلب والحشا
شخصك مصور في فؤادي نصائبه

وما عاقني الا خليفة وحربه
سقيناه كاس الموت مره مشاربه

قتله أبو موسى دياب بن غانم
أدعى دماه على الثرى سكايبه

أخذنا بلاده والقصور جميعها
وأمواله تلفت وراحت ذهايبه

وأميرنا حسن الهلالي أبو علي
بكل بلاد الغرب حلت ركائبه

كتبت على صدري مسائل كثيرة
خيام وسلطان وقاضي ونايبه

ولا بد من قاضي يشرح الحكم بيننا
ويبان للمغلوب من كان غالبه

تعذيبي بالبعد والبعد خيبة
اذ طال عمر المرء تكثر متاعبه



فلما فرغ أبو زيد من انشاده، طوى الكتاب وختمه بختمه، وأيضا شيبان واخوته كتبوا مكاتيب لعليا والدتهم، وأعطوها للنجاب وساروا معه سفر يومين حتى وصل مع الحج للقدس الشريف، ومن هناك الى مكة والبيت الحرام، وبعد ذلك رجعوا وسار العبد يقطع البراري والقفار حتى وصل لنجد و دخل على عليا، فترحبت به وسألته عن أبي زيد وعن أولادها، فأجابها بكل خير، وناولها المكاتيب، فلما قرأته كتب أولادها نزلت دموعها وطلبت من الرحمن أن يفرج همومها.

هذه ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أبي زيد فزادت بلابله وأشواقه لمشاهدة عليا، ودام على هذا الحال شهرا كاملا، ثم طلب من بعض جنوده واصحابه ان يرافقوه لبلاده نجد، فابوا وقالوا نحن ما صدقنا حتى وصلنا للغرب واسترحنا من الطعن والضرب، فاغتاظ ابو زيد وطار من عينيه الشرر، فحينئذ قام الامير عزيز القوم فارس الفرسان وحامي الميدان والذي شهدت له الاقران بالحرب في وقائع الجولان، وهو ابن خالد بن شيحا اخت ابو زيد وابوه قتل في مصر بوقعة الملك الفرمند، وربي عند امه يتيما في حمى ابي زيد، حتى اشتدت اوصاله وراقت احواله، فصار فارسا عظيما وشيطانا رجيما هابته الفرسان في الحرب والطعان، وكان ابن سبعة عشر سنة، امردا لا نبات بعارضيه، وكان يضع برقعا على راسه خوفا من النساء تطرح من حسنه.

فتقدم الى ابي زيد وقال له: يا خال انا رفيقك لنجد.

فلما فرغ عزيز من كلامه، انتخى الامير يونس وقال انا معك يا عم لنجد، ففرح ابو زيد وايقن ببلوغ الوطر، ثم ودعوا اهاليهم وجدوا في قطع الروابي والآكام، مسافة تسعين يوما، فوصلوا لأرض قفرا، فرأوا بئرا فقصده يوينس ووجدوا دلوا وحبلا على جانب البئر، فشد الحبل فانقطه بوسط البئر، فهم عزيز القوم بالنزول فمنعه أبو زيد وقال له ذا بئر مملوء بالحشرات المؤذي المسمة، فسيروا الى أن يفرجها الله تعالى، فقال يونس لابد لي من النزول الى البئر لأني كدت أتلف من شدة العطش، فقال أبو زيد: الروح ما هي حشيشة حتى ينبت موضعها، والحشرات المؤذية لا تعرف لا أميرا ولا سلطانا، فقال يونس: دعك من هذا الكلام فما أحد ينزل الا أنا، فحينذ أخذ الحبل ونزل الى البئر فشرب وملأ الدلو، ولأجل نفوذ القضاء والقدر خرج عليه من جانب البئر ثعبان شنيع المنظر ولدغه بفخذه، فلما أحس يونس بضربة الثعبان غاب عن الوجود وزعق صوتا ارتج منه ذلك المكان، فغاب الثعبان عن عيونه وكان أبو زيد واقفا على جانب البئر، فقال: مالك يا يونس وما جرى عليك؟ فقال: لدغني ثعبان، ثم نهض لخارج البير وحس أن قلبه قد احترق بنار السعير، وشكا حاله لأبي زيد وعزيز، فنزلت دموعهما حرقة عليه.

ثم تودع منهما وشهق شهقة فأسلم الروح، فبكيا عليه وكفناه وصليا عليه ودفناه، ثم سارا حتى وصلا لنجد، ودخلا لحي الأمير حسن الجعبري، فوجدا فيه نفخ ودق الطبول والحي يهوج ويموج، ومرت أمامهما عجوز شمطاء لابسة حلة بيضاء، فحياها أبو زيد بالسلام فردت عليه السلام، فقال لها: هل عندك محل للمنام؟ فقالت له: أهلا وسهلا بكما.

وسارت بهما الى منزلها، وبعد أن جلسا قال أبو زيد مالي أرى الحي في فرح وسرور وبهجة وحبور؟

فقالت له: اعلم يا وجه العرب أن هذا عرس كريم، وهو عرس الأمير نوفل على الست عليا ابنة الأمير حسن الجعبري، وكانت سابقا زوجة الأمير أبي زيد، وكان ولدي راعيا لأبله وسكن بلاد الغرب ولا عاد له بعليا مأرب ولو يصل اليه خبر زفاف عليا لكان يحضر ويقتل نوفل، فقال لها: هل عندك للسر موضع؟ قالت: بئر عميق ما له قرار، فقال لها: أنا أبو زيد. فقالت له: أهلا وسهلا بعزنا وحامينا ولكن كم تنسر عليا لو بلغها خبر قدومك بالسلامة‍. فقال لها أبو زيد: وكيف نقدر أن نصل اليها وهي بين تلك الجموع الغفيرة؟ فأجابته: عند المساء نلبس عزيز ملبوس ابنتي مايسة، ونأخذ لعند عليا، وعندما يفرغ المنزل من الجميع، يلبس عزيز ملبوس عليا ونجعله عروسا مكانها، ونحضر أنا وعليا لهنا، ولا يعلم بنا أحد، فاستصوب أبو زيد هذا الرأي، وعندما أظلم الظلام لبس عزيز أحسن ملابس ابنتها وزينته وعطرته وأخذته برفقتها الى أن دخلت به لبيت عليا، فترحبت بهما وبالغت في اكرامهما، وعند انصراف الجميع تقدمت العجوز الى عليا وبشرتها بقدوم أبي زيد وقالت لها وهذا عزيز القوم، فلما نظرت اليه وتحققت الخبر سلمت عليه وقبلته، فقالت لها الآن ليس وقت سلام بل المراد منك أن تنزعي ثيابك وتلبسيهم لعزيز القوم، لأنه نظيرك بالحسن والجمال، وهو يليق أن يقوم مقامك ثم نذهب أنا وأنت لعند الأمير أبي زيد لأنه بانتظارنا، ففعلت وسارتا فلما رآهما أبو زيد مقبلتين فرح بعليا فرحا لا يوصف، وتقدم منها وتعانقا عناقا طويلا وتشاكيا من ألم الفراق.

هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من عزيز فانه كان ينتظر قدوم العريس، وبينما هو كذلك، اذ دخل عليه الأمير نوفل وجلس بجانبه ومد يده اليه، فنفر منه وقال له ليست هذه أفعال العرب يا قليل الأدب؟ فقال ما السبب حتى تبادريني بهذا الكلام يا بنت الكرام؟ فقال له: اعلم أن العروس لها على العريس نقوط، وأنا لما أخذني أبو زيد أعطاني ألف دينار وأنت أمير وابن أمير ويا حيف أبخل من طنجير، فلما سمع منه ذلك الكلام أراد أن يضربه بالحسام، فقال ورفعه على زنده وضرب به الأرض كاد يدخل طوله بالعرض، وأوثقه بالحبال وربطه بالعمود الى أن أصبح الصباح، أطلق سبيله ودام على هذا الحال مدة أربعة أيام، يأتي بالظلام طمعا بالوصال، فيربطه الى الصباح ولم يطلع أحدا على أمره، فبينما هو خارج من الدار فالتقى بعمه الهدار، وكان رجلا كبيرا وعليه سيمة الوقار، فحياه بالسلام فرد عليه وقال له مبارك يا عريس ان شاء الله تكون نلت مبتغاك، فتنهد نوفل من فؤاد حزين، فصاح به عمه ماذا دهاك؟ فقال له: اعلم يا عم أن كل يوم أذهب الى العروس طمعا ببلوغ المرام فتوثقني بالحبال والقيود وتربطني على العمود الى الصباح وها قد اطلعتك على سري وكشفت لك أمري، فأجابه الشيخ هل من يقدر عليك بالقوة؟ فقال لا يوجد أحد يقدر علي الا عزيز القوم، وهو الآن في المغارب، فهل ممكن أن يأتي الى هنا وهم يقاسون الأهوال والمتاعب؟ فأجابه الشيخ أيها الأمير ان أردت أن تزيل عنك هذا الهم اصنع لك شيشين أحدهما من دم والآخر من سم، فلما تطلب منها الوصال اضربها بشيش الدم، فان كانت أنثى تذل وتسكت وان كانت ذكرا يهوش ويتقدم، فاذا رأيتها بادرت اليك، اضربها بشيش السم وقيدها بالسلاسل والقيود، فشكره على ذلك وذهب للبيت وأخذ معه الشيشين، فلما رآه عزيز القوم قال له هل أحضرت الفلوس؟ قال له: ماعندنا يا ابنة الأنذال فلوس، فتقدم اليه ليكتفه، فضربه بشيش الدم فهاج، فلما نظره بهذه الحال أثنى عليه بشيش السم، فتقدم اليه وربطه من حلاوة الروح، ثم غير عزيز ملبوسه وتركه بحاله وذهب لعند أبي زيد وأنشد يقول:

يقول الفتى عزيز عما جرى له
ودموع عيني زايدات سكايب

ونيران قلبي كلما أقول تنطفي
يزيد لها جوا ضلوعي لهايب

جرح قديم يا خال ما ضامني
جرح الجديد يشد عليه العصائب

وقد أخبرتك يا هلالي سلامة
هيا بنا نرجع لأرض المغارب



فلما فرغ عزيز القوم من كلامه، وقع مغشيا عليه، فحزن أبو زيد وتكدر ورشوا الماء عليه حتى أفاق من غشيته، وصارت عليا تمزق القمصان والحرير وتربط الجروحات، فالتفت أبو زيد الى عليا وقال لها: اذا مات عزيز، لا أقدر أن آخذك معي لأن الطريق خطرة والمسافة بعيدة، فقالت: لابد لي من الذهاب معك وان مت أمت ولا أدع أعدائك يشمتون بك، فافتكر أبو زيد مدة من الزمن، ثم عول على أخذ عليا معه لكي ينطفي خبرهم ولا أحد من القوم يقتفي أثرهم، ثم بدأت عليا تدهن الجروحات بالمرهم، فعند ذلك راقت أحواله وسكن ألمه وقال له: قم بنا يا خال نسر قبل الصباح، والحدم لله راقت أحوالي وقاموا وركبوا مطاياهم وودعوا العجوز وأعطتها عليا عقد من الجوهر، وجدوا في قطع الروابي والقفار مقدار تسعين يوم حتى قطعوا حدود نجد، الى أن وصلوا لحدود غزة، وتلك الأراضي خالية من السكان، وفرغ الماء منهم واشتد عليهم الظمأ، فحاروا في أمرهم في تلك البيداء، فقال عزيز يا خال يوجد بئر في هذه الأطلال وهو قريب من هنا، فذهب أبو زيد اليه ومعه القربة، ولما نزل الى البئر وجد شيئا يختبط بذلك المكان له صريخ كصريخ الجان فارتد راجعا اليهما وعرفهما أن البئر جاف، فتعجبا من ذلك غاية العجب وقال له: يا خالي أنه لا يخلو من الماء لا صيف ولا شتاء، ثم أخذ الرمح بيده والقربة وتوجه الى البئر فوجد شيئا يتخبط فنكشه بالرمح، فاذا هو جدي ماعز وقع في الماء، فنزل وأطلعه وملأ القربة وذهب لعند خاله وقال ها هو ذا الماء، فشربوا وذبحوا الجدي وأكلوا، وبينما أبو زيد يغير جروحات عزيز القوم، أحس عزيز قلبه احترق بالنار وحقق أن السم وصل لقلبه، ولا فائدة من طبه، فقال لهما عن ذلك فندم أبو زيد وتحسر وقال لعزيز القوم سلامتك يا خال، فقال ما بها سلامة؟؟ ثم سالت عيناه بالدموع وصار يكتب الى أمه شيحة ويوصي خاله بهذا القصيد:

