احمد العـتيبي
11-Oct-2010, 10:04 AM
المصير الفلسطيني: حالة تسلم وتسليم بين الامركة والصهينة؟
مطاع صفدي*
2010-10-10
الرقابة الأمريكية على تحولات الشرق الأوسط، تجعل من هذه المنطقة ساحاتٍ لرهانات متناقضة، بالنسبة لمستقبل الإمبراطورية أولاً وليس بعد تماماً، بالنسبة لقضايا شعوب المنطقة عينها.
فالسياسة التي حملت الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، كان لها عنوان وحيد تحت شعار (التغيير)، والمقصود منه هو الحدّ ما أمكن من تكاليف الإمبراطورية، إلى درجة تصفيتها إذا كان لا بد من الاختيار بينها أو بين بقاء أمريكا نفسها. لكن يجزم المراقبون لمسيرة النهج الأوباماوي، خلال العامين ونيف من العهد الجديد، أن وقائع السياسة العُليا تفرض ضروراتها بما لا يتفق غالباً مع (النوايا الطيبة) لشخص الرئيس، بقدر ما نعزّز منطقها الخاص؛ وفي هذه الحالة يقول التاريخ ان القادة العظام لم يكونوا فقط من أصحاب مشاريع التغيير الفاصلة في مسيرة دولهم وشعوبهم، لم ينجحوا بفضل إرادة التصحيح عندهم فحسب، بقدر ما كانوا يستخدمون الحكمة القائلة: إن لم تستطع أن تحقق ما تريد فأَرِدْ ما يريده الآخرون.
و(الآخرون) في البلاط الرئاسي الأمريكي، ليسوا جميعاً من الصحابة المميزين، فهم ممثلون لمصالح مؤسساتية كبرى قائمة في هرم الدولة، أو ممتدة إلى ضواحيها، حيثما تقوم مراكز القوى الحقيقية لإمبراطوريات المال الفلكي والنفوذ الاجتماعي والقلاع الأمنية والعسكرية الخ... فالقرار الرئاسي ليس صناعة الرئيس وحده، وإن كان التوقيع له باسمه، وذلك حسب القول الأمريكي المأثور والمتداول ما بين خلايا الطبقة السياسية، أن (النظام) هو الحاكم في البيت الأبيض وليس ساكنه الأول. ولكن عندما يحدث الافتراق بينهما فالكلمة الأخيرة هي للنظام وليس للرئيس. والنظام، في الأحوال الداخلية والدولية الراهنة، لا يزال هو الآمر الأول. لكن هناك من يقول أن (الإمبراطورية) أمست موضة عتيقة، وقد تحولت إلى العبء الأكبر على الوضع الاقتصادي المنهار، بما يوجب على حكماء السلطة التخلص من وعثائها، بدءاً من إغلاق جبهات الاستنزاف البشري والمالي في ساحات المجازر المستدامة والمتنقلة في أنحاء جغرافية العالم الثالث.
ما تُنادي به التظاهرات الشعبية المتواصلة في المدن الأمريكية الرئيسية أصبح لها شعار واحد ضد الحروب، وبدءاً من وقف أهوالها المريعة في أفغانستان. ذلك مطلب جماهيري ينافس أو يتجاوز مطالب الإصلاحات الاقتصادية العاجلة.
فلماذا يعجز أوباما عن تقرير عبثية هذه الحرب الخاسرة في مختلف الاعتبارات، وأولها ضياع الهدف المرسوم لاندلاعها واستمرارها العقيم. المصرّح عنه إعلامياً دائماً، وهو القضاء على القاعدة وطالبان معاً. لكن الهدف المسكوت عنه الأخطر والأبعد مدى هو الحفاظ على خط التَمَاس المتقدّم في مواجهة الصين. فالإمبراطورية لا يمكنها الإستغناء عن محددات ثابتة بموجب عقيدتها في الماكرو استراتيجية، الداعمة لديمومتها، وإمساكها بمفاتيح السلام العالمي، لوحدها. ذلك أن الصين قبل أن تحقق نهضتها الاقتصادية العظمى، كانت تمثل الكيان الشيوعي الثاني القائم، بعد انهيار كيان الإتحاد السوفييتي. وفي العرف العسكري الأمريكي، كأنما الحرب العالمية الثالثة لم تنته بعد. لم تحقق إختفاء (العدو) كلياً.
