ابو ضيف الله
25-Jun-2011, 01:13 PM
هيثم بن فهد الرومي
كم ذا يخادع نفسَه مَنْ يفترض أنَّ الذي يحولُ بين الناس وبين اتباع الهدى أسبابٌ علمية ومعرفية محضة، وأنَّ الأصل في الناس أنهم متى استبان لهم وجهُ الحق في قضية من القضايا فإنَّهم يتبعونه ولا ريب، مع أنَّ المتأمل في كتاب الله - جل جلاله - لَيستبين له أنَّ جمهورَ الأسباب التي تحول دون اتباعِ الحق ليست أسبابًا معرفية، بل إن مُعظَمها وأساسها عائدٌ إلى أسبابٍ تتقاطعُ في معنى موحد هو اتباع الهوى، وهذا الهوى المتبع قد يكون جاهًا أو مالاً، أو متبوعًا معظَّمًا، أو آباءً وأجدادًا، أو لذة من لذائذ النفوس الظاهرة والخفية، ومن هنا جاء التحذيرُ في القرآن الكريم من الاتباع الأعمى الذي لا يصدر عن رأي وإعمال فكر ونظر، بل هو صادرٌ عن نوعِ تعظيمٍ وإعجاب بالمتبوع المطاع، ومن ثَمَّ كانت فتنة الناس كبيرة حينما يزيغ الأذكياء والعقلاء منهم، فإنَّ الإنسان البسيط أو متوسط الذكاء، بل حتى الذكي حين يرى من يتوقَّدُ ذكاءً وفطنة يعتنق مذهبًا من المذاهب أو رأيًا من الآراء، فإنَّه يقع في قلبِه تعظيم لهذا الرأي من حيثُ عظم ذلك الذي رآه، وفي هذا يقولُ ابن الجوزي: "واعلم أنَّ عموم أصحاب المذاهب يعظمُ في قلوبِهم الشخصُ، فيتبعون قولَه من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال؛ لأنَّ النظر ينبغي أن يكون إلى القولِ لا إلى القائل، كما قال علي - رضي الله عنه - للحارثِ بن حوط وقد قال له: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارث، إنه ملبوسٌ عليك، إنَّ الحق لا يُعرَف بالرجال، اعرفِ الحقَّ تعرفْ أهلَه"؛ تلبيس إبليس (95).
هذا مع أنَّ الأذكياء من الناس لم يزالوا منذ الزمنِ القديم يعتنقون مذاهبَ متنافرة أشد ما يكون التنافر، ولم يزل آخرُهم يرد على أولِهم، ولاحقهم يسفِّه رأيَ سابقِهم، وهم في الوقت الواحد ينقلبون من الفكرةِ إلى نقيضها، ومن الرأي إلى عكسِه، ومع ذلك فمتبوعوهم لا يزالون ينقلبون معهم حيث تقلَّبوا، فإنَّ سطوة من يعاشره الإنسان ويشاهده شديدة الأثر على نفسه، فكيف إذا كان من أذكياءِ الناس وأصحاب الرأي فيهم؛ ولذا فإنَّ التالي لكتاب الله - تعالى - يرى ما فيه من تقريعٍِ شديد للأتباع الذين لا يعملون عقولَهم، ولا يتدبرون فيما يُقال لهم من الحقائقِ؛ اكتفاءً برأي متبوعيهم.
وهذه الحقيقةُ تدعو بدورها إلى ضرورة التأمل في أسباب ضلال هؤلاء الأذكياء الذين اتبعهم النَّاس في غوايتِهم، فضلَّ بضلالِهم خلقٌ كثير، فإنَّ الكشفَ عن سبب ضلالهم من شأنه أن يرفعَ عن أعينِ أتباعهم غشاوةً لم تزل تحول بينهم وبين اتباع الهدى، فكأنَّ لسان الواحد منهم يقول: أيضلُّ فلانٌ عن الحق وهو مَنْ علمتُ ذكاءَه وعقلَه؟ ومثل هذا التساؤل موغل في القدم؛ حتى قال أبو الحسن العامري: "والثالثة - يعني من حيلِ المخلطين في ترويج أوجه الضَّلال على أربابِ الأديان - أن يعزو المذهبَ الذي يدعوه إليه إلى رجلٍ جليل القدر مثل علماء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحكماء الفلاسفة أو عقلاء أهلِ زمانه؛ من وزير ملك أو أديب مبرز، فيسمع هذا المغفلُ المريض قولَه إياه فيحسن به الظنَّ ويرضاه إمامًا لنفسِه، ذهابًا منه إلى أنه مع جودةِ فطنتِه ما كان ليختارَه لولا أنَّه الأصوب في ذاته"؛ الإعلام بمناقب الإسلام (195).
