ابو ضيف الله
04-Nov-2005, 02:49 PM
/ د. حامد الخليـفة
الشرق ق / إن من أقوى إرهاصات الثبات والنصر الواضحة في التاريخ الإسلامي، هو ارتباط حركة الجهاد في سبيل الله ومقاومة الغزاة بنشاط العلماء وجهودهم، فكلما أخلص العلماء ونشطوا وساندهم الولاة التفت حولهم الأمة وأصبح النصر قريباً والظفر على الأعداء ممكنا. تتجلى هذه الظاهرة في جهاد المسلمين للغزاة ومنهم الروم البيزنطيون في معركة ملاذ كرد، ومع الصليبيين في معركة الزلاقة في الأندلس، ومعهم في معركة حطين في الشام، ومع المغول في معركة عين جالوت في الشام، ومع التتار والمغول في معركة شقحب قريبا من أسوار دمشق سنة 702هـ. فعلى الرغم من كثرة التتار وقوتهم وشراستهم فإنَّ المسلمين استطاعوا إيقاف زحفهم ومن ثم هزيمتهم هزيمة ساحقة لم تقم لهم بعدها قائمة، كان الفضل الأول فيها لله ثم لشيخ الإسلام وإمام الشام أبو العباس أحمد بن تيمية ومن سانده من العلماء والقادة، وكان ذلك في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي كان يحكم الشام ومصر. فهل هذه بداية الملاحم وحرب الدجال التي أشارت إليها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي بشر بمقتله على أيدي جند الشام؟
ففي هذه الأيام التي أخذ الغول الديمقراطي الزائف ـ الذي مازالت أنيابه ومخالبه تنهش مدينة السلام بغداد أبو حنيفة وابن حنبل عاصمة الرشيد والمعتصم ـ يحفر تحت أسوار كنانة الرسول دمشق الفتح والرحمة والجماعة والحلم والسنة والمجد العربي الإسلامي، دمشق الأمل والعدل والمهدي وعيسى بن مريم. إن دمشق التاريخ الأغر ربوة عيسى وقهر الصليبية والمغولية وموجات العدوان الاستعماري الحديث، قادرة على مواجهة أعتى موجات العدوان والمكر الجديدة إن هي سارت على طريق الأجداد في الجماعة والألفة والتترس بخندق الأمة، ولم تفرط في الهوية التي لا تجيز التنازل عن الحقوق والثوابت، لأن التنازل لن يقابل بثمن أبدا، وبالتالي سيجعل منه الغزاة بوابة الإنهيار والهزيمة، ولعل في تجربة أهل الشام في مواجهة أعاصير التتار خير شاهد على ذلك. ففي سنة 699 هاجم التتار بلاد الشام بقيادة طاغيتهم الملك غازان، وكانوا حينئذ قد تظاهروا بالإسلام وتسموا بأسماء المسلمين والإسلام منهم براء، ولكنهم فعلوا ذلك مكرا وباطنية وتمويها، فسقطت مدن الشام في أيديهم الواحدة تلو الأخرى فأشاعوا فيها القتل والدمار والخراب والاغتصاب والسلب والسبي، تساعدهم وتشجعهم بعض الطوائف الحاقدة على العرب والمسلمين، تلك الطوائف التي أثبت تاريخها أنها في ساعات الشدة تبيع الأوطان التي آوتهم وتقطع الأيدي التي أكرمتهم وترفع رايات الغزاة والمحتلين دون أي وازع من ضمير أو مزعة من حياء أو إحساس بالذنب. وعلى الرغم من نهوض المماليك آنذاك لصد عدوان التتار فإنهم هزموا هزيمة قاسية في معركة الخزندار في منطقة السلميّة من بلاد حماة، ثم قام بعض مطايا المحتل باغتيال السلطان المنصور لا جين ونائبه على مصر سيف الدين منكوتمر، وفي تلك الأثناء فر نائب الشام قبجق إلى التتار فأسهم في زيادة انفراط العقد السياسي وانتشار الأراجيف والأباطيل التي تهدف إلى نزع الثقة وتعريض البلاد للخطر، فتولى السلطنة بعد ذلك الملك الناصر محمد بن قلاوون. وأمام ذلك الانفراط السياسي الخطير وغياب المحاسبة والمتابعة لمن أعماهم الجشع وجمع السحت، كان لابد لأهل العلم والغيرة على الأمة من أن يتحركوا على كل الصعد لحماية البيضة وسلامة الهوية، ولمواجهة الأخطار المحدقة، فبدا دور العلماء واضحا والحاجة إلى جهودهم ماسة، فتصدى شيخ الإسلام وإمام الشام أبو العباس بن تيمية لهذه المهمة الرهيبة في ذلك الزمن العصيب، ولسان حاله عندما ينظر إلى الواقع السياسي يقول: الرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخيف
فوقف وحده في ذلك الميدان حينما تخلف الآخرون إلا من رحم الله تعالى ممن سانده في مساعيه الرامية إلى نفخ روح الجهاد والمقاومة في نفوس المسلمين ضد الغزاة المحتلين، الذين لا عهد لهم ولا ميثاق ولا أمان قال تعالى {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} فأصبح بهمته وجسارته المعروفة لكل أهل الشام وبإخلاصه العميق لأمته ولعقيدته هو القائد الذي يلتف حوله الناس ضد التتر المغول، فضبط الأمن في دمشق، ونظم الحراسة على أسوارها، وضرب على أيدي المفسدين من المرتشين وباعة الأوطان والجواسيس المتعاونين مع الغزاة، وأقام الحدود وحارب المعاصي وعمل على عدم انتشارها في المجتمع. ولما تم معرفة «جماعة ممن كان يلوذ بالتتار ويؤذي المسلمين، شنق منهم طائفة وسمر آخرين وكحل بعضهم وقطعت ألسنة وجرت أمور كثيرة» وخرج شيخ الإسلام ومعه أعداد كبيرة من المتطوعين للجهاد