الديوان
12-Feb-2007, 10:26 AM
نقد المسلَّمات الشرط الأول والدائم للازدهار
ابراهيم البليهي
وما اقتضاه ويقتضيه من مراجعة دائمة وتدارك مستمر وتصحيح موصول وإعادة تأسيس متجدد ومواصلة البناء على المستوى الثقافي والحضاري بأكمله بعزم وقوة وإقدام وكثافة دون تهيُّب أو تردد..
إن استنهاض الإنسان لاستعادة فرديته من البرمجة والتذويب وتأكيد حق الفرد في الكرامة والاحترام والاعتبار وتحريره من أسر المسلَّمات الخاطئة وتنشئته على ديمومة التساؤل والتمحيص والتأكيد المستمر على أولوية التفرُّد والتميُّز وتنفيره من الذوبان في القطيع وحثه على الاستقلال والاختلاف وتحريضه على رفض التماثل الأعمى مع الآخرين واستنفار طاقات عقله للتفكير والابتكار وفتح الآفاق لخياله للبحث عن البدائل والخيارات وتربيته على أولوية التغيير والتطلع الدائم نحو الأفضل وتعريفه بقابلياته الهائلة ليكون مبدعاً ومنتجاً وعضواً فاعلاً يحس بمسؤوليته ويلتزم بواجباته ولا يفرط بحقوقه وحشد كل هذا التنوع الهائل في الفروق الفردية لخير نفسه وخير مجتمعه وخير الإنسانية أجمع إن هذه كانت بعض المهام الأساسية التي اضطلع بها الفكر النقدي في الغرب فأثمرت هذه النتائج الباهرة في العلم والعمل والحياة..
إن الغربيين لا يتميزون عرقياً عن الأمم التي مازالت متخلفة ولكن امتلاكهم للتفكير النقدي وإجادتهم استخدامه هو مصدر امتيازهم وهو سبب تفوقهم إن هذا المفتاح العجيب المدهش الذي يحرك طاقات الإنسان قد فَتَح لهم أسرار الكون ومكنهم من تسخير الطاقات المذخورة فيه وتعرَّفت أمم أخرى على هذا المفتاح العظيم وأجادت استخدامه فازدهرت كما ازدهر الغربيون وباتت تزاحمهم وتسابقهم وأحياناً تتفوق عليهم وبهذا فإن التفكير النقدي هو الذي أطلق طاقات الإنسانية فأنجزت الأعاجيب وابتكرت من المخترعات والوسائل وامتلكت من العلوم والمعارف والمهارات والقدرات ما لم تعهده البشرية من قبل وكشفت من الحقائق ما كان محالاً أن يخطر على بال إنسان خلال آلاف السنين فالتفكير النقدي الذي انفرد به الغربيون ثم أخذته عنهم أمم أخرى هو الذي استنفر العقل الإنساني وأكسبه هذه القدرات الخارقة فبسبب هذا التغير النوعي في التفكير انقلبت الأحوال من ثبات دائم في الأفكار والأوضاع واجترار كسول للبداهات و المسلَّمات إلى تغير دائم نحو الأفضل واقتحام جسور نحو المجهول لقد تعاظمت بسببه القدرات واتسعت الآمال وتنوعت التطلعات وانكمشت المحالات وامتدت الممكنات فالمزدهرون لم يعُد يرضيهم أي انجاز وإنما باتوا في سباق ظافر ومدهش مع الزمن فأصبحت الإنسانية تنجز في أيام ما لم تكن قادرة في الحضارات القديمة على انجازه في قرون..!!!
إننا في العالم العربي والإسلامي نتوهم أننا بتعميم التعليم ونشر المدارس والإكثار من الجامعات قد أخذنا بأسباب التقدم وشيَّدنا القدرة على الازدهار وبنينا في الإنسان قدرة الإبداع والانتاج والمبادرة وحررنا عقول المتعلمين وغفلنا عن أن العقل البشري يحتله الأسبق إليه وأن المعلومات التي لا تكون مصحوبة بالفاعلية النقدية لا تُحدث أي تغيير في البنية الذهنية ولا في طريقة التفكير فتبقى الاهتمامات كما كانت ويظل المتعلمون مأسورين بالبرمجة الاجتماعية التي لم تتعرض لأي تشكيك أو فحص أو تحليل أما المعلومات التي يضطرون لحفظها فتبقى طلاء خارج البنية الذهنية الفاعلة..