في الوقت الذي تطور فيه صراع الأضداد الكبرى في الخارطة الجيوسياسية الكونية، من آمرية التسابق العسكري وحده إلى آمرية التفوق الاقتصادي ومعاييره الموضوعية، الفالتة تقريباً من أية رقابة سياسية أو سواها، فإن ثقافة الإمبراطورية لا يمكنها التخلي عن وسائل العنف المادي المباشر، وعلى رأسها منهجية التقدم المضطرد في إنتاجية أسلحة التدمير الشاملة، ما يؤكد أن الحرب لها الأولوية على سياسة السوق، لكن المايحدث الواقعي يثبت العكس؛ فالإنتاج الصناعي الصيني هزم العملاق الصناعي الغربي بجناحيه الأوروبي والأمريكي، في عقر دارهما معاً. هذه الهزيمة فرضت عقابيلها المرّة يومياً على أحوال الغرب عامة، في الاقتصاد والسياسة والثقافة حتى في سلوك الدول وشعوبها معاً؛ فتكاد الحرب العالمية الثالثة تنجز استكمال نتائجها الناقصة، ولكن بغير وسيلة الحرب وأسلحتها التدميرية الشاملة. وكما اعترف أحد الكتاب الأمريكيين أن الصين أصبحت تمسك بحبل الحياة الأمريكية من سُرّتها، ملمحاً إلى وقوع الدولار تحت رحمة الدَين الفلكي الذي تمتلك بعضَه خزائن الدولة الصينية؛ والذي لا أمل البتة لأمريكا بإيفائه، إلا إذا تغير كيانها عينه يوماً ما.. إلى ما لا يعرفه أحد.
الانتصارات الدولاتية الفاصلة لا تكتسب دائماً بوسيلة الحروب وحدها. وهاهي أمريكا أكبر مثال راهن على صواب هذه الحكمة القديمة: رغم أن الدولة العظمى حسب كل مقاييس المقارنة العصرية ما بين قادة العالم، لا تزال هي أمريكا، حتى اليوم. لكنها أصبحت منشغلة بتعداد هزائمها واحدة تلو الأخرى. ولا يبدو أن العهد الأوباماوي قادر على قلب حركة التاريخ. لعله أمسى مضطراً لقبول مبدأ الرضوخ لنوعية التراجعات المحدودة نسبياً كيما يدفع أو يؤخر موعد الانهيار الأكبر ما أمكنه. وكما بيّن الصحافي العريق بوب ودوورد في كتابه الأخير 'حروب أوباما'، كيف أن الرئيس كان مخدوعاً بقرار الاستمرار في حرب أفغانستان؛ إلا أنه لم يشر إلى أن الرئيس ربما كان يتفادى هزيمة العراق بنصر ما في الجبهة الآسيوية. غير أن مستنقع أفغانستان كان هو الأفظع، وربما أصبح هو الأقرب إلى الكارثة الأكبر. ذلك يحدث للإمبراطورية في عمق الشرق الآسيوي (الإسلامي). أما في الشرق الأوسط فالمتاعب الرئاسية الأمريكية أكثر تعقيداً، وربما خطورةً كذلك. ههنا تتعدد جبهات الحروب المعلنة أو المتوارية، ومعها أسبابها وتفاعلاتها الخارجة عن إرادة الضبط، مثلما كانت تتولاها دبلوماسية تقليدية للإمبراطورية، المتشبثة بالشرق الأوسط، كما لو كان جزءاً أساسياً من مصيرها المستقبلي. ههنا أيضاً تعاني الأوبامايا إشكالية شائكة لم تعرفها الإدارات السابقة. فإسرائيل تتجاوز دورها التقليدي في الوكالة المساعدة لمخططات السيطرة المتكاملة للإستعمار الأمريكي، على