وأول ما ينبغي أن يعلمَ أن كون المرء من أذكياء الناس وعباقرة العالم لا يعني أن ما يعتقدُه أو يميل إليه أو يرجحه صحيحٌ بالضرورة، بل ربما كان من أبطلِ الباطل، ومن جميلِ الاقتباس في هذا السياق كلامٌ للدكتور محمد سعيد البوطي حيث يقول: "كيف يكونُ برتراند رسل، وديكارت، وداروين، وبافلوف، وماركس، وفرويد، أساطينَ رسَّخوا دعائمَ العلم الحديث، وقد تفرَّقوا عن بعضِهم في طرائقَ مختلفةٍ ومتباينة؟ وكيف نفهم أن تكونَ آراؤهم ونظرياتُهم جميعًا هي العلم الصحيح الذي يجب أن يخضعَ له العقل، وهي نظريات متناقضة أو متباينة عن بعضها؟"؛ كبرى اليقينيات الكونية (15).
ثم إذا علم ذلك فإنه يحقُّ للإنسانِ أن يعجبَ حين يقلب بصرَه في الدنيا، فيرى أناسًا رزقوا من الذكاءِ والفطنة ما أصبحوا به مضربًا للمثل، ثم يراهم مع ذلك غافلين عن الحقِّ الذي نزلت به الكتبُ، وبعث به الأنبياء، فيتساءل كيف لا يهتدي أولئك إلى هذه الحقيقة اليينة؟
وهنا تأتي كلمةُ الله لتبينَ لنا كيف ضلَّ أولئك، وأن من لم تبلغْه هداياتُ الأنبياء من هؤلاء فاللهُ يتولَّى أمرَه يوم القيامة، غير أن كثيرًا منهم عرف الحقَّ فصد عنه وهو عالم به، فعاقبه الله بأنْ قلَّب فؤادَه وبصره بحيث لا يرى الحقَّ حقًّا، ولا الباطل باطلاً، ولا ينتفعُ بالآيات، ولا بالدَّلائل ولا المعجزات، ولو رآها بعينه وسمعها بأذنه.
طوائف كثيرة من هؤلاء الأذكياء استبان لهم الهدى والرشدُ في لحظةٍ من لحظات تجلِّي الحقيقة، وانجلاء الغشاوات التي تحجبُ الحق عن النفوس، ولم يبق إلا أن يستجيبوا للحقِّ الماثل أمام أعينهم، غير أنَّهم أعرَضوا لأيِّ سبب من الأسبابِ، فعوقبوا بالضَّلالِ الأبدي، وأصبحوا في عمايةٍ من الرأي بحيث إنَّهم لا يرون في الحجةَ والبرهان حجةً ولا برهانًا.
وفي هذا المعنى جاءت آياتٌ كثيرة في كتابِ الله - تعالى - فمن ذلك قول الله - جل جلاله -: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ [الأنعام : 109 - 111]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [الحجر : 10 - 15]، وقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس : 96 ، 97]، وقوله - جلَّ جلاله -: ﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [الشعراء : 200 ، 201]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف : 105]، وقوله - تعالى -: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس : 101].