إننا نتحدث عن أهمية العلم وعن دور التعليم ونسينا أن العلم نتيجة من نتائج التفكير النقدي وثمرة من مثاره وليس سبباً له كما تجاهلنا أن التعليم التلقيني المحروم من التفكير النقدي ومن العقل المتسائل يؤدي إلى تجميد الذهن وعطالة الفكر ويضاعف الشعور الكاذب بالاكتفاء فتتفاقم أسباب الجمود وتتعمق عوامل التخلف فالتفكير النقدي هو الذي ألهم المزدهرين كل هذه القدرات في النمو المطرد في العلم والعمل ومكَّنهم من الظفر والانتصار على كل الجبهات ولو كانت المعلومات التي يوفرها التعليم هي عامل التقدم لتقدمت كل الشعوب لأنها كلها قد اتيح لها أن تتلقى علوم العصر لكن العلوم الجاهزة المستوردة لا تصنع عقولاً مزدهرة وإنما الذي يصنع العقل المزدهر هو التفكير النقدي وحده ولا بديل له...
إن نقد المسلَّمات والمواضعات والقناعات والتصورات والنظم والأوضاع والأدوات والوسائل هو الشرط الأول للتقدم وهو المحرك الدائم للتطور إن هذا العامل الأساسي هو السر الأكبر للازدهار الغربي الهائل وهو المحرِّض الأول والدائم لانجازاته الغامرة والمتواترة في كل المجالات إن العلم قد اسقط نهائياً ادعاءات التفوق العرقي فالناس لآدم وآدم من تراب فكل ما نراه من تباينات هائلة بين الأمم يعود إلى الاختلافات الثقافية وكل التباينات الثقافية تعود إلى الفارق في استخدام التفكير النقدي لقد أضحى مؤكداً علمياً تماثل القابليات الفطرية لدى الأمم فلا يملك الغربيون ولا غيرهم من الأمم المزدهرة أي تميُّز عرقي وإنما السر الأعظم وراء هذا الازدهار العظيم وهذا التفوق الباهر يكمن في النقد الدائم الذي يمنع الجمود ويُشعل النشاط ويؤجج المواهب وتتوقد به مهارات الفكر والفعل فلا تختلف الأمم بيولوجيا وإنما أتت هذه الاختلافات الشديدة في المستويات الحضارية من التباينات الثقافية أما التفاوت الثقافي ذاته فيعود إلى نصيب كل ثقافة من آليات النقد والمراجعة فبقدر الانفتاح على الفكر النقدي تكون فاعليات الإنسان في فكره وفعله وبهذا يكون الازدهار في كل مجالات النشاط الإنساني للأمة التي تُفسح المجال للنقد والمراجعة بشفافية كاملة وأمان تام وبالمقابل فإنه بقدر مناهضة التفكير النقدي أو إساءة استخدامه يتجمَّد العقل ويستمر الكلال وتنكمش الفاعلية ويتفاقم التدهور ويسود الاجترار...
إن النقد الموضوعي للأفكار والمواقف والأوضاع والمسلَّمات هو مفتاح التقدم المستمر نحو الأفضل أما المعلومات فإن فاعليتها تبقى هزيلة أو معدومة التأثير إذا لم تصاحبها آليات النقد والمراجعة فالارتقاء الثقافي الذي هو الشرط الأول للازدهار الشامل لا يتحقق باستعارة العلوم ولا بحفظ المعلومات وإنما يتحقق بتغيير طريقة التفكير وبممارسة التحليل وبسجالات الفكر التي تحتدم بين الاتجاهات المختلفة ومداومة التحقق وعدم الرضا بالمتحقق مهما كان والتطلع الدائم نحو الأفضل والأكمل وعدم الاكتفاء بأي انجاز متحقق ولا الاقتناع بكماله فليست المعلومات الجاهزة هي التي ترتقي بطريقة التفكير ولا هي التي تغيِّر مجالات الاهتمام ولا هي التي تبني القدرة على الابداع والانتاج وإنما الارتقاء والتغيير مصدرهما التحول الثقافي الذي يتمخَّض عنه اكتشاف خطأ المسلَّمات الراسخة وعلى سبيل المثال فإن الكشف العلمي الفلكي الذي أحرزه كوبرنيكوس لم تكن له نتائج عملية مباشرة لا في الصناعة ولا في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في أي مجال عملي فأحوال البشر لا يؤثر عليها أن تكون الأرض هي مركز الكون أو كانت الشمس هي المركز ولكن هذا الكشف الخارق الذي يخلو من الفائدة العملية قد أحدث زلزالاً في العقل الأوروبي مازالت تتنامى نتائجه الباهرة..