مقدرات العرب وثرواتهم. بمعنى أن الوكيل الإسرائيلي أصبح يتطلع إلى وظيفة الفاعل الأصيل، في شأن دولته الخاصة، كما في شؤون (الجيران) الآخرين، من فلسطينيين وعرب في الجوار الأقرب كما في الأبعد. ما يسعى إليه اليمين الحاكم في تل أبيب هو قلب العلاقة التقليدية بين دولته والقوة العظمى أمريكا. بكل بساطة يريد اليمين الصهيوني الاستئثار بما تبقى لأمريكا من النفوذ في المنطقة لتحقيق هاتين الغايتين شبه المستحيلتين سابقاً، منذ نجاح الإستعمار الاستيطاني في سلب ثلثي الوطن الفلسطيني. أولاهما تمكين إسرائيل من تحولها إلى دولة البابوية لليهودية العالمية، مما يجعلها واقعياً تتمتع بمواصفات الدولة العظمى المسيطرة والمستقرة في قلب الوطن العربي، وثانيهما، هو أن هذا التحول سوف يضاعف من قواها الأساسية المكتسبة حتى الآن، مما ستحصّله بصورة رسمية ونظامية، من فائض النفوذ والسلطان لليهودية العالمية، جاعلاً من العالم العربي مجرد ضواحٍ ملحقة بالبابوية الدينية الجديدة.
ألا ينتاب بعض حكّام أمريكا، أو الواعين من أساتذة الإستراتيجيا الإمبراطورية، شيء من القلق إزاء هذه المطامح التي سترفع مستوى الشراكة المستديمة بين الأمركة والصهينة، من صيغة التابعية العضوية ما بين الأكبر والأصغر، إلى صيغة الندِّية بين قطبيها، وما هو أكثر لحساب الواحد بالنسبة للآخر. وهو الطرف الصهيوني، غير المكتهل أو المستنفد بَعْدُ كحال الأمركة، ولعله هو الأبقى لما بعدها.
لنتجاوز الآن دائرة هذين العملاقين، المتكاملين المتعارضين معاً؛ فهما لم يعودا يغطيان وحدهما وجه الخارطة الشرق أوسطية، لنتذكر اسمها الحقيقي: وطن العرب والإسلام. فالنسخة الزائفة المسماة بالشرق الأوسط، هي التي أمست تُبليها متغيرات حاسمة، صاعدة من الأصل، من تحت عوسجها وأشواكها الجافة، إنه الوطن العربي، الذي يكاد معظمه أن يكون مسروقاً منهوباً، من تحت أنف سكانه، لكنه هو العائد، بعضه على الأقل، إلى مكانه الفارغ من دفة القيادة؛ فالمركب العربي لن يكون مهدداً بالغرق النهائي، إلا لكونه فاقداً، ليس لنموذج القائد التاريخي الأوحد، بل لقيادة التاريخ نفسه، وبدون احتكار لاسم التاريخ ولا للسانه. فالتاريخ العربي المعاصر هو الذي يتغير، بإرادة شعوبه ووعي النخبة، أو بدونهما. وهذا ما يعرِّفه الفكر ويصادق عليه العلم: هو أن التغيير لا يتأتّى للمجتمع إلا كلياً وليس مجزّءاً. إنه يعتمد مبدأ توفر الإمكانيات المطلوبة، قبل التنبّه لها، وتوظيفها، من قبل المؤسسات العامة؛ والعالم العربي ومحيطه الإسلامي طافحان معاً بفائض الإمكانيات التي لا يحصرها وصف موضوعي، من قبل أن تبرزها شواهد الحياة اليومية وقد تكون السياسة العربية (المختلفة؟) هي السبّاقة إلى إعطاء معالم من هذه الشواهد.