بل إنَّ الأمر الذي هو أدهى من ذلك وأطم أنَّ من حقَّتْ عليه كلمةُ الضلالة من هؤلاء ليسوا على استعدادٍ لترك أسباب الإعراضِ عن الحقِّ لو عادوا إلى الدنيا بعد أن عالجوا من أهوالِ النارِ ما عالجوا، فإنَّ الله - تعالى - يقول: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام : 25 - 28]، وهذا ما يؤكِّد أنَ سببَ ضلالِهم ليس معرفيًّا، فإنَّ هؤلاء عاينوا الجحيمَ وما فيها من العذابِ الأليم، ورأوا عيانًا ما كانوا يكذبون به من قبل، ثم هم يعودون مع ذلك لما نُهوا عنه.
وهذا كله يؤكد لنا أنَّ من أعظم أسباب النَّجاةِ من الضلال - الذي متَى حاقَ بالإنسانِ فإنَّه يوبق دنياه وآخرته - أن يستجيبَ للحقِّ إذا استبان له، وألا يستكبرَ عليه مهما كان السبب، وإلا فإنَّه يلاقي من سوءِ العاقبة مثل ما لاقاه أولئك الذين لم يعودوا ينتفعون بعقولِهم مهما بلغت من الذكاء والنجابة، وقد قال الله - جل جلاله -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال : 20 - 23].
وهذا ما يؤكِّدُ لنا أن خضوعَ المرء وإذعانه لأمر ربه - جل جلاله - وانقياده لحكمه متى ما استبان له مرادُه - جلَّ شأنه - من أعظمِ مَعاقد الدِّيانةِ، التي ترتقي بصاحبِها في درجاتِ الإيمان واليقين، وهذا فصلُ ما بين المؤمنين والمنافقين، فقد أخبرنا الله - تعالى - أنَّ من شأنِ المؤمنين أن يقولوا: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة : 285]، وقال في المنافقين: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء : 61]، وقد أثنى اللهُ على أنبيائِه بأنهم أولو الأيدي والأبصار، الأبصار التي يقتدرون بها على رؤيةِ الحقِّ، والأيدي التي يقتدرون بها على تنفيذِه، وقد كان من دعاء الفاروق - رضي الله عنه -: "اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعَه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل".
ولطالما رجفت قلوبُ الصالحين، ولطالما تملكهم الوجلُ خوفًا من أن يردوا لله أمرًا أو يُعرِضوا عن الحقِّ من بعد ما تبين لهم الهدى، كيف وقد قصَّ الله عليهم في كتابِه ما نزل ببني إسرائيل من العقوباتِ والمثلات؛ يوم أن أعرضوا عن الحقِّ بعدما اتَّضح لهم واستبان، فلسانُ حالِهم ينطق بقولِ المقداد - رضي الله عنه - للرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "يا رسول الله، والله ما نقولُ لك كما قالتْ بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون، ولكننا نقول: فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".
لقد أمرنا الله في كتابِه بالاستجابةِ لله، والمسارعة إلى امتثال أمره، وأخبرنا أنَّه عاقب أقوامًا لم يستجيبوا للهدى بأن أعمى بصائرَهم، فلم يعودوا ينتفعون بعدُ بها، فإنَّ تركَ الانقياد لأمر الله بعد استبانةِ الحقِّ ليس شأنه كشأنِ صغائر الذُّنوب، التي يمحوها الاستغفارُ وإتباعها بالحسنات الصالحات، بل إن ترك الانقيادِ لأمر الله وردَّ حكمِه بعد استبانتِه متى استمرأ صاحبه عليه، فإنَّ من شأنه أن يطمسَ على القلبِ بحيث لا تنفعه الدلائلُ الواضحات، فتحق عليه كلمةُ الله بالضَّلالِ الذي لا مخرجَ منه؛ قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - في قول الله - جلَّ شأنه -: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور : 63] قال: "أتدري ما الفتنةُ؟ الفتنةُ الشرك، لعلَّه إذا ردَّ بعضَ قولِه أن يقعَ في قلبه شيءٌ من الزيغِ فيهلك".