يقول عزيز القوم والنار بالحشا
دموع عيني زايدات سكايب

اسمع كلامي يا أمير سلامة
يا فارس الفرسان مذري الكتايب

فإن أتيت لأرض المغارب وشفتها
سلم على الإخوان ثم الحبايب

وسلم على الوريدي أبو علي
وقبل أياديه وحب الركايب

وسلم على أولاد خالي جميعهم
وسلم على القاضي سلام الحبايب

وسلم على زيان الأمير وأمه
وسلم على الزغبي دياب المحارب

وسلم على أمي الحزينة وقل لها
تبكي علي بالدموع السكايب

وان سألوك يا خال عني قل لهم
غدا رهين الموت تحت الترايب

هذا ترى يا خال آخر كلامنا
الله يساعدنا بوقت الحسايب



ثم أن عزيز شهق شهقة واحدة وألقى نظرة الوداع عليهما وأسلم الروح، فأقاما عليه البكاء والنواح، ثم دفناه ورحلا طالبين الديار يقطعان البراري والقفار حتى أشرفا على بلاد الغرب، فذهب الرعيان وأخبروا حسن وبقية السادات بمجيء أبي زيد، فركبوا جميعهم ورجال الحي، فلما وقعت العين على العين، ترجل حسن وباقي السادات وسلموا على أبي زيد وعليا وفرح شيبان واخواته بملاقاة عليا أمهم، أما حسن فسأل أبا زيد على يونس وعزيز، فعندا نزلت الدموع من عيني أبي زيد، وأخذ يقص عليهم ما كان من أمرهم وهم يسمعون، فوقع بينهم الصياح والبكاء، وعاد أبو زيد لمنزله وتبعه الرجال والنساء وصاروا يعزونه في يونس وعزيز ويهنئونه بعودته بالسلامة، ودامت الناس تتقاطر على أبي زيد مدة من الزمان.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:30 PM
الجزء الثاني والعشرون من تغريبة بني هلال



هذا ما كان من هؤلاء، وأما ما كان من أمر دياب فانه بعث كتابا الى الأمراء ليشفعوا له عند حسن وقد مضى عليه في السجن ثلاث سنين، يقاسي العذاب المهين، وفي السنة الرابعة كتب الى حسن يقول:

يقول أبو موسى دياب بن غانم
ولي مجلس بين الرجال شديد

أيا غاديا مني على متن ضامر
فسلم على حسن الفتى الصنديد

وقول له يا عز قيس وعامر
أيا من بسيفه ذل كل عنيد

أنا قتلتي مناع ما هي عداوة
وأنت في تلك الأمور شهيد

ضربته بالميدان والسوق منتصب
وقد كان في ذاك النهار عنيد

مشينا بالصلح بألفين ناقة
وألفين تبعها خدم وعبيد

من بعدها أخذت نافلة بنت غانم
شبيه الثريا في النهار تقيد

وبعد هذا أمحلت ننجد وأرضها
سبه سنين كاملة وتزيد

بعثتوا لكم رياد منكم وسافروا
وكان أبو سعدا لهم رصيد

حبس الفتى يحيى ومرعي ويونس
وأبو زيد وافاه التنكيد

وقال ارحلوا ما عاد في نجد عيشة
و لا عاد فيها يا هلال مفيد

رحل نجعنا الى أرض تونس
تقول بحارا طامية وتزيد

وجاء أبو خريبة ينهب لمالنا
وقد كان حبي بالطراد عنيد

ضربته بحد السيف رميت رأسه
وخليته تحت التراب لحد

فجاني سعيد في الحال قال لي
أعزيك في أجوادنا يا سيد

ركبت على ظهر الجواد كأني
أحاكي سكران بغير نبيذ

وجيت الى حرب الزناتي خليفة
وجتني قنوع ودمعها يزيد

ميتين عذر يا هلالي سلامة
ولا واحدة الا نظمت قصيد

تقول الزناتي اليوم أهفى لقومنا
دهانا وخلانا عالعمر في تعديد

وأنت ان أخذت الثار يا بو موسى
نعطيك ما تشتهي وتريد

ونعطيك أخت الهلالي أبو علي
مع عين تورز للشراب تريد

فقلت لهم أبشروا زال همكم
وفي ظني ما خاب منكم قصيد

وجاني أبو سعدة الزناتي خليفة
على ظهر أشهب بالطراد يكيد

ضربته بحربة سنها يخرق الحصا
وخليته تحت التراب مديد

وملكتكم كل المغارب بصارمي
ولا عاد شر ولا عاد تنكيد

جازيتني بالحبس يا أمير الملا
وهذا منك يا أمير ما يفيد

شنقت أخوتي وأولاد عمي
وخليت نساهم في بكا وتعديد



ثم طوى الكتاب وأرسله الى حسن فلما قرأه صار يرد جوابه.

ولما فرغ حسن من الكتاب، أرسله الى دياب، فعلم أن تعبه مع حسن بالمحال، وظل منتظرا الفرج من الله حتى مضت عليه السنة الخامسة، فاستدعى بقلم وقرطاس وصار يكتب الى شبل الدريدي ويرجوه أن يتشفع فيه عند حسن.

فلما فرغ دياب من تحرير الكتاب، أرسله مع الزحزاح الى الأمير شبل، فقرأه وبالحال لعند الأمير حسن وصار يتشفع بالأمير دياب. وأنشد يقول:

يقول أبو موسى دياب بن غانم
بدمع جرى فوق الخدود حدور

كنا بنجد في سرور وفي هنا
تجينا الفواكه مع جميع زهور

وكنا نصيد الوحش من واسع الفلا
والظبي في البراري شاردين نفور

ومن بعدها قد أمحلت نجد أرضها
سبع سنين كاملات وشهور

فجينا الى أض الزناتي خليفة
وقتل منكم كل قرم جسور

فجازاني حسن الهلالي أبو علي
في حبس مظلم والزمان قهور

فبالله يا زحزاح بلغ رسالتي
لشبل ابن فارسا وغيور

يسير الى حسن الهلالي أبو علي
يقول له دياب في الحيا مقبور

لعله يقبل يا أمير شفاعتك
ويطلقني وتنال أنت أجور

تخلت عني الناس يا أمير كلهم
ولا عاد يأتيني خليل يزور

متى ترجع الأيام ونرجع لأهلنا
ويحدث من بعد الأمور أمور

وأقتل حسن الهلالي أبو علي
ويمسي طعاما للوحش وطيور



فقال له: أنا ما نسيت قتل أخي مناع وحرق الحدائق وما فعل مع سعدى خطيبة ولدي مرعي، وحرق الزرع في تونس وروض البهرجان وقطع الطرق على العرب، وصار يخبر شبل بهذه القصيدة ويقول:

يقول الفتى حسن الهلالي أبو علي
والهم ما بين الضلوع شديد

ايا شبلي جيت تشفع في ابن غانم
يا أمير ترك دياب عاد بعيد

وقتله مناع أخي أنا ما نسيتها
وقد كان فارسا وفتى صنديد

وحرق حدائق البهرجان وغيره
وخلى جميع هلال بالتنكيد

وأخذ سعدا من قصرها ليعزها
فجازاها بالضرب والتشديد

نهيناه بالمعروف عن جرم فعله
عصى وانفرد عنا وعاش وحيد

وبعدها نوى يملك الغرب كله
ويبقي على أمر هلال يسيد



فلما فرغ حسن، رجع شبل وأخبر الزحزاح بما قال حسن، فرجع الزحزاح وأخبر دياب بالذي صار، فحينئذ قال دياب لا حول ولا قوة الا بالله، ودان بهذا الحال حتى مضت عليه السنة السادسة، فاستدعى بقلم وقرطاس وأشار يكتب الى سعد الرياشي ويترجاه أن يتشفع به أمام حسن ليطلقه من السجن، وأرسل الكتاب بصحبة الزحزاح، فلما وصل الى سعد الرياشي وقرأه وعرف ما حواه، سار الى حسن وقبل يديه ثم قال له:

يا ابن عمي اطلب مني ملكي، فلا أعزه عنك ولا تفتح لي سيرة اطاق دياب.

عندئذ ذهب سعد الى الزحزاح وأخبره بما قال السلطان، فرجع الزحزاح الى دياب وأخبره بما حصل، وأما بذلا فقد أخذت معها جملة من النساء وتوجهت نحو الصيوان، وصارت تتشفع في دياب وتذكر الأهل والأحباب الذين شنقهم حسن على الأخشاب، فقال لها حسن: أنا ما كنت مصدق على نفسي حتى حبست دياب، ولا أطلقه من السجن، فهذا حديث بطال، فارجعي الى الأطلال وكوني من هذا القبيل براحة بال، فحينئذ توجهت مع النساء الى محلها، وأما دياب فانه ما زال يقاسي العذاب وهو منتظر الفرج حتى بلغه خبر قدوم أبي زيد من بلاد نجد، فقال والله لا يقدر على خلاصي الا أبا زيد، وكتب كتابا الى أبي زيد وأعطاه للزحزاح وقال له سر الى نجد وأعط أبا زيد هذا الكتاب، فأخذه وسار وجد في قطع القفار، الى أن دخل لصيوان أبي زيد وسلم عليه وناوله الكتاب، فقرأه فتكدر أبو زيد من حسن، والتفت الى الزحزاح وقال له بشر الأمير دياب وقل له سيذهب الى حسن ويترجاه بدياب فان أطلقه والا أخرجته غصبا عن رقبته، فذهب الزحزاح وسار الى دياب فأخبره بكلام أبي زيد، ففرح دياب وأيقن بالفرج، هذا ما كان من حسن وبني هلال، ففي يوم من الأيام كان العربان والأمراء مجتمعين عند الأمير حسن في الديوان، فأخذوا يذكرون الوقائع المشهورة والفوارس المذكورة وصاروا يمدحون دياب وكيف ملكهم الغرب وحمى البوش من الدشمان وقتل الزناتي في ساحة الميدان، ويستحق أن يذكر مع الفرسان، وكان موجودا في الديوان أولاد الأمراء والشبان الذين لم يسمعوا بذكر دياب الا باللسان، فتشوقوا الى مشاهدته ولو ساعة، فترجوا السلطان أن يروه وساعدهم الأمراء، فقبل السلطان حسن رجاءهم وأمر أن يأتوا بدياب مكبلا بالقيود، فأحضروه أمام السلطان واذا هو أصفر اللون بهيئة الموتى، فصار أولاد الأمراء يضحكون عليه، فقال السلطان حسن كيف ترى نفسك الآن بالذل والهوان؟ فقال: أنا بخير ما دمت راضيا عني، وبعد مداولة طويلة أراد أن يرجعوه الى السجن، فقال دياب: ما أنا بمشمشة تهزني ولا قمح تكدني بغربالك، فان كان الذئب يصفو للغنم أنت تصفو لي وأنا أصفو لك، فصاح حسن خذوه الى السجن، فعند ذلك أخذ دياب يرتجف مظهرا الخوف الشديد، فوقع على الأرض مغشيا عليه كمن قارب الموت، فعند ذلك ترجى الأمراء الأمير حسن وقالوا له دياب في حالة نزاع، فأمر أن يدخلوه دار الحريم لعند أخته نوفلة، فحملوه الى بيت أخته، فلما نظرته على هذا الحال وهو محمول على أيادي الرجال، بكت وأنشدت تقول:

حرام لقد جار العداة وقد بغوا
علينا ونحن بالكروب نسير

لقد كنا في عز وكنا بنعمة
وكنا برغد ما عليه عسير

فبتنا نقاسي الهم والويل والضنا
وتجري الدموع على الخدود غزير

وقد كنت يا أمير الأمارة وسيدهم
كسبع الفلا بالماضيات تشير

اذا هاج سوق الحرب كنت أميره
تكر على الأعداء مثل الزير

وتحتك خضرا مثل فرخ نعامة
تدق الثرى في رجلها وتطير

فما كان ظني يا دياب بن غانم
أشوفك بهذا الحال والتأخير



مـقـتـل الـسـلـطـان حـسـن



وما زالت نوفلة تردد الأشعار وتسكب العبرات، حتى فتتت الأكباد وأحنت الأجساد، فبكى معها كل من حضر لأن الأمير دياب فارس مشتهر وبطل غضنفر، وأخذوا يطيبون خاطرها بسلامة دياب ويطمنونها، فما خفت مصيبتها، ثم مدت الى أخيها فرشة من ريش النعام وأخذت ترش عليه من ماء الخزام، وهو ينتفض ويرتعش، وبقي على هذه الحال ثلاثة أيام، لايذوق طعاما ولايقابل مناما، فحن عليه السلطان وفك قيده وأطلق سبيله، فصار يستغنم الفرص حتى لاحت له، فدخل على حسن وهو غارق في منامه، فسحب السكين وانطرح على حسن وذبحه وتركه يتخبط بدمه، وسار يجد السير تحت الظلام الى أن وصل الى قومه وعشيرته، ففرحوا به وانسروا لرؤيته وأخذوا يسألونه عن كيفية اطلاقه من سجن حسن، فأخذ يقص عليهم القصة ويخبرهم كيف سار من البداية الى النهاية.

هذا ما كان من الأمير دياب وهو يقص ما جرى على أولاد عمه، فلما سمعوا أنه قتل الأمير حسن، انقلبت أفراحهم الى أكدار وأظلم ف وجوههم النهار، وما منهم من أحد الا أظهر الحزن والأسف، وقالوا والله يا دياب لقد فعلت فعلا منكرا وسددت في وجوهنا الأبواب بقتلك حسن، فكيف تجاسرت على هذا العمل وهو صهرك وأمير بني هلال؟؟!

والآن قد أصبحنا عبرة عند العرب الكرام، فسوف يصير بنا كما صار مع جساس بن مرة والأمير كليب، ومن الآن أصبحت عداوة كبيرة بين عشائر بني هلال وسوف يصلون الينا، فقال دياب: لقد صار ما صار والأوفق لنا أن نرحل قبل أن تدركنا جموع بني هلال، ويقع الحرب بيننا وبينهم،فهدموا الأطناب وأودعوها ظهور الجمال وأركبوا النساء والأطفال في الهوادج وساروا يجدون في قطع الروابي والبطاح.

هذا ما كان من أمر الأمير دياب وأولاد عمه، وأما ما كان من عطور الجيد، لما انتبهت من رقادها وشاهدت الأمير حسن قتيلا فصاحت بالبكاء ومزقت ثيابها ناحت وولولت، فتراكضت جموع بني هلال على بكاها، فوجدوا الأمير حسن قتيلا، فعلت منهم الأصوات وسكبوا العبرات، فسمع أبو زيد الصراخ فوثب في الحال وأتى ينظر جموع بني هلال مزدحمة على صيوان الأمير حسن وهو قتيل، فبكى ومزق ثيابه ورمى شاشه وتقدم اليه ورمى نفسه عليه، فقبل يديه ووجنتيه، ثم وقع مغشيا عليه، فتراكض الناس وأخذوا يرشونه بالماء حتى صحي، فالتفت الى النافلة وقال لها أين كنت لما قتل أخوك سلطان العرب والعجم؟! فزادت النحيب والعويل وأقبلت أخته الجازية وهي تصيح وتبكي وتمزق ثيابها وتندب أخاها، ثم وقعت عليه تقبل قدميه وهي تولول وتصيح، فكان يوم حزن، يا له من يوم أظلمت الشمس في! ! وكثر البكاء والنواح والجازية تزيد بكاها وتندب أخاها.


( قال الراوي ):

فلما فرغت الجازية من رثائها وجموع ني هلال ناظرين مما قد دهاها، هطلت دموع بني هلال كالأمطار، وتقدمت مريم ابنة زهرة البان وزوجة أبي العوف، ووقفت فوق رأس الأمير حسن وأشارت تقول:

دمعي جرى فوق خدي وانسكب
والنار في قلبي تزيد من اللهب

يا بين شمت العدا فينا وما
كان العهد سبف الغدر ينسب

شمس المعارف أظلمت أنوارها
والليل أصبح بالمخاوف والكرب

بدر العلى يا حيف من فوق الثرى
يبقى طريقا والغربا فينا نعب

يا كوكب الاقبال يا أمير حسن
يا عزنا يا فخرنا يا منتسب

يا حيف هذا الوجه يعلاه الكدر
يا حيف هذا القد تفنيه الترب

الله يجازي دياب في حال العمى
الله يجازي دياب في هم وتعب

أرمى قلوب هلال في نار اللظى
ادعى الدموع تسيل من حرب النوب

يا مشبع الجوعان يا معزي الحزين
يا منقذ المكروب يا مولى العرب

أراه ناري بالحشا ما تنطفي
يا نكبتي يا حسرتي ركني ذهب



فلما فرغت مريم من قصيدها والكل يسمعون تعديدها، هطلت من عيونهم الدموع وزادوا في البكاء والنحيب، وكانوا يرثونه بالقصائد المحزنة ويقصفون لفراقه الرماح ويكسرون السيوف، ثم أجتمع مشايخ زحلان ودريد وتقدموا الى الأمير أبو زيد وقالوا له الأحسن رفع جثة الأمير حسن ودفنها، لأن كرامة الميت مأواه، وبذلك أمر رب الأرباب، فأجابهم أبو زيد الى ما طلبوه، ثم تقدموا بكل احترام ورفعوا الجثة وغسلوها وبروايح المسك والطيب رشوها، وتحت التراب وضعوها وذبحوا على قبره من الجزور والأغنام ما يكل عن وصفه اللسان، ثم أقاموا على القبر قبة عظيمة وزينزها بماء الذهب، وكتبوا عليها اسم الله الأعظم وتحته اسم الأمير حسن، ثم رجعوا وعملوا مناحة، وكانت تأتيهم العربان من كل مكان يعزونهم على فقد الأمير حسن، وبعد ما انقضت أيام المناحة وسكن روعهم، اجتمعوا في صيوان الأمير أبي زيد وقالوا له ماذا تأمن بأخذ ثار الأمير حسن؟؟ فاننا والله ا نرتاح ولانكف عن البكاء والنواح الا أن نأخذ بالثأر ونكشف المذلة والعار ونقتل دياب ومن معه، حتى لا يبقى منهم من ينفخ نارا ووفيتم الحريم والأولاد ونجعلهم عبرة كنسل الأوغاد، فأجابهم أبو زيد الى ما طلبوه، وقال لهم:وحق الركن والحجر والبيت المطهر أنكم لو تعلمون ما بقلبي لرثيتم لكربي، فاني أول من يتقدم لأخذ الثار وكشف العار، واني والله سوف أنزل في آل غانم الفنا ولا أبقي لهم بقاء، وسوف أطلب دياب على رؤوس الحبال وأبقيه بأوشم حال، وقد صار الأولى بنا أن نستعد للرحيل في أثر آل غانم ونوقع بهم المآثم، في هذه الليلة دوروا بين البيوت وأخبروا البنات والنسوان أن يكن على استعداد للرحيل، وتتبع أثرهم ولو طاروا، فعند ذلك طافت الرجال بين الأطناب وأخبروا القوم بهذا الأمر، وما مضت الثلاثة أيام الا وكنت ترى النساء والأطفال على ظهور الجمال والرجال على الخيول معتقلين بالرماح والسيوف، وفي مقدمة الجيش أبو زيد حامي جيوش بني هلال وهو أمامهم كالأسد الرئبال وتحته أشهب وعليه سرج مرصع بالذهب وهو فوقه يموج ببحر السرج كأنه قلة من القلل أو قطعة فصلت من جبل، بيده رمح ماضي السنان، وعلى جنبه سيف يمان، وقد أفرغ على صدره درعا من البولاد محبوكا بالزرد.

هذا وقد انتشرت البيارق والرايات ودقت الطبول، فسمع لها رجات وأخذ الخيل تتسابق، فعند ذلك أخذ أبو زيد يقول:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
والنار في قلبي تزيد شعال

والخيل تعرف أني ما ركبتها
الا جعلت القوم بأوشم حال

لي سيف ماضي الحد قطاع الرقاب
لو صاب صخر الصم فيه قلت مال

بالله اسمعوا بالله افهموا يا قومنا
وكونوا سباعا للقا يا هلال

اليوم آخذ الثار من زغبي دياب
ذاك الذي أرمى حسن بنكال

شدوا العزايم يا هلال تجردوا
للحرب ما تكونوا به أنذال

وتذكروا السلطان حسن كيف انقضى
وكيف قد غدا والدم منه سال

عاداتكم بالحرب ترمون العدا
فوق الثرى وتقطعوا الأوصال

ومن من مجال الطعن يلوي وينهزم
فذاك عندي من بني الأرذال

وأهدي سلامي للسلطان حسن
وأكرر الأشواق للمفضل

وحياة عينك يا حسن لازم أكيد
نأخذ لثأرك بالقنا ونصال

لازم أقطع رأس هذا الوغد اللئيم
دياب ابن غانم اللي بنا احتال

وادعي الزغابة بالذل طول المدى
وادعي النسا بالضيق والأهوال



فلما فراغ أبو زيد من كلامه، صاحوا عن فرد لسان: والله يا أبا زيد أننا نفديك بأرواحنا لأنك مضمد جراحنا، وما قمنا الا لأخذ الثأر وكشف العار، فعند ذلك ساروا وما زالوا سائرين ليلا ونهارا حتى دخلوا تونس الغرب، فلاقتهم أهل تونس وقدموا لهم الخضوع والطاعة، وما كان في تونس الا القليل من آل زغبي، فأتوا واضعين على أعناقهم المحارم وأظهروا للأمير أبو زيد الحزن والأسف على فقد حسن، وما منهم الا وكان يلعن دياب، فسألهم أبو زيد عنه، فأخبروه أنه رحل الى بلاد الحبش هو وبعض قومه، فلما سمع أبو زيد هذا الكلام، أمر الجيش أن يتابع السير خلف دياب، فجدوا في السير في أثر دياب، ومازالوا يسألون عنه الى أن ضاق بهم الحال ولم يعلموا أين رحل، فكادوا يهلكون من الجوع والعطش في ذلك البر المقفر، فرجعوا على الأعقاب، ولما وصلوا الى الأطلال نصبوا أبا زيد سلطانا عليهم وعلى جميع بلاد الغرب، أما دياب فما زال يقطع الروابي والقفار الى أن وصل الى بلاد الحبش، فسمع به ملك تلك البلاد، فخرج لملاقاته بكل استعداد، وكان راكبا على جواد أشهب، عليه سرج مرصه بالجوهر ومعه الأحشام والأعوان والعبيد والغلمان والنساء بالدفوف والمزاهر وفي أيديهم القماقم المملوءة بالمسك وماء الزهر، فلما التقت الرجال بالرجال، نزل الملك عن جواده وترجل هو ومن معه وحيوا دياب وقومه، تحيات الأصحاب والأحباب، وأخذوا يرشون عليهم الطيوب التي تشفي الكروب وعند ذلك أرسل بهم الى المضارب والخيام وذبح لهم الجزور والأغنام وأعطاهم أحسن مجلس ومقام، وقال لهم أنتم السادات ونحن العبيد.