لكن السياسة العربية السائدة هي أكذب الشواهد. أو أنها لا تأتي إلا بالنقائض التي تذكّرنا بالشواهد الحقيقية ضدها؛ فالعقم والعجز والتفاهة، هي العناوين المفضلة لكل جردة حساب عن أحوال السلطة والسلاطين. هؤلاء اقتصرت إنجازاتهم على تقديم البراهين المتكررة عن انقضاء أنظمتهم المتهرّئة، مع انقضاء عصر الإمبراطورية المنسحبة؛ فالسلاطين عاشوا عصرهم الذهبي تحت أذيال الإمبراطورية. لكن عندما تنسحب هذه الإمبراطورية، لن يتبقى للسلاطين ما يحتمون به إلا غبار الأذيال الهاربة..
ما يمكن قوله بالنسبة للحالة العربية، أو الشرق أوسطية، في هذه المرحلة من معاناة الإمبراطورية لإرهاصات النضوب الحيوي قبل الأفول الاستراتيجي النهائي، هو (تميزها) بالتخلي الكلي عن أية إرادةٍ تعويلٍ على الصمود أو على الصحو أو حتى على الاعتراض السياسوي الذي قد يُنتظر من محركي السياسة العربية ورموزها المعروفة. فالصهيونية تراهن على وراثة الأمركة نهائياً، واستيعاب أنظمة الحكم العربي تدريجياً، طوعاً واختياراً من كبار هذه الأنظمة، في حين قد يمكن حدوث العكس تماماً. وذلك لو أمكن لمن تبقى من أنظمة الصمود أن تحرر عقلها من أشباح المنطق المساوم وغواياته، وأن تحسم أمرها بقرار جذري، موضوعُه الارتفاعُ بالمقاومة إلى مستوى الإستراتيجية القومية، وإستثمار إنجازاتها الشعبية، ومحصولها المعترف به حتى على مستوى متغيرات السياسة الدولية عينها؛ إذ أن ما يحدث حتى الآن، هو منع هذا الاستثمار الواعي، والقومي الشامل، أو الامتناع الذاتي عن تلبية إمكانيات التاريخ، التي تتحول غالباً إلى مجرد نداءات ضائعة في فضاء اللامسؤولية.. هذه الحالة المشتركة البائسة ما بين قادة الوعي واللاوعي معاً.
*مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي*
2010-10-10
الرقابة الأمريكية على تحولات الشرق الأوسط، تجعل من هذه المنطقة ساحاتٍ لرهانات متناقضة، بالنسبة لمستقبل الإمبراطورية أولاً وليس بعد تماماً، بالنسبة لقضايا شعوب المنطقة عينها.
فالسياسة التي حملت الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، كان لها عنوان وحيد تحت شعار (التغيير)، والمقصود منه هو الحدّ ما أمكن من تكاليف الإمبراطورية، إلى درجة تصفيتها إذا كان لا بد من الاختيار بينها أو بين بقاء أمريكا نفسها. لكن يجزم المراقبون لمسيرة النهج الأوباماوي، خلال العامين ونيف من العهد الجديد، أن وقائع السياسة العُليا تفرض ضروراتها بما لا يتفق غالباً مع (النوايا الطيبة) لشخص الرئيس، بقدر ما نعزّز منطقها الخاص؛ وفي هذه الحالة يقول التاريخ ان القادة العظام لم يكونوا فقط من أصحاب مشاريع التغيير الفاصلة في مسيرة دولهم وشعوبهم، لم ينجحوا بفضل إرادة التصحيح عندهم فحسب، بقدر ما كانوا يستخدمون الحكمة القائلة: إن لم تستطع أن تحقق ما تريد فأَرِدْ ما يريده الآخرون.