في سبيل الله، إلى النواحي التي مدت يد الغدر إلى الغزاة، واستباحت حرمة المسلمين ولا سيما أصحاب النوايا الفاسدة والعقائد الضالة من الذين يحملون الأحقاد والضغائن على العرب المسلمين «وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر حين اجتازوا ببلادهم، فوثبوا عليهم ونهبوهم واخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم ولم يكونوا من قبل يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة ولا يدينون دين الحق» ولم يكتف بذلك بل إنه قاد حملة أخرى لتنقية الصف وصقل الهوية نظم فيها العلاقات مع الطوائف المتعايشة مع المسلمين فقرئت عليهم شروط الذمة وأبلغوا بضرورة الالتزام بها، فحصل بذلك الخير الكثير، وتمايزت الصفوف ليتضح لقادة الأمة من أين يأتي الخطر، وبعد أن قام شيخ الإسلام بهذه التدابير وهذه الحملة التطهيرية للفساد الموجود داخل الصف، تمكن بذلك من إغلاق البؤر التي يمكن أن تُدخل الشر على ذراري المسلمين وأهليهم وتطعن المجاهدين بالظهر، بعد ذلك انطلق إلى طاغية المغول غازان يجادله ويحاوره ويمنعه من دخول دمشق لكي لا يصيبها ما أصاب أخواتها من مدن الشام، ومن ذا الذي يستطيع أن يجابه الطغاة المتجبرين غير العلماء المخلصين. ويدون المؤرخون ذلك اللقاء ويروي شاهد العيان حديث ابن تيمية لغازان، ويصف الحديث المفعم بالإيمان والثقة والرجولة، الذي جعل بطش الطاغية ينقلب احتراما وتبجيلا وإجلالا لذلك العالم الأمين، وفي نهاية ذلك المجلس يطلب غازان من ابن تيمية أن يدعو له فيتوجه بيديه إلى السماء مناجياً ربه بأن ينصره إن نصر الإسلام ويخذله إن خذل الإسلام، وعندما سمع بعض أعضاء الوفد دعاء أبي العباس بين يدي الطاغية أصابهم الهلع والخوف حتى إن البعض منهم ظن أنه سيصيبه شيء من دمه بسيوف زبانية الطاغية لجرأته على خان التتر المغول، ولكن لما كان ذلك الموقف بالحق ونصرة لأهل الحق أيده الحق وحقن دمه وأعز مقامه، وفي ذلك من العبر التي تسفه كل دعوات تمييع الهوية ومسخ الأمة، التي يتبناها المخادعون من أصحاب الفتاوى المضللة ومن دعاة إقرار الثقافات والمعتقدات التي لا تنبع من تاريخ الأمة وأصالتها.
ولما عاد شيخ الإسلام ذلك المفاوض المخلص البارع الذي لا يكذب أهله ولا يخدعهم، إلى دمشق عاد ليستنهض الهمم ويعلن الجهاد ويجلو الهوية ويصدر الفتاوى بأن التتار المغول مارقون من الإسلام فهم من جنس الخوارج الذين حاربهم علي ومعاوية رضي الله عنهما، ويصرح بذلك ويقول: لو رأيتموني مع الغزاة وعلى رأسي مصحف فاقتلوني. ليزيل بذلك الشبه التي كان يتستر تحتها الغزاة حينما زعموا أنهم من المسلمين، ويخرج إلى جند دمشق يثبتهم ويقوي عزائمهم ويعدهم بالنصر والظفر ويحلف على ذلك فيقولون له قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً متأولا قوله تعالى: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} ولم يكتف شيخ الإسلام بهذه الخطوات التي قام بها ولكنه انطلق إلى القاهرة في مصر يدعو السلطان المملوكي للجهاد ويحثه عليه ويضعه أمام مسؤولياته ومهامه الموكلة إليه من الدين والأمة قائلا له: «لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وهم رعاياكم، وأنتم مسؤولون عنهم، وإن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا ً يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن» ولم يدع السلطان حتى أنجز منه وعد القيام بالواجب تجاه الأمة، ثم عاد إلى دمشق يبشرهم بقدوم إخوانهم من مصر للقتال معهم، وينفث فيهم روح الجهاد وحب الشهادة ويبين وجوبه على أبناء الأمة وعظيم نتائجه وسمو فضائله. وفي مستهل صفر من سنة 700 للهجرة «وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة وبيعة الأمتعة والثياب بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب لو أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتار حتماً في هذه الكرة وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة، فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم»، واستمر شيخ الإسلام ومحبو الأمة في بذل الجهود المتواصلة لنزع الوهن الذي في صدور الناس، وتوضيح مخاطر الفرار والتفريط بأمن الأمة، وبيان وطأة المغارم التي تلحق بالمنبطحين أمام الغزاة، وأنهم لن يضمنوا الأمن والاستقرار إلا بمقاومة ثقافة الهزيمة والتواكل، وترسيخ روح الرجولة والجهاد في النفوس كما كان الأجداد من سلف هذه الأمة، حتى آتت تلك الجهود ثمارها في نفوس الكثير من أبناء المسلمين فأعلنوا التحاقهم بالمدافعين عن الدين والأمة، ولا سيما بعد أن اتضح لهم أنه لا يحمي البلاد إلا أهلها وأن الضعيف لا قيمة له مهما كانت منزلته.