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:32 PM
الجزء الثالث والعشرون
مقتل الأمير أبي زيد

هذا ما كان من جوهر صاحب التاج، وأما دياب فانه شكره على ما أبداه، وقال له: اعلم أننا قد أتينا ضيوفا لنقيم عندك مدة من الزمان، وبعد ذلك نرحل، فقال: أهلا وسهلا بكم، ثم أنزل دياب في أحد قصوره وفرض لهم مكانا واسعا وأعد لهم محلا يرعون فيه المواشي، وبقي دياب مع الأمير جوهر في أعز واكرام وبسط وانشراح مدة من الزمان، أما أبو زيد فانه كان في أحد الأيام جالسا في بيته تذكر أرض نجد وعزها وما لاقى فيها من الهنا والراحة أيام الصبا، ثم تذكر الأهوال التي لاقاها في الطريق، حتى وصلوا الى بلاد الغرب، وتذكر زيدان والخفاجي عامر والقاضي بدير بن فايد وعقل ونصر وبدر بن غانم وأولاده وأولاد حسن الذين قتلهم العلام، فصار يبكي ثم تشوق الى رؤية دياب وقال: هذا رفيق عمري وحامل الشدات معي، وان كان قتل حسن فقد خلص عمره ومات بيومه، ثم خطر بباله أن يرسل يستعطف بخاطر دياب ويطلب منه أن يرجع الى بلاده، فكتب له جوابا بهذا المعنى

وختمه بختمه وأرسله مع النجاب، فأخذه وسار به يطوي الفيافي والقفار حتى وصل الى بلاد الحبش، فسأل عن دياب فأهداه عليه وأعطاه الكتاب لأخذه منه وفضه وقرأه وعرف رموزه ومعناه ورد عليه ثم طوى الكتاب وختمه وأعطاه الى النجاب، فأخذه وسار به وجد بقطع الروابي والقفار حتى وصل الى بلاد الغرب، فدخل على الأمير أبو زيد، وأعطاه الكتاب فقرأه، وبعد ذلك استدعى بعشرة أمراء من أولاد عمه وأولاد عم الأمير حسن وأرسلهم ليصالحوا الأمير دياب، ومازالوا يطوون الفيافي والقفار الى أن وصلوا لعند الأمير دياب ودخلوا عليه فلاقاهم وسلموا على بعضهم البعضوسألهم عن أبي زيد، فقالوا: أرسلنا لنرجع الصلح بينكم وتعودوا كما كنتم في القديم، فعند ذلك سار دياب الى الملك جوهر وودعه وركب بقومه ورجاله والشعرة الأمراء الى أن دخلوا بلاد الغرب، فخرج أبو زيد واستقبلهم وتصالحوا ورجعوا الى الأوطان، وعمل أبو زيد وليمة فاخرة وذبح الذبائح، فأطعم الغادي والرايح، وصار أبو زيد ودياب في محبة زايدة، ولكن أبو زيد ما أرجع لدياب ملكه وبقي هو الحاكم، فما هان على دياب وصار يقول: عسى أن يرجع لي ملكي والبلاد التي أخذوها مني وأبو زيد عاطي قفا، فاغتاظ دياب ونوى الشر لأبي زيد وقال في نفسه أنا صنعت دبوسا وسكينا، فالسكين قتلت بها حسن والدبوس لأبي زيد، فخلصنا من واحد وبقي علينا الآخر، وصار من ذلك الوقت يحمل الدبوس وكان بسبع فراشات من تحت العباية حت لا يلحظ عليه أبو زيد، الى أن خرجوا ذات يوم للصيد والقنص وكان مع أبي زيد جماعة من قومه، فوصلوا الى البر وتفرقت الفرسان ويلعب كأنه في الميدان، فصار يعمل ثله أبو زيد مقدار نصف ساعة، وبع ذلك خلى دياب ابا زيد سائرا أمامه، فصاح به: خذها من دياب، فالتفت أبو زيد مرعوبا فوجد في يد دياب سنبلة قمح، فضحك دياب وعمل الأمر ثلاث مرات ورابع مرة صاح دياب خدها من يد دياب، فلما التفت أبو زيد وظن أنها ضحكة مثل العادة، عند ذلك لكز دياب الشهبا طلعت كالريح حتى قربت من أبي زيد، فسحب الدبوس وضربه على رأسه، فطلع بزر مخه على الدبوس، فوقع أبو زيد على الأرض غميان، فوقف دياب وأخذته الشفقة فصار ينظر اليه ويبكي ويلعن الحمق ففتح أبو زيد عينيه وجد دياب واقفا، فقال له: ما كان ظني فيك يا دياب أن تغدر بي، ثم تنفس الصعداء وأشار يقول:

مقتل أبي زيد الهلالي




قال أبو زيد الحزين الهايم
دمع عيني على خدي سجايم

أيا دياب الخيل يا ولد غانم
أيا صاحب الأفضال بين العوالم

ما كان ظني يا دياب تخزنني
وتدعي صحبتك فوق الردايم

آلمتني يا دياب بضربتك
أيا حيف كنا يا أمير لزايم

ضيعت معروفي كسرت بخاطري
كم مرة خلصتك بضرب الصوارم

كم مرة أرادوا قتلك وشنقك
وأكون أنا لهم حقا مخاصم

أوصيك وصايا يا دياب احفظها
كرامة الى ربك اله العوالم

أول وصية في أولاد أبو علي
حسن سلطاننا من زمان قديم

ثاني وصية في أولادي جميعهم
رزق وريا وكل المحارم

وثالث وصية يا دياب بعليا
صبرا وشهلا راخيات الكمايم

فاحمي حريمي يا دياب من العدا
اذا جاء طارق بليل الظلايم

والجازية يا دياب أم محمد
دعها على قبري تقيم العلايم

يا ما تقضي بيننا عز وهنا
عجلت في قتلي أيا ولد غانم

اذكر أيام الحروب التي مضت
لما أصيح يا دياب ابن غانم

تجيني على الشهبا كما الريح جريها
ندعي دم الأبطال عالأرض عايم

ولما تصيح يا هلالي سلامة
ألبيك في عزم متين القوايم

ياما شربنا الكاس والسعد داير
وحسادنا في قلبهم منا سمايم

مقال الحزين ابن رزق سلامة
لقد سلمت روحي لرب العوالم



فلما فرغ أبو زيد من كلامه دمعت عينـا ديـاب وضمّه الى صدره وأنشد يقول:

يقول الفتى الزغبي دياب الماجد
ودمع العين على الخدود بحار

بغيتم علينا يا هلالي سلامة
فعايلك عندي لها أسفار

لما أتينا الغرب نحو خليفة
تركنا لنجد والفؤاد بنار

فقمتم ضربتوا الشورى يا أبو مخيمر
أنت والجازية وأبو علي المكار

قلتم دياب الخيل يرعى جمالنا
في سهلها وحرشها وقفار

أخذت أنا البوش سرت بسرعة
وقبلت على نفسي وسوم العار

جاني أبو خريبة وراح من صارمي
ومكحول مني ذاق كل بوار

لما عجزتم عن حروب خليفة
قمتم ضربتم على الزغابي شوار

عملتم عليهم قرعة يا سلامي
وأنا غايب عنهم بعيد الدار

راحوا جميعا واخزنا عليهم
وراحوا الأمار بالتراب دمار

زيدان أخويا كان شيخ شبابكم
ونصر وعقل الاثنين كالأقمار

ولا عاد فيكم يا هلال مقاوم
ولا عاد فيكم فارس جبار

أتتكم سعدة مثل شمس منيرة
بنت الزناتي تشبه الأقمار

قالت لكم أبويا يهلك جموعكم
لأن أبويا فارس مغوار

فلا بقتله الا دياب بن غانم
لأنه صميدع فارس جبار

أتاني أبوي غانم الشيخ ع العصا
وخبروني عما بالأمارا صار

قال لي قم خذ ثار أخوك
أجارك الهي من عذاب النار

وقلت له يابوي رد وارتجع
أنا ما عدت ألعب مع أولاد صغار

الزم حسن وأبو زيد يرسل مكاتبة
أجيهم على الخضرا كشعلة نار

قصيتوا شعور بناتكم يا سلامة
وخطل بيدي يا سلامة جهار

تقولوا تعال الينا يا ولد غانم
ترانا بضيقة والهموم كثار

أتيت اليكم أنا من فوق خضرة
لها جرى يسبق هوى التيار

فتحت لسوق الحرب مع ولد حمير
ثلاثين يوما ليلها ونهار

راحت الخضرا طريحة على الوطا
وعقلي وحق ربي عليها طار

من بعدها قد جيت نحو خليفة
أصليت أنا الشر مثل النار

جاني وجيته فوق شهبا أصيلة
بيضة حمامي مثل ضوء نهار

أذقته حربا كالصبر طعمه
فراح يكتب لي كتابا مستجار

يقول لي دياب الخيل بالله جيرني
وخذ الى رزقي أيا مغوار

فلما سمعت قوله ماردت صالحه
زيدان فتح لي جروح كبار

طعنت الزناتي طعنة في عينه
فراح أبو سعدة وصار دمار

أخذنا الى تونس وكل بلادها
وطاعت الينا صغارها وكبار

قسمتوا بلاد الغرب قسمة مثلثة
وكل واحد بقسمته قد صار

هذا برأيك أنت يا بو مخيمر
أما حسن بذي الأمور حمار

تعدى بقتل أولاد عمي جميعهم
مع اخوتي وقرايبي الأخيار

قاضي العرب حكم بحبسي مخالفة
في حبس مظلم يقصف الأعمار

سبع سنين كاملة في حبوسكم
أقاسي عذاب الذل والاكدار

وأنت مغمض عينك راضيا
كأن مالك بذي الأمور خبار

حتى سمح ربي باطلاق عبده
سبحان ربي كاشف الأسرار

جيت الى قصري وجدته مكنسا
أخذتم الى مالي وكل جوار

فنويت أني سوف أفني جموعكم
وأفني عبيدكم مع الأحرار

وأقتل حسن وكل من يطاوعه
وأملك بلاد الغرب بالبتار

وقد عانني ربي ونلت بغيتي
وأجريت فعلي بالذي قد صار

فأوصيك يا أبو زيد مني وصية
سلم على زيدان عز الجار

وسلم على أولاد أختي وأبوهم
عقل ونصر وعمهم نصار

وسلم على خالي بدير بن فايد
وسلم على الأمارا وأخيار

أودعتك الله يا هلالي سلامة
غدا نلتقي في آخر الأعمار



ثم ركب دياب جواده وترك أبا زيد وسار، فاجتمع بقومه فرأوه مرتبكا وسألوه عن حاله، فقال لهم: قتلتلأبا زيد وما بقي الا أن نسرح ونملك بلاد الغرب، وأصير السلطان عليه، فما بقي أحد يخاصمني، ثم أن دياب سار الى تونس ودخل الى سراية الأحكام ونادى باسمه وأخبر أنه قتل ابا زيد وأنه هو الحاكم على كل البلاد، فصار من يعانده يقتله ومن يطيعه ينعم عليه.

يرجع الكلام الى جماعة أبي زيد، لما وصلوا اليه وجدوه مطروحا على الأرض فصاحوا وناحوا وحملوه تارة يغشى عليه وتارة يصحى، حتى أوصلوه الى الحريم، فصاحت النساء وخرجن بلا براقع ومزقن ثيابهن وأقمن البكاء والمناحات، واجتمع العربان من كل ناحية ومكان، وأما الجازية فانها أرخت شعورها ونتفت خدودها.

فلما فرغت الجازية من ندبها أغمي عليها، ثم تقدمت بعدها عليا وهي تنتف شعرها وتمزق ثيابها، وقد زادت في بكاها وانتحابها وقبلته بين عينيه، وقالت له: سلامتك يا أبا الأبطال ويا زينة الرجال، وجعلت ترثيه بأبيات مؤثرة.

