تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التعسف في استعمال الحق ، أو المضارة في الحقوق


ابن العواتك
04-Sep-2011, 05:08 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
(( التعسف في استعمال الحق، أو المضارة في الحقوق))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البرية محمد بن عبدالله- صلى الله عليه وسلم - فكل حق في الإسلام مصدره شريعة الله ، وإلا لم يكن حقاً مشروعاً يستحق الحماية من الشريعة الإسلامية ، ولا يحظى برعايتها . وهذه الحقوق قد وضعت الشريعة لها الطرق لاستعمالها ، فإذا خالف صاحب الحق تلك الطرق ظاهراً أو باطناً ، لا يفلت من حساب الله وعقابه في الدنيا ، أو في الآخرة ، فلابد إذن من اتباع إذن الشرع في نيل الحقوق أو استعمالها ، وهذا الاستعمال قد يتولد منه ضرر للغير ، مقصود وغير مقصود، وهذا الغير قد يكون جماعة أو فرداُ ، ووقوع الضرر قد يكون يقيناً أو غيره.
واستعمال الحق له أحوال عديدة بهذه الاعتبارات ، ونلخص هذه الأحوال في خمسة أحوال معتمدين على ما ذكره الشاطبي في موافقاته ومستعينين بغيره – ضوابط المصلحة وقواعد الأحكام والأشباه والنظائر للسيوطي والطرق الحكمية ومفتاح السعادة والحسبة في الإسلام لإبن تيمية- مع ضرب الأمثلة التي توضح كل حالة وإليك البيان :
الحالة الأولى : إن جلب المصلحة أو دفع المفسدة ، إذا كان مأذونا فيه ولا يلزم عنه إضرار الغير . فهذا باق على أصله من الإذن ، ولا إشكال فيه ، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء ، و لا يوجد ما يعارضه كالتصرف في الأملاك من غير إضرار بالغير.
الحالة الثانية: أن يقصد الجالب لمصلحة ، أو الدافع لمفسدة الإضرار بالغير، كالمرخص في سلعته قصداً لطلب معاشه وصحب ذلك قصد الإضرار بالغير. فهذا الإشكال فيه أيضاً من حيث منع القصد إلى الإضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر و لا ضرار في الإسلام. (( فقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال (( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام )) . انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 81-82.
ولكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس، وقصد إضرار الغير، هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه لهذا الوصف، أما يبقى على حكمه الأصلي من الإذن، ويكون عليه إثم ماقصد؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، مما كان فيه النهي لوصف منفك ، ومع ذلك يمكن تفصيله إلى ما يأتي:
وهو إما أن يكون لذلك العمل وجه آخر يمكن تحصيله عن طريقه من غير إضرار كمن له نوافذ عيدة توصل إليه الهواء ، ولكنه جنح إلى فتح نافذة معينة فيها كشف لعورات جاره . فإن كان الأمر كذلك فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار.
وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر بها الغير . ففي هذه الحالة حق الجالب أو الدافع مقدم، ومع ذلك فهو ممنوع من قصد الإضرار ،ولا يقال في هذا تكليف له بما لا يطاق ، لأنه إنما كلف بنفي نية الإضرار وهذا داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه.
الحالة الثالثة : ألا يقصد إضرار بأحد ، ولكن يكون الإضرار عاماً وشاملاً ففي هذه الحالة لا يخلو أن يلزم من منعه من حقه الإضرار به بحيث لا ينجبر أولاً . فإن لزم الإضرار به غير انجبار قدم حقه على الإطلاق إذا كان الضرر يلحقه وحده . أما إذا كان الضر يلحقه وغيره من أفراد الأمة كما في مسألة الترس التي فرضها الأصوليون كما لو ترى الكفار بأسرى المسلمين في الحرب المؤدي إلى قتل الترس معهم . وإن أمكن انجبار الإضرار، ورفعه جملة ، فاعتبار الضرر العام أولى. فيمنع الجالب والدافع مما هم به ، لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة ، لأن العامة أشمل . وتقدم أن من جوانب ميزان التفاوت في المصالح شمول المصلحة ، وبذلك ترجح.
ولذلك اتفق السلف والخلف على ترجيح المصلحة العامة على الخاصة كالانتفاع العام بالكلأ أو الماء الواقعين في أرض غير مملوكة ، على احتياز الفرد له.