وفي سنة 701 انتشرت روح الثبات وحب الأمة في النفوس، وحوربت البدع وأقيمت الحدود وعزر المتجاوزون على الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، وانتشرت دروس العلم والفقه فأحدث ذلك تغييرا في النفوس وفي الموقف من الأحداث وفي النظرة إلى المجتمع وإلى معرفة الأمة وحقوقها على أبنائها.
وفي سنة 702 هـ كان التتار قد توجهوا نحو دمشق بكل قواهم وجبروتهم وطغيانهم وعملائهم، ولما ثبت هلال شهر رمضان المبارك من ذلك العام أصبح الناس صائمين وأسرجت القناديل في المساجد وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر النصر وببركاته وألحوا في الدعاء للمجاهدين الذين خرجوا لملاقاة الغزاة، وكانت الأوضاع هذه المرة قد تغيرت عما كانت عليه في السنوات السابقة، وجهود شيخ الإسلام قد أثرت في الناس فثبتوا أمام المعتدين وجواسيسهم ودافعوهم على كل شبر كانوا يطأون عليه، وحينما علم السلطان بذلك خرج على رأس جيشه ومعه الخليفة العباسي المستكفي بالله ووصل إلى الشام وعزم المسلمون على الجهاد فإما النصر وإما الشهادة.
وخرج أهل دمشق يقودهم عالمهم وشيخهم أبو العباس ابن تيمية لابسا سلاحه مع جماعة من القضاة والعلماء العاملين، بعد أن انزوى علماء الرخاء والمنافع والفتاوى الجاهزة الذين يدينون بدين من يؤيهم ويتكلمون بلسان من يعطيهم، فالتقى جيش المسلمين القادم من مصر في شقحب إحدى نواحي دمشق فامتزجا معا في بوتقة واحدة، ووصل التتر المغول إلى ذلك المكان فاصطف الجيشان وسار السلطان والخليفة بين الصفوف يشجعون الناس ومعهم القراء يقرؤون نشيد الجهاد سورة الأنفال المباركة، وكان الخليفة يقول: «يا مجاهدون لا تنظروا إلى سلطانكم قاتلوا عن حريمكم وعن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم» فبكى الجند وتواصوا على الثبات والتضحية من أجل العقيدة والأمة.
وأما شيخ الإسلام فلا زال متفائلا واثقا بالنصر، يبشر الجند به ويأمرهم بالفطر من الصيام ليقووا به على القتال. وفي يوم السبت الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة التحم الجيشان، المسلمون تحت رايات علمائهم ومخلصي سلاطينهم، والمغول ومعهم المنافقون تحت راياتهم ومعهم بعض أبناء الطوائف الذين باعوا الأمة التي آوتهم قرونا.ولما غلب على الظنون أن الوقعة بين المسلمين والغزاة ومطاياهم ستكون في ذلك اليوم ابتهل الناس بالدعاء إلى الله تعالى «في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطح وكشفوا رؤوسهم، وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك اليوم مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس» أما هناك في الميدان فإن السلطان سأل ابن تيمية «أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم لمنصورون عليهم هذه المرة فيقول له الأمراء قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا» وكان يدور بين الجند المجاهدين يبث فيهم الحمية الإسلامية ويذكرهم بقيم الأجداد وشجاعتهم، فقوي المسلمون بكلمات شيخهم وانتشرت فيهم روح الجهاد والجرأة على العدو «ولما التحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ» واستمر القتال من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك واستمرت الملاحقات لفلول الغزاة «فقتلوا منهم مالا يعلمه إلى الله عز وجل وجعلوا يجيئون بهم في الحبال وتضرب أعناقهم، ثم اقتحموا الهزيمة فنجا منهم جماعة قليلة، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة ولله الحمد والمنة» فانهزم التتر المغول هزيمة شنيعة تتناسب مع ما اقترفته أيديهم بحق الأبرياء من أبناء الأمة، وتم النصر للمسلمين بعد أن أبلى المجاهدون بلاءً حسناً كسروا فيه شوكة التتار ونكسوا راياتهم وأبطلوا سحرهم بعد أن فتن فيه ضعفاء النفوس من المتاجرين بمصير الشعوب لأجل مصالحهم الأنانية الزائلة. «وفي يوم الإثنين رابع الشهر رجع الناس من منطقة الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير» وهكذا كان النصر ثمرة الجهاد الذي أعدّ له المسلمون واستعدوا معنويا وماديا فحقق الله تعالى وعده لهم بعد أن صدقوا وتعاونوا واستجابوا لعلمائهم وقادتهم الصالحين.