لقد وسعت رحمة الله من أذنبَ وهو مقر بخطيئتِه، معترف بذنبِه، خاضعٌ بين يدي مولاه ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر : 53]، فيكون كأبيه آدم الذي اجتباه ربُّه فتاب عليه وهدى، غير أنَّ الخطرَ كل الخطرِ أن يستكبر الإنسانُ عن أمرِ ربه، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم، فيكون حاله كحالِ إبليس الذي استكبر وأبى، والله - جل جلاله - يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 25]، ويقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 137].
إنَّ من أعظم ما ينبغي على المسلم أن يخافَه أن يرد لله أمرًا بعد أن علم مرادَ الله فيه، فيخادع نفسَه، والله مطلعٌ على السرائر عليم بذات الصدور، فيتخذ بذلك طريقًا إلى سخط الله ومقته، بل عليه أن ينقادَ لأمر الله وحكمه وهو يتلو مع ذلك: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران : 8]؛ وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكثر أن يقول: ((يا مقلبَ القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينِك))، فقلتُ: يا رسول الله، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخافُ علينا؟ قال: ((نعم، إنَّ القلوبَ بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)).
إنَّ الله يرضى للناس أن يأخذوا الناسَ في الدُّنيا بالظاهر، غير أنَّ للناسِ يوم الدين شأنًا آخر، يوم تُبلى السرائر، يوم يُبعثر ما في القبورِ ويحصَّلُ ما في الصدور، وعلى المرء المسلم أن يحذرَ أشد الحذر أن يخادعَ الله كما يخادعُ الناس، فيطلع اللهُ على سريرتِه، ويعلم منه يقينَه بالحقِّ في قلبه، ثم إذا هو معرض عن الانقيادِ له بعمله، وقد عَلم أنَّ قاعدةَ الإسلام هي الاستسلامُ لله والخضوع لحكمه، فإنَّ أمرًا هذا شأنُه يوشك الله أن يجعلَ على بصرِه غشاوةً، فلا ينتفع بعقلِه وذكائه في معرفة الهدى، وربما جال فكره وعلمه في كلِّ وادٍ غيرِ وادي الحق الأفيح، بل ربما رأى الحقَّ بين ناظرَيْه فلا يعلمُ أنه الحق مع ظهوره، عقوبةً له على ما رد من أمرِ الله أول مرة وهو يعلم؛ ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية : 23].
ولقد قصَّ الله علينا في كتابِه عن أقوامٍ استبان لهم الحقُّ كما يستبين لهم النَّهار، غير أنَّ نفوسَهم لم تطب باتباعِه، فكان جزاؤهم النكالَ من الله - جل جلاله - قال الله - تعالى -: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل : 14]، وقال عن اليهود: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة : 146]، وقال عن مشركي مكة: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام : 33].
إنَّ العبد ما دام خاضعًا لله منكسرًا بين يديه، فإنَّه مهما أذنب فإنَّ رحمةَ الله واسعة، وإنَّ الله لا يتعاظمه ذنبٌ إلا غفره، وقد جاء في الصحيحِ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يحكي عن ربِّه - عزَّ وجل - قال: ((أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ ويأخذ بالذنب))، ثم عاد فأذنبَ، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: ((عبدي أذنب ذنبًا فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ بالذنب))، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: ((أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعملْ ما شئتَ فقد غفرتُ لك)).