ان التأثير الثقافي الهائل للكشف الفلكي الذي توصل إليه كوبرنيكوس لم ينتج عن أنه أضاف للعقل الأوروبي معلومة جديدة مهمة وإنما أحدث الكشف هذا الزلزال الثقافي لأنه أيقظ عقولهم لكابوس المسلَّمات الخاطئة وكَشَف لهم أنهم كانوا مأسورين بوهم البداهة ومقيدين بالحس المباشر وأن عقولهم كانت معطلة ببداهات موروثة خاطئة فقد توارثوا كغيرهم من الأمم خلال القرون أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس ليست سوى نجم يدور حولها ليضيئها فَهَدم كوبرنيكوس هذا الوهم وبتقويض هذا الوهم انهارت أوهام كثيرة فتهيأ الأوربيون لإعادة تكوين منظومتهم المعرفية بأكملها وتأججت فيهم طاقات المغامرة والكشف وانفتحت لهم الآفاق وراحوا يواصلون الاختراع ويحققون الاكتشافات ويؤسسون العلوم ويبتكرون الوسائل ويغيِّرون النظم ويبدلون المؤسسات ويقتحمون المجهول ويأتون بالمدهشات وكل ذلك من نتائج انفكاك العقل من أسر المسلَّمات الخاطئة وانطلاقه في الآفاق حُراً يكشف المجهول ويصحح الأخطاء ويبدِّد الأوهام ويبتكر المناهج ويضع الإنسانية على الخط الصاعد دون نكوص أو تراجع..
لقد أثبت كوبر نيكوس أن الأرض ليست أكثر من كوكب صغير تابع للشمس وأن الشمس وتوابعها ليست سوى مولود صغير تابع لمجرة هائلة وبهذا الكشف عرف الأوروبيون نموذجاً صارخاً للخداع الحسي المباشر وأدركوا أنه يجب التحقق من البداهات بالعقل الناقد وبالمحاكمة التحليلية لقد اقتنع الأوروبيون بأن هذا الوهم ليس وهماً وحيداً وإنما هي واحد من منظومة واسعة من الأوهام والمسلَّمات التي تكبِّل العقل الإنساني لقد أثبت لهم هذا الاكتشاف أنهم كانوا مأخوذين بمسلَّمات خاطئة ودفعهم هذا التحول الجذري إلى مراجعة كل المسلَّمات وإعمال النقد في كافة البداهات وانتقلوا بذلك من حالة السُبات العقلي والجمود الثقافي إلى فاعلية العقل وإلى اجراء مراجعة ثقافية شاملة..
ولقد بلغ من تأثر الأوروبيين بهذا الكشف العظيم المزلزل أن الفيلسوف الألماني الأكبر (كانط) كان يُمني نفسه أن يتوصل بانجازاته الفلسفية الجليلة (نقد العقل المحض) و(نقد العقل العملي) و(نقد ملكة الحكم) وغيرها من شوامخ الفكر الحصيف إلى احداث ثورة في نظرية المعرفة تماثل ما أحدثه كوبرنيكوس من انقلاب مزلزل في الثقافة الأوروبية وهذا يؤكد الأثر العظيم الذي أحدثه كوبرنيكوس في العقل الأوروبي كما يؤكد قابلية الأوروبيين للاستفادة من كشوف العلم وأحداث التاريخ فهذا الكشف المزلزل حين وصل إلى الشعوب الافريقية والآسيوية لم يخلق عندها أي تساؤل ولم يثر فيها أية مراجعة وإنما تلقوه بوصفه معلومة رتيبة لا توقظ عقلاً ولا تُحاكم واقعاً ولا تؤدي إلى مساءلة ثقافة وهذا هو الفرق بين الثقافات النامية والثقافات الجامدة..
إن الكشوف العلمية مهما بلغت عظمتها لا تؤتي ثمارها إلا بوجود العقل الناقد فالأوروبيون ركزوا على الدلالة الحاسمة لهذا الكشف فلم يهتموا بدلالته الفلكية وإنما كان اهتمامهم الأكبر بدلالته الثقافية لأنهم قد أدركوا خطورة الاستسلام للحس المباشر وعرفوا أن هذا الاستسلام قد أوقعهم في مسلَّمات خاطئة ودفعهم هذا الإدراك إلى اجراء مراجعة شاملة لكل المسلَّمات...