وتمكن ابن تيمية بعد ذلك الصبر وتلك المواظبة والسعي بين المسلمين لجمع كلمتهم أن يسطر موقفا خالدا، يذكر له كلما ذكرت المحن والمصائب التي يجلبها الغزاة على بلاد المسلمين فرحم الله شيخ الإسلام فقد كان بحق قائد المسلمين المخلص الأمين الغيور الذي كانت جهوده تمثل السبب الأول في تحقيق ذلك النصر المؤزر وأسبغ تلك النعمة العظيمة على الأمة فلم تخفه الأخطار ولا كثرة العدو فأحسن الصبر وأجاد التدبير وأظهر أعلى درجات الإخلاص فنشر الأمن والعدل وأدخل السرور على جميع المسلمين ،قال الذهبي : «فوالله ما ذقنا يوما أحلى منه، ولا أمرّ من الذي قبله» أي من الأيام التي كان الناس فيها بعيدين عن الدين لا يفكرون إلا في إرضاء الغزاة وتنفيذ شروطهم التي لم تكن سوى وسيلة لتفتيت وحدتهم وتشتيت قوتهم ومن ثم التفرد بهم وسحقهم واحتلال بلادهم. وبذلك الثبات العجيب أمام قوة الغزاة، ولمز المهزومين وإرجاف الجواسيس والمنافقين، تمكن شيخ الإسلام من حماية دمشق ودفع الشر عنها. بعد أن تمكن من تشخيص الأخطار أولا، ومن ثم السعي المباشر لمواجهتها، وتمثل ذلك في الثقة بالله واستعداده التام للتضحية من أجل عقيدته وأمته، ومن ثم نشر ثقافة التضحية والثبات والتعاون بين أبناء الشام ومصر آنذاك، ثم السعي في توحيد الصف الداخلي وإقامة العدل بين الناس، حتى صفت النفوس وسادت الطمأنينة والثقة، ولم يهمل دور العلماء المخلصين الذين شكل منهم هيئة رشد وإرشاد تبصر الناس وتبين لهم المسار الصحيح، مما كان له أجمل الأثر في مؤازرته وإنجاح مساعيه التي تكللت في سحق الغزاة وتحطيم أحلامهم وحماية الأمة.
فهل ينظر علماء الشام في سيرة أجدادهم يلتمسون منها العبر والعظات؟ فيهتدون إلى ما اهتدى إليه شيخ الإسلام فيؤسسون لهيئة علماء الشام التي تعمل على تشخيص الأخطار وتباشر العمل في معالجتها، إطفاء للفتن ودملا للجراح، وإعادة لثقة الناس بعقيدتهم وقدرات أمتهم، والعمل على مدّ الجسور بين أجنحة الأمة، ورفع القهر والظلم الواقع على كثير من الناس، واستباحة أموالهم ومعتقداتهم وعامة حقوقهم المشروعة، وإنهاء حالة اللامبالاة بالمظلومين والمسحوقين والمشردين، الذين قد يتحول البعض منهم إلى أدوات ضد من طال جشعهم وكِبرهم عليهم وجفوتهم لهم وهضمهم لحقوقهم، وامتهانهم لمصيرهم، وإقصاؤهم لعقيدتهم، فيكبر الخرق على الراقع، ولا سيما أن عامتهم يعتقدون أن كل الذي فعلوه وقدموه كان من أجل عقيدتهم وسلامة هويتهم، فهل يعي علماء الشام الخطر المحدق بهم ويدركون إلى أي مدى يمكن الاعتماد على أهل المكاء والتصدية، بعد أن اتضح ذلك جليا في مواقف من حولهم، فيقوموا بواجبهم على أحسن حال، بعيدا عن الاستفزاز والمغامرة والمداهنة والمواربة أو الهرب من المسؤولية، وسدا للذرائع وقطعا للطريق على من احترف الانتهازية واستمرأ مغازلة الآخرين واعتاد جني ثمار العلقم واستطاب طعمها، ولا سيما أن الواقع المعاصر أثبت أن المتعاونين مع الغزاة لم يجلبوا سوى الشر والدمار والفتن والطائفية العمياء التي لا تثمر سوى المرارة والأسى والحسرة. «ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
الشرق ق / إن من أقوى إرهاصات الثبات والنصر الواضحة في التاريخ الإسلامي، هو ارتباط حركة الجهاد في سبيل الله ومقاومة الغزاة بنشاط العلماء وجهودهم، فكلما أخلص العلماء ونشطوا وساندهم الولاة التفت حولهم الأمة وأصبح النصر قريباً والظفر على الأعداء ممكنا. تتجلى هذه الظاهرة في جهاد المسلمين للغزاة ومنهم الروم البيزنطيون في معركة ملاذ كرد، ومع الصليبيين في معركة الزلاقة في الأندلس، ومعهم في معركة حطين في الشام، ومع المغول في معركة عين جالوت في الشام، ومع التتار والمغول في معركة شقحب قريبا من أسوار دمشق سنة 702هـ. فعلى الرغم من كثرة التتار وقوتهم وشراستهم فإنَّ المسلمين استطاعوا إيقاف زحفهم ومن ثم هزيمتهم هزيمة ساحقة لم تقم لهم بعدها قائمة، كان الفضل الأول فيها لله ثم لشيخ الإسلام وإمام الشام أبو العباس أحمد بن تيمية ومن سانده من العلماء والقادة، وكان ذلك في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي كان يحكم الشام ومصر. فهل هذه بداية الملاحم وحرب الدجال التي أشارت إليها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي بشر بمقتله على أيدي جند الشام؟