غير أنَّ الذي يستكبرُ عن قبولِ الحق والخضوع له متوعَّدٌ بأمر عظيم لا نجاةَ بعده؛ حيث قال الله - تعالى - في كتابه: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف : 146]، فالشأن ليس في أن يبصرَ الإنسان الهدى فحسب، ولكنَّ الشأنَ أن يرزقَه الله اتباعه ولزومه؛ وقد روى أحمد وابن حبان والطبراني في الكبير عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أنه قال: قال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا شداد بن أوس، إذا اكتنز النَّاسُ الذهبَ والفضة فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهمَّ إني أسألك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرشد، وأسألك موجباتِ رحمتك وعزائمَ مغفرتك، وأسألك شكرَ نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، وأسألك من خيرِ ما تعلم، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرُك لما تعلم إنَّك أنت علام الغيوب)).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/32751/#ixzz1QGrAJmOv
كم ذا يخادع نفسَه مَنْ يفترض أنَّ الذي يحولُ بين الناس وبين اتباع الهدى أسبابٌ علمية ومعرفية محضة، وأنَّ الأصل في الناس أنهم متى استبان لهم وجهُ الحق في قضية من القضايا فإنَّهم يتبعونه ولا ريب، مع أنَّ المتأمل في كتاب الله - جل جلاله - لَيستبين له أنَّ جمهورَ الأسباب التي تحول دون اتباعِ الحق ليست أسبابًا معرفية، بل إن مُعظَمها وأساسها عائدٌ إلى أسبابٍ تتقاطعُ في معنى موحد هو اتباع الهوى، وهذا الهوى المتبع قد يكون جاهًا أو مالاً، أو متبوعًا معظَّمًا، أو آباءً وأجدادًا، أو لذة من لذائذ النفوس الظاهرة والخفية، ومن هنا جاء التحذيرُ في القرآن الكريم من الاتباع الأعمى الذي لا يصدر عن رأي وإعمال فكر ونظر، بل هو صادرٌ عن نوعِ تعظيمٍ وإعجاب بالمتبوع المطاع، ومن ثَمَّ كانت فتنة الناس كبيرة حينما يزيغ الأذكياء والعقلاء منهم، فإنَّ الإنسان البسيط أو متوسط الذكاء، بل حتى الذكي حين يرى من يتوقَّدُ ذكاءً وفطنة يعتنق مذهبًا من المذاهب أو رأيًا من الآراء، فإنَّه يقع في قلبِه تعظيم لهذا الرأي من حيثُ عظم ذلك الذي رآه، وفي هذا يقولُ ابن الجوزي: "واعلم أنَّ عموم أصحاب المذاهب يعظمُ في قلوبِهم الشخصُ، فيتبعون قولَه من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال؛ لأنَّ النظر ينبغي أن يكون إلى القولِ لا إلى القائل، كما قال علي - رضي الله عنه - للحارثِ بن حوط وقد قال له: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارث، إنه ملبوسٌ عليك، إنَّ الحق لا يُعرَف بالرجال، اعرفِ الحقَّ تعرفْ أهلَه"؛ تلبيس إبليس (95).
هذا مع أنَّ الأذكياء من الناس لم يزالوا منذ الزمنِ القديم يعتنقون مذاهبَ متنافرة أشد ما يكون التنافر، ولم يزل آخرُهم يرد على أولِهم، ولاحقهم يسفِّه رأيَ سابقِهم، وهم في الوقت الواحد ينقلبون من الفكرةِ إلى نقيضها، ومن الرأي إلى عكسِه، ومع ذلك فمتبوعوهم لا يزالون ينقلبون معهم حيث تقلَّبوا، فإنَّ سطوة من يعاشره الإنسان ويشاهده شديدة الأثر على نفسه، فكيف إذا كان من أذكياءِ الناس وأصحاب الرأي فيهم؛ ولذا فإنَّ التالي لكتاب الله - تعالى - يرى ما فيه من تقريعٍِ شديد للأتباع الذين لا يعملون عقولَهم، ولا يتدبرون فيما يُقال لهم من الحقائقِ؛ اكتفاءً برأي متبوعيهم.
وهذه الحقيقةُ تدعو بدورها إلى ضرورة التأمل في أسباب ضلال هؤلاء الأذكياء الذين اتبعهم النَّاس في غوايتِهم، فضلَّ بضلالِهم خلقٌ كثير، فإنَّ الكشفَ عن سبب ضلالهم من شأنه أن يرفعَ عن أعينِ أتباعهم غشاوةً لم تزل تحول بينهم وبين اتباع الهدى، فكأنَّ لسان الواحد منهم يقول: أيضلُّ فلانٌ عن الحق وهو مَنْ علمتُ ذكاءَه وعقلَه؟ ومثل هذا التساؤل موغل في القدم؛ حتى قال أبو الحسن العامري: "والثالثة - يعني من حيلِ المخلطين في ترويج أوجه الضَّلال على أربابِ الأديان - أن يعزو المذهبَ الذي يدعوه إليه إلى رجلٍ جليل القدر مثل علماء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحكماء الفلاسفة أو عقلاء أهلِ زمانه؛ من وزير ملك أو أديب مبرز، فيسمع هذا المغفلُ المريض قولَه إياه فيحسن به الظنَّ ويرضاه إمامًا لنفسِه، ذهابًا منه إلى أنه مع جودةِ فطنتِه ما كان ليختارَه لولا أنَّه الأصوب في ذاته"؛ الإعلام بمناقب الإسلام (195).