إن هذا الكشف العلمي لا علاقة له بحياة الناس العملية فهو معدوم الأثر عملياً لكنه من الناحية الثقافية كان ثورة فكرية مزلزلة نتجت عنها تحولات ثقافية جذرية وبهذا يظهر أن العلم ليس معلومات وإنما هو طريقة تفكير كما أن هذا يؤكد فاعلية النقد المنهجي لايقاظ العقل من سباته وفك أسره من مسَّلماته إن فاعلية العقل لا يمكن أن تتحقق إلا بالنقد وايجاد جو تنافسي بين الأفكار والاتجاهات إن التفكير النقدي هو الحافز الأكبر للحضارة فيه تتطور العلوم وبه تتقدم التقنيات وبه تشاد المهارات وبه تتحسَّن النظم وبه يعاد بناء المؤسسات والرؤى والمواقف والتصورات والأوضاع والاتجاهات فالنقد المنهجي هو مفتاح الطاقة الإنسانية وهو الشرط المبدئي لأي تغيُّر نحو الأفضل في الفكر والفعل والحياة...
إن من أبرز الحقائق المتلألئة في التاريخ الأوروبي انقسام اليونانيين في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد إلى فئتين متباينتين ثقافياً فمجتمع أسبارطة أقام حياته على رؤية أحادية مغلقة تقوم على إخضاع الأفراد في نظام اجتماعي مغلق وصارم يسعى إلى أن يجعل الأفراد متماثلين فيحيل الفرد إلى خلية ذائبة في الكل فالمجموع المجرد هو شيء مقدَّس لا يجوز نقده ولا اخضاعه للمساءلة فالاهتمام محصور بالكل أما الأفراد فلا قيمة لهم إلا بمقدار انتمائهم لهذا الكل وذوبانهم فيه وخدمتهم له وولائهم لنظامه، لقد انصبَّت العناية على تكوين التماثل بدل التنوع وعلى بناء الأجسام بدل العناية بشحذ العقول فأثمرت هذه التنشئة الصارمة شعباً مقاتلاً لكنه كان يفتقر إلى النزعة الفردية ومحروماً من التفكير النقدي ومن ثراء التنوع فكان يملك الانتظام القسري المؤقت لكنه انتظام القطيع وليس التزام المُطيع وكان يفتقر إلى المبادرة والابداع فانتهى تاريخ اسبارطة بانتهاء ذلك العهد القصير فلم يذكرهم التاريخ بأثر مستمر ولا بإنجاز مثمر..
أما المجتمع الأثيني فقد أقام حياته على التفكير النقدي وإعلان أولوية الفرد وتأكيد حرياته وتنمية مهاراته والحرص على استقلاله واستثمار تفرُّده وبدلاً من السعي نحو التماثل كان الحرص على التفرد والتنوع وبهذا انجز المجتمع الأثيني معجزته الفكرية الباهرة لقد أصبح الأثينيون بسبب التفكير النقدي أساتذة الحضارة ورواد العلم فأسسوا الفكر الفلسفي ووضعوا الأساس المتين للعلوم وابتكروا من النُّظم والممارسات والآليات السياسية والقانونية والاجتماعية ما لايزال يحتفظ بكل روعته وبهائه وجدَّته..
وهذا التباين الثقافي بين فئتين ينتميان لعرق واحد وشعب واحد هو الشعب الإغريقي يقيم دليلاً قاطعاً على أن العامل الثقافي هو سبب التفاوت بين الأمم وأن الأخذ بالتفكير النقدي أو الحرمان منه هو سبب هذا التفاوت الحاسم فالاسبارطيون المنغلقون طواهم الزمن واختفوا من التاريخ دون أن يتركوا أي أثر ولولا حربهم مع الأثينيين لما ذكرهم التاريخ ولما عرفهم أحد أما الأثينيون الأحرار فقد تركوا تراثاً عقلانيا مذهلاً كان الأساس الذي انطلقت منه الحضارة الغربية بأكملها كما اعتمدت عليه الحضارة الرومانية في طورها المزدهر ثم أحيت أوروبا هذا التراث العظيم في عصر النهضة ثم في العصر الحديث ومازالت الحضارة المعاصرة تستمد طاقتها من ذلك التراث الإغريقي العجيب!! وكل ذلك قد تحقق بسبب الاعتماد على التفكير النقدي وإعماله في كل شأن من شؤون الإنسان...
لقد قلَّبت التاريخ طويلاً وكررت النظر والدراسة والتأمل في أحوال الأمم وأوضاع الشعوب في الماضي والحاضر وتوصَّلت إلى اقتناع تام بأن الازدهار هو الثمرة اليانعة للتفكير النقدي وبأن التخلف هو النتيجة الحتمية للحرمان من هذا الفكر فمهما جرى التوسع في التعليم ومهما كثر عدد المتعلمين فإن الأوضاع تبقى كما هي ما لم يكن التعليم مصحوباً بالتفكير الناقد والمراجعة الفاحصة: إخلاصاً للحق والتزاماً بالموضوعية واستمتاعاً بالتحقق...