فلما فرغت عليا، بكت النسوان وصاروا في ضجة وأبو زيد غميان، ولما أفاق من غشوته تأسف على نفسه وكيف باق فيه دياب، وصار يودع أهله وعشيرته ومما قاله:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ولي همة شاعت في كل بلاد

ولا وقعة الا وكنت بوسطها
ولا معركة الا ولي تنقاد

ولا كل رجل يكشف مهمة
ولا كل من طلب المعالي ساد



فلما فرغ أبو زيد، شهق شهقة واحدة، ففاضت روحه فكثر البكاء والنواح وغسلوه ودفنوه بجوار الأمير حسن، أما دياب فبلغه أن الأمير أبا زيد مات، فجمع ستين ألفا من قومه وسار الى بلاد القيروان، ليجري حكمه ويعمل كما عمل بتونس، ولما سمع بنو زحلان ودريد هذا الخبر، تشاوروا مع بعضهم، فاتفقوا أن يطيعوا دياب لأن ما لهم على حربه طاقة، ولما قرب منهم أتت الجازية وصارت تنخيهم، فما ردوا فبكت وقال: ما فيكم أحد يخاصم دياب وهو كبير وخرفان.

فلما انتهت أم محمد، ما أحد رد عليها الا أن بني دريد وزحلان وعامر وضعوا المناديل في رقابهم وخرجوا ينادون يا دياب أنت ملكنا ولا أحد منا يعصي لك أمرا، فدخل الأمير دياب وجلس على كرسي الأمير حسن، فهنأه الأمراء ودعوا له بالنصر، وأما الجازية والنافلة والحريم والأولاد فانهم تخلفوا، وفي الليل ركبوا وساروا مع كثير من قومهم وتسلطن دياب على بلاد الغرب، وصارت تأتيه الهدايا والتحف ورتب الأحكام وعزل ثم سأل عن اولاد حسن وأبي زيد، فأخبروه أن الجازية هربت فيهم مع بقية النسوان وتبعهم ثلاثون ألف نفس من بني دريد وزحلان، فتكدر وقال: كان بفكري أن أرتب لهم معاشا وأقوم بوصية الأمير أبو زيد، ثم ركب وتبعهم فما لحقهم، فرجع متكدرا.

يرجع الكلام الى بلاد الكوع، كان يحكمها سلطان اسمه شمعون، وكان له وزير اسمه أبو الجود، فلما قتل الزناتي وملكوا بلاد الغرب، قال لوزيره أن بني هلال وصلوا الى بلادنا وهم فرسان لا يوجد مثلهم في هذا الزمان سيما فيهم فارس اسمه أبو زيد من الأبطال العظام وفارس اسمه دياب بن غانم، وأخاف أن يصل شرهم الينا، فقال الوزير: خذ لهم الهدايا من الجواهر وسر الى الأمير حسن وقدم له الهدايا، ويصير بينك وبينه مودة وصحبة، فاستحستن شمعون هذا الرأي، فحمل الهدايا على الجمال وسار بألف فارس من أعيان قومه، ودخل على الأمير حسن وقدم له الهديا وسلم عليه، فترحب به وعملت الولائم، ووقعت المحبة والمودة، ثم عاد الى بلاده وبقي في أمان الى أن قتل الأمير حسن وأبو زيد، فعظم عليه الأمر وقال لوزيره: مرادي أن أجمع العساكر وأذهب الى بني هلال، فلا بد أن يكونوا وقعوا في بعض، فمن الموافق أن نكون حاضرين ونساعد القوي ويملك البلاد، ونكون قد قتلنا دياب لأنه صار شيخا كبيرا، ثم جمع العساكر وسار قاصدا بني هلال حتى دخل حدود الغرب، فنظر الغبار قد علا وسد منافس الأقطار، ثم انكشف عن ثلاثين ألف فارس ومعهم حريم ونسوان، فسأل عنهم فأخبروه بأن هؤلاء حريم حسن وأبو زيد وأولادهم اليتامى هاربين من دياب خوفا على أنفسهم، فاستدعاهم فحضرت الجازية فسألها عن الخبر، فأشارت تقول:

تقول فتاة الحي أم محمد
بدمع جرى فوق الخدود غزار

وأصغي لقولي يا حماة الدار
ألا يا ملك شمعون اسمع قصتي

وهؤلاء يا ملك عبيدنا وجوار
أنا بنت سرحان أخت أبو علي

نمرح فيها ليلا مع نهار
كنا بنجد في سرور وفي هنا

أتانا الزناتي مثل شعلة نار
رحلنا لأرض القيروان وقابس

برأس رمحه المرهف البتار
قتل منا تسعين قتيلا مجربا

بعزم شديد يفتت الأحجار
قتله أبو وطفا دياب بن غانم

ملكنا مداينها مع الأنهار
ملكنا بقتله سائر الغرب يا ملك

ويقعد به سلطان أيا مغوار
أراد دياب يملك القصر وحده

سبع سنين في بلاء واكدار
حبسه أخي سبع سنين كوامل

وأطلقه أبو زيد الهلالي غصيبة
وهذه حيلة منهم عليه دار

وجانا دياب مع أكابر قومه
وقلبه أسود خائنا غدار

دياب ذبح حسن فوق عال فراشه
وخلاه يتخبط ميمنة ويسار

وراح هرب هو وكل جموعه
دخل بلاد الزنج والأقفار

جابه أبو زيد طيب بخاطره
وأرسله مكتوب بالاحضار

وبعده أتوا للصيد في عز وهنا
ولعبوا بالجريد كم مشوار

فشال دياب من تحت باطه لسلامة
دبوس حديد فيه ألف مسمار

ضرب به سلامة أرماه على الثرى
ضربات دياب ما عليها عيار

فجينا الى عندك طالبين مكارمك
يا برمكي يا مكرم الزوار

وعاد دياب مالك الغرب كلها
وصار ملك والعز له صار

هذا ما جرى فينا وهذا ما اصابنا
والدهر دولاب علينا دار



فلما فرغت الجازية من كلامها أشار الملك شمعون يرد عليها ويقول:

يقول الملك شمعون والقول صادق
نيران قلبي زايدات سعار

ألا فأبشري بالخير يا أم محمد
لقد زال عنكم سائر الأكدار

وقلبي على حسن الهلالي موجعا
وأبو زيد خلا الدموع غراز

ولكن لهم أولاد يخلفوهم
ويسقوا دياب علقما ومرار

أنا كنت سائر نحوكم لأعينكم
وأنظر ماذا بينكم قد صار

ولكن أتيتم سالمين بأهلهم
فابقوا واصبروا والفلك دوار

وارعوا أراضينا واجنوا ثمارها
فأنتم والله أكرم الخطار

لكم عندنا الإكرام والخير والهنا
والعز والناموس والأوقار



فلما فرغ شمعون من كلامه والجازية تسمع نظامه، قالت له ارجع فما الآن وقت ذهاب، لأن دياب له سطوة في بني هلال وألقى الرعب في قلوب الجميع، وما أنت من رجاله، فالأوفق نصبر الى أن يأتي الفرج وهو قريب لأن دياب كبير السن وما له سوى ولد صغير يرضع، اسمه نصر الدين، أما الجازية فتركت اليتامى عند الملك شمعون، فعين لهم أرضا وصاروا يرعون المراعي، وما عاد للجازية هم الا تربية اليتامى وتعليمهم الحرب والقتال، ولما وصل خبرهم الى الأمير دياب، فأراد يجمع العساكر ويذهب اليهم، فقال له بنو زغبة: الأوفق أن لا نذهب اليهم لأن بلاد شمعون حارة، اذا طال بنا الحرب نهلك ونعطش، وربما بني دريد وزحلان اتفقوا مع الأولاد، فيطول علينا الحال، فقال: أنا خايف أن ينتظروا حتى أموت، ويأتوا ويملكوا البلاد ويذلوا ابني ويذلوكم، فقالوا له: الأوفق أن تكتب كتابا الى الملك شمعون توعده بالمال حتى يقتلهم، فاستصوب هذا الأمر وتوسل الى شمعون يقول:

يقول الفتى الزغبي دياب الماجد
ونيران قلبي زايدات سعير

يا أيها الغادي على متن ضامر
تسبق هبوب الريح عند مسير

اذا جيت للكوع فانزل بربعها
واعقل جوادك بالزمام وغير

وأعط للسلطان شمعون تقتل اليتامى
وتدعيهم على وجه التراب عفير

ولا تغرك الجازية أم محمد وحسن وجهها
أصل الفتن تأتي من الوجه المنير

وخذ أموال دريد وجمالهم
وأبقى أنا لك بالحروب نصير



فلما فرغ دياب من الكتاب، سلمه الى راشد بن نبهان ليوصله الى الملك شمعون، فسار حتى دخل بلاد الكوع، فصادفه الوزير أبو الجود، فأخذ الكتاب وقرأه فأدخل الرسول للضيافة وأخذ الخطاب واستدعى الأولاد وقال لهم: اقرءوا هذا الكتاب، فلما قرءوه خافوا وقالوا: نحن واقعين عليك يا وزير، فقال: لا تخافوا لأن الملك اذا نظر الكتاب يقتلكم، لأنه طماع ويخاف من دياب، وما لكم الا أن ترسلوا له الجازية تدلع عليه، فهو وقع في هواها، فقالوا لا يليق بنا أن نكلم الجازية هذا الكلام، فقال لهم: أنا أحضرها وفي الحال بعث رواءها فجاءت وقرأت المكتوب فتكدرت وقالت ما الرأي عندك؟ فقال: الرأي أن تذهبي الى الملك شمعون وتدخلي عليه، فانه لا يضركم فقالت له: أنا امرأة مسلمة وزوجي شريف النسب، فلما سمع أبو الجود كلامها قال في باله هذه المرأة تكرم دينها، فالأوفق أن أساعدها، ثم قال لها:

أنتم معكم ثلاثون ألف فارس، وأنا عندي اثنا عشر ألف فارس، فالجملة اثنان وأربعون ألفا، فأرسلي أولاد أخيك الى السلطان شمعون، يقولون له مرادنا نزوجك عمتنا، فيفرح بذلك أنه واقع بهواك، فمتى دخلت عليه يدخل معك شيبان ويذبحه، ثم نقتل اليهود ونملك البلاد ونقيم حاكما من أولاد أخوتك، وأنا أتزوج بك وتصير البلاد في يدنا، فاتفقوا على ذلك وذهبوا الى الملك شمعون وعرضوا طلبهم، ففرح وقال لهم: مهما شئتم فاطلبوا، فقالوا له: لا نريدك الا سالما، ثم أحضروا الحاخام فكتب كتاب الجازية على الملك شمعون، وبعد تمام الفرح دخلت على شمعون فوجدته منتظرها في قاعة النوم وعليه الملابس الخفيفة ودخل معها شيبان بن أبي زيد وبيده الخنجر، فضربه به وقطه رأسه ووقف في طاقة القصر وقال قضي الأمر، وكان الوزير والأمراء منتظرين تحت القصر، فغاروا على اليهود وأبلوهم بالذل، وقتلوا أعيانهم وملكوا القلاع وأهلكوا رؤساء العساكر وما أصبح الصباح حتى انتهوا من الأعمال ودخلوا سراية الحكومة وأجلسوا الأمير بريقع ابن السلطان حسن ملكا على بلاد الكوع، وفرق العساكر في جميع الجهات وراق له الحال، فلما شاهد الرسول ما صار، خاف على نفسه فهرب الى دياب، فأخبره بالخبر، فقال له أحد الأمراء أنت قتلت الحية وتركت رأسها، هؤلاء الأولاد لا بد ما يأتوا ويأخذوا منك بثأرهم، فضحك دياب وأخذ يكتب لليتامى كتابا، فلما وصل اليهم قرءوه، فقالت الجازية أن دياب قلبه دليله والذي له عدو لا ينام، ثم كتبت الى دياب تقول:

برق يلمع من خلال اليماني
هيج بالقلب وجدي بعد ما دهاني

والريح هبت في ضميري وخاطري
الله يقهر كل ظالم خوان

دياب يا أمير ترسل تهددنا
كنا لكم يا أمير بالوغى اخوان

نحن تركنا لك بلادا تخصنا
ولا عدت تنظرنا بطول الزمان

الله يسامحكم بها ويطول عمركم
وتدوموا بخير يا أبا الاحسان

والله يعوض أبا دياب بغيركم
فصرنا ملوكا وعاد الدهر كما كان



فلما فرغت الجازية من كلامها، طوت الكتاب وأعطته للرسول، أخذه وسار الى دياب، فناوله اكتاب ففضه وقرأه، فقال: لا بد ما أرتب وأدهمهم في بلادهم، وفي ذات الأيام أتوا شعراء فمدحوا السلطان دياب ووصفوا له بنت الأمير ماجد بن الهدهاد، فسأل دياب عنها فأخبروه أنها لم يوجد مثلها في الدنيا، وكان خاطبها السلطان حسن لابنه بريقع، فعند ذلك قال دياب والله نحن أحق بها من الغير، ثم كتب مكتوبا الى الأمير ماجد يطلب ابنته، وبعث المكتوب مع الأمير عرندس، فأخذه وسار حتى دخل على الأمير ماجد، أعطاه الكتاب فقرأه وترحب في عرندس واستشار قومه، فقالوا له ابعث وقل له بنتي مخطوبة الى الأمير بريقع، ولا يليق أن أفسخ الخطبة والأمير بريقع ابن عمك، فكتب الى دياب وأرسل المكتوب مع عرندس، ثم قال: هلموا بنا الى نجع الأمير بريقع لئلا يأتي فيقتلنا ويقتل أولادنا، فهدموا البيوت وحملوا حريمهم وساروا يقطعون الفيافي والقفار، قاصدين بلاد الكوع، أما عرندس دخل على دياب وأعطاه الكتاب ففضه وقرأه، فغضب غضبا شديدا وركب بالفرسان والأبطال، قاصدا ماجدا حتى وصل الى بلاده، وجد الأرض قفرة والمزار بعيدا، فرجع وأرسل الجواسيس تفتش عليه، وكان عند دياب بنت أخته وهي بنت الأمير حسن واسمها أمينة، وكانت لما هربت الجازية واخوتها، بقيت هي وأخذها دياب ووضعها عنده، وكانت بنت دياب تشتم لها اخوتها وأولاد أبي زيد وتقول: لا بد أبي ما يقتلهم! ! وقد سمعت أن أبي أمر يجيب اخوتك ويخدمهم عنده وان ما قبلوا يسير إليهم، فقالت: ان اخوتي صاروا ملوكا، ولا بد ما يأتون ويأخذون بالثأر من أبيك، فغضبت منها وضربتها فتركتها وراحت الى قبر أبيها، وصارت تبكي، وإذا برجلين مقبلين واحد أبيض والثاني عبد، فوصلا الى قبر الأمير حسن وأبي زيد، وصارا يبكيان، فقالت لهما: من أنتما وعلى من تبكيان؟ فقال لها أحدهما: نبكي على موالينا وأسيادنا أنا بدر بن قاشع وهذا عبد أخيك وكنا عائشين بنعمتكم حتى غدر بنا الزمان، رحنا مع اخوتك وصرنا نسافر مثل المكارية من بلد الى بلد، والآن ذاهبون الى بلاد الكوع فان كان لك غرض أو وصية فانا نوصلها لك، فأشارت تكتب الى اخوتها وتقول:

تقول أمينة بنت من ساد ذكرها
بدمع جرى من مقلة العين عايم

تعاندني الأيام والدهر هانني
وصرت حزينة والعقل صار هايم

أداري أنا روحي وأكتم بخاطري
ولا أعرف الراحات والرب عالم

يا أيها الغادي على متن ضامر
تشق فلاة الأرض مثل النسايم

فأهدي سلامي ثم أعطي رسالتي
رسالة محزونة تذوق العدايم

الى أخوتي عز الملوك اذا علوا
وسلم على أولاد عمي اللزايم

يجوني على خيل كما الريح جريها
عليها شباب كالليوث الضياغم

بكل مهندي والرديني بكفه
لسان الحنش مسقى بسم الأراقم

عسى يأخذون الثار من ولد غانم
ويدعوه فوق الأرض مرمي وعادم

تبقى بلاد الغرب طوعا بيدكم
وتحكموها مثل أبوكم حاكم



فلما فرغت أمينة من كلامها، طوت الكتاب وأعطته الى بدر، فأخذه وسار هو والعبد حتى وصل الى بلاد الكوع، ودخل على الأمير بريقع، أعطاه الكتاب وخصلة الشعر، فلما نظروا الشعر وقرءوا المكتوب، هاجوا وماجوا ووقع فيهم البكاء والنحيب وجددوا حزن أبي زيد والأمير حسن، فعند ذلك نهض الأمير شيبان وقال لهم: مالنا ولهاذا البكاء! قوموا حتى نركب ونسير الى حرب دياب، فأما أن نموت أو نأخذ ثأرنا ونخلص حريمنا ورجالنا من ذل دياب، فقال بريقع هذا هو الصواب، ثم أنهم ركبوا بستين ألف فارس وساورا واليتامى أمامهم، وعندما أمسى المساء نزلوا ليرتاحوا فسمعوا صوت عرب نازلين بالقرب منهم، وشاهدوا نيرانهم، فقال بريقع لأظن هذا دياب أتى ليقتلنا، فما لنا الا نرسل من يكشف لنا الخبر، فقالت الجازية أنا أسير وأكشف لكم الخبر، ثم قلعت ثياب النساء ولبست ملابس الرجال وتقلدت بالسلاح وأخذت معها شيبان وبريقع وأوصت الا أحد يشعل النار أو يبدي حركة قبل أن يحضروا، ثم ساروا تحت الظلام حتى قربوا من الربع، فسمعوا بكاء الأطفال ونبيح الكلاب، فعلموا أنهم عرب راحلوان بعيالهم ويمكن هاربين من دياب، ثم دخلوا بين العرب وسألوهم عن أميرهم فدخلوا عليه، فقام لهم واقفا على الأقدام وترحب بهم وأجلسهم وقدم لهم الطعام/ فأكلوا ثم قدم لهم القهوة فشبوا، وبعد ذلك قالت الجازية كثر الله خيرك يا ابن عمي ماجد، فقال أراك عرفتني أيها الشاب الظريف وأنا ما عرفتك فمن تكون، فقالت الجازية صدق المثل( من غاب عن العين سلاه الخاطر ) أنا الجازية أخت السلطان حسن، وهذا بريقع وهذا شيبان، أتينا نأخذ بثأرنا من دياب، فوصلنا الى هذا البر في هذه الساعة، فسمعناكم وقصدنا نكشف خبركم، فلما سمع ماجد كلامها، قال أهلا وسهلا بصهري، وصار يقبلهم وهو لايصدق من عظم الفرحة، ثم حكى لهم قصته مع دياب وكيف بعث طلب بنته مع عرندس، فقال له: ان ابنتي مخطوبة الى بريقع، ثم شاع الخبر، فصارت تحضر أمراء الأمير ماجد وتسلم عليهم، وبقوا مدة ساعة وبعد ذلك قال ماجد الحمد لله الذي صادفنا بعضنا في هذا المكان، فما عاد لنا الا المسير لأخذ الثأر، وقد بلغني أن دياب صار خرفانا وما عاد عزمه كالأول، وهو يظلم في الرعية من خفة عقله، وصار الكل يكرهونه، فقالت الجازية لنكتب مكتوبا الى بني دريد ونحركهم يساعدوننا لأخذ الثأر، فقالوا هذا هو الصواب، ثم ودعوا الأمير ماجد وساروا وأخبروا الباقين، ففرح الجميع، وفي الصباح ركب الأمير ماجد وأتى وسلم عليهم، فترحبوا به وقدموا له مزيد الاكرام، ثم أخذت الجازية تكتب الى الأمير طوي بن مالك وتنخى قومه لحرب دياب وتقول:

تقول فتاة الحي أم محمد
وقلبي اليوم كان مألوم

وقد كنت محزونة الهم والأسا
على فقد ابن سرحان والقيدوم

أبو زيد أنا والنبي ما نسيته
وكان الأمير الى الأسرار كتوم

أميرين والله ليس يوجد مثلهم
وكان لهم سعد قوي مخدوم

قتلهم أبو وطفا دياب عداوة
يجازيه ربي الواحد القيوم

لكن ربيت له لأخذ الثار عزوة
أمارة كراما كلهم وقروم

يكيدوا العدا بيوم كرب وملمة
وما فيهم الا كل ليث هجوم

يا أيها الغادي على متن ضامر
تسبق هبوب الريح وكل نسوم

اذا جيت لأرض القيروان وقابس
تلاقي بها الزغبي أمير حكوم

فسلم على طوي خليفة عمنا
أميرا كريم خليفة المرحوم

وسلم على أهل الدريدي جميعهم
أمارا ليوثا ما بهم ميشوم

وقال أن الجازية أم محمد
تنبيكم الأخبار ثم علوم

ان كان أنتم تحضروا وتوافقوا
تحضروا حالا لنقضي المعلوم



فلما فرغت الجازية من كلامها، أرسلت الكتاب الى ابن مالك، فأخذه النجاب وسلمه الكتاب، فقرأه على أمراء بني دريد، ففرحوا جميعا ثم أجاب يقول:

يقول طوي والدموع غزارى
والنار في قلبي تزيد سعاري

الله أكبر زال عنا همنا
وقلونا فرحت بذي الأخبار

من خمسة عشر عام في أسر وعدا
وفي القلب منهم دوم شعلة نار

لما سمعت أخباركم يا جازية
أضاء علينا الحي ثم الديار

ففرحوا بكم أهل الدريد جميعهم
ونسوانهم فرحت بأخذ الثار

اقراءوا سلامي للأمير بريقع
أيضا شيبان الفتى المغوار

يا جازية هاتي القردوم وأسرعي
لعند أبو وطفا لآخذ الثار

دياب غدا خرفان وحيله انقطع
ما عاد لع عزم على البتار



فلما فرغ طوي بن مالك من الكتاب، سلمه للنجاب فأخذه وسار حتى وصل لعند الجازية، أعطاه الكتاب فقراته بحضور الأمراء ثم قالت:

ان دياب لا بد ما يغدر بقومنا لأن هذا الخبر لا يختفي، ثم كتبت مكتوبا الى طوي بن مالك تقول له: خذوا حذركم ونهار غد العيد، اذا حضرتم لعند دياب فالبسوا دروعكم وأسلحتكم تحت ثيابكم، وحن نصل لعندكم يوم العيد، وانقسموا فرقتين، النصف يجلسوا على المائدة والنصف يكونون راكبين خيولهم، فسار الرسول الى طوي بن مالك، فقرأ الرسالة وقال نعم ان بني زغبي أخذوا الخبر عن اجتماعاتنا وأوصلوه الى دياب، فلما عرف ذلك قال لربعه، الرأي عندي أن نعمل وليمة على العيد، وعندما تجتمعوا ادهموهم بسيوفكم واقتلوهم ولا تتركوا من أكابرهم أحدا، وفي يوم العيد عمل دياب وليمة ومد السماط وكان شي يدهش العقول، وعزم بني دريد وأكابرهم، فحضروا ودخل نصفهم وجلسوا على الطعام، وبقي النصف الآخر على ظهور الخيل، وفي تلك الساعة ارتفع الصياح من كل ناح، ووقع الصوت في بني هلال، وارتجت الأرض فدقت الطبول وارتفعت الرايات وزلغطت النسا، فسأل دياب عن الخبر، فأخبروه بما جرى من اليتامى، وأنهم نهبوا البوش وقتلوا الرعيان وطافوا على البلد من كل مكان، فعند ذلك أرسل دياب الى ابن أخته بريقع، جوابا يهدده بالقتل وأعطاه الكتاب، فقرأه وقال أن خالي خرفان ومراده أن أرد له البوش ونحن لا نرضى بالبوش ولا بأخذ روح دياب، ثم أشار الأمير بريقع يرد الجواب، فلما قرأه يداب امتقع وتكدر ورد عليه بكتاب، فأمر بالركوب، فركبوا اليتامى ودقوا طبول الحرب وتقلدوا بسلاحهم ونشرت بيارقهم وزغردت لهم النساء وانضم لهم قومهم بنو دريد وبنو زحلان، ونزلت بنو زغبي الى الميدان يتقدمهم دياب وهو من الكبر صار شعره أبيض، فانتصب ميدان الحرب، فبرز الى الميدان فارس من بني زغبي اسمه الدهام، وطلب مبارزة الفرسان، فقالت الجازية ما أحد ينزل الى هذا الفارس غيري، فقالوا هذا عار علينا واذا نزلت له نخاف عليك لئلا تقتلي، فقالت لهم: ما ينزل الى هذا الفارس غيري، قال الأمير شيبان، اتركوها تبرز الى هذا الفارس ونحن نقف بالقرب منها، فان رأيناها مغلوبة ساعدناها وان رأيناها غالبة تركناها، فبرزت الجازية الى الميدان وهي مقلدة بالسلاح والدرع، فتلقاها الأمير دهام وصار بينهما كر وفر وطعن يقصف العمر، وضربت هامه أرمت رأسه قدامه، فوقع قتيلا وفي دمه جديلا، فاغتاظ الأمير دياب وقال: من هذا الفارس الذي قتل فارسنا واليتامى ما فيهم فارس الا مخيمر ابن أبي زيد، ومخيمر مات في بلاد الكوع؟؟