وأول ما ينبغي أن يعلمَ أن كون المرء من أذكياء الناس وعباقرة العالم لا يعني أن ما يعتقدُه أو يميل إليه أو يرجحه صحيحٌ بالضرورة، بل ربما كان من أبطلِ الباطل، ومن جميلِ الاقتباس في هذا السياق كلامٌ للدكتور محمد سعيد البوطي حيث يقول: "كيف يكونُ برتراند رسل، وديكارت، وداروين، وبافلوف، وماركس، وفرويد، أساطينَ رسَّخوا دعائمَ العلم الحديث، وقد تفرَّقوا عن بعضِهم في طرائقَ مختلفةٍ ومتباينة؟ وكيف نفهم أن تكونَ آراؤهم ونظرياتُهم جميعًا هي العلم الصحيح الذي يجب أن يخضعَ له العقل، وهي نظريات متناقضة أو متباينة عن بعضها؟"؛ كبرى اليقينيات الكونية (15).
ثم إذا علم ذلك فإنه يحقُّ للإنسانِ أن يعجبَ حين يقلب بصرَه في الدنيا، فيرى أناسًا رزقوا من الذكاءِ والفطنة ما أصبحوا به مضربًا للمثل، ثم يراهم مع ذلك غافلين عن الحقِّ الذي نزلت به الكتبُ، وبعث به الأنبياء، فيتساءل كيف لا يهتدي أولئك إلى هذه الحقيقة اليينة؟
وهنا تأتي كلمةُ الله لتبينَ لنا كيف ضلَّ أولئك، وأن من لم تبلغْه هداياتُ الأنبياء من هؤلاء فاللهُ يتولَّى أمرَه يوم القيامة، غير أن كثيرًا منهم عرف الحقَّ فصد عنه وهو عالم به، فعاقبه الله بأنْ قلَّب فؤادَه وبصره بحيث لا يرى الحقَّ حقًّا، ولا الباطل باطلاً، ولا ينتفعُ بالآيات، ولا بالدَّلائل ولا المعجزات، ولو رآها بعينه وسمعها بأذنه.
طوائف كثيرة من هؤلاء الأذكياء استبان لهم الهدى والرشدُ في لحظةٍ من لحظات تجلِّي الحقيقة، وانجلاء الغشاوات التي تحجبُ الحق عن النفوس، ولم يبق إلا أن يستجيبوا للحقِّ الماثل أمام أعينهم، غير أنَّهم أعرَضوا لأيِّ سبب من الأسبابِ، فعوقبوا بالضَّلالِ الأبدي، وأصبحوا في عمايةٍ من الرأي بحيث إنَّهم لا يرون في الحجةَ والبرهان حجةً ولا برهانًا.
وفي هذا المعنى جاءت آياتٌ كثيرة في كتابِ الله - تعالى - فمن ذلك قول الله - جل جلاله -: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ [الأنعام : 109 - 111]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [الحجر : 10 - 15]، وقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس : 96 ، 97]، وقوله - جلَّ جلاله -: ﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [الشعراء : 200 ، 201]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف : 105]، وقوله - تعالى -: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس : 101].