وترجح مصلحة عامة أهل السوق على مصلحة الواحد منهم وبذلك منع تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي ، ومنع الاحتكار ، وترجحت مصلحة العامة في إجبار الممتنع عن بيع داره ، أو أرضه في حالة اضطرار الناس لمسجد جامع ونحوه ، ومن هذا أيضا مشروعية الحجر الصحي خشية انتشار الأمراض . ومنع الأفراد من نشر الزيغ أو الفساد ، فيمنع الفرد من ممارسة حرية الرأي والكتابة عند تعارض ذلك مصلحة الجماعة والأمة، واتفقوا أيضاً على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة.
الحالة الرابعة: ألا يقصد إضراراً بأحد ولكن سيقع الضرر بغيره من آحاد الناس من غير قصد ، ويلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر ، فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها ستقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام أو صيد أو حطب أو ماء ونحوه ، وهو عالم بأنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ، ولو أخذه غيره استضر هو.
ففي هذه الحالة إما أن ننظر إلى ذلك من جهة إثبات الحظوظ وأما أن ننظر إليه من جهة إسقاطها بالمواساة ، أو بالايثار.
فإذا نظرنا إلى ذلك من جهة الحظوظ ، فإن حق الجالب أو الدافع مقدم، وإن استضر به غيره ،لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع . ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من محرمات الأكل ، وابيح بيع الرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض ، وغير ذلك مما يدل على قصد الشارع وإذا ثبت هذا فيما سبق إليه الإنسان من تلك الأشياء ثبت حقه فيه شرعاً بحوزة له دون غيره ، وتقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعاً ، إلا مع إسقاط السابق حقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد يتعين عليه حق نفسه من الضروريات فلا يكون له خيرة في إسقاطه ومن هذا جواز الرشوة لدفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك.
وإعطاء المال للمحاربين في فداء الأسارى ولما نهى الحاج من الحج حتى يؤدي خراجاً ، كل ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من معصية ، بل كل العقوبات فيها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عليها اضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة لأنها غير مقصودة للشارع من شرع هذه الأحكام ، ولأن الجالب والدافع أولى.
فإن قيل هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة (( ألا ضرر و لا ضرار )) ، وما تقدم واقع فيه الضرر فلا يكون اذن مشروعاً بمقتضى هذا الأصل .
ويؤيد ذلك : إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجاناً ، مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهراً لما كان امساكه مؤدياً إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الطعام من يده قهراً لما كان امساكه مؤدياً إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الطعام من يده محتكره قهراً لما صار منعه مؤدياً لإضرار الغير وما أشبه ذلك .
والجواب: إن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك إضرار الغير في المسائل المتقدمة ،والأصول المقدرة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد الجالب ودفع الدافع وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن وأيضاً فقد تعارض هنالك إضراران: إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك، والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ، ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق.
والحاصل أن الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار . وأما مسألة المضطر فهي شاهد لنا، لأن المكره على الطعام ليس محتاجاً إليه بعينه. حاجة يضر به عدمها وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه . وهو عين مسألة النزاع. وإنما يكره على ما لا يستضر به.
وأما المحتكر فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للمنهي عنه مضر بالناس، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به ، وتقدم في الحالة الثالثة من الحكم على الخاصة لأجل العامة وهذا منه.

1. أما إذا نظرنا إلى ذلك من جهة المواساة والإيثار على النفس . فهذه درجة من درجات اليقين والتوكل لا يرقى إليها كل الناس، وهي محامد الأخلاق وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في هذا فكان أجود الخلق على الخلق بالخير من الريح المرسلة، وقد قالته خديجة – رضي الله عنها- في ذلك (( إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق)) وهكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم كما وصفهم القرآن بقوله تعالى ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا )) سورة الإنسان الآية 8 وبقوله : ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) سورة الحشر الآية 9 . فمن حظي بتوفيق الله ووصل هذه الدرجة العالية فأجره على الله . ولكن ليس هذا يصلح للمقياس العام.
الحالة الخامسة: ألا يلحق الجالب لمصلحة أو الدافع لمفسدة ضرر. ولكن في هذه الحالة يتفاوت مدى التأكد من حصول المفسدة وذلك لأن حصولها إما أن يكون قطعيا، وإما أن يكون نادراً ، وإما أن يكون كثيراً ، والكثير إما أن يكون غالباً أو لا.
فإن كان قطعياً في العادة ، كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام. بحيث يقع الداخل فيه بدون شك فهذا يلزم أن يكون ممنوعاً من ذلك الفعل ،ويعد متعدياً بفعله ،ويضمن ضمان المتعدي على الجملة ، وينظر في الضمان بحسب النفوس . والأموال على ما يليق بكل نازلة .