ففي هذه الأيام التي أخذ الغول الديمقراطي الزائف ـ الذي مازالت أنيابه ومخالبه تنهش مدينة السلام بغداد أبو حنيفة وابن حنبل عاصمة الرشيد والمعتصم ـ يحفر تحت أسوار كنانة الرسول دمشق الفتح والرحمة والجماعة والحلم والسنة والمجد العربي الإسلامي، دمشق الأمل والعدل والمهدي وعيسى بن مريم. إن دمشق التاريخ الأغر ربوة عيسى وقهر الصليبية والمغولية وموجات العدوان الاستعماري الحديث، قادرة على مواجهة أعتى موجات العدوان والمكر الجديدة إن هي سارت على طريق الأجداد في الجماعة والألفة والتترس بخندق الأمة، ولم تفرط في الهوية التي لا تجيز التنازل عن الحقوق والثوابت، لأن التنازل لن يقابل بثمن أبدا، وبالتالي سيجعل منه الغزاة بوابة الإنهيار والهزيمة، ولعل في تجربة أهل الشام في مواجهة أعاصير التتار خير شاهد على ذلك. ففي سنة 699 هاجم التتار بلاد الشام بقيادة طاغيتهم الملك غازان، وكانوا حينئذ قد تظاهروا بالإسلام وتسموا بأسماء المسلمين والإسلام منهم براء، ولكنهم فعلوا ذلك مكرا وباطنية وتمويها، فسقطت مدن الشام في أيديهم الواحدة تلو الأخرى فأشاعوا فيها القتل والدمار والخراب والاغتصاب والسلب والسبي، تساعدهم وتشجعهم بعض الطوائف الحاقدة على العرب والمسلمين، تلك الطوائف التي أثبت تاريخها أنها في ساعات الشدة تبيع الأوطان التي آوتهم وتقطع الأيدي التي أكرمتهم وترفع رايات الغزاة والمحتلين دون أي وازع من ضمير أو مزعة من حياء أو إحساس بالذنب. وعلى الرغم من نهوض المماليك آنذاك لصد عدوان التتار فإنهم هزموا هزيمة قاسية في معركة الخزندار في منطقة السلميّة من بلاد حماة، ثم قام بعض مطايا المحتل باغتيال السلطان المنصور لا جين ونائبه على مصر سيف الدين منكوتمر، وفي تلك الأثناء فر نائب الشام قبجق إلى التتار فأسهم في زيادة انفراط العقد السياسي وانتشار الأراجيف والأباطيل التي تهدف إلى نزع الثقة وتعريض البلاد للخطر، فتولى السلطنة بعد ذلك الملك الناصر محمد بن قلاوون. وأمام ذلك الانفراط السياسي الخطير وغياب المحاسبة والمتابعة لمن أعماهم الجشع وجمع السحت، كان لابد لأهل العلم والغيرة على الأمة من أن يتحركوا على كل الصعد لحماية البيضة وسلامة الهوية، ولمواجهة الأخطار المحدقة، فبدا دور العلماء واضحا والحاجة إلى جهودهم ماسة، فتصدى شيخ الإسلام وإمام الشام أبو العباس بن تيمية لهذه المهمة الرهيبة في ذلك الزمن العصيب، ولسان حاله عندما ينظر إلى الواقع السياسي يقول: الرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخيف
فوقف وحده في ذلك الميدان حينما تخلف الآخرون إلا من رحم الله تعالى ممن سانده في مساعيه الرامية إلى نفخ روح الجهاد والمقاومة في نفوس المسلمين ضد الغزاة المحتلين، الذين لا عهد لهم ولا ميثاق ولا أمان قال تعالى {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} فأصبح بهمته وجسارته المعروفة لكل أهل الشام وبإخلاصه العميق لأمته ولعقيدته هو القائد الذي يلتف حوله الناس ضد التتر المغول، فضبط الأمن في دمشق، ونظم الحراسة على أسوارها، وضرب على أيدي المفسدين من المرتشين وباعة الأوطان والجواسيس المتعاونين مع الغزاة، وأقام الحدود وحارب المعاصي وعمل على عدم انتشارها في المجتمع. ولما تم معرفة «جماعة ممن كان يلوذ بالتتار ويؤذي المسلمين، شنق منهم طائفة وسمر آخرين وكحل بعضهم وقطعت ألسنة وجرت أمور كثيرة» وخرج شيخ الإسلام ومعه أعداد كبيرة من المتطوعين للجهاد في سبيل الله، إلى النواحي التي مدت يد الغدر إلى الغزاة، واستباحت حرمة المسلمين ولا سيما أصحاب النوايا الفاسدة والعقائد الضالة من الذين يحملون الأحقاد والضغائن على العرب المسلمين «وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر حين اجتازوا ببلادهم، فوثبوا عليهم ونهبوهم واخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم ولم يكونوا من قبل يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة ولا يدينون دين الحق» ولم يكتف بذلك بل