بل إنَّ الأمر الذي هو أدهى من ذلك وأطم أنَّ من حقَّتْ عليه كلمةُ الضلالة من هؤلاء ليسوا على استعدادٍ لترك أسباب الإعراضِ عن الحقِّ لو عادوا إلى الدنيا بعد أن عالجوا من أهوالِ النارِ ما عالجوا، فإنَّ الله - تعالى - يقول: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام : 25 - 28]، وهذا ما يؤكِّد أنَ سببَ ضلالِهم ليس معرفيًّا، فإنَّ هؤلاء عاينوا الجحيمَ وما فيها من العذابِ الأليم، ورأوا عيانًا ما كانوا يكذبون به من قبل، ثم هم يعودون مع ذلك لما نُهوا عنه.
وهذا كله يؤكد لنا أنَّ من أعظم أسباب النَّجاةِ من الضلال - الذي متَى حاقَ بالإنسانِ فإنَّه يوبق دنياه وآخرته - أن يستجيبَ للحقِّ إذا استبان له، وألا يستكبرَ عليه مهما كان السبب، وإلا فإنَّه يلاقي من سوءِ العاقبة مثل ما لاقاه أولئك الذين لم يعودوا ينتفعون بعقولِهم مهما بلغت من الذكاء والنجابة، وقد قال الله - جل جلاله -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال : 20 - 23].
وهذا ما يؤكِّدُ لنا أن خضوعَ المرء وإذعانه لأمر ربه - جل جلاله - وانقياده لحكمه متى ما استبان له مرادُه - جلَّ شأنه - من أعظمِ مَعاقد الدِّيانةِ، التي ترتقي بصاحبِها في درجاتِ الإيمان واليقين، وهذا فصلُ ما بين المؤمنين والمنافقين، فقد أخبرنا الله - تعالى - أنَّ من شأنِ المؤمنين أن يقولوا: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة : 285]، وقال في المنافقين: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء : 61]، وقد أثنى اللهُ على أنبيائِه بأنهم أولو الأيدي والأبصار، الأبصار التي يقتدرون بها على رؤيةِ الحقِّ، والأيدي التي يقتدرون بها على تنفيذِه، وقد كان من دعاء الفاروق - رضي الله عنه -: "اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعَه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل".
ولطالما رجفت قلوبُ الصالحين، ولطالما تملكهم الوجلُ خوفًا من أن يردوا لله أمرًا أو يُعرِضوا عن الحقِّ من بعد ما تبين لهم الهدى، كيف وقد قصَّ الله عليهم في كتابِه ما نزل ببني إسرائيل من العقوباتِ والمثلات؛ يوم أن أعرضوا عن الحقِّ بعدما اتَّضح لهم واستبان، فلسانُ حالِهم ينطق بقولِ المقداد - رضي الله عنه - للرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "يا رسول الله، والله ما نقولُ لك كما قالتْ بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون، ولكننا نقول: فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".
لقد أمرنا الله في كتابِه بالاستجابةِ لله، والمسارعة إلى امتثال أمره، وأخبرنا أنَّه عاقب أقوامًا لم يستجيبوا للهدى بأن أعمى بصائرَهم، فلم يعودوا ينتفعون بعدُ بها، فإنَّ تركَ الانقياد لأمر الله بعد استبانةِ الحقِّ ليس شأنه كشأنِ صغائر الذُّنوب، التي يمحوها الاستغفارُ وإتباعها بالحسنات الصالحات، بل إن ترك الانقيادِ لأمر الله وردَّ حكمِه بعد استبانتِه متى استمرأ صاحبه عليه، فإنَّ من شأنه أن يطمسَ على القلبِ بحيث لا تنفعه الدلائلُ الواضحات، فتحق عليه كلمةُ الله بالضَّلالِ الذي لا مخرجَ منه؛ قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - في قول الله - جلَّ شأنه -: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور : 63] قال: "أتدري ما الفتنةُ؟ الفتنةُ الشرك، لعلَّه إذا ردَّ بعضَ قولِه أن يقعَ في قلبه شيءٌ من الزيغِ فيهلك".