وإن كان نادراً. كحفر بئر بموضع لا يؤدي غالباً إلى وقوع أحد فيه ، فهذا يعتبر على أصله من الإذن ، لأن المصلحة ‘ إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور وانخرامها . إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ، ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العادات في الوجود.
ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة – مع معرفته بندور المضرة عن ذلك- تقصيراً في النظر ، ولا قصد إلى وقوع الضرر. فالعمل إذن على أصل المشروعية.
ومما يؤيد ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب، والوهم، والغلط ، وإباحة الفطر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة، وكذلك إعمال خبر الواحد ، والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها ، والخطأ فيها من وجوه . لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة.
وإن كان أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا نادراً: وهو إما أن يكون غالباً كبيع السلام في وقت الفتن، وبيع العنب من الخمار، وما يغتب به ممن شأنه الغش. فهذا أداؤه إلى المفسدة ظنياً . فيحتمل الخلاف . وقد يرجح الظن بوجوه لأن الظن في أبواب العمليات جار مجري العلم فالظاهر جريانه هنا، ولأن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا النوع كقوله تعالى : (( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ )) سورة الإنعام الآية 108 . ولأنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه . والحاصل من هذا أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه ، فالأصل الجواز من الجلب أو الدفع ، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل ، ومن باب التعاون على الإثم والعدوان ، منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل ، فإن المتسبب لا يقصد إلا مصلحة نفسه ، فإن حمل محمل التعدي فمن جهة أنه مظنة للتقصير.
وأما إن كان أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا غالباً ولا نادراً كمسائل بيوع الآجال ، فهذا في موضع نظر والتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن ، لأن العلم والظن بوقوع المفسدة متفقان ، إذ ليس هنا الإ احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ، ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر، واحتمال القصد لمفسدة الاضرار لا يقوم مقام نفس القصد ، ولا يقتضيه ، لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة.
ولا يصح أن يعد الجالب أو الدافع هنا مقصراً ولا قاصداً كما في العلم والظن لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما . ولذلك يكون التسبب المأذون فيه قوياً جداً ، إلا أن الإمام مالك رحمه الله اعتبره في باب سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعاً.
وذلك لأن القصد لا ينضبط في نفسه لأنه من الأمور الباطنية ، لكن له مجال هنا ، وهو كثرة الوقوع في الوجود ، أو هو مظنة ذلك ، فكما اعتبرت المظنة وإن صح التخلف ، كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد . فخرج عن الأصل هنا من الإباحة إلى الممنوع بحكمة سد الذريعة . وكثيراً من النصوص تدل على منع المباح لأنه ذريعة إلى الحرام.
فإذا تبين لنا مما تقدم تفاوت المصالح وتعارضها . فنقول : الخلاصة إن المصالح تتدرج في مراتب من الأهمية الذاتية ، متمثلة في مراتب الكليات الخمس ، وفي الوسائل الثلاث لإحرازها ، وهي الضروريات ، والحاجيات والتحسينات ثم بعد ذلك تتدرج حسب درجة شمولها وسعة فائدتها ، ومدى تحقق حصولها وعدمه فعلى هذا الترتيب يجري تصنيفها عند التعارض ، ويرجح البعض منها على الآخر.
وإذا استعمل الإنسان حقه بدون احتراس وتثبت فيما يمكن فيه الاحتراس والتثبيت – فيفضي إلى الإضرار بالغير- وذلك كما في صور الخطأ ، فإن أصل الفعل مباح ، وصاحبه لم يقصد به ضرر الغير ، ولكنه لم يحترس . فإنه يضمن ما أتلفه . ومحل الضمان إن أمكن الاحتراس عنه عادة وإلا فلا ضمان ، كما في الطبيب يجري عملية جراحية على الطريقة المعتادة بين الأطباء فمات بذلك انسان ، أو تلف به عضو، وذلك لاختلاف طبائع الناس وقوة احتمالهم للجراحات.
والقاعدة عند الحنفية في هذه المسألة أن الإنسان إذا أتى بمباح فترتب عليه ضرر ضمن، لأن استعمال المباح مشروط بالسلامة ، والضرردليل على عدم الاحتراس وذلك كالمرور في الطريق ، وضرب الزوجة لترك الطاعة . وإن فعل واجباً فترتب عليه ضرر لا يضمن كمنفذ الأحكام الشرعية.

سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك ربي وأتوب إليك
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المصدر: المقاصد العامة للشريعة ، د.يوسف حامد العالم ،الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية 1415هجرية/1994م. ص 191-198