ابراهيم البليهي
وما اقتضاه ويقتضيه من مراجعة دائمة وتدارك مستمر وتصحيح موصول وإعادة تأسيس متجدد ومواصلة البناء على المستوى الثقافي والحضاري بأكمله بعزم وقوة وإقدام وكثافة دون تهيُّب أو تردد..
إن استنهاض الإنسان لاستعادة فرديته من البرمجة والتذويب وتأكيد حق الفرد في الكرامة والاحترام والاعتبار وتحريره من أسر المسلَّمات الخاطئة وتنشئته على ديمومة التساؤل والتمحيص والتأكيد المستمر على أولوية التفرُّد والتميُّز وتنفيره من الذوبان في القطيع وحثه على الاستقلال والاختلاف وتحريضه على رفض التماثل الأعمى مع الآخرين واستنفار طاقات عقله للتفكير والابتكار وفتح الآفاق لخياله للبحث عن البدائل والخيارات وتربيته على أولوية التغيير والتطلع الدائم نحو الأفضل وتعريفه بقابلياته الهائلة ليكون مبدعاً ومنتجاً وعضواً فاعلاً يحس بمسؤوليته ويلتزم بواجباته ولا يفرط بحقوقه وحشد كل هذا التنوع الهائل في الفروق الفردية لخير نفسه وخير مجتمعه وخير الإنسانية أجمع إن هذه كانت بعض المهام الأساسية التي اضطلع بها الفكر النقدي في الغرب فأثمرت هذه النتائج الباهرة في العلم والعمل والحياة..
إن الغربيين لا يتميزون عرقياً عن الأمم التي مازالت متخلفة ولكن امتلاكهم للتفكير النقدي وإجادتهم استخدامه هو مصدر امتيازهم وهو سبب تفوقهم إن هذا المفتاح العجيب المدهش الذي يحرك طاقات الإنسان قد فَتَح لهم أسرار الكون ومكنهم من تسخير الطاقات المذخورة فيه وتعرَّفت أمم أخرى على هذا المفتاح العظيم وأجادت استخدامه فازدهرت كما ازدهر الغربيون وباتت تزاحمهم وتسابقهم وأحياناً تتفوق عليهم وبهذا فإن التفكير النقدي هو الذي أطلق طاقات الإنسانية فأنجزت الأعاجيب وابتكرت من المخترعات والوسائل وامتلكت من العلوم والمعارف والمهارات والقدرات ما لم تعهده البشرية من قبل وكشفت من الحقائق ما كان محالاً أن يخطر على بال إنسان خلال آلاف السنين فالتفكير النقدي الذي انفرد به الغربيون ثم أخذته عنهم أمم أخرى هو الذي استنفر العقل الإنساني وأكسبه هذه القدرات الخارقة فبسبب هذا التغير النوعي في التفكير انقلبت الأحوال من ثبات دائم في الأفكار والأوضاع واجترار كسول للبداهات و المسلَّمات إلى تغير دائم نحو الأفضل واقتحام جسور نحو المجهول لقد تعاظمت بسببه القدرات واتسعت الآمال وتنوعت التطلعات وانكمشت المحالات وامتدت الممكنات فالمزدهرون لم يعُد يرضيهم أي انجاز وإنما باتوا في سباق ظافر ومدهش مع الزمن فأصبحت الإنسانية تنجز في أيام ما لم تكن قادرة في الحضارات القديمة على انجازه في قرون..!!!
إننا في العالم العربي والإسلامي نتوهم أننا بتعميم التعليم ونشر المدارس والإكثار من الجامعات قد أخذنا بأسباب التقدم وشيَّدنا القدرة على الازدهار وبنينا في الإنسان قدرة الإبداع والانتاج والمبادرة وحررنا عقول المتعلمين وغفلنا عن أن العقل البشري يحتله الأسبق إليه وأن المعلومات التي لا تكون مصحوبة بالفاعلية النقدية لا تُحدث أي تغيير في البنية الذهنية ولا في طريقة التفكير فتبقى الاهتمامات كما كانت ويظل المتعلمون مأسورين بالبرمجة الاجتماعية التي لم تتعرض لأي تشكيك أو فحص أو تحليل أما المعلومات التي يضطرون لحفظها فتبقى طلاء خارج البنية الذهنية الفاعلة..