و(الآخرون) في البلاط الرئاسي الأمريكي، ليسوا جميعاً من الصحابة المميزين، فهم ممثلون لمصالح مؤسساتية كبرى قائمة في هرم الدولة، أو ممتدة إلى ضواحيها، حيثما تقوم مراكز القوى الحقيقية لإمبراطوريات المال الفلكي والنفوذ الاجتماعي والقلاع الأمنية والعسكرية الخ... فالقرار الرئاسي ليس صناعة الرئيس وحده، وإن كان التوقيع له باسمه، وذلك حسب القول الأمريكي المأثور والمتداول ما بين خلايا الطبقة السياسية، أن (النظام) هو الحاكم في البيت الأبيض وليس ساكنه الأول. ولكن عندما يحدث الافتراق بينهما فالكلمة الأخيرة هي للنظام وليس للرئيس. والنظام، في الأحوال الداخلية والدولية الراهنة، لا يزال هو الآمر الأول. لكن هناك من يقول أن (الإمبراطورية) أمست موضة عتيقة، وقد تحولت إلى العبء الأكبر على الوضع الاقتصادي المنهار، بما يوجب على حكماء السلطة التخلص من وعثائها، بدءاً من إغلاق جبهات الاستنزاف البشري والمالي في ساحات المجازر المستدامة والمتنقلة في أنحاء جغرافية العالم الثالث.
ما تُنادي به التظاهرات الشعبية المتواصلة في المدن الأمريكية الرئيسية أصبح لها شعار واحد ضد الحروب، وبدءاً من وقف أهوالها المريعة في أفغانستان. ذلك مطلب جماهيري ينافس أو يتجاوز مطالب الإصلاحات الاقتصادية العاجلة.
فلماذا يعجز أوباما عن تقرير عبثية هذه الحرب الخاسرة في مختلف الاعتبارات، وأولها ضياع الهدف المرسوم لاندلاعها واستمرارها العقيم. المصرّح عنه إعلامياً دائماً، وهو القضاء على القاعدة وطالبان معاً. لكن الهدف المسكوت عنه الأخطر والأبعد مدى هو الحفاظ على خط التَمَاس المتقدّم في مواجهة الصين. فالإمبراطورية لا يمكنها الإستغناء عن محددات ثابتة بموجب عقيدتها في الماكرو استراتيجية، الداعمة لديمومتها، وإمساكها بمفاتيح السلام العالمي، لوحدها. ذلك أن الصين قبل أن تحقق نهضتها الاقتصادية العظمى، كانت تمثل الكيان الشيوعي الثاني القائم، بعد انهيار كيان الإتحاد السوفييتي. وفي العرف العسكري الأمريكي، كأنما الحرب العالمية الثالثة لم تنته بعد. لم تحقق إختفاء (العدو) كلياً.
في الوقت الذي تطور فيه صراع الأضداد الكبرى في الخارطة الجيوسياسية الكونية، من آمرية التسابق العسكري وحده إلى آمرية التفوق الاقتصادي ومعاييره الموضوعية، الفالتة تقريباً من أية رقابة سياسية أو سواها، فإن ثقافة الإمبراطورية لا يمكنها التخلي عن وسائل العنف المادي المباشر، وعلى رأسها منهجية التقدم المضطرد في إنتاجية أسلحة التدمير الشاملة، ما يؤكد أن الحرب لها الأولوية على سياسة السوق، لكن المايحدث الواقعي يثبت العكس؛ فالإنتاج الصناعي الصيني هزم العملاق الصناعي الغربي بجناحيه الأوروبي والأمريكي، في عقر دارهما معاً. هذه الهزيمة فرضت عقابيلها المرّة يومياً على أحوال الغرب عامة، في الاقتصاد والسياسة والثقافة حتى في سلوك الدول وشعوبها معاً؛ فتكاد الحرب العالمية الثالثة تنجز استكمال نتائجها الناقصة، ولكن بغير وسيلة الحرب وأسلحتها التدميرية الشاملة. وكما اعترف أحد الكتاب الأمريكيين أن الصين أصبحت تمسك بحبل الحياة الأمريكية من سُرّتها، ملمحاً إلى وقوع الدولار تحت رحمة الدَين الفلكي الذي تمتلك بعضَه خزائن الدولة الصينية؛ والذي لا أمل البتة لأمريكا بإيفائه، إلا إذا تغير كيانها عينه يوماً ما.. إلى ما لا يعرفه أحد.