إنه قاد حملة أخرى لتنقية الصف وصقل الهوية نظم فيها العلاقات مع الطوائف المتعايشة مع المسلمين فقرئت عليهم شروط الذمة وأبلغوا بضرورة الالتزام بها، فحصل بذلك الخير الكثير، وتمايزت الصفوف ليتضح لقادة الأمة من أين يأتي الخطر، وبعد أن قام شيخ الإسلام بهذه التدابير وهذه الحملة التطهيرية للفساد الموجود داخل الصف، تمكن بذلك من إغلاق البؤر التي يمكن أن تُدخل الشر على ذراري المسلمين وأهليهم وتطعن المجاهدين بالظهر، بعد ذلك انطلق إلى طاغية المغول غازان يجادله ويحاوره ويمنعه من دخول دمشق لكي لا يصيبها ما أصاب أخواتها من مدن الشام، ومن ذا الذي يستطيع أن يجابه الطغاة المتجبرين غير العلماء المخلصين. ويدون المؤرخون ذلك اللقاء ويروي شاهد العيان حديث ابن تيمية لغازان، ويصف الحديث المفعم بالإيمان والثقة والرجولة، الذي جعل بطش الطاغية ينقلب احتراما وتبجيلا وإجلالا لذلك العالم الأمين، وفي نهاية ذلك المجلس يطلب غازان من ابن تيمية أن يدعو له فيتوجه بيديه إلى السماء مناجياً ربه بأن ينصره إن نصر الإسلام ويخذله إن خذل الإسلام، وعندما سمع بعض أعضاء الوفد دعاء أبي العباس بين يدي الطاغية أصابهم الهلع والخوف حتى إن البعض منهم ظن أنه سيصيبه شيء من دمه بسيوف زبانية الطاغية لجرأته على خان التتر المغول، ولكن لما كان ذلك الموقف بالحق ونصرة لأهل الحق أيده الحق وحقن دمه وأعز مقامه، وفي ذلك من العبر التي تسفه كل دعوات تمييع الهوية ومسخ الأمة، التي يتبناها المخادعون من أصحاب الفتاوى المضللة ومن دعاة إقرار الثقافات والمعتقدات التي لا تنبع من تاريخ الأمة وأصالتها.
ولما عاد شيخ الإسلام ذلك المفاوض المخلص البارع الذي لا يكذب أهله ولا يخدعهم، إلى دمشق عاد ليستنهض الهمم ويعلن الجهاد ويجلو الهوية ويصدر الفتاوى بأن التتار المغول مارقون من الإسلام فهم من جنس الخوارج الذين حاربهم علي ومعاوية رضي الله عنهما، ويصرح بذلك ويقول: لو رأيتموني مع الغزاة وعلى رأسي مصحف فاقتلوني. ليزيل بذلك الشبه التي كان يتستر تحتها الغزاة حينما زعموا أنهم من المسلمين، ويخرج إلى جند دمشق يثبتهم ويقوي عزائمهم ويعدهم بالنصر والظفر ويحلف على ذلك فيقولون له قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً متأولا قوله تعالى: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} ولم يكتف شيخ الإسلام بهذه الخطوات التي قام بها ولكنه انطلق إلى القاهرة في مصر يدعو السلطان المملوكي للجهاد ويحثه عليه ويضعه أمام مسؤولياته ومهامه الموكلة إليه من الدين والأمة قائلا له: «لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وهم رعاياكم، وأنتم مسؤولون عنهم، وإن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا ً يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن» ولم يدع السلطان حتى أنجز منه وعد القيام بالواجب تجاه الأمة، ثم عاد إلى دمشق يبشرهم بقدوم إخوانهم من مصر للقتال معهم، وينفث فيهم روح الجهاد وحب الشهادة ويبين وجوبه على أبناء الأمة وعظيم نتائجه وسمو فضائله. وفي مستهل صفر من سنة 700 للهجرة «وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة وبيعة الأمتعة والثياب بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب لو أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتار حتماً في هذه الكرة وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة، فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم»، واستمر شيخ الإسلام ومحبو الأمة في بذل الجهود المتواصلة لنزع الوهن الذي في صدور الناس، وتوضيح مخاطر الفرار والتفريط بأمن الأمة، وبيان وطأة المغارم التي تلحق بالمنبطحين أمام الغزاة، وأنهم لن يضمنوا الأمن والاستقرار إلا بمقاومة ثقافة الهزيمة والتواكل، وترسيخ روح الرجولة والجهاد في النفوس كما كان الأجداد من سلف هذه الأمة، حتى آتت تلك الجهود ثمارها في نفوس الكثير من أبناء المسلمين فأعلنوا التحاقهم بالمدافعين عن الدين والأمة، ولا سيما بعد أن اتضح لهم أنه لا يحمي البلاد إلا أهلها وأن الضعيف لا قيمة له مهما كانت منزلته.