لقد وسعت رحمة الله من أذنبَ وهو مقر بخطيئتِه، معترف بذنبِه، خاضعٌ بين يدي مولاه ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر : 53]، فيكون كأبيه آدم الذي اجتباه ربُّه فتاب عليه وهدى، غير أنَّ الخطرَ كل الخطرِ أن يستكبر الإنسانُ عن أمرِ ربه، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم، فيكون حاله كحالِ إبليس الذي استكبر وأبى، والله - جل جلاله - يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 25]، ويقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 137].
إنَّ من أعظم ما ينبغي على المسلم أن يخافَه أن يرد لله أمرًا بعد أن علم مرادَ الله فيه، فيخادع نفسَه، والله مطلعٌ على السرائر عليم بذات الصدور، فيتخذ بذلك طريقًا إلى سخط الله ومقته، بل عليه أن ينقادَ لأمر الله وحكمه وهو يتلو مع ذلك: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران : 8]؛ وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكثر أن يقول: ((يا مقلبَ القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينِك))، فقلتُ: يا رسول الله، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخافُ علينا؟ قال: ((نعم، إنَّ القلوبَ بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)).
إنَّ الله يرضى للناس أن يأخذوا الناسَ في الدُّنيا بالظاهر، غير أنَّ للناسِ يوم الدين شأنًا آخر، يوم تُبلى السرائر، يوم يُبعثر ما في القبورِ ويحصَّلُ ما في الصدور، وعلى المرء المسلم أن يحذرَ أشد الحذر أن يخادعَ الله كما يخادعُ الناس، فيطلع اللهُ على سريرتِه، ويعلم منه يقينَه بالحقِّ في قلبه، ثم إذا هو معرض عن الانقيادِ له بعمله، وقد عَلم أنَّ قاعدةَ الإسلام هي الاستسلامُ لله والخضوع لحكمه، فإنَّ أمرًا هذا شأنُه يوشك الله أن يجعلَ على بصرِه غشاوةً، فلا ينتفع بعقلِه وذكائه في معرفة الهدى، وربما جال فكره وعلمه في كلِّ وادٍ غيرِ وادي الحق الأفيح، بل ربما رأى الحقَّ بين ناظرَيْه فلا يعلمُ أنه الحق مع ظهوره، عقوبةً له على ما رد من أمرِ الله أول مرة وهو يعلم؛ ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية : 23].
ولقد قصَّ الله علينا في كتابِه عن أقوامٍ استبان لهم الحقُّ كما يستبين لهم النَّهار، غير أنَّ نفوسَهم لم تطب باتباعِه، فكان جزاؤهم النكالَ من الله - جل جلاله - قال الله - تعالى -: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل : 14]، وقال عن اليهود: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة : 146]، وقال عن مشركي مكة: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام : 33].
إنَّ العبد ما دام خاضعًا لله منكسرًا بين يديه، فإنَّه مهما أذنب فإنَّ رحمةَ الله واسعة، وإنَّ الله لا يتعاظمه ذنبٌ إلا غفره، وقد جاء في الصحيحِ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يحكي عن ربِّه - عزَّ وجل - قال: ((أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ ويأخذ بالذنب))، ثم عاد فأذنبَ، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: ((عبدي أذنب ذنبًا فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ بالذنب))، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: ((أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعملْ ما شئتَ فقد غفرتُ لك)).
غير أنَّ الذي يستكبرُ عن قبولِ الحق والخضوع له متوعَّدٌ بأمر عظيم لا نجاةَ بعده؛ حيث قال الله - تعالى - في كتابه: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف : 146]، فالشأن ليس في أن يبصرَ الإنسان الهدى فحسب، ولكنَّ الشأنَ أن يرزقَه الله اتباعه ولزومه؛ وقد روى أحمد وابن حبان والطبراني في الكبير عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أنه قال: قال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا شداد بن أوس، إذا اكتنز النَّاسُ الذهبَ والفضة فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهمَّ إني أسألك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرشد، وأسألك موجباتِ رحمتك وعزائمَ مغفرتك، وأسألك شكرَ نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، وأسألك من خيرِ ما تعلم، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرُك لما تعلم إنَّك أنت علام الغيوب)).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/32751/#ixzz1QGrAJmOv