الانتصارات الدولاتية الفاصلة لا تكتسب دائماً بوسيلة الحروب وحدها. وهاهي أمريكا أكبر مثال راهن على صواب هذه الحكمة القديمة: رغم أن الدولة العظمى حسب كل مقاييس المقارنة العصرية ما بين قادة العالم، لا تزال هي أمريكا، حتى اليوم. لكنها أصبحت منشغلة بتعداد هزائمها واحدة تلو الأخرى. ولا يبدو أن العهد الأوباماوي قادر على قلب حركة التاريخ. لعله أمسى مضطراً لقبول مبدأ الرضوخ لنوعية التراجعات المحدودة نسبياً كيما يدفع أو يؤخر موعد الانهيار الأكبر ما أمكنه. وكما بيّن الصحافي العريق بوب ودوورد في كتابه الأخير 'حروب أوباما'، كيف أن الرئيس كان مخدوعاً بقرار الاستمرار في حرب أفغانستان؛ إلا أنه لم يشر إلى أن الرئيس ربما كان يتفادى هزيمة العراق بنصر ما في الجبهة الآسيوية. غير أن مستنقع أفغانستان كان هو الأفظع، وربما أصبح هو الأقرب إلى الكارثة الأكبر. ذلك يحدث للإمبراطورية في عمق الشرق الآسيوي (الإسلامي). أما في الشرق الأوسط فالمتاعب الرئاسية الأمريكية أكثر تعقيداً، وربما خطورةً كذلك. ههنا تتعدد جبهات الحروب المعلنة أو المتوارية، ومعها أسبابها وتفاعلاتها الخارجة عن إرادة الضبط، مثلما كانت تتولاها دبلوماسية تقليدية للإمبراطورية، المتشبثة بالشرق الأوسط، كما لو كان جزءاً أساسياً من مصيرها المستقبلي. ههنا أيضاً تعاني الأوبامايا إشكالية شائكة لم تعرفها الإدارات السابقة. فإسرائيل تتجاوز دورها التقليدي في الوكالة المساعدة لمخططات السيطرة المتكاملة للإستعمار الأمريكي، على مقدرات العرب وثرواتهم. بمعنى أن الوكيل الإسرائيلي أصبح يتطلع إلى وظيفة الفاعل الأصيل، في شأن دولته الخاصة، كما في شؤون (الجيران) الآخرين، من فلسطينيين وعرب في الجوار الأقرب كما في الأبعد. ما يسعى إليه اليمين الحاكم في تل أبيب هو قلب العلاقة التقليدية بين دولته والقوة العظمى أمريكا. بكل بساطة يريد اليمين الصهيوني الاستئثار بما تبقى لأمريكا من النفوذ في المنطقة لتحقيق هاتين الغايتين شبه المستحيلتين سابقاً، منذ نجاح الإستعمار الاستيطاني في سلب ثلثي الوطن الفلسطيني. أولاهما تمكين إسرائيل من تحولها إلى دولة البابوية لليهودية العالمية، مما يجعلها واقعياً تتمتع بمواصفات الدولة العظمى المسيطرة والمستقرة في قلب الوطن العربي، وثانيهما، هو أن هذا التحول سوف يضاعف من قواها الأساسية المكتسبة حتى الآن، مما ستحصّله بصورة رسمية ونظامية، من فائض النفوذ والسلطان لليهودية العالمية، جاعلاً من العالم العربي مجرد ضواحٍ ملحقة بالبابوية الدينية الجديدة.
ألا ينتاب بعض حكّام أمريكا، أو الواعين من أساتذة الإستراتيجيا الإمبراطورية، شيء من القلق إزاء هذه المطامح التي سترفع مستوى الشراكة المستديمة بين الأمركة والصهينة، من صيغة التابعية العضوية ما بين الأكبر والأصغر، إلى صيغة الندِّية بين قطبيها، وما هو أكثر لحساب الواحد بالنسبة للآخر. وهو الطرف الصهيوني، غير المكتهل أو المستنفد بَعْدُ كحال الأمركة، ولعله هو الأبقى لما بعدها.