إننا نتحدث عن أهمية العلم وعن دور التعليم ونسينا أن العلم نتيجة من نتائج التفكير النقدي وثمرة من مثاره وليس سبباً له كما تجاهلنا أن التعليم التلقيني المحروم من التفكير النقدي ومن العقل المتسائل يؤدي إلى تجميد الذهن وعطالة الفكر ويضاعف الشعور الكاذب بالاكتفاء فتتفاقم أسباب الجمود وتتعمق عوامل التخلف فالتفكير النقدي هو الذي ألهم المزدهرين كل هذه القدرات في النمو المطرد في العلم والعمل ومكَّنهم من الظفر والانتصار على كل الجبهات ولو كانت المعلومات التي يوفرها التعليم هي عامل التقدم لتقدمت كل الشعوب لأنها كلها قد اتيح لها أن تتلقى علوم العصر لكن العلوم الجاهزة المستوردة لا تصنع عقولاً مزدهرة وإنما الذي يصنع العقل المزدهر هو التفكير النقدي وحده ولا بديل له...
إن نقد المسلَّمات والمواضعات والقناعات والتصورات والنظم والأوضاع والأدوات والوسائل هو الشرط الأول للتقدم وهو المحرك الدائم للتطور إن هذا العامل الأساسي هو السر الأكبر للازدهار الغربي الهائل وهو المحرِّض الأول والدائم لانجازاته الغامرة والمتواترة في كل المجالات إن العلم قد اسقط نهائياً ادعاءات التفوق العرقي فالناس لآدم وآدم من تراب فكل ما نراه من تباينات هائلة بين الأمم يعود إلى الاختلافات الثقافية وكل التباينات الثقافية تعود إلى الفارق في استخدام التفكير النقدي لقد أضحى مؤكداً علمياً تماثل القابليات الفطرية لدى الأمم فلا يملك الغربيون ولا غيرهم من الأمم المزدهرة أي تميُّز عرقي وإنما السر الأعظم وراء هذا الازدهار العظيم وهذا التفوق الباهر يكمن في النقد الدائم الذي يمنع الجمود ويُشعل النشاط ويؤجج المواهب وتتوقد به مهارات الفكر والفعل فلا تختلف الأمم بيولوجيا وإنما أتت هذه الاختلافات الشديدة في المستويات الحضارية من التباينات الثقافية أما التفاوت الثقافي ذاته فيعود إلى نصيب كل ثقافة من آليات النقد والمراجعة فبقدر الانفتاح على الفكر النقدي تكون فاعليات الإنسان في فكره وفعله وبهذا يكون الازدهار في كل مجالات النشاط الإنساني للأمة التي تُفسح المجال للنقد والمراجعة بشفافية كاملة وأمان تام وبالمقابل فإنه بقدر مناهضة التفكير النقدي أو إساءة استخدامه يتجمَّد العقل ويستمر الكلال وتنكمش الفاعلية ويتفاقم التدهور ويسود الاجترار...
إن النقد الموضوعي للأفكار والمواقف والأوضاع والمسلَّمات هو مفتاح التقدم المستمر نحو الأفضل أما المعلومات فإن فاعليتها تبقى هزيلة أو معدومة التأثير إذا لم تصاحبها آليات النقد والمراجعة فالارتقاء الثقافي الذي هو الشرط الأول للازدهار الشامل لا يتحقق باستعارة العلوم ولا بحفظ المعلومات وإنما يتحقق بتغيير طريقة التفكير وبممارسة التحليل وبسجالات الفكر التي تحتدم بين الاتجاهات المختلفة ومداومة التحقق وعدم الرضا بالمتحقق مهما كان والتطلع الدائم نحو الأفضل والأكمل وعدم الاكتفاء بأي انجاز متحقق ولا الاقتناع بكماله فليست المعلومات الجاهزة هي التي ترتقي بطريقة التفكير ولا هي التي تغيِّر مجالات الاهتمام ولا هي التي تبني القدرة على الابداع والانتاج وإنما الارتقاء والتغيير مصدرهما التحول الثقافي الذي يتمخَّض عنه اكتشاف خطأ المسلَّمات الراسخة وعلى سبيل المثال فإن الكشف العلمي الفلكي الذي أحرزه كوبرنيكوس لم تكن له نتائج عملية مباشرة لا في الصناعة ولا في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في أي مجال عملي فأحوال البشر لا يؤثر عليها أن تكون الأرض هي مركز الكون أو كانت الشمس هي المركز ولكن هذا الكشف الخارق الذي يخلو من الفائدة العملية قد أحدث زلزالاً في العقل الأوروبي مازالت تتنامى نتائجه الباهرة..