ثم برز من بني زغبة فارس اسمه أبو جمرة ابن الأقرع صدم الجازية وضربها بالرمح، فخلت عنها وضربته بالرمح في صدره طله من ظهره فوقع قتيلا فقالت بنو زغبة ما لهذا الفارس يا أمير سواك! !

فعند ذلك برز الأمير دياب الى الميدان وقال من أنت أيها الفارس المفتخر بنفسه على أبناء جنسه؟ فقالت له: أنا ابن هذا الميدان، فما لك وللسؤال؟ فقال لها: أنا لا أقاتل الا من كان حسبه مثل حسبي ونسبه مثل نسبي، فقال له: أنا أكثر منك حسبا ونسبا، أنا الجازية أخت الأمير حسن وقد جئت لآخذ منك بالثار، فضحك دياب حتى استلقى على قفاه، ثم قال لها: أنا لا أقاتلك لأنه عار علي أن اقتل امرأة، واذا قتلتك يقول الناس دياب يحارب امرأة، روحي أرسلي الأمراء، فقالت له: ما أروح من هنا حتى أحاربك، يا خائن يا غدار وما جزاؤك الا قطع رأسك..

شايع الهلالي
28-Aug-2007, 03:33 PM
الجزء الرابع والعشرون من تغريبة بني هلال



فلما سمع دياب كلامها لعبت برأسه نخوة الرجال وضربها على جبينها فوقعت على الأرض ميتة، فندم عليها ورجع من الميدان وقال ما كان لازم نقتلها، وأما اليتامى فأخذوا الجازية، كفنوها وعملوا عليها مناحة عظيمة، بكى عليها القريب والبعيد، وفي ثاني يوم برز بريقع الى الميدان، فبرز اليه دياب والتقى البطلان كأنهم جبلان وحان عليهما الحين وغنى فوق رأسيهما غراب البين، فقام دياب بعزم الركاب وضرب بريقع بقفا يده، أرماه الى الأرض، ثم صار يضحك عليهم ويقول في نفسه لولا وصية أبي زيد لي كنت أفنيتهم عن آخرهم، ولكن خليهم يعرفوا مقام أنفسهم، وأما اليتامى فانهم رفعوا بريقع واحتاروا في أمرهم ماذا يفعلون، فاجتمعوا عند ماجد يتشاورون فقال لهم ماجد الرأي عندي أن تهجموا عليه هجمة واحدة ولا بد ما تصيبه ضربة فيقع على الأرض، فلا تتركوه حتى يموت، فقالوا هذا هو الصواب، وفي الصباح برزوا يطلبون الحرب والكفاح ودقوا الطبول وتقدم بريقع أمام دياب بلا درع وما معه الا السيف والترس، فالتقاه الأمير بريقع ووقع القتال وانحدنوا اليتامى مرة واحدة، فالتقاهم وصاح فيهم صيحة ارتجت منها الجبال وأراد أن يضرب بريقع بالسيف يقطعه قطعتين، فطوحه صبي بالرمح من بعيد وقع في جنبه فمال دياب على الأرض من عظم الألم، فعند ذلك تقموا اليه وقال له بريقع كيف حالك الآن؟؟ فقال دياب: أنا شبعت من الدنيا وكل موتة ولها شبب وأشكر الله الذي مت قتيل أولاد حسن وأبي زيد ولا قتلني أحد غريب، ثم غاب عن الوجود مقدار ساعة ثم أفاق يودع الدنيا ويقول:

يقول الفتى الزغبي دياب المفارق
سبحان ربي مالك الملكوت

سبحان رب العرش جل جلاله
له الحمد والاحسان والمثبوت

سبحان من أنشأ من الطين آدم
وخرت له الأفلاك بعد خبوت

خلقهم وتكفل تقسيم رزقهم
وكل له أجل ورزق وقوت

هلال وعامر مع دريد وزغبي
اذا شافهم انسان غدا مبهوت

فكم من ملك جاهم وكم قبيلة
وراحوا من يد هلال شتوت

ندمت على فعلي بهم ندامتي
على ما جرى لي وفات الفوت

قتلت أمارتهم وأخذت بلادهم
وكم ملكت عروش وتخوت

عشرين تخت منهم ملكتها
مرصعة بالدر والياقوت

أيا نار قلبي من فراق أبو علي
وأبو زيد تغلي كالمياه وزيوت

أنا مفارق الدنيا وذاهب لغيرها
قصدت ربا حاضرا ليس يموت



فقال بريقع هذه السكين التي ذبحت بها أبي، فقطع رأس دياب وتركه ورجع، فأتى قوم دياب فأخذوه وأكثروا عليه البكاءوالعويل ومزقوا ثيابهم ورفعوا البيارق السود، واجتمع الأمراء من كل ناحية وحضر الأمير بريقع واخوته، فأخذوا خالهم ودفنوه بعد أن بكوا عليه وعادوا الى بني زغبة فوجدهم طائعين سامعين وجلس بريقع ملكا على بلاد الغرب وراقت له الأحوال وأقام أولاد شيبان ورزق وزراء عنده، وما سأل عن أولاد خاله دياب، أما نسرين زوجة دياب فانها لما قتل زوجها، قالت لإبنها لا بد وأن أولاد عمك يعملون حيلة عليك ويقتلونك ويرتاحون من نسل دياب، لأنهم يخافون من لئلا تأخذ ثأرك منهم، فقم اركب الشهبا لنذهب عند أحد من أصحاب أبيك، لبينما يصير وقت مناسب لأخذ الثأر، فركب نصر الدين على الشهبا وأردف أمه رواءه وخرجا من البلاد حتى وصلا الى غدير تحت جبل وعليه رعيان تسقي جمالها والبنات والنسوان تلعب حواليه، فحول نصر الدين بوالدته فأكلا وشربا، ورأى نصر الدين على المنهل صبية كأنها شمس منيرة بعينين زرقاوين وحاجبين مقوسين، شفتاها كالعناب تسبل من رآها بحسنها ودلالها واعتدالها، فتقدم وخاطبها بقوله:

يقول نصر الدين من ولد غانم
يا مرحبا في نجمة الصباح

أهلا وسهلا ثم ألفين مرحبا
فالعقل يا مليحة معك راح

بالله أخبريني يا مليحة بأصلك
وعن قومك عساهم قوم ملاح

لأن قلبي يا مليحة انكوى
وجسمي انضنى وقلبي مني راح

وان سألتني يا مليحة نسبتي
اسمي نصر الدين الفارس البطاح

أبوي ترى دياب الماجد المنتخب
جرى صيته في براها وبطاح

جاوا علينا أهلنا يا مليحة
قتلوا أبوي كان عزه لاح

وصرنا ضيوف الخيرين بأرضكم
حتى الهي يخفف الأتراح

ردي جوابي يا مليحة بالعجل
أخذت العقل مني مع الأرواح



فلما فرغ نصر من كلامه والصبية تسمع نظامه، بكت لحاله لما عرفت أنه ابن أكبر فرسان الزمان وأحبته، ثم أشارت تجاوبه وتقول:

قالت فتاة الحي باني التي شكت
جرى الهوى خلى الفؤاد شعال

حبك أيا نصر و الله أضناني
وادعى لقلبي فوق نار هبالي

أنا بنت صالح يا أمير بلا خفا
أبوي أمير فارس قتال

أبوي أمير ابن أمير و أميرة
حاكم على المكناس بالاجمال

أيا نصر أنا وحيدة عند أبي
ربيت في قومي بعز و دلال

هيا بنا يا أمير نحو نجوعنا
وحبك بقلبي ليس منه زوال

و أرحم فتاة يا أبن ولد غانم
تعلقت بالحب عامدا الأجيال

و نقضي بقايا العمر سوية
و نعيش في خير و صفوة بال

مقال فتاة الحي بأني شكت
نار الهوى شبت بقلبي أيا مفضال



فلما فرغت الست بأني من كلامها، تقدمت أمه إلى باني و قبلها و قالت لها اذهبي إلى أبيك و أخبريه بحالنا، فإن أراد أن يرسل يأخذنا لداره لان ذهابنا معك يشين بعرضك، فودعتها و سارت إلى أبيها و قالت له يا أبي و جدت على الغدير إمرأة غريبة و معها ولد هو إبن دياب، وهما قاصدانك من بلاد بعيدة، فلما سمع الأمير صالح كلام ابنته، أخذه العجب، لان دياب كان خلص له من بعض أمراء العرب، و قتل له خصمه و بقي حافظا له هذا المعروف، و لذلك أمر العبيد أن ينصبوا صيوانا أمام صيوانه، وركب في مائة فارس و سار إلى الغدير و تقدم إليه الأمير نصر الدين و قبل يديه و قبله صالح و قال: أهلا و سهلا بابن الأمير دياب، ثم اركبوا أمه في هودج وسار نصر الدين على شهبا، و صار الأمير صالح لا يرفع عينيه منه لانه رآه جميلا جدا وعلامة الفروسية لائحة عليه، ولما و صلوا لاقتهم البنات باحتفال زائد، فنزلوا بالصيوان الذي نصبوه و كان مفروشا بالحرير و مزركشا و مزخرفا، ولما استقروا للراحة حضر الطعام و المدام و باتوا تلك الليلة منشرحين مسرورين، و ثاني يوم إجتمع الأمراء و الأعيان عند الأمير صالح، فأتى بهم إلى صيوان نصر الدين، فقام لهم على الأقدام ولاقاهم بالترحيب والإكرام، وبعد أن جلسوا أخبرهم نصر الدين بقصة والده، فبكى الأمير صالح، و صاروا يعزون نصر الدين، وقال له الأمير صالح لا تتكدر يا ولدي، فمن خلف مثلك ما مات، و اصبر على حكم الله، و الآن حيث أنى كبرت و ما عاد لي إقتدار، فمرادي أن أنصبك مكاني حاكما على العشيرة، وقد زوجتك إبنتي بلا مهر، فتعجب الأمير نصر الدين من كرم الأمير صالح ووثب و قبل يديه و شكره على معروفه، ثم انصرفوا و صار الأمير صالح يهيء لوازم العرس، و أرسل إلى جميع القبائل يدعوهم إلى عرس إبنته، فتواردت العربان من كل جانب و مكان، و أقاموا الأفراح و الليالي الملاح ودقت الطبول و نفخت الزمور وعين الأمير صالح مدة العرس أربعين يوما، فنحروا النوق و الأغنام ودارت ليالي الأفراح، و نهار الأربعين بنوا صيوان الأمير نصر الدين و البسوه حلة من الحرير و أجلسوه على كرسي من العاج و قام الميدان ولعب الجريد بين الأبطال، وعند المساء أخرجوا العروس وهي كالشمس المنيرة وعليها من الجواهر ما يبهج الأنظار و ركبوها على هودج عال من الحرير المقصب، وبعد أن طافوا بها ادخلوها على صيوان نصر الدين، و أتى القاضي و الشهود وعملوا الفروض الدينية، ثم إنصرف الجميع وبات نصر مع العروس في هناء و سرور، وبعد ذلك جلس نصر الدين حاكما على القبيلة عوضا عن الأمير صالح، و باركت له الأمراء و الأعيان وصار يتعاطى الأحكام و يعدل في الرعية و يوهب و يعطي الشعراء و الفقراء، حتى أحبه القريب و البعيد و صارت يركب إلى الغابات يصطاد الأسود و الفهود ويسطو على كل عاص و نمرود، حتى طاعت لحكمة كل القبائل وصار له اسم وهيبة أعظم من أبيه.