لنتجاوز الآن دائرة هذين العملاقين، المتكاملين المتعارضين معاً؛ فهما لم يعودا يغطيان وحدهما وجه الخارطة الشرق أوسطية، لنتذكر اسمها الحقيقي: وطن العرب والإسلام. فالنسخة الزائفة المسماة بالشرق الأوسط، هي التي أمست تُبليها متغيرات حاسمة، صاعدة من الأصل، من تحت عوسجها وأشواكها الجافة، إنه الوطن العربي، الذي يكاد معظمه أن يكون مسروقاً منهوباً، من تحت أنف سكانه، لكنه هو العائد، بعضه على الأقل، إلى مكانه الفارغ من دفة القيادة؛ فالمركب العربي لن يكون مهدداً بالغرق النهائي، إلا لكونه فاقداً، ليس لنموذج القائد التاريخي الأوحد، بل لقيادة التاريخ نفسه، وبدون احتكار لاسم التاريخ ولا للسانه. فالتاريخ العربي المعاصر هو الذي يتغير، بإرادة شعوبه ووعي النخبة، أو بدونهما. وهذا ما يعرِّفه الفكر ويصادق عليه العلم: هو أن التغيير لا يتأتّى للمجتمع إلا كلياً وليس مجزّءاً. إنه يعتمد مبدأ توفر الإمكانيات المطلوبة، قبل التنبّه لها، وتوظيفها، من قبل المؤسسات العامة؛ والعالم العربي ومحيطه الإسلامي طافحان معاً بفائض الإمكانيات التي لا يحصرها وصف موضوعي، من قبل أن تبرزها شواهد الحياة اليومية وقد تكون السياسة العربية (المختلفة؟) هي السبّاقة إلى إعطاء معالم من هذه الشواهد.
لكن السياسة العربية السائدة هي أكذب الشواهد. أو أنها لا تأتي إلا بالنقائض التي تذكّرنا بالشواهد الحقيقية ضدها؛ فالعقم والعجز والتفاهة، هي العناوين المفضلة لكل جردة حساب عن أحوال السلطة والسلاطين. هؤلاء اقتصرت إنجازاتهم على تقديم البراهين المتكررة عن انقضاء أنظمتهم المتهرّئة، مع انقضاء عصر الإمبراطورية المنسحبة؛ فالسلاطين عاشوا عصرهم الذهبي تحت أذيال الإمبراطورية. لكن عندما تنسحب هذه الإمبراطورية، لن يتبقى للسلاطين ما يحتمون به إلا غبار الأذيال الهاربة..
ما يمكن قوله بالنسبة للحالة العربية، أو الشرق أوسطية، في هذه المرحلة من معاناة الإمبراطورية لإرهاصات النضوب الحيوي قبل الأفول الاستراتيجي النهائي، هو (تميزها) بالتخلي الكلي عن أية إرادةٍ تعويلٍ على الصمود أو على الصحو أو حتى على الاعتراض السياسوي الذي قد يُنتظر من محركي السياسة العربية ورموزها المعروفة. فالصهيونية تراهن على وراثة الأمركة نهائياً، واستيعاب أنظمة الحكم العربي تدريجياً، طوعاً واختياراً من كبار هذه الأنظمة، في حين قد يمكن حدوث العكس تماماً. وذلك لو أمكن لمن تبقى من أنظمة الصمود أن تحرر عقلها من أشباح المنطق المساوم وغواياته، وأن تحسم أمرها بقرار جذري، موضوعُه الارتفاعُ بالمقاومة إلى مستوى الإستراتيجية القومية، وإستثمار إنجازاتها الشعبية، ومحصولها المعترف به حتى على مستوى متغيرات السياسة الدولية عينها؛ إذ أن ما يحدث حتى الآن، هو منع هذا الاستثمار الواعي، والقومي الشامل، أو الامتناع الذاتي عن تلبية إمكانيات التاريخ، التي تتحول غالباً إلى مجرد نداءات ضائعة في فضاء اللامسؤولية.. هذه الحالة المشتركة البائسة ما بين قادة الوعي واللاوعي معاً.
*مفكر عربي مقيم في باريس