ان التأثير الثقافي الهائل للكشف الفلكي الذي توصل إليه كوبرنيكوس لم ينتج عن أنه أضاف للعقل الأوروبي معلومة جديدة مهمة وإنما أحدث الكشف هذا الزلزال الثقافي لأنه أيقظ عقولهم لكابوس المسلَّمات الخاطئة وكَشَف لهم أنهم كانوا مأسورين بوهم البداهة ومقيدين بالحس المباشر وأن عقولهم كانت معطلة ببداهات موروثة خاطئة فقد توارثوا كغيرهم من الأمم خلال القرون أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس ليست سوى نجم يدور حولها ليضيئها فَهَدم كوبرنيكوس هذا الوهم وبتقويض هذا الوهم انهارت أوهام كثيرة فتهيأ الأوربيون لإعادة تكوين منظومتهم المعرفية بأكملها وتأججت فيهم طاقات المغامرة والكشف وانفتحت لهم الآفاق وراحوا يواصلون الاختراع ويحققون الاكتشافات ويؤسسون العلوم ويبتكرون الوسائل ويغيِّرون النظم ويبدلون المؤسسات ويقتحمون المجهول ويأتون بالمدهشات وكل ذلك من نتائج انفكاك العقل من أسر المسلَّمات الخاطئة وانطلاقه في الآفاق حُراً يكشف المجهول ويصحح الأخطاء ويبدِّد الأوهام ويبتكر المناهج ويضع الإنسانية على الخط الصاعد دون نكوص أو تراجع..
لقد أثبت كوبر نيكوس أن الأرض ليست أكثر من كوكب صغير تابع للشمس وأن الشمس وتوابعها ليست سوى مولود صغير تابع لمجرة هائلة وبهذا الكشف عرف الأوروبيون نموذجاً صارخاً للخداع الحسي المباشر وأدركوا أنه يجب التحقق من البداهات بالعقل الناقد وبالمحاكمة التحليلية لقد اقتنع الأوروبيون بأن هذا الوهم ليس وهماً وحيداً وإنما هي واحد من منظومة واسعة من الأوهام والمسلَّمات التي تكبِّل العقل الإنساني لقد أثبت لهم هذا الاكتشاف أنهم كانوا مأخوذين بمسلَّمات خاطئة ودفعهم هذا التحول الجذري إلى مراجعة كل المسلَّمات وإعمال النقد في كافة البداهات وانتقلوا بذلك من حالة السُبات العقلي والجمود الثقافي إلى فاعلية العقل وإلى اجراء مراجعة ثقافية شاملة..
ولقد بلغ من تأثر الأوروبيين بهذا الكشف العظيم المزلزل أن الفيلسوف الألماني الأكبر (كانط) كان يُمني نفسه أن يتوصل بانجازاته الفلسفية الجليلة (نقد العقل المحض) و(نقد العقل العملي) و(نقد ملكة الحكم) وغيرها من شوامخ الفكر الحصيف إلى احداث ثورة في نظرية المعرفة تماثل ما أحدثه كوبرنيكوس من انقلاب مزلزل في الثقافة الأوروبية وهذا يؤكد الأثر العظيم الذي أحدثه كوبرنيكوس في العقل الأوروبي كما يؤكد قابلية الأوروبيين للاستفادة من كشوف العلم وأحداث التاريخ فهذا الكشف المزلزل حين وصل إلى الشعوب الافريقية والآسيوية لم يخلق عندها أي تساؤل ولم يثر فيها أية مراجعة وإنما تلقوه بوصفه معلومة رتيبة لا توقظ عقلاً ولا تُحاكم واقعاً ولا تؤدي إلى مساءلة ثقافة وهذا هو الفرق بين الثقافات النامية والثقافات الجامدة..
إن الكشوف العلمية مهما بلغت عظمتها لا تؤتي ثمارها إلا بوجود العقل الناقد فالأوروبيون ركزوا على الدلالة الحاسمة لهذا الكشف فلم يهتموا بدلالته الفلكية وإنما كان اهتمامهم الأكبر بدلالته الثقافية لأنهم قد أدركوا خطورة الاستسلام للحس المباشر وعرفوا أن هذا الاستسلام قد أوقعهم في مسلَّمات خاطئة ودفعهم هذا الإدراك إلى اجراء مراجعة شاملة لكل المسلَّمات...