وفي سنة 701 انتشرت روح الثبات وحب الأمة في النفوس، وحوربت البدع وأقيمت الحدود وعزر المتجاوزون على الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، وانتشرت دروس العلم والفقه فأحدث ذلك تغييرا في النفوس وفي الموقف من الأحداث وفي النظرة إلى المجتمع وإلى معرفة الأمة وحقوقها على أبنائها.
وفي سنة 702 هـ كان التتار قد توجهوا نحو دمشق بكل قواهم وجبروتهم وطغيانهم وعملائهم، ولما ثبت هلال شهر رمضان المبارك من ذلك العام أصبح الناس صائمين وأسرجت القناديل في المساجد وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر النصر وببركاته وألحوا في الدعاء للمجاهدين الذين خرجوا لملاقاة الغزاة، وكانت الأوضاع هذه المرة قد تغيرت عما كانت عليه في السنوات السابقة، وجهود شيخ الإسلام قد أثرت في الناس فثبتوا أمام المعتدين وجواسيسهم ودافعوهم على كل شبر كانوا يطأون عليه، وحينما علم السلطان بذلك خرج على رأس جيشه ومعه الخليفة العباسي المستكفي بالله ووصل إلى الشام وعزم المسلمون على الجهاد فإما النصر وإما الشهادة.
وخرج أهل دمشق يقودهم عالمهم وشيخهم أبو العباس ابن تيمية لابسا سلاحه مع جماعة من القضاة والعلماء العاملين، بعد أن انزوى علماء الرخاء والمنافع والفتاوى الجاهزة الذين يدينون بدين من يؤيهم ويتكلمون بلسان من يعطيهم، فالتقى جيش المسلمين القادم من مصر في شقحب إحدى نواحي دمشق فامتزجا معا في بوتقة واحدة، ووصل التتر المغول إلى ذلك المكان فاصطف الجيشان وسار السلطان والخليفة بين الصفوف يشجعون الناس ومعهم القراء يقرؤون نشيد الجهاد سورة الأنفال المباركة، وكان الخليفة يقول: «يا مجاهدون لا تنظروا إلى سلطانكم قاتلوا عن حريمكم وعن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم» فبكى الجند وتواصوا على الثبات والتضحية من أجل العقيدة والأمة.
وأما شيخ الإسلام فلا زال متفائلا واثقا بالنصر، يبشر الجند به ويأمرهم بالفطر من الصيام ليقووا به على القتال. وفي يوم السبت الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة التحم الجيشان، المسلمون تحت رايات علمائهم ومخلصي سلاطينهم، والمغول ومعهم المنافقون تحت راياتهم ومعهم بعض أبناء الطوائف الذين باعوا الأمة التي آوتهم قرونا.ولما غلب على الظنون أن الوقعة بين المسلمين والغزاة ومطاياهم ستكون في ذلك اليوم ابتهل الناس بالدعاء إلى الله تعالى «في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطح وكشفوا رؤوسهم، وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك اليوم مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس» أما هناك في الميدان فإن السلطان سأل ابن تيمية «أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم لمنصورون عليهم هذه المرة فيقول له الأمراء قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا» وكان يدور بين الجند المجاهدين يبث فيهم الحمية الإسلامية ويذكرهم بقيم الأجداد وشجاعتهم، فقوي المسلمون بكلمات شيخهم وانتشرت فيهم روح الجهاد والجرأة على العدو «ولما التحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ» واستمر القتال من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك واستمرت الملاحقات لفلول الغزاة «فقتلوا منهم مالا يعلمه إلى الله عز وجل وجعلوا يجيئون بهم في الحبال وتضرب أعناقهم، ثم اقتحموا الهزيمة فنجا منهم جماعة قليلة، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة ولله الحمد والمنة» فانهزم التتر المغول هزيمة شنيعة تتناسب مع ما اقترفته أيديهم بحق الأبرياء من أبناء الأمة، وتم النصر للمسلمين بعد أن أبلى المجاهدون بلاءً حسناً كسروا فيه شوكة التتار ونكسوا راياتهم وأبطلوا سحرهم بعد أن فتن فيه ضعفاء النفوس من المتاجرين بمصير الشعوب لأجل مصالحهم الأنانية الزائلة. «وفي يوم الإثنين رابع الشهر رجع الناس من منطقة الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير» وهكذا كان النصر ثمرة الجهاد الذي أعدّ له المسلمون واستعدوا معنويا وماديا فحقق الله تعالى وعده لهم بعد أن صدقوا وتعاونوا واستجابوا لعلمائهم وقادتهم الصالحين.