( قال الراوي ):

هذا ما كان من نصر الدين، وأما ما كان من الأمير بريقع ملك تونس، فانه بعد قتل الأمير دياب كثر ظلمه وطغى وبغى وتكبر، ولا عاد يفكر بين الأمير والفقير وأكثر من جوره على بني زغبة، وانعكف على معاشرة النسوان واللهو، ولما أعياهم الأمر، اجتمعوا عند الأمير خطير، أكبر أمراء بني زغبة وقالوا: ما عاد لنا طاقة على ظلم أعداءنا وهم دائما يتسلطون على أموالنا وحريمنا، قال يال قوم أنتم عملتم بحالكم هذا العمل لأنكم تهاونتم وما أحد منكم شهر سيفا لأخذ ثأر الأمير دياب، ولا يفرجكم من هذا الضيق الا الأمير نصر الدين، فالأوفق نستخبر عنه في أي أرض ونستدعيه ويستلم قيادة الفرسان، فقالوا افعل مرادك، فكلف الأمير خطار شاعرا خبيرا بالبلاد أن يسأل عنه، فقال أعطوني رفيقين، فأعطوه واحدا اسمه حامد والثاني اسمه منصور، فلبسا ثياب الشعراء وصارا يطوفان البلدان ويمدحان الأمراء حتى وصلا الى غدير ماء في بلاد الفاس والمكناس، فوجدا جماعة من الرعيان فسألوهم عن اسم أميرهم فقالوا اسمه نصر الدين ابن الأمير دياب، فلما سمع الشاعر ناصر هذا الكلام، كاد يطير من الفرح وقال له: بالله عليك يا بن العم دلنا على هذا الأمير، فنحن من عربه فسار كبير الرعيان أمامهم حتى وصلوا، فوجدوا المجلس محبوكا، فجلسوا في الخارج، فالتفت نصر الدين وجد الشعراء خارج الباب، فقال: تفضلوا يا شعراء شرفونا، فدخلوا فأمر أن يأتوا بالزاد فأكلوا وأحضر لهم القهوة، وبعد ذلك قال لهم الأمير نصر الدين هاتوا ما عندكم من الأشعار، فعند ذلك أخذ ناصر ربابته وراح يمدحه بشعر جميل.

فلما فرغ ناصر من كلامه خلعوا ملابس الشعراء وقالوا له: نحن أولاد عمك وقد أتينا بصفة شعراء لندور عليك في البلدان حتى تجئ وتخلصنا من ظلم نبي هلال والحمد لله الذي وجدناك فلما عرفهم نصر الدين وثب اليهم يسلم عليهم ويقبلهم وقال لهم يلزم أن تبقوا عندنا ثلاثة أيام ثم تعودون وتبشرون أهلي أني بعد ثلاثين يوما أكون عندهم فأقاموا عنده ثلاثة أيام خلع على كل منهم خلعة ملوكية وساق أمامهم الأنعام فارادوا أن يستعفوا فقال لهم لا بد أن تأخذوه لأن سمحت لكم وأنا لا أرجع بما أعطيت فأخذوا كل ما وهبهم وساروا يقطعون البراري والقفار حتى وصلوا لبيوتهم فأتى بنو زغبي وسلموا عليهم ومعهم الأمير خطار وبعد أن شربوا القهوة سألهم الأمير خطار عن سفرهم فصار يخبرهم ناصر ويقول:

يقول الفتى ناصر عما جرى له
يا قوم أصغوا للحديث اللي جرى

درنا بلاد الغرب والديار كلها
حتى بلاد الفرس وأرض الكوجرا

رحلنا الى مكناس في عشرا رجب
لهم ملك والله سبع غضنفرا

أشقر ظريف القد حلو المباسم
يشبه دياب الخيل يا أهل الورى

ما شفت مثله بالكرم يا أهل الكرم
يجري عطاه مثل فيض الأبحرا

له صيوان وميتين أميرا حوله
وألفين عبدا واقفة لتؤمرا

وميتين مملوكة أمامه تخدمه
مثل الكواكب حسنهم ما أبهرا

يقضي ويمضي والأنام تطيعه
مين الذي خالف كلامه يقهرا

دخلنا عنده بالمسا وقت العشا
وأنا بصفة شاعر أحوالي منكرا

وبعد أ، أكلنا الزاد وشربنا الشراب
عدلت أنا ربابتي يا أهل الورى

وأخبرته عن قصتي وعن سفرتي
وعن حالنا يا قوم واللي جرى

وثب الينا وقال أهلا ومرحبا
أنتم أعمامي أولاد عمي الأنصرا

وقال لي روحوا لأهلي وبشروا
الى عمومنا وأخوالنا والأصهرا

لازم أجيهم فوق الشهبا مبرشمة
تشبه الى ريح الشمال اذا جرى

وأقتل عدوي وأشتفي من قتله
وأفني أكابرهم كذال الأصغرا

أنا نصر الدين ما في غبا
أدعي الفوارس بالحروب مقهقرا

أوهب لنا هذه الأموال جميعها
تعجز ملوك الأرض عنها وتقصرا

يا آل زغبي أبشروا في سعدكم
قد غاب نجم النحس عنكم وأندرا

شدوا حزام خيولكم يا قومنا
جانا الفرج من عند رب مقدرا



فلما فرغ ناصر من كلامه والزغابة تسمع نظامه، طاروا من شدة الفرح وشكروا ناصر، ودارت الأفراح وأخذوا يهيؤن حالهم، وفي اليوم المعين خرج الأمراء الى خارج البلد، وطلعوا الى تل ونظروا الى البر، فرأوا غبارا فصبروا حتى انجلى على فارس راكب، شقرا كأنها البرق، ووصل اليهم فقالوا له: من أين قادم؟؟ قال: من عند سيدي الأمير نصر الدين، وسبب قدومي لأبشر بني زغبي بتشريفه في هذا النهار، فعند ذلك أعطوا الخبر لجميع بني زغبي، فخرجوا في تسعين ألف فارس في الحديد غواطس، ومعهم الراية البيضاء التي كان ينشرها دياب، فخرجت مشيخة الشباب بستين ألف فارس، وما بقي في تونس الا بني دريد وبني زحلان، وجملتهم مائة وثمانون ألف فارس، وأما جملة الذين خرجوا للملتقى، فمائتان وأربعون ألف فارس، فنزلوا هناك الا والغبار ثار، ثم انجلى عن بيارق مغربية وخيول شامية وفرسان مكناسية ورماح خطية وسيوف عجمية وذروع داودية وخوذ سليمانية وطوارق هندية، وفي أولها فارس طويل القامة، عريض الأكتاف، أشقر اللون أزرق العينين، وعلى رأسه خوذة من عمل الهند وعلى كتفيه رمح طويل مكعب، وعلى يساره سيف ثقيل وتحته شهبا كأنها بنت الخضرا الأصيلة، واذا هو البطل الرئبال الملك نصر الدين ابن الملك دياب الذي خضعت له صناديد الرجال، وعلى يمينه عمه الملك صالح وعلى شماله ابن الأمير صالح الأمير الحازم والليث الجازم، ومن ورائه عشرون راية وتحت كل راية خمسة آلف فارس، فلما وصلوا نزل نصر الدين على علين برشان، وأخذ يسلم على كافة الفرسان، وبعدها أمر بنصب الخيام، فنصبوا له والى عمه صيوانا من الحرير الأخضر على خمسمائة عمود من النحاس الأصفر، في أعلاه تفاحة من الذهب الأحمر وفي داخل الصيوان نقوش من تواريخ الأولين، وعليه صور ملوك سالفين، فجلس نصر الدين على كرسي من الذهب وجلس عمه عن يمينه وابن عمه عن شماله، وقعدوا أمامه والخدام بين يديه , هذا ما كان من هؤلاء، وأما ما كان من بريقع بن حسن فانه اجتمع مع وزيره شيبان وقال هل أرى اليوم بني زغبة خرجت خارج البلد في ضجة عظيمة، فما يكون في ذلك؟؟ فقال ليس لي علم بشئ، وهم في الحديث دخل عليهم عيد وقال: اعلم يا ملك الزمان أن فرسانا أتوا من بلاد الغرب، يتقدمهم فارس عظيم، وخرجت بنو زغبة لإستقباله واجتمعوا على عين برشان وسلموا عليه سلام الاخوان، فلما سمع بريقع ذلك الكلام، قال لشيبان من يكشف لنا خبرهم؟؟ فأرسلوا جاسوسا، فسار ودخل بين زغبة وعرف الأمر وعاد، فأخبر بريقع، فعند ذلك صاح بقومه عليهم، أياها الأبطال ثم أمر بدق الطبول ونادى على الفرسان تعتلي فوق الخيل والتمت الفرسان وركب الشجعان، وأما بريقع لبس درع أبيه وتقلد بالسلاح وركب بنت الحيصا وشيبان، عمل مثله وخرجوا من تونس في مئة وثمانين ألف فارس، ولما قربوا الى عين برشان، ركبت الفرسان الخيول ووقعت العين على العين، واصطف العسكران وبرز شيبان ين أبي زيد الى الميدان، فنزل اليه الأمير الجازم وصدمه صدمة جبار فتلقاه شيبان فتلاطما وتزاحما حتى طلع من الاثنين ضربتان قاطعتان فكان السابق في الضربة الأمير جازم، فطعنه بين البزين، طلع الرمح من بين اللوحي، فوقع الى الأرض يتخبط ببعضه، فلما رأى بريقع أن شيبان قتيل، نزل الى الميدان وطلب مبارزة الأبطال، قال لا أريد أن ينزل لحربي غير أميركم، فما أتم كلامه حتى صار نصر الدين أمامه، فالتقيا كما تلتقي الأرض العطشانة وابل المطر والأمير نصر الدين يفتل حول بريقع في الشهبا مثل حجر الطاحون، وأما بريقع وجد حاله مع خصمه مغلوبا فسار يغتنم فرصة ليفر من أمامه ولكن نصر الدين لم يمكنه من ذلك بل هجم عليه وقال: الى أين يا كلب العرب وأنا وراءك في الطلب؟‍‍؟

وجذب سيفه الظامئ وقال الله أكبر ‍؛ ونزل به عل بريقع قسمه هو والجواد أربع قطع، وأشار بيده فانطبقوا على بني زحلان، فما كنت ترى الا رؤوسا طائرة ودماء فائرة وفرسانا غائرة، فما سلم في تلك الواقعة سوى أربعة واحد من قوم زحلان، فعندها دخل نصر الدين الى تونس وطلع الى قصر أبيه وتسلطن على كل الغرب، وصفت له الأحكام وطاعته كل الأنام، وما زالوا في بسط وانشراح مرتاحين من الحروب حتى أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.

الهيـــــزع
29-Aug-2007, 01:28 AM
تسلم ياشايع الهلالي
والله يعطيك العافيه

وموضوع يستحق التثبيت