إن هذا الكشف العلمي لا علاقة له بحياة الناس العملية فهو معدوم الأثر عملياً لكنه من الناحية الثقافية كان ثورة فكرية مزلزلة نتجت عنها تحولات ثقافية جذرية وبهذا يظهر أن العلم ليس معلومات وإنما هو طريقة تفكير كما أن هذا يؤكد فاعلية النقد المنهجي لايقاظ العقل من سباته وفك أسره من مسَّلماته إن فاعلية العقل لا يمكن أن تتحقق إلا بالنقد وايجاد جو تنافسي بين الأفكار والاتجاهات إن التفكير النقدي هو الحافز الأكبر للحضارة فيه تتطور العلوم وبه تتقدم التقنيات وبه تشاد المهارات وبه تتحسَّن النظم وبه يعاد بناء المؤسسات والرؤى والمواقف والتصورات والأوضاع والاتجاهات فالنقد المنهجي هو مفتاح الطاقة الإنسانية وهو الشرط المبدئي لأي تغيُّر نحو الأفضل في الفكر والفعل والحياة...
إن من أبرز الحقائق المتلألئة في التاريخ الأوروبي انقسام اليونانيين في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد إلى فئتين متباينتين ثقافياً فمجتمع أسبارطة أقام حياته على رؤية أحادية مغلقة تقوم على إخضاع الأفراد في نظام اجتماعي مغلق وصارم يسعى إلى أن يجعل الأفراد متماثلين فيحيل الفرد إلى خلية ذائبة في الكل فالمجموع المجرد هو شيء مقدَّس لا يجوز نقده ولا اخضاعه للمساءلة فالاهتمام محصور بالكل أما الأفراد فلا قيمة لهم إلا بمقدار انتمائهم لهذا الكل وذوبانهم فيه وخدمتهم له وولائهم لنظامه، لقد انصبَّت العناية على تكوين التماثل بدل التنوع وعلى بناء الأجسام بدل العناية بشحذ العقول فأثمرت هذه التنشئة الصارمة شعباً مقاتلاً لكنه كان يفتقر إلى النزعة الفردية ومحروماً من التفكير النقدي ومن ثراء التنوع فكان يملك الانتظام القسري المؤقت لكنه انتظام القطيع وليس التزام المُطيع وكان يفتقر إلى المبادرة والابداع فانتهى تاريخ اسبارطة بانتهاء ذلك العهد القصير فلم يذكرهم التاريخ بأثر مستمر ولا بإنجاز مثمر..
أما المجتمع الأثيني فقد أقام حياته على التفكير النقدي وإعلان أولوية الفرد وتأكيد حرياته وتنمية مهاراته والحرص على استقلاله واستثمار تفرُّده وبدلاً من السعي نحو التماثل كان الحرص على التفرد والتنوع وبهذا انجز المجتمع الأثيني معجزته الفكرية الباهرة لقد أصبح الأثينيون بسبب التفكير النقدي أساتذة الحضارة ورواد العلم فأسسوا الفكر الفلسفي ووضعوا الأساس المتين للعلوم وابتكروا من النُّظم والممارسات والآليات السياسية والقانونية والاجتماعية ما لايزال يحتفظ بكل روعته وبهائه وجدَّته..
وهذا التباين الثقافي بين فئتين ينتميان لعرق واحد وشعب واحد هو الشعب الإغريقي يقيم دليلاً قاطعاً على أن العامل الثقافي هو سبب التفاوت بين الأمم وأن الأخذ بالتفكير النقدي أو الحرمان منه هو سبب هذا التفاوت الحاسم فالاسبارطيون المنغلقون طواهم الزمن واختفوا من التاريخ دون أن يتركوا أي أثر ولولا حربهم مع الأثينيين لما ذكرهم التاريخ ولما عرفهم أحد أما الأثينيون الأحرار فقد تركوا تراثاً عقلانيا مذهلاً كان الأساس الذي انطلقت منه الحضارة الغربية بأكملها كما اعتمدت عليه الحضارة الرومانية في طورها المزدهر ثم أحيت أوروبا هذا التراث العظيم في عصر النهضة ثم في العصر الحديث ومازالت الحضارة المعاصرة تستمد طاقتها من ذلك التراث الإغريقي العجيب!! وكل ذلك قد تحقق بسبب الاعتماد على التفكير النقدي وإعماله في كل شأن من شؤون الإنسان...
لقد قلَّبت التاريخ طويلاً وكررت النظر والدراسة والتأمل في أحوال الأمم وأوضاع الشعوب في الماضي والحاضر وتوصَّلت إلى اقتناع تام بأن الازدهار هو الثمرة اليانعة للتفكير النقدي وبأن التخلف هو النتيجة الحتمية للحرمان من هذا الفكر فمهما جرى التوسع في التعليم ومهما كثر عدد المتعلمين فإن الأوضاع تبقى كما هي ما لم يكن التعليم مصحوباً بالتفكير الناقد والمراجعة الفاحصة: إخلاصاً للحق والتزاماً بالموضوعية واستمتاعاً بالتحقق...