وتمكن ابن تيمية بعد ذلك الصبر وتلك المواظبة والسعي بين المسلمين لجمع كلمتهم أن يسطر موقفا خالدا، يذكر له كلما ذكرت المحن والمصائب التي يجلبها الغزاة على بلاد المسلمين فرحم الله شيخ الإسلام فقد كان بحق قائد المسلمين المخلص الأمين الغيور الذي كانت جهوده تمثل السبب الأول في تحقيق ذلك النصر المؤزر وأسبغ تلك النعمة العظيمة على الأمة فلم تخفه الأخطار ولا كثرة العدو فأحسن الصبر وأجاد التدبير وأظهر أعلى درجات الإخلاص فنشر الأمن والعدل وأدخل السرور على جميع المسلمين ،قال الذهبي : «فوالله ما ذقنا يوما أحلى منه، ولا أمرّ من الذي قبله» أي من الأيام التي كان الناس فيها بعيدين عن الدين لا يفكرون إلا في إرضاء الغزاة وتنفيذ شروطهم التي لم تكن سوى وسيلة لتفتيت وحدتهم وتشتيت قوتهم ومن ثم التفرد بهم وسحقهم واحتلال بلادهم. وبذلك الثبات العجيب أمام قوة الغزاة، ولمز المهزومين وإرجاف الجواسيس والمنافقين، تمكن شيخ الإسلام من حماية دمشق ودفع الشر عنها. بعد أن تمكن من تشخيص الأخطار أولا، ومن ثم السعي المباشر لمواجهتها، وتمثل ذلك في الثقة بالله واستعداده التام للتضحية من أجل عقيدته وأمته، ومن ثم نشر ثقافة التضحية والثبات والتعاون بين أبناء الشام ومصر آنذاك، ثم السعي في توحيد الصف الداخلي وإقامة العدل بين الناس، حتى صفت النفوس وسادت الطمأنينة والثقة، ولم يهمل دور العلماء المخلصين الذين شكل منهم هيئة رشد وإرشاد تبصر الناس وتبين لهم المسار الصحيح، مما كان له أجمل الأثر في مؤازرته وإنجاح مساعيه التي تكللت في سحق الغزاة وتحطيم أحلامهم وحماية الأمة.
فهل ينظر علماء الشام في سيرة أجدادهم يلتمسون منها العبر والعظات؟ فيهتدون إلى ما اهتدى إليه شيخ الإسلام فيؤسسون لهيئة علماء الشام التي تعمل على تشخيص الأخطار وتباشر العمل في معالجتها، إطفاء للفتن ودملا للجراح، وإعادة لثقة الناس بعقيدتهم وقدرات أمتهم، والعمل على مدّ الجسور بين أجنحة الأمة، ورفع القهر والظلم الواقع على كثير من الناس، واستباحة أموالهم ومعتقداتهم وعامة حقوقهم المشروعة، وإنهاء حالة اللامبالاة بالمظلومين والمسحوقين والمشردين، الذين قد يتحول البعض منهم إلى أدوات ضد من طال جشعهم وكِبرهم عليهم وجفوتهم لهم وهضمهم لحقوقهم، وامتهانهم لمصيرهم، وإقصاؤهم لعقيدتهم، فيكبر الخرق على الراقع، ولا سيما أن عامتهم يعتقدون أن كل الذي فعلوه وقدموه كان من أجل عقيدتهم وسلامة هويتهم، فهل يعي علماء الشام الخطر المحدق بهم ويدركون إلى أي مدى يمكن الاعتماد على أهل المكاء والتصدية، بعد أن اتضح ذلك جليا في مواقف من حولهم، فيقوموا بواجبهم على أحسن حال، بعيدا عن الاستفزاز والمغامرة والمداهنة والمواربة أو الهرب من المسؤولية، وسدا للذرائع وقطعا للطريق على من احترف الانتهازية واستمرأ مغازلة الآخرين واعتاد جني ثمار العلقم واستطاب طعمها، ولا سيما أن الواقع المعاصر أثبت أن المتعاونين مع الغزاة لم يجلبوا سوى الشر والدمار والفتن والطائفية العمياء التي لا تثمر سوى المرارة والأسى والحسرة. «ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».